تعميم منطق الحوار بين المسلمين على الأسس القرآنية

تعميم منطق الحوار بين المسلمين على الأسس القرآنية
بقلم:الدكتور حسن عبد ربه المصري
استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا
مقدمة ..
لدينا يقين إيماني لا يتزعزع أن الرؤية الإسلامية للثقافة ودورها في حياة المجتمع ، تنطلق من كونها الإطار الذي يحدد الأفكار والسلوكيات ومن ثم الظواهر الاجتماعية التي تعكس حياة المسلمين الذين يشكلون البنيان الأساسي لهذا المجتمع ..
ومن هنا نقول ونحن مطمئنون ، أن الحوار بين شرائح هذا المجتمع يشكل ركيزة لا غني عنها لتفعيل وتطوير حياة أفراده جميعاً بلا استثناء .. من ناحية لتدارس يومهم وما تركه فيهم من ايجابيات وسلبيات ، ومن ناحية ثانية لاستبيان ملامح غدهم القريب والتعرف علي مؤشرات مستقبلهم البعيد ..
يُعد الحوار بهذا المعني مكونا رئيسياً من مكونات الثقافة المجتمعية التي تجمع تحت مظلتها كافة التراكمات الاجتماعية والنفسية والانثروبولوجية والإعلامية والتربوية التي تتداخل فيما بينها لتصنع الإنسان - بصفة عامة – والإنسان المسلم علي وجه التحديد ، لأنه هو الذي يهمنا في هذا الخصوص ..
تحكم الحوار كمكون رئيسي من مكونات الثقافة المجتمعة الإسلامية مرجعيتان مٌلزمتان لا تنفصلان .. القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ..
من جانبنا وعبر هذه المحاولة ، التي نسأل الله ان يوفقنا ضمن فقراتها إلي ما يحب ويرضي ، سنحاول علي قدر التوفيق الرباني أن نتناول المرجعية الأولي وما تفرضه علي منطق الحوار من خلال زواياه التنظيرية المتفق عليها بين علماء العلوم الإنسانية وخبراء المهارات الاتصالية ، من اشتراطات وقواعد لا بد من الأخذ بها ومن ثم تعميمها لكي تحقق حواراتنا أهدافها وتأتي بثمارها المرجوة ..
تقول الآية 59 من سورة القصص " وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم ءاياتنا وما كنا مهلكي القري إلا وأهلها ظالمون " .. يتبين لنا أن الله أخذ علي نفسه عهدا أن لا يهلك قرية إلا بعد ان يرسل إليها رسول يشرح لأهلها رسالته ويدعوهم إلي التوحيد والإيمان بالله الواحد الأحد .. وحول ما يجئ به الرسول المبعوث هادياً لقومه ، تدور الحوارات التي تجذب فريق من أبناء المجتمع إلي الإيمان و فريق آخر إلي رفض الدعوة .. وهؤلاء هم المشركون بالله الذين ُعميت أبصارهم فحق عليهم العقاب بسبب ظلمهم ..
لذلك يعلمنا القرآن الكريم أن رب العرش علم نبيه الكريم صلي الله عليه وسلم انه كما أن الموتى لا يسمعون دعوته ومن ثم لا يستجيبون له ، فكذلك الحال مع المشركين لأن صممهم حرمهم من نعمة التعرف علي دعوي الوحدانية فولوا مدبرين لأنهم غير قادرين علي الحوار المثمر .. وكما أن العميان غير القادرين علي الاهتداء إلي الطريق الصحيح لفقدانهم نعمة الإبصار ، كذلك حال المشركين لا يبصرون الطريق إلي الآخرة لفقدانهم بصيرة العقل ..
حتى المستضعفين في الأرض الذين كانوا تابعين بلا إرادة لرؤسائهم وقادتهم ، تدلنا آيات القران الكريم أنهم عندما يتحاورون يوم القيامة سيلقي كل من الفريقين مسئولية الكفر والإشراك بالله علي الآخر .. يقول المستضعفون " لولا انتم لكنا مؤمنين " فيقول الكبراء أنهم لم يمنعوهم لأنهم كانوا مستعدين للكفر من أول يوم .. فيأتي الرد الفاصل كما ورد في سورة سبأ الآية 32 " بل مكر الليل والنهار " أي مداومة التحاور الضاغط بغرض الإقناع علي غير ما أسس سليمة .. والمكر هنا يؤكد سوء النية المسبقة ..
منطق الحوار ..
الحوار في حقيقته منهج للتفاهم بين الأفراد والكيانات والمؤسسات .. الخ .. ووسيلة للتعاون فيما بينها .. وهو واحد من المنافذ التي يمكن للبشرية أن تتواصل فيما بينها سلميا عن طريقه بُغية التفاهم المثمر لتحقيق الصالح الإنساني العام ..
يُعرفنا الله أن الإنسان يُعد المخلوق الأكثر جدلا بين من خلق برغم كثرة ما ضُرب له في قرآنه المجيد من أمثلة ترشده إلي التوحيد والإيمان وتلف نظره لعظمة الخالق سبحانه وتعالي .. تقول الآية 54 من سورة الكهف " ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " ..
ولذلك ترشدنا آيات القرآن الكريم أن الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا بعد حواراتهم حول المسائل الدينية ، وهم يحسبون - أي مقتنعون غاية الاقتناع - أنهم يحسنون صنعاً ، ليس لهم مكان بين المؤمنين لأنه سبحانه يَعدهم من الكافرين به وبلقائه لأنهم لم يرفضوا دعوة الأيمان فقط بل تمسكوا ضمن حواراتهم أنهم علي حق " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ، ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا ءاياتى وما أنذروا هزوا " سورة الكهف الآية 104 – 105
الحوار لغوياً يعني تبادل أو مراجعة الكلام خلال مناظرة أو مجادلة بين طريفين أو أكثر من أجل بلوغ أرضية مشتركة من التفاهمات حول موضوع ما ، ولكن هذا الأسلوب إذا خرج عن مسماه وهدفه أو منهجه صار جدلاً لا يحقق منفعة لأنه لآ يأتي بثمار التحاور المرجوة ..
