بين الهموم المذهبية والمقاصد الإسلامية
بين الهموم المذهبية والمقاصد الإسلامية
بقلم: محمد علي نظام زاده
إنني إذ أشكر القائمين على إعداد ميثاق الوحدة الإسلامية أتقدم في هذه الورقة المتواضعة بإضافة بسيطة على المادتين الحادية عشرة والثانية عشرة من تطلعات الميثاق وتتعلق بالدراسات الإسلامية في الحوزات والمراكز العلمية والجامعات وبالتربية والأخلاق.
لقد ركزت المادة الحادية عشرة على نقاط مهمة ترتبط بهدف الميثاق وهي:
- فقه الوحدة الإسلامية.
- وأدب الخلاف والمناظرة الهادفة.
- والدراسات المقارنة في الفقه والكلام والتفسير الموضوعي.
- والتأكيد على خلق جو من الاحترام المتبادل وعدم الانتقاص من الآراء الأخرى في تلك المعاهد العلمية.
وأود أن اقترح إضافة "فقه المقاصد" إلى هذه المادة، لاعتقادي بأن كثيراً من المواقف السلبية التي تصدر عن بعض الأفراد والجماعات باسم الدين إنما يعود سببها إلى غياب مقاصد الإسلام الكبرى في دراسة التشريع.
نظرة سريعة على ما يصدر من كتب ومقالات في الإطار المذهبي وما يقال في الدفاع عن هذا المذهب والرد على ذاك المذهب تكفي لأن تبين لنا أن أصحاب هذه المواجهات المذهبية اقتصرت همومهم على مسائل فرعية جعلوها وكأنها الإسلام بأجمعه، فراحوا يبذلون كل جهودهم من أجل الدفاع أو الرد في إطار هذه المسائل الجزئية.
طبعاً أصحاب الطروحات المذهبية ليسوا على نمط واحد، وليست دوافعهم واحدة، فمنهم من يتقصد الاثارات المذهبية خدمة لأغراض أصحاب السلطة المحلية أو الأجنبية، ومنهم من يعمد إلى ذلك من أجل إرضاء عواطف العامة، وجمع المريدين.
ولكن هناك قسم ثالث مخلص فيما يطرح ويقول، ولا يقصد فيما يقدمه إلاّ رضا الله سبحانه، لكنه غارق تماماً في همومه المذهبية ناسياً الهموم الإسلامية الكبرى، وغافل عن المقاصد الكبرى التي جاء بها الإسلام.
ومن الطبيعي أن يتوجه اقتراحي هذا إلى الفئة المخلصة المتقية الجادة في كسب رضا الله سبحانه لأن الفئة الأولى باعت ضميرها وذمتها والثانية صيرت من الدين دكاناً لارتزاقها، ونعوذ بالله من الخذلان.
إن كل المذاهب الإسلامية المعتبرة هي اجتهادات في الأصول والفروع ضمن دائرة الإسلام وأهدافه الإنسانية الكبرى، وإذا حصرنا الاهتمام في المسائل الفرعية دفاعاً عن هذا المذهب أو هجوماً على ذلك المذهب فقد أضعنا تلك الدائرة الكبيرة، وبنينا حولنا وحول مخاطبينا حصاراً يصعب الخروج منه، وهو الحصار المذهبي الذي يُنسينا مسؤولية الأمانة الكبرى.
لقد أثبتت تجارب التاريخ وخصوصاً التاريخ المعاصر أن الدعاة الذين اتجهوا نحو تحقيق المقاصد العليا للإسلام كانوا تقريبيين في أعمالهم ودعاة وحدة إسلامية في خطابهم، فخدموا بذلك الإسلام ، وقدموا صورة حضارية لمذهبهم، وخلّدوا أنفسهم في تاريخ الصحوة الإسلامية.
لا أريد طبعاً من حديثي هذا أن أرفض البحث العلمي في الخلافات المذهبية سواء على صعيد الأصول أو الفروع، لكني أريد أن أقول إنّ هذه البحوث يجب أن لا تكون أولاً مدعاة للإثارات الطائفية كما نصت المادة الحادية عشرة على ذلك. كما يجب ثانياً أن لا تنسينا المقاصد الإسلامية الكبرى.
