حوار الحضارات: الإشكالية في الفكر لا السلوك
حوار الحضارات: الإشكالية في الفكر لا السلوك
زهير فهد الحارثي
لعل ما يميز الفلسفة هو عندما تستخدم تبريرا لما هو قائم وكائن بالفعل، لا سيما لدى المتمكن من ادواتها، ولذا بات اللفظ وفن التلاعب به من صميم النهج الفلسفي الاوروبي، حيث كسر صلابة الفلسفة بذائقة الادب. ورغم ان الفلسفة ـ كما يعتقد هيجل ـ لا تأتي بجديد، الا انها اساس كل طرح فكري يسعى الى تحليل وتفسير المشكلات الكونية والانسانية انطلاقا من المعطيات الماثلة والظروف الكائنة.
على ان الفلسفة ـ في جوهرها العميق ـ لا تؤمن بالمطلق، ولا تقطع الشك باليقين، بل انها تنزع الى فتح باب التأمل والتساؤل، فمن صميم مهماتها ان تخلق التحليل، وتوسع الادراك والافق، وهذا ما فعله كبار الفلاسفة منذ عهد سقراط مرورا بابن رشد وانتهاء بريتشارد روتي وزكي نجيب محمود وفرانسيس فوكوياما. كانت قدرة التحليل العقلاني وملكة التحليل المنطقي، السمتين الاكثر بروزا في كل هؤلاء، فعلى الرغم من تعدد المدارس وتنوع المناهج وتلون التراث، تبقى الفلسفة ميدانا خصبا وحيا لتوليد الفكر وتعتيق الذهن، وبصرف النظر عن استنتاجاتها من حيث الصحة او الخطأ، فإن نوعية الطرح ومنهجه العلمي عادة ما يعطيانها ذاك التوهج والبريق، ولذلك صار تعليل الظواهر عن طريق قانونية العلة والمعلول، والتجربة والملاحظة الدقيقة اساسا لتفسير الاشياء، مما جعل المثل العليا لدى افلاطون والفكر المطلق عند هيجل، يستسلمان بدورهما الى قانون العلم.
هذا الاستهلال له اهميته، لا سيما وقد طرحنا في المقال السابق (حوار الحضارات: ترف ام ضرورة) آراء المفكرين هنتغتون وفوكوياما ازاء السياسة الاميركية، وترويجهما للنموذج الاميركي الذي باعتقادهما سيبقى مسيطرا ومهيمنا ومنتصرا ومؤثرا في النظام العالمي بأسره. ولأنهما منظرا السياسة الاميركية، استراتيجيا وفلسفيا، ولهما بالتأكيد ذلك الحضور لدى صانعي القرار السياسي، فإنه من الطبيعي ان يـأخذ الاخير تلك الطروحات بعين الاعتبار، خاصة عند حدوث ازمات مفاجئة وغير متوقعة وتتطابق ملامحها وسيناريو قصتها مع هذه النظرية او تلك.
على ان المقام ليس للتحقق من صحة تلك النظريات، فقد تم تشريحها في المقال الفائت، فنحن هنا ننطلق لاكمال الصورة حول موضوع حوار الحضارات والاشكالية ما بين الاسلام والغرب، وما تلك النظريات المذكورة سوى ايضاح لنمط القطب الاحادي (الولايات المتحدة) وطبيعة فلسفته السياسية التي تحمل ـ بلا شك ـ تأثيرها وافرازاتها على سطح المجتمع الدولي.
غير ان الاصرار على صحة مثل تلك النظريات، يكرس مفهوم القطيعة، ويُعيد مفردات قديمة في التنازع تتمثل في الكراهية والحقد والرفض على ان الحديث في تشكل الحضارات وتزاوجها، يقودنا الى الاشادة بالحضارة الاسلامية، حيث تثاقفت مع الحضارات الكائنة آنذاك، بأسلوب تعايشي وتسامحي، فحافظت تلك الحضارات على هويتها مع استفادتها الجمة مما احتوته الحضارة الاسلامية من فكر وتجارب ومفاهيم، ولعل هذا يفسر وعن كثب تميز الحضارة الاسلامية وان مبدعيها لم يقتصروا على العرب فقط.