وللقرآن الكريم رأي واضح ومحدد فيما يتعلق بهذه النقطة ، سنشير إليه ضمن عناصر موضوعنا التي سنتعرض لها عبر هذه الورقة ..
الحوار يقوم علي تبادل الرأي حول رأي أو قضية أو مسألة إما لحل خيوطها المتشابكة وتفكيك عناصرها أو ترسيخ فكرة يحتاج تأكيد صحتها علي وجهها الذي تُعرف به ، إلي نقاش لتوسيع دائرة التفاهم فيما تتضمنه أو لإزالة ما أحاط بها من شكوك ، وربما يكون لأجل وقف تصاعد خطر داهم بانت بوادره بسبب الاختلاف والتنافر .. الخ .. وهذا ما نسميه " حوار العقلاء " كما يمكن استنباطه من الآية رقم 55 من سورة القصص " وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين " ..
آداب التحاور التي بينتها الآية الكريمة ..
- الإعراض عن اللغو ..
- الالتزام بالمنهج الحاكم ..
- رفض تبني منطق الجاهلين ..
وان كان المقصود بها الشتم والذم والإيذاء ، إلا أن هذه الآداب تنصرف في مجملها إلي المخالفين في الرأي علي غير بينة ولا حجة أو برهان .. لذلك يجب الانصراف عنهم بلا ضغينة أو تبادل لما يسئ إلي موضوع الحوار من قريب أو من بعيد ، لأن سلام عليكم هنا تعني المتاركة بلا تدني في القول أو تمادي في المحاججة غير المجدية أو فتح الباب لمزيد من الخلافات ..
لذلك يجب أن يكون للحوار منهج يلتزم المتحاورون بمراعاته لكي يتحقق الهدف من وراءه بأكبر نسبة من الضمانات ، حتى لا يُفضي الولوج إليه بلا رؤية معروفة للجميع ومتوافق عليها بينهم إلي لا شئ أو زيادة هوة الخلاف أو مزيد من الصراعات التي لا طائل منها ..
عند هذه النقطة أرجو أن نتوافق علي ثلاثة أمور شديدة الترابط فيما بينها ..
الأول .. أن منهج الحوار يقوم في المقام الأول علي أهدافه المحددة سلفا سواء كانت معلنة أو خفية ..
الثاني .. أن للحوار ضوابط وقيود لا بد أن تأخذ بها كافة الأطراف بلا تعدي أو نكران متى قبلت بالمشاركة فيه ..
الثالث .. أن للمحاور صفات واشتراطات لا بد من توافرها في كل من يتصدي لمثل هذه المسئولية ، لأنه بدونها لا يبلغ الحوار غايته ..
للحوار في الثقافة الإسلامية أهمية خاصة نابعة من كونه وسيلة من وسائل الدعوة و البيان والإبلاغ التي كلف بها الله سبحانه وتعالي رسله وأنبياؤه جميعا .. جميعهم بلا استثناء كما يعلمنا القرآن الكريم تحاوروا مع أقوامهم فور تكليف الله لهم بالمهمة السامية ، وكل الآيات القرآنية التي حدثتنا عن حواراتهم مع أقوامهم تضمنت أسس ثابتة لم يخرج عنها نبي ولا رسول ، نشير باختصار إلي أهمها فيما يلي ..
1 – أنهم جاءوا من لدن حكيم عليم
2 – أنهم مكلفون بدعوتهم إلي وحدانية الله وترك عبادة الأصنام
3 – أنهم لا يطلبون أجراً مقابل ذلك
4 – أن البينة التي أرسلوا بها هي من عند الله
5 – أنهم لا يملكون إنزال العقاب بهم لو رفضوا الاستجابة لدعوتهم
6 – أنهم لا يستطيعون طرد من آمن برسالتهم لكي ينفردوا هم بالساحة الإيمانية
ويمكن أن نضع يدنا علي أهم هذه الأسس عندما نمعن النظر في الآية رقم 125 من سورة النحل التي تبين بوضوح منهاج الدعوة الذي حدده العلي القدير لرسولنا صلي الله عليه وسلم " أدع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " ..
- الدعوة الإيمانية هي إلي سبيل التوحيد
- يقود إليها الحكمة والموعظة الحسنة
- ولو نشأ حولها جدال فليكن بالتي هي أعلي درجة من الحسن
لذلك كان عليه الصلاة والسلام أكثر الناس أدبا في الحوار والسلوك مع الناس جميعاً وحتى مع مشركى قريش ..
هذا المنهج الرباني الذي يحدد إطار الدعوة للتوحيد بالموعظة والجدال بالحسنى ، يرجع إلي أن الاختلاف بين البشر سنة من سنن الله سبحانه وتعالي في عباده .. يقول رب العرش العظيم في سورة الكهف الآية 54 " ولقد صرفنا في هذا القرءان للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شئ جدلا " .. ولأنه هو سبحانه الذي خلقه وصوره ويعرف مكوناته وقدراته يقول لنا " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " سورة المُلك آية 67 ..
ويؤكد لنا العلي القدير في أكثر من موضع قرآني أن توافق الناس علي الرأي الواحد أو علي التوحيد بيده سبحانه " ... ولو شاء الله لجمعهم علي الهدي فلا تكونن من الجاهلين " سورة الأنعام الآية 35 .. وأيضا في سورة يونس الآية 99 " ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " ..
هذه السنة الربانية أعطت لحياة الإنسان طابعاً مختلفاً يقوم علي تنوع التفكير وتدرج مستويات القدرة علي الاستيعاب وتفاوت مهارات التدبر ، وبذلك أصبح تعدد الرؤية وتباين وجهات النظر هو السمة الغالبة بين خلق الله وهو الأصل في نشأتهم .. يقول رب العرش في كتابه الكريم " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " الآية 48 من سورة المائدة " ويقول " ولو شاء الله لجمعهم علي الهدي " الآية 53 من سورة الأنعام .. ويعلمنا " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ، إلا ما شاء ربك ولذلك خلقهم " سورة هو الآية 118 و 119 ..