بعبارة أخرى أقول: يجب أن تكون همومنا الإسلامية أكبر من همومنا المذهبية في الدراسات والمواقف والخطاب والإعلام، وبذلك نخلق انسجاماً بين أبناء الأمة الإسلامية في إطار تلك الهموم الكبيرة أو المقاصد الكبيرة.. ثم أهم من ذلك سينفضح أصحاب الاثارات الطائفية المغرضة، ويصبح صوتهم شاذاً ونشازاً في العالم الإسلامي.
أما إذا شغلتنا الهموم المذهبية عن المقاصد الإسلامية فسوف يستمر التمزق والتراشق ويستمر الجو الذي ينتعش فيه المرتزقون والمتاجرون.
التربية والتقريب
أما اقتراحي الثاني فيرتبط بالتأكيد على التربية.. فـ"الرب" أبرز صفة لله سبحانه في القرآن الكريم.. و"التزكية" أهم هدف بينه كتاب الله لبعثة النبي الأكرم (ص). والربوبية والتربية والتزكية مفردات تعود كلها إلى معاني النمو والتكامل. والأخلاق منهج تحقيق هذه المعاني، وبعث النبي (ص) من أجل تحقيقها: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ولاشك أن التربية أهم بُعد من أبعاد عمل الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى. ولاشك أيضاً أن كل مشاكل الأمة في ماضيها وحاضرها يعود إلى ممارسات فردية واجتماعية خارجة عن إطار التربية الإسلامية، ومن هذه المشاكل الخروج عن الانسجام الإسلامي.. أو الخروج عن الأهداف العامة التي توحد الأمة المسلمة وتنسق خطاها نحو التكامل المعنوي والمادي.
التربية والإحياء
إذا كانت التربية تتجه إلى تكامل الفرد والمجتمع وتنميته، فإنها تتجه في الواقع إلى الإحياء. لأن الموجود الحي هو الذي ينمو ويتكامل. وإذا كانت الأخلاق هي منهج تحقيق التربية، وهي الغاية الأساسية من الدين: فإنها تلتقي مع الإحياء لأنه هو أيضاً الغاية الأساسية من الدين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(الأنفال: من الآية 24). وكما أن الجسد الحي ينمو ويتكامل ويقاوم العوامل التي تريد أن تفتك به، كذلك "الإنسان" الحي ينمو في إنسانيته ويتكامل ويقاوم العوامل المضادة لهويته الإنسانية.
من هنا فالتربية الإسلامية تتجه إلى تأهيل الإنسان لعملية تكامله المعنوي والمادي، ولمقاومة العوامل المضادة لهذا التكامل. إنها مدرسة تعليم البناء والهدم وفق معايير الإسلام.. أي وفق تعاليم القرآن والسنة.
تطور الأساليب التربوية
إذا افترقت المذاهب الإسلامية في الأصول والفروع فإنها لا تفترق في الأخلاق والتربية، نعم ظهرت في الفرق الصوفية بعض الاتجاهات التي تدعو إلى ما يشبه الرهبانية ولكنها اتجاهات شاذة لا يعبأ بها، كما ظهر بعض الدجالين ممن يدعي بأنه صاحب مدرسة في الرياضات الروحية والنفسية، لكن هؤلاء يستغلون الفراغ الموجود في اهتماماتنا التربوية.
وإذا كان ثمة إجماع بين المذاهب على التربية والأخلاق، فهذا لا يعني عدم اجتهاد الدعاة إلى الله على مر التاريخ الإسلامي لتقديم مناهج تربوية تحقق هدف الإحياء، وهذه المناهج تلتقي في الهدف، وتختلف باختلاف زمان المخاطبين وعمق التربويين.
إنّ تاريخ المشاريع التربوية الإسلامية حافل بثراء عميق، وفي بعضها نرى توغّلاً في دقائق النفس الإنسانية، ومعالجة رائعة لأدواء النفوس، وقدرة فائقة على مخاطبة الإنسان.. كل إنسان في كل زمان ومكان، ولذلك فهي اليوم أيضاً قادرة بعد إحيائها على تقديم خطاب إنساني لكل البشرية.