* نتائج كارثية
* بيد انه يتبادر سؤال هنا، حول الاسباب الرئيسية وراء ضعف التواصل آنذاك التي ساهمت في خفت توهج التبادل الثقافي والحوار الانساني؟!. الحقيقة تتمثل في جمل من الاحداث والمسببات التي ادت الى نوع من العزلة والتقوقع، حيث آثر البعض ذلك للحفاظ على الهوية وكرامة الذات، لا سيما بعدما اصبحت لغة القوة والسيطرة والهيمنة تسبح في فضاء تلك الفترة، فضلا عن نظرة الاحتقار والازدراء من الغرب ازاء الحضارات والثقافات الأخرى، ولعل ما ساهم في تكريس هذا المناخ تلك العوامل التي افرزتها الحرب العالمية الثانية، والدخول في مرحلة الاستعمار، واستيلاء الحلفاء على البلدان، وسقوط الدولة العثمانية، وظهور الاتحاد السوفيتي كثورة مناهضة للغرب (الفكر الشيوعي مقابل الفكر الراسمالي).
غير ان الخطأ الجسيم كان في تبني بعض الدول العربية الفكر الشيوعي الذي كان فيه سبيل للخروج من الاحباط والمأساة اللذين عاشتهما بعد انهيار الخلافة العثمانية، وكانت النتائج فعلا كارثية على تلك المجتمعات، الا ان الفكر الشيوعي تلاشى تقريبا بسقوط الاتحاد السوفيتي وظهور النظام العالمي الجديد الاحادي القطب بزعامة الولايات المتحدة الاميركية (نظريات هنتغتون وفوكوياما). ورغم اهتمامها وحلفائها بالمصالح والمنافع، فإنه سرعان ما لاحت في الأفق اضاءات واصوات تنادي بالحوار والتواصل الثقافي والتعاون بين الشعوب لاثراء الحضارة الانسانية ومد الجسور واحترام الهويات الحضارية غير ان ظهور الحركات الاصولية (الاسلاموية) ونزوعها الى لغة العنف ورفض الحوار ومعاداة الغرب، ادى الى نوع من الاختلال في تركيبة المجتمعات العربية، مما افرز تيارا آخر ليبرالي التوجه، فكانت النتيجة صراعات واحتدامات بين التيارين، ووقفت الحكومات العربية في صف الليبراليين، مما زاد حنق (الاصوليين) فكان الغضب حارقا وتاريخا من العصيان والتمرد ولغة العنف التي لا ترحم.
وهكذا عانت الدول العربية من الارهاب. ولكن الاشكالية، تكمن في الفكر قبل السلوك، فكيف لك ان تجد حلا لعقلية لا تؤمن بالحوار، ولا تصغي للآخر، فهي ترفض الانفتاح، وتؤثر الانغلاق، ولا تلبث ان تُنادي في كل مناسبة بالتمسك بالهوية تمسكا مطلقا دون الاخذ في الاعتبار المتغيرات التي تدور في محيطها، ولا بالتحولات المريعة المبثوثة في فضائها!.
ولعل ما يميز هذه العقلية عن غيرها هو تكريسها مهاجمة الغرب وحضارته، ورفضها المعلن للتعامل مع تلك الشعوب او التقارب مع ثقافاتها، وتصل هذه العقلية في غلوها الى حد المطالبة بالقطيعة مع الغرب. على ان هذا النموذج، الذي يسلك فكرا احاديا، تكرسه الجماعات المتطرفة وبعض الاصوات الدينية المتشددة في عالمنا العربي، وهي اصوات (مُفرطة) في توجهها وفي منحاها، حيث انها لا ترتهن الى الموضوعية في الطرح فهي تناقض نفسها حينما تطالب بالقطيعة مع الغرب في حين ان ما حولها وفوقها وتحتها هو من صناعة الغرب، فأي عاقل لا ينكر ان تكنولوجيا (الحاضر) وابتكارات (القادم) هما من افرازات الحضارة الغربية.