هذه السمة الربانية يُرجعها العلم إلي تنوع البيئة الجغرافية وتباين النشأة والتكوين وتنوع الطباع والتجارب واختلاف الأهواء من شخص إلي آخر وليس فقط من جماعة إلي أخري .. ومن ثم لا يمكن قولبة خلق الله كلهم أو جزء منهم في بوتقة فكرية واحدة أو صفهم خلف رأي واحد مؤيدين أو معارضين ، وليس لدينا أدني شك أن هذا التباين ينطبق علي أبناء الدين الواحد ومعتنقي المذهب الواحد أيضاً ..
والاختلاف بين أبناء الدين الإسلامي أو بين مريدي أحد مذاهبه المعترف بها خاصة فيما يتعلق بالشريعة وأحكامها ، له مرجعية واحدة لا تتغير ولا تتبدل .. هي الله الواحد الأحد وقرآنه الكريم وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم .. يقول الحق جل وعل في سورة المائدة الآية 48 " إليه الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " ، وفي سورة الزمر الآية 3 " إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون " ..
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخري ..
تؤكد لنا الآيات القرآنية العديدة التي بينت لنا أبعاد الحوار الذي دار بين العلي القدير وأنبياؤه ، وبينهم وبين أقوامهم .. أن الحوار الناجح له محددات وأطر ومناهج من شأنها أن تؤدي إلي تقريب وجهات النظر التي كانت متباعدة ، بما توفره من عناصر إيجابية بين المتحاورين .. أما التجارب العملية ، فتبرهن لنا أن عدم الأخذ بما تحض عليه هذه الآيات يفتح المجال علي مصراعيه لأن يَصرف المتحاورون جل اهتمامهم لمناقشة القضايا الفرعية كأنها الجوهر والمُبتَغي مما يؤدي في نهاية المطاف إلي توالد مزيد من الخلافات ..
وإذا كان الخلاف علي المستوي الإنساني حول المسائل الحياتية أصبح يُحتم علي المجتمعات البشرية التحاور فيما بينها – بعد أن جربت الحروب الدامية الثنائية والجماعية - لتبادل الرأي وعرض وجهات النظر لما في ذلك من مزايا مادية في مجملها ، فإن الاختلاف كما يحدده الإسلام وفق سنن الله في خلقه يفرض علي المسلمين الالتزام بمبدأ التحاور فيما بينهم لتنقيح وجهات نظرهم بالاستماع إلي فريق أو أكثر من إخوانهم في الدين أو المذهب بهدف التوصل إلي رؤية توافقية إلي الحد الذي ترتضيه غالبيتهم ..
الحقيقة التي لا مراء فيها .. أننا كمسلمين نعيش محاطين بالأعداء وبالمؤامرات من كل جانب ، لذلك ليس هناك من سبيل لمواصلة رفض مبادرات التحاور فيما بيننا التي يدعو إليها الكثير من الحكماء هنا وهناك أو للتقليل من شأنها أو الإدعاء بعدم نفعها .. لأنها الوسيلة الأجدى كما بينت لها آيات القرآن الكريم للتقارب بين المختلفين ، وهي المنهاج الأمثل لاستخلاص النتائج التي تخدم الأمة في حاضرها ولترتيب أولويات مستقبلها علي أسس أكثر متانة وأبعد رؤية وأعمق دلالة..
والحوار بين المسلمين هو احد المفاتيح الرئيسية لتجديد فقه المصالح الجماعية المواكبة لتغيرات العصر التي غدونا غير قادرين علي ملاحقتها ، لأن الانغلاق علي الماضي وتاريخه والاكتفاء بما ترك السابقون من تراث فكري وتطبيق شرعي ، يقود إلي الجمود الذي غالباً ما يرفض الحوار .. فالمصيبة هنا مصيبتان ..
الأولي .. مصيبة التوقف عند كل ما هو ماضي بغض النظر عن قدرته علي موائمة الواقع الحالي المعاش أم لا ..
والثانية .. رفض الحوار مع الآخر المسلم والتقوقع علي الذات ، تحت شعار ان ما لدي يكفيني وزيادة ..
لعلكم توافقوني أن تجارب تاريخنا علي مر السنين تقول لنا أن مصيبة واحدة دمرت الأمة أكثر من مرة ، فما بالنا ونحن نعيش اليوم في ظل مصيبتين !! ..
ولكي ندرأ عن أنفسنا شبهات عدم ادارك أبعاد ما يحيط بنا ونؤكد بكل ما لدينا من قدرات استعدادنا للتنسيق معا لتلافي نتائج هاتين المصيبتين .. علينا أن نبادر بإزالة ما بيننا من خلاف أو علي الأقل وضعه في حده الأدنى بالحوار ، لأنه ..
- سبيلنا لوضع يدنا علي جوانب أكثر من الحقيقة التي يعرف كل فريق جزء محدود منها فقط ، لأن الله سبحانه وتعالي هو الحق المبين الذي يملك الحقيقة الكاملة ..
- وأداتنا للتوصل إلي رد مقنع وواقعي وقابل للتطبيق للكثير من علامات الاستفهام – المتزايدة كل يوم - التي لا يجد كل فريق بمفرده إجابة لها ..
- وإطارنا الذي يُحدد طرائق تعاوننا المثمر لفض العديد من الإشكالات التي تباعد فيما بيننا ..
- المنهاج الذي عن طريقه فقط تتضافر جهودنا لوقف مخططات استنزاف الأمة وتغييب وعيها في مهاترات لا طائل من ورائها ..
بالحوار فقط تنضج أفكارنا الجماعية وتتعمق ويتسع مدارها وتُنقي من الخرافات والانحرافات والجمود ، وعن طريقه تزداد فرص الإبداع والتطوير ضمن الحدود التي تفرضها المرجعية القرآنية والسنة النبوية الشريفة التي تُعلي كل منهما من شأن الحوار القائم علي تبادل الرأي بالحسنى وفق نسق من الأدلة والبراهين القابلة للنقاش والإقناع لأن الإسلام أولاً وأخيراً دين الحجة والبينة ..
وإذا كان المتخصصون الدراسات الإنسانية قد وسعوا من مجالات الحوار حتى شملت الشعوب والحكومات والمدنيات والحضارات ، فأننا سنقصر حديثنا هنا علي الحوار بين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد ، لسببين ..