إن ما نسميه اليوم بالعرفان الإسلامي الذي تبلور على يد ابن عربي وجلال الدين الرومي والعطار وسنائي وسعدي وحافظ قدم مشروعاً تربوياً يقوم على أساس القرآن والسنة. ويتلخص بإنقاذ الإنسان ـ بأروع الأساليب الفنية ـ من ذاتياته وأنانيته، ويرفعه إلى مستوى عشق كل كمال وجمال في الكون. طبعاً لا يخلو خطابهم من نقص وخطأ، ولكن ذلك ضئيل أمام مشروعهم التربوي الكبير.
وقفة عند المادة الثانية عشرة من تطلعات منشور الوحدة الإسلامية:
تنص المادة على "إحياء المذاهب التربوية الملتزمة بالكتاب والسنة باعتبارها وسائل لتخفيف النزعة المادية المغالية، وللحماية من الاغترار بالمناهج السلوكية الطارئة المتجاهلة للمبادئ الإسلامية". ويُلاحَظ في المادة استعمال كلمة "المذاهب التربوية"، وفي الإسلام مذهب تربوي واحد يتفق عليه كل المسلمين، ولكن ثمة مناهج تربوية مختلفة. ويُلاحَظ أيضاً أن التوجهات التربوية اعتبرت أداة لتخفيف النزعة المادية المغالية. بينما هي لتحقيق هدف الإسلام الكبير وهو الإحياء بما ينطوي عليه من عناصر النمو والتكامل ومقاومة العوامل المضادة للكمال الإنساني. وذكرت أيضا هدفاً آخر وهو للحماية من الاغترار بالمناهج السلوكية المتجاهلة للمبادئ الإسلامية. وهذا حق، لأن غياب المناهج التربوية الصحيحة يفسح المجال لمناهج منحرفة، وليس هذا على الصعيد التربوي فحسب، بل على صعيد الفكر والعمل أيضاً.
ضرورة التأكيد على أهمية التربية في المشروع:
أعود فأقول إن كل مشاكلنا في العالم الإسلامي تعود إلى غياب منهج بناء الإنسان المسلم وصياغة محتواه الداخلي وفق المنهج الإسلامي. وكل ظاهرة إيجابية في ماضينا وحاضرنا تعود إلى همّة أفراد وجماعات أدبهم الله فأحسن تأديبهم، ابتداء من رسول الله (ص) ومروراً بكل الذائبين في رسالتهم حتى يومنا هذا. وكل ظاهرة سلبية في ماضينا وحاضرنا تعود إلى الذاتيات المتورمة والانشداد البهيمي بالمال والمتاع، والانغماس في الشهوات والأهداف الصغيرة التافهة.
كثير ممن عاشرتهم من الطائفيين المتعصبين من الشيعة والسنة رأيتهم يدافعون عن ذاتياتهم لا عن مذهبهم. يجادلون من أجل الإفحام لا الإقناع، يقولون ويقولون ولا يستمعون، بل أحياناً يكتبون تفسيراً للقرآن كما يقول الإمام الراحل الخميني (رض) من أجل تكريس ذاتياتهم.. كما رأيت الجبن والحرص على الحياة خصلة مشتركة بينهم.. هؤلاء إذن فقدوا صفات الحياة.. وهي التكامل والنمو والمقاومة. من هنا أرى أن تتحول المادة المذكورة إلى ما يلي:
12- الاهتمام الفائق بالتربية الإسلامية القائمة على غرس مكارم الأخلاق، من أجل إنماء الشخصية الإنسانية المتكاملة المقاومة، والمتعالية على الصغائر والتوافه والمتطلعة دائماً إلى أن يكون غد هذه الأمة أفضل من يومها، ومن أجل وقاية المجتمع من المناهج السلوكية المنحرفة.
وهنا أود أن أكرر عبارة من وصية الإمام الراحل يقول فيها: "أعلى وأسمى المجالات العلمية التي ينبغي أن يشارك الجميع في تعليمها وتعلّمها هي العلوم المعنوية الإسلامية مثل علم الأخلاق وتهذيب النفس والسير والسلوك إلى الله رزقنا الله وإياكم (ذلك ) فهو الجهاد الأكبر".
كلمة ألقيت في مؤتمر التقريب بين المذاهب السلامية