* الإفراط.. الإشكالية الكبرى
* وكيف لك ـ ايضا ـ ان تجد حلا لعقلية أخرى لا تعرف الا المطالبة بالتخلي عن التراث والهوية، وتدعو الى (التغريب) اي بالاندماج والانغماس في الحضارة الغربية، وترى فيه الحل لملاحقة العصر ومواكبة التطورات المتسارعة!، وهذه اصوات (مُفرّطة) ـ بتشديد الراء ـ فقيمة الانسان تسمو وترتقي حين تدعمها منظومة الهوية والتراث والقيم. وعندما تدعو تلك الاصوات الى الانسلاخ من الهوية والتماهي مع ثقافة العرب، فإنها ترمي الى طمس الهوية العربية ومصادرة التراث والغاء قيمة الانسان العربي، ومن ينسى تلك الدعوة التي فجرها طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» عام 1938، وجاءت فيه دعوته الى محاكاة الغرب والاعتماد على النموذج الاوروبي للثقافة لتحديث الثقافة العربية «... على المصريين، اذا ارادوا، ان يتقدموا، ان يصبحوا اوروبيين في كل شيء، وان يتمثلوا الحضارة الاوروبية حلوها ومرها...». العجيب ان هذا الكتاب ما زال يمثل مثار جدل بين المثقفين العرب، ويفصلهم الى تيارين لا ثالث لهما على انه عند الارتهان للعقلانية، فإن الانصاف والحياد يكشفان لنا ان ثمة عناصر ايجابية لدى كلا الطرفين (النموذجين) بصرف النظر عما هو الاقوى، وان كنا يقينا نؤمن بحضور الثقافة الغربية وعلو كعبها، الا ان القضية هنا تتعلق في قناعات ذاتية ذات جذور ومرجعية دينية، فالحفاظ على الهوية امر مهم، كما ان التواصل مع الآخر امر لا يقل اهمية ايضا، ولكن الاشكالية ـ كما ذكرنا آنفا ـ تكمن في مسألة (الافراط) (اصوات مُفرطة وأخرى مُفرِّطة)، فالاولى ـ كما قلنا ـ تدعو بشكل مغالٍ الى الانعزال وعدم التعامل مع الآخر، في حين ان الثانية لا تلبث ان تفضح تقصيرها ازاء هويتها وثقافتها حين مطالبتها بالتماهي مع الآخر. وبالعودة الى المنطق والحياد، نوقن ان الانعزال والتقوقع مثلهما مثل الاندماج والتماهي، فهما في نهاية المطاف ضعف وفقدان ثقة. على ان التنظير مسألة سهلة حين مقارنتها بالتطبيق، ولكن ليس من جديد في القول ان ثمة معطيات جديدة قد تشكلت في عالمنا اليوم، وافرزت قواسم مشتركة بين الشعوب، ولم تعد هنالك قدرة بشرية بإمكانها محاربة او منع او ايقاف تسارع هذه التحولات التي ما لبثت ان باتت حقائق ومسلمات تفرض على الجميع دون استثناء ان يتعامل معها ـ شاء ام أبى.
وفي هذا السياق، فإن ثمة توجها الآن الى التأكيد على اهمية التقارب والتعايش السلمي بين الثقافات، لا سيما ونحن في عصر العولمة ورغم ان الاعلام الغربي يكرس قضية الصراع الحضاري بعد احداث (11) سبتمبر (ايلول)، كما ان اسامة بن لادن يتخذ نهجا مشابها وانها حرب بين الاسلام والغرب، فإن دور المستنيرين في العالمين الاسلامي والغربي، هو المطالبة والحث على التقارب والحوار والانفتاح واحترام الرأي الآخر وتكريس التلاقح الثقافي.
وحتى لا نهيئ الفرصة لمن يحلم بالاصطياد في الماء العكر، فإننا معنيون اكثر من اي وقت مضى الى تشكيل نسيج حي لثقافة الانسانية بفكرها الفعال والمتحرر من مفردات الهيمنة والسيطرة والقادر على هدم خطابات التسييد والترهيب. ولعل البوادر المضيئة تجعلنا من المتفائلين، فهذه مكتبة الملك عبد العزيز العامة تزمع اقامة ندوة حوار الحضارات يرعاها ولي العهد السعودي، وهي مبادرة لها دلالاتها وقيمتها الآنية وضرورتها اللحظية وهي بلا شك بمثابة تحريك المياه الراكدة على مستوى التواصل الحضاري، وهي بالتأكيد محاولة لردم الهوة التي اتسعت فجوتها بين العالمين الاسلامي والغربي بعد احداث (11) سبتمبر، كما ان مؤتمر لاهاي الاخير ـ على سبيل المثال ـ وقد قدمت منه للتو ـ بادرة سعودية أخرى تصب في تكريس الحوار الثقافي والقانوني بين الدول الاسلامية والمجتمع الدولي، حيث طرحت قضايا عديدة تمس شعوب هذه الدول، التي لم يعد بقدرتها العيش بمعزل عن بعضها البعض.
نعم، ان التواصل الحضاري ضروري ومُلح في وقتنا الراهن، وبات يستدعي صياغة وآلية جادة ومبادرات متواصلة، فالحضارات لا تتلاشى اذا ما تلاقحت.. اما الخوف من الاحتراق والغزو الثقافي فهو ضعف فكري وهشاشة في تركيبة المجتمع، فهذه اليابان استفادت من نقل التكنولوجيا الغربية وظلت في نفس الوقت متمسكة بحضارتها.. ألم اقل لكم ان الاشكالية في الفكر قبل ان يكون سلوكا!!.
www:zuhair-alharthi.8m.com