أولهما .. تقديرنا للهيئة العلمية المشرفة علي هذا المؤتمر واتفاقاً مع القواعد البحثية العلمية التي يفرضها علينا اختيارنا للموضوع ..
ثانيهما .. أن ما سنستند إليه من آيات القرآن الكريم يُلزم هذه الفئة من المتحاورين ولا يلزم غيرهم ، سواء كان حوارهم مباشراً أو غير مباشر وأي كانت الموضوعات التي يتحاورن حولها فقهية أو علمية أو سياسية أو فكرية أو غيرها..
هذا .. مع الأخذ في الاعتبار أن آداب الحوار وقواعده ومناهجه وأساليبه الفنية من ناحية و قيمه الحاكمة من ناحية أخري ، لا يُفسدان عند الخلاف للود قضية ..
وذلك من منطلق ..
1- أن القواعد الدينية الإسلامية هي المرجعية الأساسية التي تُحدد من هم أطراف الحوار وما هو موضوعه وما هي أهدافه وكذا منهجه وأسلوبه ..
2- وأن القواعد الإجرائية هي التي تختار مكانه وتحدد زمانه وترصد نتائجه ..
3- أما النظم التوافقية فهي التي تحدد إطار إدارته وكيفية تتبع فصوله وتضع مؤشرات التحكيم التي ترضي عنها الأطراف المشاركة ..
القواعد الدينية الإسلامية – التي هي الأهم والأثقل في ميزان بحثنا هذا - ترشدنا إلي أن الأصل في الحوار الناجح هو أطرافه ..
فأطراف الحوار – علي مستوي أي مجال من مجالاته أو موضوع من موضوعاته - إذا توفرت فيهم الاشتراطات الأساسية والموضوعية والتزموا هم بالتجرد عن الهوى .. قام اختيارهم للمشاركة فيه علي أسس سليمة وأبانوا عن نية صادقة في العمل علي بلوغه غايته ، ومن ثم توافقت كافة توجهاتهم حيال المستلزمات الإجرائية والتوافقية الأخرى التي أشرنا إليها ..
وأهم ما يجب أن يتوافر من اشتراطات في الشخص المحاور ..
الندية في عرض الأفكار والحجج .. لأن تدني طرف أو تواضع قدراته لا يوفر عنصر التكافؤ بين المتحاورين .. كما أن ضعف الإمكانيات لا يسمح بعرض وجهة النظر بشكل عملي وملموس ومجدي ..
توافر القدرات العلمية والمنهجية بين الأطراف من شأنه أن يكسب كل منهم المكانة التي تليق به ويمنحه إمكانية عرض أفكاره بسلاسة وتمكن .. أما التفاوت بين قدرات الفرق المتحاورة في طرح وجهات نظرهم أو في البرهنة علي ما تحت أيديهم من أفكار وقناعات ، فمن شأنه أن يطفأ حماسة غير المتمكن من قدراته وأدواته ..
الرأي عندي أنه ليس هناك فائدة علمية ترجي من أن يجد الطرف الأكثر باعاً نفسه في الساحة وحده يصول ويجول فارضاً رؤيته علي الطرف الآخر الذي يتناظر معه من موقع الدونية أو قلة الخبرة وتضاؤل الإمكانيات ، فكأنما هذا القوي المتمرس يتحاور مع نفسه .. يقول لنا القرآن الكريم " .. فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " سورة الرعد الآية 17 ..
وكل ما أمكننا أن نتعرف عليه من نماذج قرآنية يحض علي التماثل بين الأطراف المتحاورة في القوة الحوارية والقدرة علي عرض ما تحت أيديهم من دلائل وبراهين تؤيد ما يرونه صحيحاً من وجهة نظرهم .. وهذا التماثل هو الذي يثري في نهاية المطاف مسارات التحاور التي تسعي لصالح أمة الإسلام وشعوبها ..
هناك أيضا حتمية امتلاك ناصية معرفة دقائق الموضوع الذي يدور حوله الحوار ومن ثم الإلمام بكل جزئياته ومحاوره ومنطلقاته ..
فليس من المقبول لا إسلامياً ولا علمياً أن ينزل الفريق المتحاور حلبة الحوار دون أن يكون مسلحاً علي أعلي درجة بما يؤيد وجهة نظره ويبرهن علي صدق ما يعرض مؤيداً بالحجج والأدلة القابلة للنقاش ، وهذا يتطلب التعمق في المعرفة بجوانب الموضوع ودراية واسعة للإحاطة بكل ما يشتمل عليه من نقاط أساسية وثانوية أصلية كانت أو فرعية .. لأن هذا التعمق وتلك الإحاطة توسع من دائرة الحوار وتُثريها وتُغني القاعدة المعلوماتية التي يدار في ضوئها تبادل الأفكار والآراء ، ومن ثم تأتي نتائج الحوار وما تتوصل إليه من خلاصات مؤسسة علي حقائق تستمد قواتها من المعلومة الموثقة ..
وليس مقبولاً بأي حال من الأحوال ولا هو من وصايا الإسلام من قريب أو من بعيد أن يتصدي طرف للحوار وهو غير ملم بحقائق موضوعه قادر فقط علي تلمس هوامشه و حواشيه وواقف بجهده عند ناصية العمومية والتسطيح .. " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير " سورة الحج الآية 8 ..
وما بالنا بصنف من المحاورين يسعون إلي حلبات النقاش وندوات تبادل الرأي وما شابهها بلا معرفة معمقة ولا وعي مستنير ، سعياً وراء حب الظهور والتشدق بما لا يعرفون مستغلين سابقة مشاركتهم في جلسات كانت تناسب قدراتهم المعرفية فألقت عليهم الأضواء ومنحتهم الشهرة .. فوقر في نفوسهم أنهم قادرون علي المحاججة إذا شاركوا في أي حوار ليس بهدف تحقيق غاية عامة ولكن لتحقيق المزيد من الانتشار والحضور ، دون أن يعوا أنهم بذلك يفوتون الفرصة علي من هم أفضل منهم في هذا المجال لأنه يملك ناصية الأمر " ها أنتم حاججتم في ما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم " سورة آل عمران الآية 8 ..
لا بد أن يتحلي المحاور المسلم بالمعرفة وان يكون أول من يعرف قدراته ويطمئن لمهاراته المكتسبة ، وان يتحلي بفضيلة إعطاء الحق لأهله وان يحرص علي تقديم من هم أقدر منه في أي ميدان علي نفسه طالما شهد لهم الآخرون بالفضل .. لأن الحوار في نهاية المطاف ليس نزهة ترويحية ومباراة كلامية وجعجعة بلا طحين ، ولا هو مظهرية شيفونية تعتمد علي وسامة الشكل والقدرات الخطابية وحذلقة شد الانتباه .. ولكنه مسعى علمي مؤسس علي حقائق يهدف إلي كشف الستار عن فائدة علمية عن طريق قرع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان دون تزييف أو ادعاء ..
ألا ترون معي أننا يمكن ان ندرج مثل هذا التصرف ضمن ضروب الافتراء علي الله بادعاء خبرات ومهارات لم يسبغها علي صنف من خلقه " .. وقد خاب من افتري " سورة طه الآية 95 ..
وهذا يتطلب أن يتصف المحاور الجاد الواعي الملتزم بمجموعة من الفضائل والسلوكيات التي تميزه عن غيره من مدعي " خبرة التحاور " وتعلي من شـأنه باعتباره عارفاً بآداب الحوار وقادراً علي سبر أغواره من ناحية ، وملماً بالأسس القرآنية والوصايا النبوية من ناحية ثانية ..
الأمر الذي يفرض عليه ..
1 - أن يكون بعيداً عن الغضب والتشنج والتوتر ، إذا لم يوفق في عرض وجهة نظره أو إذا كانت دلائل الفريق الآخر المحاور أكثر موضوعية وأنصع دلالة ..
2 – أن لا يعلو علي الحق إذا ما وضحت دلالاته لدي غيره من الأطراف المشاركة ، في حين فقد هو بصلة بلوغ شاطئه..
3 – أن يحرص علي إبقاء الحوار ضمن الأطر التي اتفق عليها عند الإعداد لمساراته واتجاهاته والتي أقرتها كافة الأطراف قبل البدء فيه ، وأن لا يدفعه التوتر لأي سبب إلي الخروج عنها مهما تصاعد مؤشر الإحباط لديه ..
4 – أن يبادر للاعتراف بقدرة غيره علي بلورة أفكاره ويقر له برجاحة عرضه لما تحت يديه من حجج موثقة ، طالما تبين له ولغيره من المحاورين والمتابعين أنه ( أي الآخر ) امتلك البرهان ودلل علي مصداقية ما يطرح ..
5 – أن يتعود علي لين العريكة طالما أن النقاش يأخذ مجراه الإجرائي بلا تعقيدات سلبية ، حتى ولو كان خط سيره وتصاعده لا يتوافق مع أطروحاته ..
هذه الصفات تنطبق علي عقلاء الحوار الذين قالت عنهم سورة القصص الآية 55 " ,إذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا نبتغي الجاهلين " .. وكما سبق لنا أن أشرنا أشرنا في موضع متقدم ، أن اللغو هنا وإن كان يقصد به الشتم والإيذاء والإنكار إلا أن الآية الكريمة تنصرف أيضا إلي الخلاف في الرأي علي غير بينة أو حجة أو برهان ..
يقول المولي عز وجل في كتابه الحكيم لرسوله الكريم " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر " سورة آل عمران الآية 159 ، يتباهي ربنا برسوله ويطلعنا انه عليه السلام لم يكن مجافياً لقومه ولم يقسو عليهم قلبه الشريف برغم ما لاقاه من عنت وإيذاء وهو يدعوهم إلي عبادة الله الواحد الأحد ..
هذا الاستدلال الرباني موجه لنا ، الحق يريد منا أن نتمثل رسولنا عليه الصلاة والسلام عند التحاور والنقاش خاصة فيما يتعلق بأمور ديننا الحنيف ..
فإذا عَلمنا العلي العظيم أن رسولنا رضوان الله عليه لم يكن فظاً في عرض رسالته والبرهنة علي صدق دعواه خلال نقاشاته الطويلة مع الكافرين والمنافقين .. ولم يكن مغلق القلب حيالهم وهو يعرض عليهم أدلة مصداقية ما يدعهم إليه ، أفلا يكون ذلك نبراساً لنا لكي نتبنى نموذجه عليه السلام في الحوار والنقاش بصفة عامة ومع من هم علي ديننا علي وجه الخصوص ؟؟ ..
أما إذا كنا نتناقش مع هم علي غير ملة الإسلام ، فعلينا أن نتمثل مضمون الآيتين الكريمتين رقم 43 و 44 من سورة طه اللتين تقولان لسيدنا موسي وأخيه هارون " اذهبا إلي فرعون إنه طغي ، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشي " .. أي أن نتخاطب وإياهم ونتحاور فيما بيننا وبينهم بالقول اللين الذي يعني التفاهم معهم علي قدر عقولهم ووفق قدراتهم علي الاستيعاب دون اللجوء لفرض رأينا بالقوة الجبرية ، فهذه الوسيلة كما يقرر رب العزة هي وحدها التي تقود من هم علي غير الملة إما إلي التذكر والفهم والاقتناع أو إلي الخشية وكلتاهما أو إحداهما لن تتحقق بتأثير الشدة والعنف والقول الخشن ولن تصل إلي هدفها تحت ضغط التوتر والغضب والخصام ..
لأن بلوغ الحوار لغايته الإيجابية لن يتحقق بكم الكلام الكثير الذي جري علي الألسنة ولا بمن علا صوته وبان تشنجه.. ولكن بمن نجح في رفع الحوار إلي مستوي الندية القائمة علي الحق والبرهان ، وساهم في تحقيق الهدف من وراء انعقاده وشارك في تزكية خلاصاته التي اقر بها الجميع وأضاف جديداً إلي ساحة الاجتهاد الديني لصالح المجتمع والأمة ..
وبعد أطراف الحوار والاشتراطات التي يجب أن تتوافر فيهم ، يأتي موضوعه والهدف من وراءه ..
لا بد قبل الخوض في ترتيبات اللقاء الحواري ، أن يتفق الطرفان أو الأطراف المشاركة فيه علي موضوعه .. ولا نقصد بذلك العنوان فقط ، لكن كل ما يتعلق به من أبعاد ومحاور وخطوط عريضة ونقاط ذات صلة وثيقة بها .. حتى لا يزيغ مسار تبادل الآراء عن طريقه وينحرف عن مقصده ، ويصبح الوقت مُضيعاً والجهد المبذول بلا ثمرة ..
عدم تحديد الموضوع بالكيفية التي اشرنا إليها ، يخلق الكثير من المشاكل والعقبات عند محاولة ضبط الأمور بإعادتها إلي جادة الصواب ، فأسهل ما يتمسك به طرف أو الأطراف كلها .. أن تحديد أبعاد الموضوع وما يشتمل عليه من عناصر ، لم يكن واضحاً منذ البداية أو أن هذه النقطة أو تلك لم تكن مدرجة أو متفق عليها أو أنها أضيفت بعد إقرار الاتفاق النهائي دون علم ورضا بقية المشاركين ..
لذلك اتفق الرعيل الأقدم من العلماء علي ما أطلق عليه " تحرير محل النزاع " .. أي تحديد أبعاد الموضوع الرئيسي الذي يتجمع الآخرون لمناقشته والتحاور في صلب مكوناته ، لكي يَسهل عليهم تفكيك نقاط التشابك حوله وإرجاعها إلي أصولها، ومن ثم التثبت من مرجعيتها وتأكيد مصداقيتها .. أو الاقتناع بإعادة النظر فيها من زاوية أو مجموعة زوايا جُدد عن طريق الطرح العلمي الموثق الهادئ الذي لا يزيغ عنه إلا موتور أو غير متمكن ..
هذا التحديد حتى لو تناول أدق التفاصيل من شأنه أن يشير بصدق والمعية إلي الهدف من عقد موضوع الحوار المتفق عليه ، لأن خوض الأطراف لحوار بلا هدف مضيعة للوقت والجهد كما قلنا من ناحية وترسيخ للاموضوعية من ناحية ثانية ويُنبأ بأنه عديم المنفعة والقيمة من ناحية ثالثة ..
فأي كان عنوان الحوار .. لا بد من تحديد الهدف من وراءه حتى يكون الأفراد المشاركون فيه علي بينة من أمرهم ، ومن ثم علي وعي بمراجعاتهم .. وعلي معرفة بأبعاد الرسالة التي هم علي وشك المشاركة في تفعيلها فيما بينهم ..
هذا التحديد الضابط لموضوع الحوار وهدفه وما يقود إليه من إقرار لكل طرف بحقه في عرض وجهة نظره بالكيفية التي يراها مناسبة وموضوعية .. هو الذي يُمكن الطرفان أو الأطراف المشاركة في العملية الحوارية من التوصل بسلاسة ويسر إلي نتائج واستنتاجات موضوعية لها أثرها العلمي والفكري الذي يضيف الجديد إلي الساحة النقاشية الأوسع ..
التجارب التطبيقية في هذا الخصوص تؤكد لنا ، أنه ما من لقاء حواري إلا وأتت إليه الأطراف المتحاورة وكل منها علي قناعة انه يملك القدرة علي إثبات صحة وجهة نظره بما تحت يده من أدلة وبراهين ، لكن نهاية اللقاء تثبت دائما أن غالبية الأطراف استطاعت عن طريق تنسيق زوايا الرؤية فيما بينها أن تحقق إضافة جديدة إلي موضوع الحوار ، أو أن إحداها استطاع أن يحقق قدرته هذه أما الآخرون فلم يوفقوا .. وذلك مصداقا للآية الشريفة رقم 24 من سورة سبأ التي تقول " وأنا أو إياكم لعلي هديً أو في ضلال مبين " ..
ونأتي هنا إلي منهج الحوار وأسلوبه ..
لا بد كما اتفقت الأطراف المشاركة في الحوار علي موضوعه والهدف من وراءه أن تتفق أيضاً علي منهجه وأسلوبه لكي يكونا ملزمين لهم جميعاً ، فبغير ذلك لا يتوافر الإطار العلمي ولا القواعد الملزمة لكل الأطراف .. الأمر الذي يفتح أوسع الأبواب للمهاترات والادعاءات التي من شأنها أن تهبط بلغة الحوار وتفاعلاته إلي مستويات دونية ليس وراءها طائل ولا يُرجي منها نتائج يُعتد بها علي أي مستوي من المستويات ..
منهج الحوار هو ، في ابسط تعريف ، النظام الذي يسلكه في ضوء مجموعة متفق عليها من القواعد العامة المتعارف عليها " لطلب الحق " والتي قد يضاف إليها عدد من المسائل التي يتفق عليها كل الأطراف وتكون مقبولة منهم جميعاً قبل البدء في الترتيب لمجرياته ..
هذه القواعد نشير إلي أهمها فيما يلي ..
- أن يرد كل طرف علي الطرف المحاور له في ضوء مرجعيته ومصادره التي يبني عليها حججه وآراؤه ..
- التزام كل طرف بعرض وجهة نظره بوضوح لا لبس فيه ، من منطلق الحقيقة كما يراها دون اللجوء إلي الإبهام أو التبسيط المخل ..
- أن يعترف كل طرف بأن هناك العديد من المسائل المتفق عليها بينه وبين الآخرين ، يقول ربنا سبحانه وتعالي " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم " سورة آل عمران الآية 64 ..
- التزام كل طرف بنبذ التعصب أي كان الغرض من وراءه .. والابتعاد عن فرض الرأي المسبق والأحكام المعدة سلفاً ، لأنه لو كان الأمر كذلك ما كانت هناك حاجة للحوار والنقاش ..
- التجرد من الهوى يضمن أن كل طرف مستعد عن قناعة إيمانية لتقبل ما سينتهي إلي الحوار الذي يشارك فيه من نتائج..
أما أسلوب الحوار ، أو آدابه وسلوكياته كما يسميها بعض العلماء والمتخصصين ، فقد اشرنا إلي بعضها عندما تناولنا الحديث عن الأطراف المشاركة فيه كالندية وامتلاك ناصية المعرفة وان لا يعلو علي الحق وان يعترف بقدرة غيره علي بلورة أفكاره وأن يُبعد نفسه عن التشنج والتوتر ويروضها علي خاصية اللين والمرونة والبعد عن العصبية ..
ويمكن أن نضيف هنا ..
احترام معتقدات الطرف الآخر وقناعاته مهما كانت درجة الاختلاف معه ، الأمر الذي يقتضي بذل الطاقة للتحاور معه بالحسنى التي لا تتفق واللجوء للإنكار أو التحريض أو الاستهزاء أو التعالي والتكبر ، يقول قرآننا الكريم في سورة العنكبوت الآية 46 " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " ..
وإذا كانت تلك أوامر الله سبحانه وتعالي لنا بأن نتحاور مع أهل الكتاب بكل ما هو حسن من ناحية ، ويشدد جل وعلا في نهينا من ناحية أخري عن أن نسئ لمن يشركون به حتى لا نمنحهم الفرصة لكي يسيئوا لديننا وربنا الواحد الأحد " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم " سورة الأنعام الآية 108 .. فهل هناك قاعدة أقوي من هذا النص القرآني تفرض علي المسلمين الابتعاد تماماً عن الزج بالاختلاف في العقيدة عند التحاور مع من هم ليسوا علي دين الإسلام أو حتى ممن يُنكرون وحدانية الله ويشركون به أله آخر ؟؟ فما بالنا ونحن نتحاور مع من يؤمنون بديننا الحنيف ويصدقون برسالة رسولنا الكريم وإن كان هناك من اختلاف بين أي طرفين او مذهبين منهما ، فهو اختلاف لا صلة له البتة بالوحدانية ومتطلباتها ولا بالأركان ورسوخ الاعتقاد بها ولا بالعبادات وطرق أداؤها .. ما يعني أن كل ما هو خارج هذه الأطر الأساسية قابل للنقاش والحوار والأخذ والرد بغية التوصل إلي تقريب لوجهات النظر واتفاق حول أفضل المعالجات التي تفتح مجالاً لتبادل الآراء وتنقية السرائر ودعم الصفوف ..
وهكذا نري أن الأخذ بالقواعد الدينية الإسلامية والتأكيد عليها عند البدء في الإعداد لأي منطلق حواري أو حلقة نقاشية أو حتى ورشة عمل ، يمهد الطريق في سهولة ويسر لتثبيت القواعد الإجرائية ومن بعدها النظم التوافقية .. لأن الترتيب لجولة حوارية في ظل الاتفاق علي تلك القواعد – الدينية الإسلامية - يعني قطع أكثر من ثلثي الطريق نحو عقد توافر اشتراطات نجاح للقاء أي كان مسماه من ناحية ويعني أيضا التقين من محدودية الاختلاف حول الثلث الباقي حيال ترتيباته من ناحية ثانية .. والأكثر من ذلك توقع تحقيق نسبة عالية من نجاح المَسعى من وراء عقده بهذه الكيفية ..
النظم التوافقية لها جانبان ..
الأول منها ، ونعني به الاتفاق بين المتحاورين علي مكان الحوار وزمانه ، يتطلب من الهيئة المشرفة عليه أو الداعية له أن تختار مكاناً يتناسب مع موضوع الحوار وهدفه من ناحية وتتوافر به سبل الراحة وما يحتاج إليه المتحاورون من إمكانيات قد تكون لازمة من ناحية ثانية ..
وهذا يعني العمل بكل طاقة علي تلافي اكبر قدر من السلبيات التي تحرف الحوار عن المسار المحدد له وتنقيه من دواعي الاستفزاز التي قد تؤثر علي أجواءه من وجهة نظر واحدة أو أكثر من الفرق المتحاورة أو حتى المتابعون للحدث كمحكمين أو إعلاميين أو حضور ..
أما الزمان فمن البديهيات أن تعمل الهيئة المشرفة علي الحوار ، وهي تفاضل بين التوقيتات المطروحة ، علي توافر الاشتراطات التالية ..
- أن يتوافق موضوع الحوار مع التوقيت الذي يتم اختياره ، بحيث لا يكون قد مضي زمانه وفات أوانه ..
- المساحة الكافية من الوقت التي تمنح المتحاورون الفرصة الكاملة للاستعداد بالكيفية التي تناسب كل فريق منهم للمشاركة فيه ..
- الظروف المناخية التي لا تؤثر في استجابة هذه الفرق ، وتضطرهم جميعاً أو بعضهم للاعتذار ..
ومن البديهي أيضا أن تشير الهيئة المشرفة علي عقد الحوار ضمن برامج تواصلها مع الأطراف المشاركة ، أنها ستقوم مثلا بتشكيل لجنة مستقلة من متخصصين لمتابعة نتائجه وأنها ستصدر نشرات يومية لما يتم إنجازه من فاعليات أو أنها ستعمل علي نشر الأبحاث كلها التي عرضها المشاركون أو ما يتم اختياره منها في كتيب .. الخ ..
هذه النقطة وإن كانت بديهية إلا أنها – من واقع التجارب العملية – تساهم في تحقيق الايجابيات التالية التي تؤتي ثماراً طيبة علي كافة المستويات ..
1 – حرص مقدمي الأوراق البحثية علي الإجادة ، لأن كلام المتحاور المرسل شئ والنص المنشور باسمه شئ آخر ..
2 – حرص المتحاورين عبر المداخلات الشفهية علي الالتزام بكل متطلبات الحوار الإيجابي المتحضر ..
3 – البعد عن الإسهاب والإطالة سواء علي مستوى الأوراق المكتوبة أو التعليقات الكلامية ..
أما الجانب الثاني الذي يهتم غاية الاهتمام بآلية إدارة الحوار وتتبع فصوله وقياسات التحكيم التي تواكبه ، فيُعد من العناصر الفنية اللازمة لضمان أعلي مستوى لتبادل الأفكار والآراء بين المتحاورين ، ومن ثم تحقيق الهدف من وراء انعقاد الشكل الحواري كما تم الاتفاق عليه أو إلي اقرب درجة منه ..
آلية إدارة الحوار لا تتدخل فيما يجري بين المتحاورين من نقاش أو مداخلات وليس لها شأن من قريب أو من بعيد بخلافاتهم أو اتفاقاتهم ، لأنها تختص فقط بـ
أ – ضبط مساره وفق ما هو متفق عليه بين الأطراف المتحاورة ..
ب – توفير الفرص المتساوية لكل مشارك لعرض أفكاره ..
ج – التنبيه عند ملاحظة أي خروج عن قواعد أسلوب العرض أو التعليق ..
لهذا جري العرف أن تتوافر اشتراطات معينة في آلية إدارة الحوار ، وموصفات محددة فيما تتشكل منهم ، نعرض لأهمها فيما يلي ..
أولاً .. القبول لدي كافة المتحاورين ، فلا يُعقل أن يرضي متحاور أو مجموعة من المتحاورين بالمشاركة في شكل من أشكال تبادل الفكر والرأي ، ويرفض في نفس الوقت الموافقة علي آلية التحكيم التي ستدير فاعلياته علي امتداد فترة انعقاده .. كما أن الهيئة المشرفة علي الحوار والتي أعدت له ، لن تقبل من أحد بعد الموافقة علي المشاركة بكل ما تتضمنه من التزامات أن يعترض في آخر لحظة علي آلية إدارة الحوار لسبب أو لآخر ..
ثانيا .. الحياد والموضوعية والتجرد ، لأنه بدونها وما يتوافر بينها من تعاضد ، لن يكون أداء طاقم الآلية لمهامه عادلاً ومن ثم سيكون مصدر تعليق ورفض من البعض وقد يؤدي إلي فشل التجمع الحواري بنسبة أو بأخرى ..
ثالثا .. تناسي أفراد الطاقم لخلفياتهم الفكرية طوال فترة توليهم المسئولية ، لأنه ليس مطلوباً منهم من خلال تكليفهم بهذه المهمة أن يبرزوا هذه السمة التي تميزهم عن غيرهم .. كما انه من المحظور عليهم استخدامها كمقياس لتنفيذ التكليفات التي ارتضوا أن يقوموا بها حيال إخراج التجمع الحواري الموكل إليهم إدارته في أحسن صوره وبأقل قدر من المعوقات ..
آخر ما نقول حول منطق الحوار بين المسلمين ..
أن النصوص القرآنية تأمر وتحض علي التوقف عن مواصلة الحوار لأسباب موضوعية واضحة ومحددة ، أهمها ..
1 - خروج أحد الأطراف عن موضوع التحاور عن طريق فرض خطوط أو نقاط نقاشية لم يقترحها من قبل لأجل التسويف وإضاعة الوقت ..
2 – ترك لغة الحوار الحضاري المتفق عليها وتبني وسيلة تخاطب وعرض أفكار ليس فيها من العلمية ولا من المصداقية إلا مسماها فقط ..
3 – تجاوز حدود الحوار وأسلوبه ، واللجوء إلي وسيلة التضليل والإيحاء أو الافتراء والتدليس ..
4 – لجوء أحد الأطراف لأسلوب التهديد وافتراء وربما التكفير ، كوسيلة للتهرب من استحقاقات النقاش العملي المؤسس علي الحقائق تحت ضغط فشله في عرض وجهة نظره أو تدعيمها بالبراهين والأدلة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ..
5 – إصرار طرف أو أكثر علي رفض الحجة والبينة ، رغم وضوح أدلتها والاتفاق علي مصداقيتها ..
وهكذا نري أن آيات القرآن الكريم بينت لنا بوضوح شديد سبل ومنهاج التحاور الذي يقصد به وجه الله سبحانه وتعالي ويقود إلي منفعة الأمة ومصلحتها ، وأوصتنا من ناحية بتعميمها وحذرتنا من مخاطر عدم الأخذ بها ونهتنا بشدة من ناحية أخري عن الحوار والجدال والمحاججة التي لا طائل من ورائها ..
- يقول الحق لسيدنا محمد " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أن الله لا يحب من كان خوانا أثيماً " سورة النساء الآية 107 ..
- " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً " سورة النساء الآية 109 ..
- أما هود عليه السلام فيقول لقومه " أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما نزل الله بها من سلطان " سورة الأعراف الآية 71 ..
- لما عرف سيدنا إبراهيم بأمر العذاب الذي أرسله الله إلي قوم لوط ، انبري للدفاع عنهم " .. يجادلنا في قوم لوط ، إن إبراهيم لحليم أواه منيب " سورة هود الآية 74 – 75 ..
- الآية التالية تبين لنا قدرة الله الخارقة في كل ما هو فوق طاقة البشر ، الذين يجادلون في كينونته سبحانه وتعالي .. " ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال " سورة الرعد الآية 13 ..
- تقول لنا سورة الكهف أن الله أمر نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أن لا يجادل مشركي قريش في عدد أصحاب الكهف لأنهم يقولون ما عندهم بالظن والحدس والرجم بالغيب " .. فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً " سورة الكهف الآية 22 ..
- كذلك الحوار الذي يقول المفسرون انه جري بين اخوين تمسك احدهما دون بينة أو يقين بأنه الأكثر مالاً والأكبر عزوة والأقوى جانباً " وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً واعز نفراً " سورة الكهف الآية 34 ..
- يقول القرآن الكريم عن قوم نوح " ... وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف فكان عقاب " سورة غافر الآية 5 ..
- " الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين أمنوا ... " سورة غافر الآية 35

وبعد
هذا ما وفقنا الله إليه فيما يتعلق برؤيتنا لمنطق الحوار الهادف المثمر بين المسلمين علي أسس قرآنية تساعد في التقارب فيما بينهم وتبعدهم قدر الاستطاعة عن الجدال العقيم المذموم لأنه يساهم في توسيع شقة الخلاف ويزيد من حدة الصراعات..
أسال الله المستعان ، التوفيق " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفي كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون " سورة النحل الآية 111
والحمد لله رب العالمين من قبل ومن بعد ..

 

المصدر: http://www.rohama.org/ar/content/973

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك