تبصرة الهداة بشأن الدعوة والدعاة

تبصرة الهداة بشأن الدعوة والدعاة
تأليف الفقير إلى عفو ربه القدير
فضيلة الشيخ
عبد الله بن صالح القصير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
• فلما كانت الدعوة إلى الله وظيفة هداة الخلق للحق من المرسلين والنبيين وأتباعهم بإحسان من أهل كل زمان ومكان، ولأنها من أعظم وسائل إظهار الحق وتثبيت المسلمين، وهداية المكلفين لأداء حق رب العالمين.
• والدعوة كذلك وظيفة شاقة ـ في الغالب ـ تحتاج إلى جهد ومجاهدة وصبر ومصابرة، وثبات ومرابطة، فلا يقوم بها على الوجه الشرعي المرضي إلا كُمّل الناس، أولو الألباب والنهى، الذين أخلصوا لله تعالى القصد والنية، وبنوا دعوتهم على أصل الشريعة المرضية، وتحروا السنة في الأداء والكيفية، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومضوا على السبيل الذي جعله الله موصلًا إليه، فدعوا الخلق إلى ما بعث الله تبارك وتعالى به نبيه محمدًا ﷺ من الهدى ودين الحق، عبادةً لله، ورغبةً في ظهور الحق ورحمةً بالخلق: ﮋﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﮊ [الإسراء:57]، فلا يدعون الناس تكثرًا، ولا يسألونهم على الدعوة أجرًا، ولا يتخذونهم للمآرب جسرًا.
• ونظرًا لأننا في زمن تسلط فيه الأعداء، فظهرت فيه الأهواء، وكثر متبعوا الهوى، فأثيرت الشبهات وتفنن المبطلون في التأويلات، وتراكمت في طريق الدعوة المعوقات، وتُذرِّع بأخطاء المخطئين، لمنع إصلاح المصلحين، وتعطيل الدعوة إلى الدين، والتهوين من شأن ضلال الضالين.
• فكان كثير من الدعاة إلى الله تعالى والمهتمين بالدعوة إلى الهدى بحاجة إلى التذكير بمنهاج النبوة في الدعوة، الذي هو التطبيق العملي لهدي الكتاب والسنة، والذي كان عليه السلف الصالح من الأمة.
• فلهذه الأمور وغيرها أحببت أن أكتب لنفسي ولمثلي تذكرة بهذا الشأن سائلًا الله تعالى أن يوفقني فيها للصواب، وأن يجعلها ذخرًا ليوم المآب، وأن يجعل فيها تبصرة للهداة، وكشفًا للشبهات، وشحذًا لهمم أنصار الحق، لمضاعفة الجهد في هداية الخلق، وسميتها: (تبصرة الهداة بشأن الدعوة والدعاة).
والله أسأل أن يجعلها خالصةً لوجهه، صوابًا على سنة نبيه ﷺ، هاديةً إليه، نافعةً للهداة إليه، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه على سنته إلى يوم الدين.
الفقير إلى عفو ربه القدير
عبدالله بن صالح القصير
الباب الأول
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الدعوة إلى الله.
المطلب الثاني: شرف الدعوة إلى الله تعالى وفضائلها.
المطلب الثالث: غايات الدعوة ومقاصدها.

المطلب الأول:

الدعوة لغة: هي النداء والطلب.
وشرعًا: هي دعاء المكلفين من الجن والإنس إلى عبادة الله تعالى وتقواه، قال تعالى: ﮋﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃﮊ [العنكبوت:١٦-١٧].
فهي دعوة إلى تحقيق أمرين:
أحدهما: عبادة الله تعالى وحده، بدعائه وحده، والثناء عليه بما هو أهله، وحبه، وتعظيمه، والذل والخضوع والاستسلام له، والانقياد له بالطاعة له بما شرع؛ امتثالًا لأمره واجتنابًا لنهيه، واليقين بأحقية وعده ووعيده في الدنيا والآخرة.
الثاني: تقواه سبحانه وتعالى بترك الشرك به، واجتناب البدع وكبائر الذنوب والأهواء المخالفة لشرعه والتوبة والاستغفار مما اقترف منها، وهجر هذه الأمور وبغضها وبغض أهلها والبراء منهم ومن عملهم؛ تقربًا إليه سبحانه، رغبة إليه ورهبة منه، وطمعًا في ثوابه وحذرًا من عقابه.
قال تعالى: ﮋﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷﮊ [البقرة:٢١-٢٥].
وقال تعالى: ﮋﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝﮊ [النساء:٣٦]، وقال تعالى: ﮋﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﮊ [الأنعام:١٠٢]، وقال تعالى: ﮋﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﮊ [النحل:٣٦].
وقال تعالى: ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓﮊ [الحج:٣٤]، وقال تعالى: ﮋﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊﮊ [فصلت:٦].
وقال تعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮊ [يونس:٧ – ١٠].
*****

المطلب الثاني:

الدعوة إلى الله تعالى وظيفة شريفة وعمل صالح جليل، لا يُوفَّق للقيام به والتصدي له ـ عن إخلاص لله تعالى وأهليَّة وحسن أداء ـ إلا كُمَّلُ الرجال والنساء وخواص الخلق.
ومن أدلة شرفها وفضلها وعلو مقام أهلها عند الله تعالى في الدنيا والآخرة ما يلي:
1- أن الله تعالى أضافها إليه، فجعلها من أفعاله وإحسانه إلى خلقه، كما قال تعالى: ﮋﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮊ [البقرة:٢٢١]، وقال تعالى: ﮋﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﮊ [إبراهيم:١٠].
ومن ذلك قوله سبحانه: ﮋﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮊ [البقرة:٢١]، وقوله: ﮋﮘ ﮙﮊ [الزمر:١٦]،، وقوله: ﮋﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﮊ [البقرة:١٥٢]،، وقوله تعالى: ﮋﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮊ [النساء:٣٦].
2- أنه تبارك وتعالى قد انتدب لها أشرف خلقه من رسله وأنبيائه، ومن ورثتهم في العلم والعمل من العلماء الربانيين، والأخيار العاملين وصالحي المؤمنين، كما قال تعالى: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠﮊ [الأنبياء:٧٣]، وقال في أتباعهم: ﮋﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮊ [السجدة:٢٤].
3- أنها دعوة لإيصال أعظم حق: وهو التوحيد بأنواعه لمستحقه وهو الله تعالى، قال تعالى: ﮋ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮊ [النساء:٣٦], وقال تعالى: ﮋﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﮊ [آل عمران:١٨], وقال تعالى: ﮋﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮊ [البقرة:].
والنهي عن الشرك به، أي: صرف حقه أو شيء منه لأحد من خلقه كائنًا من كان، ولذا قال تبارك وتعالى: ﮋﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﮊ [البقرة:21،٢٢].
ولقد بعث جميع الرسل والنبيين إلى قومهم داعين إلى هذا الأمر العظيم قائلين: ﮋﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﮊ [الأعراف:٥٩], وقال سبحانه: ﮋﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮊ [النساء:٣٦ ].
ذلك لأن الشرك ظلم عظيم؛ لأن منع الشيء عن مستحقه وإعطاءه لغير مستحقه ظلم، فكيف إذا كان ذلك الشيء أعظم الحقوق، وهو حق الخالق سبحانه يعطى للمخلوق، ولذا قال سبحانه ﮋﭱ ﭲ ﭳ ﭴﮊ [لقمان:13].
فالدعوة إلى الله تعالى بيان لحق الله تعالى على خلقه، ودعوة للجن والإنس أن يؤدوه إلى مستحقه؛ وأن يتركوا الشرك به وفروعه من كبائر الذنوب.
4- أنها دعوة للثقلين إلى ما أنزل الله تعالى لعباده رحمةً بهم: من الهدى ودين الحق الذي يتحقق باتباعه والاستقامة عليه الأمن والاهتداء، وتطيب الحياة، وتحفظ النعماء والأمن من معيشة الضنك والشقاء والرَّدى، فهي دعوة للفلاح والإسعاد، ونذارة من الشر والإفساد.
5- أنها دعوةٌ لتجنب الجحيم وما فيها من العذاب الأليم، وهداية إلى الصراط المستقيم، الموصل لمن سلكه إلى جنة النعيم وما فيها من أصناف التكريم، والنظر إلى وجه الله العظيم، والفوز بالرضوان وهو أكبر النعيم.
فلا أشرف من هذه الوظيفة، ولا أحد من الخلق أكرم عند الله تعالى ولا أرحم ولا أنفع للناس وأعظم إحسانًا إليهم ممن قام بالدعوة إلى إخلاص الدين لله تعالى على بصيرةٍ مخلصًا لله تعالى، محسنًا صابرًا محتسبًا، يرجو رحمة ربه ويخشى عذابه.
ومما يبين فضيلة الدعاة إلى الله تعالى، وعظم فضل الله عليهم بتوفيقهم للدعوة إليه؛ أمور:
1- قول الحق تبارك وتعالى: ﮋﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﮊ [آل عمران:١١٠ ], فمما أُثر عن السلف في تفسيرها أن المراد: كنتم خير الناس للناس وأنفعهم للناس؛ تجرُّونهم بالسلاسل فتدخلونهم الجنة، أي: بالدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيل الله.
2- وقال تعالى مثنيًا على الدعاة إليه شاهدًا لهم بكرم العمل وعِظم الأجر لديه: ﮋﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮊ [فصلت:٣٣-٣٥ ].
3- أن الله تعالى ضمن للدعاة إليه الفلاح والفوز بكريم الثواب وحسن المآب قال تعالى: ﮋﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮊ [آل عمران:١٠٤].
4- وكما شهد الله تعالى للدعاة إلى سبيله بأنهم أحسن الناس قولًا في الدنيا، فقد أخبر بأنهم أعظمهم حظًّا في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﮋﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮊ [يوسف:١٠٨], وقال تعالى: ﮋﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮊ [آل عمران:١٠٤].
وقال سبحانه: ﮋﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮊ [فصلت:٣٤ - ٣٥ ].
5- أن الداعي إلى الله مخلصًا على بصيرة موعود باستمرار جَرَيان أجره في حياته وبعد موته.
فمما جاءت به السنة الصحيحة دليلًا على ذلك:
أ‌- الإخبار بأن ما يحصل للداعية من ثواب الدعوة خير من الدنيا وما فيها، كما قال ﷺ: «فو الله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حُمْر النَّعَم»( )، يعني: خير لك من الدنيا وما فيها.
ب‌- أن الأجر مستمر للداعية ما انتفع أحدٌ بدعوته، قال ﷺ: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه»( ).
ت‌- أن للداعية مثل ثواب من دعاه من غير أن ينقص من أجر المدعوّ شيء، قال ﷺ: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»( ).
*****

المطلب الثالث:

للدعوة إلى الله تعالى غايات عظيمة، ومقاصد جليلة، هي من جملة فضائلها، وهي من حكم مشروعيتها، ومن أسباب حسن وعظم الجزاء عليها دنيا وآخرةً، تتلخص فيما يأتي:
1- تعريف الناس بربهم جلّ وعلا: بذكر أسمائه الحسنى وصفاته العُلى وأفعاله الحكيمة وأفضاله الجسيمة، وبيان بديع خلقه وإتقان صنعه وحكمة تدبيره، وما له عليهم من سابغ النعماء ومترادف الآلاء، والتنبيه على عظمة شأنه وعز سلطانه وكماله المطلق من كل وجه وبكل اعتبار، وإثبات حكمته في خلقه وقدره وشرعه وجزائه.
2- دعوة من جهل حق الله تعالى أو أنكره أو أعرض عنه أو قَصّر في واجب منه، أو ارتكب منهيًّا عنه من المكلفين لأداء حق الله تعالى عليهم الذي هو أعظم حق، وذلك بعبادته وحده لا شريك له؛ فإنه ـ أي: التوحيد ـ حق الله الذي لا يستحقه أحد سواه: ﮋﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﮊ [الحج:٦٢], وهو سبب السعادة في الدنيا والآخرة.
3- أمر الناس أن يستقيموا على ما شَرَع لهم من الهدى ودين الحق: على الوجه الذي شرع على سنة نبيه محمد ﷺ الذي أمر الله أن يطاع ويتبع، فإن شرع الله تعالى هو النظام الذي جعله الله تعالى للمكلَّفين، يبين لهم حقه سبحانه وتعالى عليهم ويوضح لهم علاقات بعضهم ببعضٍ، وعلاقاتهم بما حولهم من المخلوقات والعوالم، فبالالتزام به يتحقق الأمن وتطيب الحياة، وتُتقى المكاره والعقوبات الشرعية والقدرية والكونية، وشرور المخلوقات الأرضية من الإنس والجن وغيرهما من الأمم من أجناس الدواب والطير، وغيرها من عوالم وأخطار ما في هذا الكون من المخلوقات والآيات العلوية والسفلية التي لا يحيط بها إلا خالقه وباريه تبارك وتعالى.
4- تحقيق الإيمان بما أخبر الله تعالى به ورسوله ﷺ من الغيوب: من الملائكة وسائر ما في السماء والأرض، وأحوال البرزخ، وأمر البعث وأهوال الآخرة وأحوال الناس فيها، وأمر الجنة والنار، وغير ذلك مما كان ويكون وما سيكون على الوجه الذي أخبر الله به ورسوله ﷺ، والعمل بما يقتضيه ذلك الإيمان، قال تعالى: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﮊ [البقرة:١-٣ ].
5- دعوة الناس إلى توقِّي عذاب البرزخ والجحيم: وسلوك الصراط المستقيم الموصل إلى جنة النعيم، ورضوان الرب العظيم، كما قال تعالى: ﮋﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﮊ [البقرة:٢٤- ٢٥ ].
6- اليقين بأنه لا حاكم ـ على الحقيقة ـ على العباد ولا بينهم إلا الله وحده؛ فإنه سبحانه هو الحاكم الحق، والحَكَم العَدْل الذي له الحكم وإليه الحكم:
أ‌- فهو سبحانه هو الحاكم قدرًا وكونًا في ملكه وعباده بما يشاء: ﮋﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﮊ [مريم:٣٥], فإن القدر نظام الملك وسر الله تعالى في الخلق، والدليل على قدرة الله تعالى وعلمه وخبرته وحكمته وقوته وقدرته وعدله وفضله ورحمته، فلا معقب لحكمه، ولا معترض على قضائه، ولا ممسك لرحمته ولا راد لفضله، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون؛ لأنه سبحانه الحكيم العليم الذي يضع الأمور في مواضعها اللائقة بها، المحققة لغايتها، بحيث لا يصلح غيرها بدلًا عنها.
ب‌- وهو تبارك وتعالى الحاكم بين عباده بشريعته: ﮋ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﮊ [المائدة:٥٠]، فإن شرع الله المنزَّل هو نظام المكَّلفين، وصمام الأمان من شؤم الذنوب، وشرِّ ذي الشر من الخلق، وشرِّ ما تجري به المقادير، فهو أمان لمتبعيه من الشر والشقاء في الدنيا والأخرى.
ت‌- وهو كذلك الحاكم بين عباده يوم معادهم إليه بحكمه الجزائي العدل: ﮋﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮊ [النجم:٣]، فيثيب أهل الهدى بالحسنى، ويجزي أهل الطغيان والهوى بما يشاء، فيغفر لمن يشاء فضلًا، ويعذب من يشاء عدلًا، ولا يظلم ربك أحدًا.
وبهذا يُسلِّم المؤمن لحكم الله القدري ثقةً بحكمته وعدله وفي فضله ورحمته، وينقاد لحكمه الشرعي إيمانًا بعدله ومصلحته، ويقينًا بحسن عاقبته وكريم عائدته، ويؤمن بجزائه يوم لقائه، فيسعى في صالح العمل ويتوقى انتهاك حرمة الله عز وجل، ويتوب إليه سبحانه من التقصير والزلل طمعًا في كرامته ومثوبته، وحذرًا من إهانته وعقوبته.
7- حضُّ العباد على التحلّي بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال لما يعلمون من محبة الله تعالى لها، وما في التحلِّي بها من جليل المصالح، وعظم ثواب أهلها، والسلامة من ضدها من القبائح، والحضُّ على التخلي عن مساوئ الأخلاق ورديء الأعمال، بذكر بغض الله لها وعظم عقوبته لمن شاء من أهلها.
وبذلك التحلِّي والتخلِّي تتآلف القلوب ويتحاب العباد طمعًا في محبة علام الغيوب، وتجتمع الكلمة ويتوحد الصف ويتحقق التعاون على البر والتقوى، والنصح لله ولعباده، ويقطع دابر الظلم والتهاجر والتقاطع والتشاحن وأنواع العدوان، فإن حسن الخُلُق يجتمع فيه خيري الدنيا والآخرة، وسوء الخلق بريد إلى النار.
8- إنكار الشرك والبدع وكبائر الذنوب: فإن الشرك الأكبر هو دعوة غير الله معه، أو عبادة أحد من خلقه من دونه، وهو أعظم ذنب عُصي الله تعالى به، وأعظم موجب لشقاء الدنيا والأخرى، لما فيه من تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائصه وإعطاء الحق لغير مستحقه، قال تعالى: ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﮊ [لقمان:١٣]، وقال تعالى: ﮋﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ [المائدة:٧٢ ]. وقال تعالى: ﮋﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮊ [النساء:٤٨ ].
فهذا الشرك أول وأعظم ما نهى الله عنه، وأكبر ما حرم، وأشد ما توعد عليه من الذنوب بألوان العقوبات.
وكذلك الشرك الأصغر الذي هو من وسائله وهو ما كان من تسوية غيره به سبحانه لفظًا، أو التفاتًا بشيء من حقه لأحد من خلقه، أو مراعاته فيه، وضابطه: أنه ما جاء في الكتاب والسنة تسميته شركًا ولم يصل إلى حد الإخراج من الملة.
وهكذا البدع وكبائر الذنوب؛ فإنها سبب إليه أو علامة عليه، وأثر من آثاره.
ولهذا قرن رسل الله تعالى صلى الله عليهم وسلم في نهيهم أممهم جمعهم بين الشرك وكبائر الذنوب من الغلوِّ في المخلوقين ومعصية رب العالمين من بخس الكيل والوزن، وقطع السبيل، والتكبر على الخلق، وإتيان الذكران من العالمين.
فبالدعوة إلى الله تعالى تتحقق هذه الغايات العظيمة التي جماعها وأسسها:
1- معرفة المكلَّفين بربهم تبارك وتعالى على الوجه الذي عرفهم به سبحانه.
2- معرفة حقه سبحانه وتعالى عليهم، وحضّهم على أدائه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وينالون به أحسن عقباه.
3- تصديق خبره، واليقين بوعده ووعيده، والأخذ بأسباب رضاه وثوابه، والبعد عن موجبات غضبه وعقابه.
4- حسن تعامل الناس فيما بينهم، ومع ما حولهم من العوالم والمخلوقات على وفق هدى الله تعالى، وبذلك يتقون شر أنفسهم وشرَّ غيرهم عاجلًا وآجلًا، وينالون بركة هذا التعامل، وكريم عوائده في الدنيا والآخرة.
*****

المطلب الأول:

1- لقد أمر الله تبارك وتعالى نبيه محمدًا ﷺ بالدعوة إليه في آيات محكمات من كتابه الكريم منها: قوله تعالى: ﮋﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﮊ [النحل:١٢٥]، وقوله تعالى: ﮋﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮊ [الحج:٦٧]، وقوله جل ذكره: ﮋﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮊ [القصص:٨٧ ].
والأصل في خطاب الله تعالى لنبيه ﷺ دخول أمته معه فيه إلا ما دل الدليل على اختصاصه به دون الأمة، فإن الأمة لا تدخل معه في تلك الخصوصية، كما قال تعالى في شأن التي وهبت نفسها للنبي ﷺ: ﮋﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﮊ [الأحزاب:٥٠ ].
والدعوة ليست مما اختص به النبي ﷺ، فكل ما ورد من أمر الله تعالى للنبي ﷺ بالدعوة فإن الأمة شريكة له في ذلك الأمر تبعًا له، فإنها مكلفة تبعًا له ﷺ في القيام بوظيفة الدعوة، فكما أن الدعوة واجبة على النبي ﷺ، فهي واجبة على الأمة بحسب الحال.
2- ولذا خاطب الله تعالى عامة المؤمنين خطابًا صريحًا بقوله: ﮋﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮊ [آل عمران:١٠٤]، والخير هو الإسلام كله، بدليل حديث حذيفة رضي الله عنه في الصحيح، وفيه: فجاءنا الله بهذا الخير ـ يعني: الإسلام ـ فهل بعد هذا الخير من شر؟...الحديث( ).
فقد أمر الله تعالى الأمة في هذه الآية بالدعوة إلى الإسلام، والأصل في الأوامر الوجوب على من خُوطب به بحسب الحال والقدرة، ومما يؤكد ذلك أن الفعل في الآية جاء مقترنًا بلام الأمر، فدل على تأكيد الأمر، ووجوب القيام بوظيفة الدعوة إلى الله بحسب الأهلية والقدرة، فلابد من قيام طائفة من المؤمنين بمهمة الدعوة إلى الله تعالى، بحيث يحصل بقيامهم المقصود، وإلا أَثِم الجميع على التقصير في الواجب.
3- كذلك فإن الدعوة إلى الله تعالى تلتقي مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدرجة الثانية، وهي درجة التغيير باللسان إذا لم يستطع باليد، كما في الصحيح عن النبي ﷺ قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطِع فبلسانه»( )، وهو الجهاد باللسان الذي عناه النبي ﷺ بقوله في حديث الخلوف: «ثم إنها تخلف خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن...الخ»( ).
فإن التغيير باللسان دعوة إلى فعل الواجب الذي ظهر تركه، وترك المُحرَّم الذي ظهر فعله، بذكر دليل وجوب الفعل أو وجوب الترك، ووعظٍ بالترغيب والترهيب، ومجادلةٍ بكشف الشبهات، وإقامة الحق بالحجج الواضحات، والبراهين الساطعات، وإذا كان تغيير المنكر باللسان واجبًا على من لم يستطع التغيير بيده واستطاع بلسانه، فذلك من أدلة وجوب الدعوة على المعيَّن بحسب أهليّته وقدرته.
فهذه الأدلة ونحوها مما جاء في معناها من نصوص الكتاب والسنة مما لا يتسع المقام لذكره فيها أبلغ الدلالة على فرض الدعوة إلى الله تعالى فرضًا كفائيًا ـ أي: على عامة الأمة ـ، إن قام به من يكفي ويتحقق بهم المقصود سقط الإثم عن الأمة، وإلا أَثِم الجميع.
فلابد أن تتصدى للدعوة إلى الله تعالى طائفة من الأمة يحصل بها المقصود؛ بحيث تكون في حق الباقين سنةً عظيمة وقربة جليلة، ويكون القائم بها من المسارعين في الخيرات السابقين إلى المغفرة والجنات: ﮋﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮊ [الجمعة:٤].
فإن قول الله تعالى: ﮋ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮊ [آل عمران:١٠٤]، وقوله: ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﮊ [آل عمران:١١٠]، مع ما في سياقها من التعريض بكفرة أهل الكتاب الذين لم يقوموا بذلك، وبذكر عقوبة الله البليغة لهم بسبب تركهم النهي عن المنكر، كما في قوله تعالى: ﮋﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂﮊ [المائدة:٧٨]، أي: تركوا البيان والوعظ والزجر وقت الحاجة، أي: تركوا الدعوة إلى ترك المنكر.
ففيما اشتملت عليه الآية من ذكر عقوبة السابقين التاركين للأمر والنهي، وفي ضمنه تحذير للاحقين من التقصير في هذا الواجب، أبلغ الدلالة على وجوب الدعوة إلى الله تعالى على الأمة عامة، وأنه يجب على المسلمين عامة أن يقوموا بإعداد وتأهيل وتكليف طائفة منهم تقوم بواجب الدعوة والأمر والنهي، تحصل بهم الكفاية، وأن يعينوهم بكل ما يلزم ـ حسب الإمكان ـ لتحقيق هذا الواجب العام عليهم، وهو الدعوة إلى الله تعالى، وهداية عباده إليه، وإعلاء كلمته وإظهار دينه، وإقامة حجته، ومحاربة الشرك والبدع والأهواء وكبائر الذنوب، والأخذ على أيدي أهل هذه الذنوب وأطرهم على الحق أطرًا، وقصرهم عليه قصرًا، وإلا أثم الناس جميعًا، فلا سلامة من الإثم، ولا أمن من عقوبته إلا بقيام طائفة من الأمة بهذا الواجب العظيم، بحيث تتحقق بقيامهم به غايات الدعوة ومقاصدها.
ولا شك أن هذه الأمور غير حاصلة بوجه كافٍ في هذا الزمن، فإن الجهد المبذول في الدعوة غير كافٍ، والإمكانات الحاصلة غير مُستغَلة، وعظيم المسؤولية على قدر عظم الحاجة والإمكان، فالواجب عظيم، والتفريط كبير، والإمكانات كثيرة، والوسائل ميسرة، والميدان واسع، ونسأل الله تعالى الإعانة على الخير، والعفو عن التقصير، وفي المطالب التالية إشارة إلى مهمات من ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
*****

المطلب الثاني:

أهل العلم هم أئمة الناس وقدوتهم لما أتاهم الله من العلم، ولما أخذ عليهم من ميثاق البيان وترك الكتمان فهم المقدمون وأول المكلفين وأعظمهم واجبًا ومثوبةً وتبعةً، والناس لهم تبع، فيجب على أهل العلم ـ بما بعث الله به نبيه محمدًا ﷺ من الهدى ودين الحق ـ من الدعوة فيما يتعلق بالعلم، وكيفية العمل، وكشف الشبهات، ورد الضلالات، وبيان أحكام النوازل والحوادث الجديدة، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم؛ ما لا يجب على غيرهم.
فإن الله تعالى قد أمر عامة المسلمين وخاصتهم بالرجوع إليهم فيما لا يعلمونه من أمر دينهم بقوله: ﮋﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﮊ [النحل:٤٣]، وأخذ على أهل العلم الميثاق بالبيان وترك الكتمان بقوله: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﮊ [آل عمران:١٨٧ ]، وتوعدهم على الكتمان أو التقصير في البيان مع القدرة إن لم يتوبوا بقوله: ﮋﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢﮊ [البقرة:١٥٩–١٦٠].
وذلك لأن أهل العلم بالهدى ودين الحق اللذيْن جاء بهما النبي ﷺ هم خلفاء النبي ﷺ في أمته وفي دعوته وحفظ سنته وبيان شريعته لعباده، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وقد ثبت في الصحيح من غير وجهٍ أن النبي ﷺ لما بين للناس ـ في خطبته يوم عرفة جُملًا من العلم ـ أرسى فيها قواعد الملة وجلَّى أحكام الشريعة، ووضع ـ أي: أبطل ـ أمور الجاهلية، قال: «ألا هل بلغت؟»، فقالوا: نعم. فقال: «اللهم اشهد»، وأشار بأصبعه السبابة إلى السماء، ثم نكتها عليهم، ثم قال: «ألا فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ»( ). وثبت عنه ﷺ أنه قال: «من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله عز وجل بلجام من نار يوم القيامة»( ).
وكل من آتاه الله تعالى حظًّا من العلم وفهمًا صحيحًا للدليل على وجهه يدرك به المراد فهو عالم بذلك، فيجب عليه تبليغه لمن لا يعلمه، ودعوته للعمل به، ولا سيما عند سؤاله أو الحاجة الشديدة إلى ما عنده، ففي الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «بلغوا عني ولو آية» الحديث( )، وصح عنه ﷺ أنه قال: «نضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه»( ). ومن المقرر عند أهل العلم بالأصول: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنه يجوز تأخير البيان لوقت الحاجة.
فيجب على ورثة النبي ﷺ في رسالته وخلفائه في أمته من تعليم الجاهل، وإجابة السائل، وتذكير الغافل، ودلالة المجتهد في الخير على أفضل أنواعه وأوقاته، والشهادة للمحسن بإحسانه، وإنكار المنكر، ورد البدعة، وكشف الشبهة، وتفنيد الضلالة والبشارة والنذارة، والنصح للأئمة والأمة عند المناسبة والحاجة، بحسب ما أُوتوا من العلم والقدرة، فإنه بنشر العلم للناس تحيا السنن، وتموت البدع، ويظهر المعروف، وتبين شناعة المنكر، وتقوم الحجة على الحق، وبهذا يُحفظ الدين ويُنشر ويظهر، ويُدفع الباطل ويزهق، وتقوم حجة الله على العالمين، ويهدي الله من يشاء من الثقلين.
فيجب على أهل العلم والإيمان وخلفاء الرسول ﷺ في أمته في البيان من الرجال والنساء من الجن والإنس أن يدعوا إلى الإسلام، وأن يُفقِّهوا إخوانهم في الدين، وأن يفشوا العلم، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتناهوا عن الإثم والعدوان، وأن يقولوا بالحق أينما كانوا ما استطاعوا، وأن لا تأخذهم في الله لومة لائم، فلا يُحابوا أميرًا، ولا يهابوا كبيرًا، ولا يراعوا غنيًّا، ولا يحتقروا مأمورًا، ولا يغفلوا صغيرًا، ولا يغمطوا فقيرًا، ولا يهملوا محبوسًا أو أسيرًا، فالكل عباد الله، يجب أن ينصحوا ويهدوا إليه ليؤدوا حقه، فيتَّقوا العذاب، ويفوزوا بالثواب، فما أسعد من تسبب في عتق الرقاب من النار ودخولها جنات تجري من تحتها الأنهار، فلعل من ثوابه أن يكون من أول المعتقين وأسعد الفائزين بالقرب من رب العالمين؛ لأنه طالما دعا إليه وهدى إليه وجاهد فيه، والله تعالى يحب المحسنين ولا يضيع لديه أجر المصلحين المحسنين، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين، ويا أرحم الراحمين!
ولقد قام الصحابة رضوان الله عليهم في عهد النبي ﷺ وبعد وفاته في الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ سنة نبيه ﷺ خير قيام، ولمّا اتسعت الفتوح واشتدت الحاجة إلى العلم تفرق الصحابة رضوان الله عنهم في الأمصار، يعلِّمون العلم، وينشرون السنن، ويفقِّهون الداخلين في الإسلام، وهكذا التابعون وأتباعهم بإحسان وأئمة الهدى من بعدهم وأتباعهم بإحسان، قاموا ببيان دين الله تعالى لعباده ودعوتهم إليه إلى يومنا هذا، وبذلك وصل إلينا العلم ونقل العمل، فرحمة الله عليهم وجزاهم عنا خير الجزاء، ونسأل الله تعالى أن نكون حلقة في سلسلة سند العلم من لدن النبي ﷺ فمن بعده إلى من بعدنا حتى يأتي الله بأمره، لنكون من المبلِّغين عن الله دينه، الهادين عباده إليه، اللهم اجعلنا منهم؛ بل من أئمتهم بوجهك الكريم، يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين.
*****

المطلب الثالث:

ولاة الأمور: هم من ولّاهم الله على رقاب وأمور عباده، فآتاهم من السلطان والقدرة ما إذا أمروا به الناس أطاعوا، وإذا نهوهم عن شيء انكفوا وانصاعوا، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فكل له من المثوبة وعليه من التبعة بحسب ولايته ومسئوليته، وقد ابتلى الله ذوي السلطان والولاية بولاية أمر الرعية، فاستخلفهم بعد الذين من قبلهم لينظر كيف يعملون، وسيتركون ولايتهم كما تركها من قبلهم، ومن لم يتركها في الحياة فسيتركها بالموت، فلو لم يتركها من قبلهم لما وصلت إليهم، وكما وصلت إليهم فستتركهم وتنتقل إلى من بعدهم، وهكذا سنة الله تعالى في الخلق.
والولاية في الدولة الإسلامية تُراد لغرضين:
الأول: إقامة الدين الحق وصيانته ونشره في الأرض وهداية عباد الله إليه.
الثاني: حفظ حقوق المسلمين وصيانة حرماتهم، منهم ومن غيرهم.
ومن وسائل ذلك عنايتهم بنشر العلم، وإظهار الشعائر وإقامة الحدود، وتأمين الطرق، وكف الناس بعضهم عن بعض، والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، والقيام بالدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى؛ دفعًا أو طلبًا.
فالولاية العامة والخاصة أمرها كبير، وشأنها خطير، فهي أمانة في الدنيا وخزي في الآخرة وندامة، إلا لمن أخذها بحقها وأدى ما عليه، ونصح فيها، فيجب على المستخلفين في الأرض بعد من سبقهم من أصحاب الولايات العامة والخاصة أن يتذكروا أنهم إنما مُكِّنوا في أرض الله وعباده بما تولوه من وظائف ومسؤوليات كبرى أو صغرى ليبلوهم الله فينظر كيف يعملون، فليُدْركوا عِظَم المسؤولية وخطر التبعة، قال تعالى: ﮋﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮊ [الحج:٤١].
وليتذكروا فقرهم إلى ربهم يوم يقفون بين يديه، وقد ذهب السلطان، وفات ما كان بالإمكان، ولم يبقَ إلا الربح أو الخسران، فليغتنموا فرصة الولاية وليستعملوا ما آتاهم الله من القدرة والسلطان في الإعانة على نشر الدعوة إلى الله تعالى على منهاج السلف الصالح، وليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر على ما توجبه الشريعة، فإن القيام بذلك مما يتحقق به إقامة الدين وحفظ حرمات المسلمين، وكل ذي ولاية سيفارق ولايته أو تفارقه يومًا ما إما غانمًا أو غارمًا.
فعلى الولاة أن يتقوا الله في ولايتهم وليقوموا بواجبهم نحو الدعوة إلى الله تعالى، ومن ذلك حسن اختيار الدعاة، وبعثهم إلى جميع ولاياتهم، وليعينوا الدعاة بكل ما هو من أسباب نجاحهم في مهمتهم، وتحقيق المقصود من وظيفتهم، وليسعوا في الإصلاح في الأرض بتحكيم شرع الله تعالى في عباده، ومحاربة المفسدين من أهل كبائر الذنوب ودعاة الأهواء والبدع، المخالفين لمنهاج السلف الصالح، والمنحرفين عن الملة من المنافقين، وأشباههم من الأحزاب الموالية للكفرة؛ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وذلك بالاجتهاد في القضاء على الشر كله بجميع أشكاله وكافة صوره ومظاهره وإذلال أهله، وذلك كله بأمرين:
الأول: النصح لله تعالى ولكتابه وسنة نبيه ﷺ ولعامة المسلمين في إجراءاتهم وقراراتهم، وتوسيد الوظائف إلى أهلها الأكفاء الأمناء النصحاء بحسب الحال، واختيار البطانة الصالحة والجلساء الناصحين، والحذر من بطانة السوء، المبغضين لدين الله تعالى، ولسنة النبي ﷺ، وعباده الصالحين، وقيم الإسلام، فإن أولئك المعجبين بأساطين الكفر وأوضاع الكافرين المخالفة لشرع رب العالمين يضرون أكثر مما ينفعون.
وليغتنم ولاة الأمور ما أعطاهم الله من عز الولاية وهيبة السلطان في هداية عباد الله إليه، والأخذ على أيدي كل سفيه بمنعه عما يهدف إليه، فإن الله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وليكن لهم أسوة حسنة في النبي ﷺ ومن سبقه من أنبياء الله ورسله، كيوسف وسليمان وغيرهما من ذوي السلطان الذين سخروا سلطانهم وكل ما آتاهم الله في الدعوة إليه والإحسان إلى عباده عليهم جميعًا الصلاة والسلام.
وهكذا خلفاء النبي ﷺ الراشدون وصالح أمراء المسلمين وأئمة الدعوة من الأمراء والعلماء الذين كان لهم قدم صدق عند ربهم انتفعوا من ولايتهم وسلطانهم في نشر الدعوة وإعانة دعاة الحق بولايتهم وسلطانهم في هذا الشأن، وجعل الله لهم لسان صدق في الآخرين.
الثاني: الاجتهاد في إعانة الدعاة والجهات المتصدِّية للدعوة ـ على منهاج صحيح ـ بسلطانهم ورأيهم ومالهم ودعائهم، فإن الدعوة إلى الله تعالى من أعظم الأعمال الصالحة نفعًا، وأكثرها ربحًا، وأعمّها بركةً، وأبقى زمنًا مديدًا وأثرًا صالحًا بعد موت الداعي، والمعين على الدعوة، فإن نشر العلم والدعوة مما يتعدى نفعه ويطول بقاء أثره، فتعظم المثوبة عليه وترتفع الدرجة به، ويدفع الله البلاء والعذاب عن الأمة ـ دهورًا مديدة ـ بسببه.
*****

المطلب الرابع:

قال تعالى: ﮋ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮊ [الحديد:٧]، وقال سبحانه: ﮋ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮊ [البقرة:١٩٥]، وقال سبحانه: ﮋﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﮊ [سبأ:٣٩ ].
ففي هذه الآيات المحكمات الحض على الإنفاق من مال الله تعالى الذي أتاه اللهُ العباد ـ وابتلاهم به ـ في مراضيه، وإنفاق المال في الدعوة إلى الله وإعانة الدعاة إليه من أعظم أسباب رضاه سبحانه ومزيد هداه.
فليغتنم الأغنياء إنفاق فضل أموالهم في هذا الميدان؛ فإنه من أعظم وجوه البر والإحسان ومظان رضى الرحمن، فالمال في الأصل لله تعالى يؤتيه من يشاء من عباده ليبتليه أيشكر أم يكفر، ويدل على ذلك قصة الأقرع والأبرص والأعمى، وفيها: «قال الملَكَ للأعمى: أمسك مالك، فإنما ابتُليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك»( ).
وقد ذكر الله تعالى في معرض التقرير نصيحة قوم قارون له قائلين: ﮋﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﮊ [القصص:٧٧]، ولكنه لم يقبل نصحهم فبخل بماله عن الحق، وبذله في الرياء والفخر والخيلاء والبغي بغير الحق، وأصر على الكبر الجامع بين رد الحق وغمط الخلق.
وهكذا من أمسك عن الإنفاق في المشروع ابتلى في الإنفاق في الممنوع، فكان إنفاقه وبالًا عليه وعذابًا له في الآخرة، قال تعالى: ﮋﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮊ [الأنفال:٣٦ ]، فبينما قارون يمشي متبخترًا في مشيته قد أعجبته هيئته، إذ خسف الله به الأرض وبداره التي فيها أمواله، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة: ﮋﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮊ [القصص:٨١ ]، ويروى عن النبي ﷺ أنه قال: «إن لله أقوامًا اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم»( ).
فينبغي لمن آتاه الله فضلًا من رزقه أن يبذل منه في نصرة دين الله تعالى ونشره، وإعانة القائمين بالدعوة إليه، وما نقصت صدقة من مال, وليتذكر الغني إنفاق النبي ﷺ على الإسلام، فكان ﷺ لا يسأل على الإسلام شيئًا من المال إلا أعطاه، وكان يُعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر، ويقول: «أنفق بلالًا، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا»( ).
وهكذا أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، إنما فُضِّلت على بقية أمهات المؤمنين ـ وكلُّهن فضليات ـ بنصرها للنبي ﷺ وإنفاقها عليه وعلى الإسلام في وقت الغربة والشدة والمحنة، فأنفقت وقت الحاجة، ولذا بُشِّرت وهي تمشي على الأرض ببيت في الجنة من قصب ـ لؤلؤ مجوف ـ لا صخب فيه ولا وصب( )، وأقرأها جبرائيل ـ عليه السلام ـ السلام من الله تعالى.
وهكذا الصدِّيق الذي أثنى الله عليه بكلام يتلى إلى يوم القيامة بقوله سبحانه: ﮋ ﭚ ـ أي: النار ـ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ـ أي: بإنفاقه على رسول الله ﷺ وفي الدعوة إلى الله ـ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﮊ [الليل: ١٧- ٢١].
وهكذا عثمان رضي الله عنه الذي أنفق في سبيل الله تعالى حتى قال له النبي ﷺ: «ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم»( )، وبشَّره النبي ﷺ بالجنة في حياته، وهكذا عبد الرحمن بن عوف وسعد بن عبادة وأمثالهم من الصحابة كثير رضي الله عن الجميع، وقد أثنى عليهم ربهم بقوله: ﮋﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﮊ [الحشر:٩].
فليغتنم الغني كون ماله بين يديه يتصرف فيه برغبته وبمحض إرادته، ولينفق في وجوه الخير ما تيسر له، وليتحرَّ ثقاة الناس وأمناءهم ممن يتخذ الدعوة والإنفاق عليها عبادةً له تعالى لا حيلةً على أكل الحرام وخديعةً لأهل الإسلام بتأويل أو غير تأويل؛ فإن الدعاة وأعوانهم قليلون والمتأولون المبطلون في الدعوة كثيرون.
وإن الإنفاق في الدعوة وإعانة الدعاة عبادة عظيمة وقربة جليلة، فليتحرَّ الغني أهل نفقته كما يتحرى أهل زكاته ما دام ذا غنى وله رأي واختيار؛ فإنه قد جاء في الصحيح أن النبي ﷺ سُئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: «أن تصدق وأنت صحيح حريص، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان»( ).
فلينفق الأغنياء مما آتاهم الله من فضله وجعلهم مستخلفين فيه ـ ما دام المال لهم وفي أيديهم ـ في وجوه الخير، مثل:
1- إعانة الدعاة إلى الله تعالى على منهاج السلف الصالح.
2- طباعة الكتب المشتملة على بيان عقيدة أهل السنة والجماعة وأحكام الشريعة والأخلاق والآداب الإسلامية بأدلتها، والردود على خصوم الإسلام وأهل الأهواء والبدعة من المنتسبين إليه.
3- بناء المساجد التي تكون مراكز للدعوة الصحيحة.
4- بناء المدارس التي تُنشِّئ أبناء المسلمين على عقيدة السلف الصالح.
5- دعم الجهات الدعوية التي اشتهرت بالتزام السنة، وبيانها ونشرها ونصرتها، وحرب البدع والخرافات وأهلها.
6- دعم الجهات التي تُعنى بالمرافق العامة لصالح المسلمين كالمستشفيات ومراكز تعليم المهن والصنائع التي تنفع المسلمين وتغنيهم، فلا يحتاجوا إلى مراكز المنصِّرين وغيرهم من أعداء الدين.
7- الإعانة على الجهاد في سبيل الله، الذي توفرت فيه الأمور المعتبرة عند أهل السنة والجماعة، ومنها وجود الولاية العامة وتحقيق المصلحة في الجهاد أو رجحانها، وتوفر قوة الرمي ونحو ذلك مما هو مقرر في كلام ومصنفات فقهاء الملة وأئمة الأمة.
ولقد أقر النبي ﷺ فقراء المهاجرين رضي الله عنهم حين قالوا عن الأغنياء المتصدقين: ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى والنعيم المقيم ـ وذكروا أنهم يزيدون عليهم في الصدقة من فضول أموالهم على ما يشاركونهم به من صالح أعمالهم ـ فقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»( )، وقال ﷺ: «لا حسد إلا في اثنتين؛...وفيه: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق»( )، فإن الله تعالى جعل الأموال قيامًا للناس، كما قال تعالى: ﮋﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﮊ [النساء:٥]، ومن أعظم القيام قيام الدين.
*****

المطلب الخامس:

يجب على كل ذي رأي سديد، ومهنة نافعة، وصنعة مثمرة، ومكانة في المجتمع؛ أن يفيد الدعوة إلى الله تعالى مما آتاه الله إذا تسير له ذلك، أو دعت الحاجة إلى شيء مما هو مختص به، وتحت إمكانه، إعانةً للدعوة والدعاة، يتقرب بذلك إلى الله تعالى ويدخره ليوم يلقاه، وفضل الله تعالى واسع، وفي التنزيل: ﮋﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮊ [الزلزلة: ٧].
وفي الإعانة على الجهاد يقول ﷺ: «إن الله يُدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله»( )، يعني: الذي يضع السهم في القوس عند الرمي.
ومن أمثلة مشاركة ذوي المهن: الغلام النجار الذي صنع منبر النبي ﷺ من طرفاء الغابة؛ فإن الإعانة على الخير من الصدقات، كما في الصحيح عن النبي ﷺ قال: «تعين صانعًا أو تصنع لأخرق»( ).
ولقد أعان سلمان الفارسي رضي الله عنه النبي ﷺ والمسلمين على الجهاد يوم الخندق بإشارته بحفر الخندق، وموقف الصحابة والتابعين رحم الله الجميع بالمشاركة في الرأي في الجهاد، وغيره كثيرة ومشهورة في دواوين السيرة المعتبرة.
وهكذا الدعوة، يأجر الله تعالى كل من شارك فيها على مشاركته قدر استطاعته، العالم بتعليمه وتأليفه، والداعية بدعوته وتبليغه، والمسئول في الدولة بتسهيله وإعانته، والغني بإعانته بماله، ومن له وسيلة أو خبرة بوسيلته وخبرته، ومن ليس لديه شيء من هذه الأمور بمحبته للدعوة وأهلها، وصيانته لأعراضهم، و الدفاع عنهم ودعائه لهم بالتوفيق والتسديد.
*****

الباب الثالث
أخلاق الدعاة والأمور التي ينبغي توافرها لنجاح الدعوة
أولًا: البصيرة في الدين.
ثانيًا: موافقة القول للعمل.
ثالثًا: الإخلاص لله في القول والعمل.
رابعًا: الصدق.
خامسًا: تحري الحكمة في الدعوة.
سادسًا: تحري منهاج أهل السنة والجماعة في جملة هديه.
سابعًا: الصبر على المكاره والأذى.
ثامنًا: الإكثار من ذكر الله عز وجل.
تاسعًا: المحافظة على الصلوات وغيرها من فرائض الطاعات والإكثار من التطوعات.
عاشرًا: الكرم والجود.
حادي عشر: التحلي بالخلق الحسن.
ثاني عشر: العناية بدعوة الأقربين.
ثالث عشر: في بيان أثر المرأة المسلمة في الدعوة إلى الله.
رابع عشر: العناية بدعوة الشباب واستثمار نشاطهم في الدعوة.
خامس عشر: العناية بضعفاء الناس ومساكينهم.
سادس عشر: النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم في سائر الأحوال.
سابع عشر: الرد على المخطئين والمقالات والأحكام والمنحرفين في الاعتقادات والأعمال. وبيان وجه الصواب.
ثامن عشر: رد الضلالات وكشف الشبهات.
تاسع عشر: الرحمة بالخلق.
عشرون: اغتنام المناسبة في البيان.
حادي وعشرون: الانتفاع بالوسائل الممكنة المشروعة والمباحة في الدعوة إلى الله.

ثاني وعشرون: البعد والحذر عن سؤال الناس أموالهم.
إن من الواجب على المسلم عامة، والداعية إلى الله تعالى خاصة أن يتحرى على الدوام محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال، وأن يحذر سيئها ورذائلها ظاهرًا وباطنًا، فإن ذلك من أعظم أسباب ثبات إيمانه وزيادته، وعصمته من الفتن والشر وأهله، كما أنه من أمارات توفيق الله تعالى له، وأن يهبه الله الحكمة في دعوته وأمره ونهيه وأموره كلها، وهو أيضًا أدعى لقبول الناس منه واستجابتهم له وحسن تأسيهم به، فيكون السلوك الحسن عونًا للداعي إلى الله على إظهار الحق وهداية الخلق والسداد في جميع أموره، ويكون شهادةً من عموم الخلق له بالخير، وتلك من عاجل بشرى المؤمن، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ قوله: «من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض ـ ثلاثًا ـ»( ), فالثناء الحسن من أهل الإيمان من عاجل بشرى المؤمن، كما قال تعالى: ﮋﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﮊ [يونس:٦٤].
والجامع لما ينبغي أن يكون عليه الداعية إلى الله تعالى من الصفات والسجايا والهدي والسمت؛ حسن تأسي الداعية بالنبي ﷺ واقتدائه بهداه، فقد كان ﷺ أحسن الناس خلقًا وأجملهم سمتًا وأكملهم هديًا، وكفى بثناء الله تعالى عليه بقوله: ﮋﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮊ [القلم:٤], شهادة من الله تعالى له بذلك.
وقد سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي ﷺ فقالت: كان خلقه القرآن( )، تعني: امتثال القرآن العظيم في فعل ما أمر الله به، وأثنى على أهله، واجتناب والبعد عَّما نهى اللهُ عنه، وذمَّ أهلَه، وهكذا كان ﷺ يهتدي بالقرآن ويبينه للأمة بكل وجه من وجوه البيان، ومن ذلك الاهتداء والامتثال والتقيد بالقرآن فعلًا وتركًا.
فينبغي أن يكون الدعاة إلى الله تبارك وتعالى متأسين بالنبي ﷺ، ومقتدين به في جميع صفاتهم الخُلُقية، ومظاهرهم السلوكية؛ فإنه ﷺ هو قدوة الدعاة إلى الله وإمامهم إلى آخر الدهر، والمبلِّغ عن الله دينه إلى سائر البشر.
وحسن الاقتداء به ﷺ من كمال الاتباع له وعلامات محبته ﷺ، ومما يسمو بالداعية إلى الله تعالى إلى درجات عالية من الإيمان والتقوى والخلق العظيم ورفيع المنزلة في الجنة، ويحقق في المقتدي أنموذج الشخصية الإسلامية اعتقادًا وقولًا وعملًا وخلقًا وفكرًا وسلوكًا، وحظه من ذلك بحسب حظه من العلم بهديه ﷺ، والعمل بذلك، وإخلاصه لله تعالى فيه.
فإن أصل أصول الهدى:
أ‌- العلم بما جاء به المصطفى ﷺ من وحي الله تبارك وتعالى، وبيان النبي ﷺ لما أوحى الله تعالى إليه بأنواع البيان القولي والفعلي والحالي، والعمل الخالص به ابتغاء وجه الله جل وعلا فإنه ﷺ الرسول المبلغ الأمين، والإمام المكمل من رب العالمين.
ب‌- معرفته هدي السلف الصالح الذين هم خير هذه الأمة وأعلمهم بهدي النبي ﷺ، وهم:
أولًا: صحابة النبي ﷺ الكرام رضي الله عنهم.
ثانيًا: التابعون لهم بإحسان وتابعوهم وأئمة الهدى من بعدهم.
فإن هدي السلف الصالح هو الترجمان العملي لهدي القرآن وسنة النبي ﷺ، فلا بد من معرفة هدي القران وكيفية عمل النبي ﷺ به، ولا يكون ذلك إلا عن طريق السلف الصالح، قال تعالى: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﮊ [التوبة:١٠٠], وقال تعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮊ [النساء:٦٦- ٧٠ ].
*****

وإذا كانت السعادة الحقيقية والفلاح التام في الدارين في معرفة هديه ﷺ ودينه واتباعه في ذلك؛ فيجب على كل من أراد نجاة نفسه وغيره وتحصيل الفلاح لهما في الدارين أن يعرف من هدي النبي ﷺ ودينه وأخلاقه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن خطة الجاهلين، وينفع به نفسه والآخرين، والناس في هذا مُستَقِلٌ ومُستكثِرٌ ومَحرُوم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
والداعية إلى الله تعالى أولى الناس بأن يكون على معرفة بهدي النبي ﷺ وما يؤثر عنه؛ حتى يكون على منهاجه في الدعوة، وحتى يكون ناجحًا في دعوته، فائزًا بالعاقبة الحميدة في دنياه وآخرته، ولن ينال ذلك حتى يكون سالكًا للطريقة المحمدية، متخلقًا بأخلاق النبي ﷺ الكريمة الزكية، وذلك بأمور، أهمها وأجلها:

أولاً:

الدعوة إلى الله تعالى وظيفة جليلة، وقربة عظيمة، ذات أثر بالغ على الداعي والمدعوين، وعلى دين رب العالمين، فينبغي أن تكون على بصيرة.
والبصيرة لغة: هي العلم والمعرفة والتحقق والحجة، يقال: بصر بالشيء علم به، وبصر الأمر عرفه، وبصرته بالشيء أوضحته له. فهي العلم الذي ينير القلب فإن العلم للقلب كالضياء للبصر.
والبصيرة شرعًا: العلم الشرعي المبني على الدليل من الوحي المنزل من عند الله تعالى، والفهم لمراد الله تعالى فيما أنزل، ومراد النبي ﷺ فيما بيَّن، وهدى السلف الصالح الأول.
ولهذا قال تعالى: ﮋ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮊ [يوسف:١٠٨], أي:على علم ويقين وبرهان شرعي وعقلي فيما أدعو إلى فعله وما أدعو إلى تركه، وفي أسلوب الدعوة وحال المدعوين، فسمّى الله العلم بصيرة لأنه يحصل به الصواب ويتبين به الحق لأولي الألباب، وتنكشف به الشبهة، ويُدمغ به الباطل، وتُرد به الضلالة؛ فتتضح به المحجة وتقوم به الحجة.
ولهذا كان أول ما نبئ به النبي ﷺ قوله تعالى: ﮋ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮊ [العلق:١- ٥], فكانت هذه الآيات الكريمات المباركات أول رحمة رحم الله بها عباده، وأول نعمة أنعم بها عليهم، وفيها التنبيه على أن من كرمه تعالى أن علَّم الإنسان ما لم يعلم، فشرَّفه وكرَّمه بالعلم ثم العمل، ثم نبَّه سبحانه على وسيلة تحصيل العلم والعمل، وهي حسن الإنصات والفهم الصحيح حال التلقي والعرض على من يتلقى عنه، ولعل في الآيات الكريمات لفتة لطيفة إلى توثيق العلم بالكتابة، وقد كتب القرآن وشيء من البيان في حياة النبي ﷺ، ودعا النبي ﷺ ملوك زمانه بالكتابة إليهم، فبعث ﷺ رسله بكتبه إليهم يدعوهم للإسلام ويبين لهم أصله وقاعدته وغايته.
وبيَّن سبحانه لنبيه ﷺ كيف يتلقى الوحي من الملَك، فنهاه عن مبادرة أخذه ومسابقة الَملَكْ في قراءته، وأمره إذا جاءه الَملَكْ أن يستمع إليه حين تلاوته، ثم بعد ذلك يعرض ما سمع عليه، وتكفل الله له بجمعه له في صدره ـ أي: حفظه ـ وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه فقال: ﮋ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﮊ [القيامة:١٦-١٩], فجمع الله سبحانه لنبيه ﷺ بين التوجيه حين التلقي إلى حسن الأدب والإلحاح بسؤال المزيد من العلم من الرب.
والمقصود: أن العلم هو أول ما بدأ الله تبارك وتعالى به نبيه محمدًا ﷺ قبل القول والعمل والدعوة، وحثَّه على حسن الاستماع وأخذ العلم، وأن يطلب المزيد منه، وأن يعتني بأهم المهمات وأوجب الواجبات وهو التوحيد، وأن يعمل به ويحسن به، وبالاستغفار للعباد فقال: ﮋﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘﮊ [محمد:١٩ ], فقدَّم العلم على القول والعمل والدعوة؛ لأن تقدم العلم على العمل ضروري للعامل حتى يعلم ما يريده ويقصد العمل للوصول إليه، فيختار الأهم والأفضل، ويحسن القول والعمل ودعوة الخلق إلى الله عز وجل، قال تعالى: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮊ [فصلت:٣٠- ٣٣ ].
حقيقة العلم والنافع منه وشدة الحاجة إليه:
العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه دنيا وأخرى ما جاء به النبي ﷺ من الهدى المثمر للخشية والتقوى، ومن دعاء النبي ﷺ المأثور: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا، الحمد لله على كل حال»( )، وقد استجاب الله تعالى دعاءه، فلم يزل ﷺ في زيادة من العلم والعمل إلى أن توفاه الله عز وجل على أكمل حال من العلم والقول والعمل.
كما ثبت في الصحيح عن جابر رضي الله عنه أن الله تعالى تابع الوحي على رسوله ﷺ حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفي ﷺ( )، فتحقق فيه قوله سبحانه: ﮋﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﮊ [النساء:١١٣].
فواجب على كل من أراد الدعوة إلى الله سبحانه طلب علم ما أنزل الله على رسوله ﷺ من الكتاب والحكمة ـ فيما يدعو إليه ـ، ومعرفة ما أراد الله بذلك، وفهمه على نحو ما فهمه الصحابة والتابعون وأتباعهم من أئمة الهدى في الأمة، فإن كل ما تحتاج إليه الأمة قد بينه ﷺ بيانًا شافيًا، قامت به الحجة، واتضحت به المحجة، وزالت به المعذرة، ووجب به العمل، عَلِمه من عَلِمه وجَهله من جَهله، والناس مُستَقِلٌ ومُستكثِرٌ ومُعرِض غافل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وأعظم الفضل هو العلم المورث للخشية وحسن القول والعمل الزاجر عن تعدي حدود الله عز وجل.
فعلى الداعي إلى الله تعالى أن يستزيد من هذا العلم، وأن يكون على فهم صحيح له، فإنه العلم النافع في الدنيا والآخرة، وقد ثبت في الحديث عنه ﷺ أنه قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»( ).
وقد جمع الله تعالى لنبيه ﷺ أفضل علوم الأنبياء والمرسلين قبله وأصحها وأكملها، وزاده عليها مما فيه هداية الخلق للحق، وصلاحهم ونفعهم في الدنيا والآخرة، وأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وبيَّن ﷺ للأمة ما أُنزل إليه من ربه بقوله وفعله وتقريره لما وافق، وإنكاره على ما خالفه بيانًا كاملًا شافيًا، ترك به ﷺ أمته على بيضاء نقية ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولذا قال الصحابة رضوان الله عليهم: «لقد تركنا محمدٌ ﷺ وما يقلب طائر جناحيه في الهواء إلا ذكر لنا منه علمًا»( ). وقالت اليهود للصحابة: «قد علمكم نبيكم ﷺ كل شيء حتى الخراءة»( )، يعنون آداب قضاء الحاجة، فقال الصحابة رضوان الله عليهم: أجل ـ أي ذلك كذلك ـ.
وضرورة العباد إلى معرفة ما جاء به ﷺ من الهدى ودين الحق فوق كل ضرورة، وحاجتهم إليه فوق كل حاجة، فإنه لا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث من الاعتقادات والأقوال والأعمال والأحوال على التفصيل إلا من جهته، ولا سبيل إلى الفوز بالسعادة في المعاش والمعاد إلا من طريقه، فأي حاجة فرضت، وأي ضرورة عرضت فحاجة العباد وضرورتهم إلى معرفة ما جاء به النبي ﷺ من الهدي ودين الحق فوقها بكثير.
روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأنهم يحتاجون إلى الطعام والشراب في الــيوم مرة أو مرتين وحاجتهم إلى العلم بعدد أنفاسهم.
أثر العلم في نجاح الدعوة ومضرة دعوة الجاهل:
والحاصل أن الداعي إلى الله تعالى يجب أن يستزيد من العلم الشرعي النافع على الدوام ليعرف موضوع دعوته، ويكون على بصيرة من أمره، وعلى علم بما يجوز وما لا يجوز، وما يسوغ فيه الاجتهاد وما لا يسوغ، وشرعية ما يقوله وما يفعله وما يتركه؛ حتى يتمكن من أداء حق الله عليه على أكمل وجه مستطاع، وتوجيه الناس إلى الخير، وترغيبهم في الفضيلة، وتنبيههم إلى ترك أسباب الشر وزجرهم عن الباطل، ولذا قال تعالى: ﮋﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌﮊ [يوسف:108].
ومتى فقد العلم المطلوب واللازم له كان جاهلًا بما يريده ويدعو إليه، وكان عرضة للقول على الله ورسوله ﷺ وفي دينه بلا علم، فينسب إلى دين الله ما ليس فيه أو ينفي عنه ما هو منه، وبهذا يكون ضرره أعظم من نفعه، وإفساده أكثر من إصلاحه، ويعود تعبه وجده فيما يضره ويضر غيره في الدنيا والآخرة، فيخشى أن يكون داخلًا في قوله سبحانه: ﮋﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮊ [الكهف:١٠٣- ١٠٤ ], وإنما أُتي أولئك الخاسرون من قبل أنفسهم، إما من فساد العمل أو من فساد القصد، وهما من نتاج الجهل أو نقص العلم أو اتباع الهوى.
وهذا يبين ضرورة العلم الشرعي لكل عامل يبتغي وجه الله والدار الآخرة من داعية أو غيره من الرجال والنساء، حتى يتعلم صحة القصد والإرادة، وصحة العلم في أي عبادة، فإن الله تعالى لا يقبل من العلم إلا ما كان خالصًا لوجهه وصوابًا على السنة، والداعية إلى الله بحاجة إلى العلم بما يدعو إليه وشرعية ما يقوله أو يفعله أو يتركه، حتى ينفع نفسه وينفع غيره بما يرشده إليه من أحكام الدين ويوصلهم إلى رب العالمين، ولشدة الحاجة إلى العلم وعظم الضرورة إليه؛ صار طلب ما لا يسع المكلف جهله واجبًا على الأعيان، وصار فضل طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، وصار حملته العاملون به أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، وهم ورثتهم الحقيقيون.
النصوص في الحث على طلب العلم:
وكم في نصوص الكتاب والسنة، وما أُثر عن السلف الصالح من هذه الأمة ما يبين فضل العلم، ويغري كل عاقل بطلبه، والجد في تحصيله، والتقرب إلى الله تعالى بالتعب والسهر في سبيله، فمن ذلك:
‌أ- قوله تعالى: ﮋ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﮊ [فاطر:٣٢ ], وفي ذلك التنبيه على أن من يسر الله له العلم بكتابه وهدي نبيه ﷺ فقد اصطفاه بحسب ما أعطاه، وما اعتقده، وقال وعمل به ابتغاء وجه الله وهدي عبده ورسوله ومصطفاه، فقد وعد الله تعالى هذه الأصناف الثلاثة الجنة، لكن منهم من يدخلها ابتداءً ومنهم من يدخلها انتهاءً.
‌ب- وقد صح عن النبيﷺ قوله: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»( )، وفي ذلك إشارة إلى أن العناية بتحصيل العلم والعناية بالفقه أمارة على أن الله قد أراد به خيرًا لما علم في قلبه من الخير.
‌ج- وصح أيضًا عنه ﷺ قوله: «ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة»( ), وذلك لأن العلم الذي يستقر في القلب يورث خشية الله والعمل به ابتغاء وجهه، وترك الالتفات في القول والعمل إلى من سواه، والإحسان إلى الخلق بإنقاذهم من ظلمة الكفر والشرك والبدع والمعاصي والشبهات والشهوات إلى نور الإيمان والتقوى والهدى والزهد، ليكونوا من عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين حتى ينجوا من النار ويفوزوا بالجنة، وهذا أعظم إحسان يمكن أن يفعله مخلوق لمخلوق.
‌د- وكلام السلف الصالح رحمهم الله في فضل العلم وحملته كثير، ولنقتصر على إيراد جمل من كلامهم تبين عظيم مسؤولية من ينتسب إلى العلم، وأن الواجب عليه أن يتحرى الحق في قوله وفعله وسيرته حتى لا يأخذ الناسُ عنه إلا الحقَّ؛ فإنه ناصح مؤتمن، فليعرف منزلته وأثره في الناس.
• قال ابن المنكدر رحمه الله: العالم حجة بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل عليهم.
• وقال أبو الأسود رحمه الله: ليس شيء أعز من العلم، فالملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.
• وقال ابن القيم رحمه الله: وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات، فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعدّ له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ـ تعالى ـ ناصره وهاديه، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدًا وموقوف بين يدي الله، وهذا كله يبين فضل العلم ومنزلة أهله بين الناس، ومسؤوليتهم العظيمة عما حملوه فتحملوه، وعن أثر قولهم وفعلهم وخلقهم في الناس وأنهم سيجدونه.
أهم ما يجب أن يعتني به الداعية إلى الله في تحصيله العلمي:
أ‌- معرفة العقيدة الإسلامية الصحيحة:
1- فالعقيدة لغة: مصدر من اعتقد يعتقد اعتقادًا وعقيدة، مأخوذ من العقد، وهو: الربط والشدُّ بقوة وإحكام، ونحو ذلك مما فيه توثق وجزم.
وفي الاصطلاح: هي ما ينعقد عليه قلب المرء ويجزم به؛ بحيث لا يتطرق إليه الشك فيه، فهي حكم الذهن الجازم أو ما ينعقد عليه الضمير ويتخذه المرء مذهبًا ودينًا يدين به، أي الإيمان الجازم الذي يترتب عليه القصد والقول والعمل بمقتضاه.
2- والعقيدة الإسلامية التي دلت عليها أصول الإسلام الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم هي العقيدة الصحيحة.
وهي: الإيمان الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبكل ما جاء به القرآن والسنة الصحيحة من الأخبار والغيوب والأحكام القدرية والشرعية والجزائية، وسائر ما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم لله بذلك كله، والعمل له تعالى بمقتضاه، والطاعة للنبي ﷺ والاتباع له.
فهي: تصديق بالغيب، وتوحيد وتنزيه للربِّ، وعبادةٌ لله بما شرع، واليقين بلقائه سبحانه وجزائه.
3- وتشمل العقيدة الإسلامية: وجوب توحيد الله تعالى فيما يجب له، وتنزيهه عما لا يليق به، والقيام بأركان الإسلام وحقائق الإيمان والإحسان والتصديق بالنبوات، والكتب، وأحوال البرزخ والآخرة، وسائر أمور الغيب، وتحقيق الولاء والبراء، والقيام بالواجب نحو السلف الصالح وسائر أهل الإسلام، والموقف الشرعي من سائر أهل الملل والبدع ونحوهم من المخالفين.
ب‌- العناية بمعرفة الأحكام:
ينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يعنى بمعرفة الأحكام الشرعية العملية، وخصوصًا المسائل التي يحتاج الناس إلى توجيه بشأنها في عباداتهم ومعاملاتهم وغير ذلك من شؤونهم، وذلك بالرجوع إلى كتب أهل العلم المعتبرة في كل فن كالتفسير، والحديث، والفقه، وأصول هذه العلوم، فيصدر عن أمهات هذه الفنون التي دوَّنها أئمة هذا الشأن في كل فن، ويراجع الأكابر من أهل العلم المعاصرين ليستفيد من تجربتهم، ويستنير بتوجيههم حتى يعرف أحكام المسائل والقول الراجح فيما فيه اختلاف ووجه رجحانه، ويكون على علم بأدلة المخالفين من أهل المذاهب المعتبرة، كل ذلك بالدليل فإن الأدلة هي مفاتيح العلم ومعدن الأحكام وبينات الحق.
ولذا سمَّى الله الدليل عَلَمًا وسلطانًا وبُرهانًا وبَيِّنة لما يحصل به من وضوح الأمر وبيانه وقوة صاحبه على من ليس معه مثله، قال تعالى: ﮋ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﮊ [الأنعام:١٤٣], وقال تعالى: ﮋ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﮊ [يونس:٦٨ ], وقال جل ذكره: ﮋ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﮊ [النحل:٤٣- ٤٤].
فإن طالب العلم إذا اعتنى بمعرفة أحكام المسائل بأدلتها، وراجع كلام أهل العلم فيها في مظانه، ورجع إلى أكابر أهل العلم الراسخين فيه فيما أشكل عليه، وأخلص النية في ذلك، كان حريًا بالتوفيق للصواب والسداد في الرأي، فإن الله تعالى قد وعد من جاهد فيه محسنًا بهدايته ومعيته كما قال سبحانه: ﮋﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮊ [العنكبوت:٦٩], وخصوصًا مع الضراعة إليه سبحانه في استفتاح صلاة الليل بطلب الهدى والسداد، كما كان النبي ﷺ يستفتح صلاة الليل بقوله: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»( ). ومما علمه النبي ﷺ الأمة سؤال الله الهدى والسداد.
فليعتن الداعي إلى الله تعالى بمعرفة الحق بدليله عامة، وفيما يدعو إليه خاصّة، لتكون دعوته حقًّا وإلى الحق ولا يمنعه حظّ النفس ومهابة الخلق من الرجوع إلى الحق لو قال قولًا يظنه الصواب ـ بعد شدة تحرٍّ واجتهادٍ ثم تبيَّن له خطأ ما ذهب إليه ـ فإنه إذا تبيَّن له خطأه فرجع إلى الحق بعد ما تبيَّن وترك قوله الذي خالف فيه الحق كان مأجورًا على اجتهاده، ومعذورًا في خطأه؛ لأنه بذل وسعه في تحري الحق وأخطأ من غير قصد، ثم رجع إلى الحق لَّما تبيَّن له، وقد قال تعالى: ﮋ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﮊ [البقرة:٢٨٦ ], وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أن الله تعالى قال: «قد فعلت»( ).
ولكن لا يحل لأحد كائنًا من كان أن يقول في دين الله قولًا بلا علم، ولا يحل له أن يقول في دين الله قولًا لا يعتقد صحته، بل لا يقول إلا بما علم واعتقد صحته بالبرهان والحجة، ويقول ذلك أيضًا على وجه إظهار الحق ونصيحة الخلق، فمن تبيَّن له الحق بدليله فليقل به ولينصح به الناس، ومن لم يتبين له الصواب فليمسك عن القول وليقل: (الله أعلم)، فإن الصواب في المسائل المشكلة عدم الجزم بشيء فيها من غير حجة، بل ينسب العلم فيها إلى الله تعالى كما قال سبحانه: ﮋﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﮊ [الكهف:١٩], وقال جل ذكره: ﮋﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮊ [الكهف:٢٢ ], يعني: أهل الكهف.
فالسكوت عن القول في مثل هذه المسائل ونسبة العلم إلى الله تعالى هو العلم، والمتكلِّم فيها بلا علم قد أخطأ خطأً عظيمًا يُنكر عليه، فإن الله تعالى نهى عن افتراء الكذب عليه، ونهى عن القول عليه بلا علم، وعن المخاصمة والمجادلة بغير علم قام عليه الدليل، أو قول ما ليس للقائل به علم مطلقًا، فإن الله تعالى ذكر المحرمات وجعل القول عليه بلا علم أعلاها، لأنه أصل الشر ومنشأ غالب البدع و الأهواء الضالة المضلة.
والله تعالى قد ابتلى الناس بالمتشابه عليهم كما ابتلاهم بالمحكم ليعلم ـ واقعًا ـ من يقف حيث وقفه الله، ممن يقول عليه بلا علم ولا برهان، ولو بلغ الإنسان ما بلغ من العلم لكان ما علمه قليلًا بالنسبة لما لا يعلمه، قال تعالى: ﮋﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﮊ [الإسراء:٨٥ ].
وقد سئل أئمة كبار عن مسائل كثيرة فلم يجيبوا إلا على أقل القليل، كما ينسب إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى أنهُ سئل عن أربعين مسألة فأجاب عن أربع، وتوقف عن ستٍ وثلاثين، وقال للسائل: أخبر من وراءك أن مالكًا لا يدري.
وقد ذكروا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله توقف عن الإفتاء في عدد من المسائل، منها:
1. معنى قول النبي ﷺ: «الشؤم في ثلاث»( ) قال: لم يتبين لي معناه، والله أعلم بمراد رسوله ﷺ.
2. في فضل حفظ القرآن، هل المراد حفظه مع المعاني؟ قال: لا يحضرني جواب بفصل المسألة.
3. في إغلاق الباب عند الجَذَاذ ووقت الحصاد. قال: لا أجسر ولا أتجرأ على القول بتحريمه.
4. معنى قوله ﷺ: «من عقد لحيته»( ) قال: لا أعلم.
5. قو ل الحسن: الجبت إنه رنة الشيطان. قال: لا أعلم مقصود الحسن.
6. الفرق بين الرَوْح والرَحْمَة. قال: لا أعرفه.
*****

ثانيًا:

قال الله تعالى: ﮋ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮊ [فصلت:٣٣], فهذه الآية الكريمة تبين أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون ذا عمل صالح ليكون داعية إلى الله بأفعاله، كما دعا إليه بأقواله فيجتمع له القول والعمل، ولا أحسن قولًا من هذا الصنف من الناس المبارك على نفسه وعلى الناس من حوله، الذي يدعو إلى الله تعالى بالأقوال الطيبة والأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة، والدفع بالتي هي أحسن والبعد عما يضاد ذلك وينقصه، وهكذا كان رسل الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال والسير الحسنة، فإنهم أئمة الناس في تحقيق ما يدعونهم إليه، وترك ما ينهونهم عنه.
ولذا ذكر الله تعالى عن نوح ـ عليه السلام ـ أنه قال لقومه: ﮋ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮊ [يونس:٧٢ ], وعن شعيب عليه السلام أنه قال: ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﮊ [هود:٨٨], وعن محمد ﷺ أنه قال: ﮋﯣ ﯤ ﯥﮊ [الأنعام:١٦٣].
وهكذا أتباعهم في الدعوة إلى الله على بصيرة في كل زمان ومكان يتبعون القول بالعمل الصالح، فلا بد للداعية من أن يعمل بعلمه، ويمتثل ما يدعو الناس إليه في سيرته وحياته، فلا يأتي من الأقوال والأعمال والأحوال الظاهرة والباطنة ما يخالف ما علمه واستيقن صوابه ودعى إليه، فإن العمل هو الثمرة الصحيحة للعلم، وهو من أسباب ثباته وحفظه وعدم نسيانه، ومن موجبات زيادته وعموم ودوام الانتفاع به، وإغراء الناس بقبوله والاستجابة للداعي بالفعل، وعلمٌ لا يقود إلى عمل من حجةِ الله تعالى على ابن آدم، وصاحبه متشبه بإبليس واليهود وأضرابهم من شرار الخلق الذين علموا الحق وتعمدوا تركه استكبارًا وحسدًا وغمطًا لمن دعاهم إليه وسبقهم إليه، فباؤا بغضب الله ولعنته، وتوعدهم الله يوم القيامة بشديد العذاب وأليم العقاب بسبب تركهم العمل بعلمهم، وضرب الله لهم مثل السوء: ﮋ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮊ [الجمعة:٥].
ومن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة العالم الذي لا يعمل بعلمه، وقد ثبت في الصحيحين عن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: إي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه»( ).
ولهذا عاب الله تعالى على الضُّلاَّل من بني إسرائيل وذمَّهُم، فقال: ﮋﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮﮊ [البقرة:٤٤], فعد سبحانه ترك العمل بالحق مع العلم به من نقص العقل، وحذَّر هذه الأمة وتوعدها أشد الوعيد على تناقض الأعمال والأقوال، فقال: ﮋﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮊ [الصف:٢- ٣ ].
وأخبر سبحانه عن نبيه شعيب ـ عليه السلام ـ أنه قال لقومه: ﮋﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﮊ [هود: ٨٨ ], فنَّبه على أن العمل بالعلم ـ كما أنه شكر الله تعالى على أن هدى الله تعالى العبد إلى الحق وبصره به ـ فهو حق الله تعالى عليه يتقرب به إليه، ويصلح به قومه بدعوتهم إليه؛ وذلك لأن النفوس مجبولة غالبًا على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه، ولا يوافق فعله قوله.
فمن أهم المهمات وأوجب الواجبات أن يكون الدعاة إلى الله تعالى ذوي سيرة حسنة، وخلق فاضل، وعمل صالح؛ ليكونوا قدوة للناس في فعل ما يدعونهم إليه، وترك ما ينهونهم عنه، فإن القدوة العملية أقوى وأشد تأثيرًا في نشر العقائد والأخلاق والأحكام والآداب، وترك المنهيات في نفوس الناس من الدعوة القولية فقط؛ ذلك لأن القدوة العملية تجسيد وتطبيق عملي من الداعية لما يدعو إليه، تسهل مشاهدتها والتأثر بها والاقتداء بها بخلاف الأقوال والكتابات، فقد لا يستوعبها بعض السامعين والقارئين، وقد لا يدركون مقاصد المتكلم، وما يرمي إليه مع ما يعرض لها من النسيان السريع والخطأ في التطبيق.
ولذا جعل الله نبيه ﷺ إمامًا تقتدي به الأمة في تحقيق عبادته، والبعد عن مخالفته، فقال: ﮋﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﮊ [الأحزاب:٢١ ], وقال تعالى: ﮋﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼﮊ [آل عمران:31]، وقال سبحانه: ﮋﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮊ [الحشر:٧], وقال سبحانه: ﮋﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮊ [النور:٦٣].
وكان النبي ﷺ يحث أصحابه والحاضرين معه على أن يقتدوا به ويتلقوا عنه في كل مناسبة، فكان يعلمهم الوضوء بفعله، ويقول: «من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه غُفِر له ما تقدم من ذنبه»( )، وكان ﷺ يقول: «صلوا كما رأيتموني أصلي»( )، وقال عليه الصلاة والسلام في الحج: «خذوا عني مناسككم»( )، وقال ﷺ: «من رغب عن سنتي فليس مني»( ).
ولقد كثرت النصوص التي تضمنت التوجيه إلى حسن الاقتداء بالنبي ﷺ، والتأكيد على ملازمته، والحض عليه والثناء على من سبق إليه، فكان لذلك أثره الكبير في فهم الدين، وأداء العبادات، وتنفيذ الأحكام على الوجه المأثور عن سيد المرسلين، وتحقق الاقتداء بالنبي ﷺ في كل صغيرة وكبيرة؛ في العبادات أو المعاملات أو الأخلاق وما سوى ذلك، ومن فضائل الصدر الأول من هذه الأمة أنهم حضروا التنزيل، وشاهدوا الرسول ﷺ وهو يعمل بما يدعوهم إليه، وعملوا وهو ﷺ يراهم، فما وافق ما جاء به أقرهم عليه، وما خالفه أنكره ونهاهم عنه، وبيَّن لهم وجه الصواب فيه، فعملوه على وفق الشرع قطعًا، فعلموا ما لم يعلم غيرهم، وفهموا ما لم يفهم سواهم، وفازوا بالاقتداء بخير قدوة، ونقلوا ذلك وبلغوه إلى الأمة قولًا وعملًا. فحازوا قصب السبق في كل باب من أبواب العلم و الخير، وخصلة من خصال البر.
والمقصود: أن الداعية إلى الله تعالى لا بد أن يحقق دعوته بالمتابعة الصادقة لرسول الله ﷺ بما جاء به وثبت عنه من أقواله وأفعاله وإقراره وأحواله، فإن الميزان الشرعي للأعمال الظاهرة هو سنة النبي ﷺ، فما وافقها مع الإخلاص قُبل وأُثيب عليه صاحبه، وما خالفها رُدّ وحُرِم العامل ثوابه، وربما لحقه وزره ومثل أوزار من اتبعه؛ لكونه بدعة مخالفة للشرع، قال تعالى: ﮋﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮊ [الحشر:٧], وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»( )، وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد»( )، وفيه أيضًا عنه ﷺ قال: «وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»( ).
فليحرص الداعية إلى الله تعالى أن يكون قدوة صالحة للناس في طيب قوله، وعفة لسانه عن البذاء واللغو، وإتقان عبادته وحسن خلقه، وإحسانه من فضل ما آتاه الله، ولين جانبه، وكريم معاملته، وليسلم المسلمون من لسانه ويده، وليأمنوا على دمائهم وأموالهم ليأخذ الناس عنه، ويقبلوا ما يدعوهم إليه، و ليكون له الأجر مرتين، أجر العمل وأجر القدوة، وفضل الله واسع، وليحذر من أن تصدر عنه أقوال غير محققة، أو أعمال تخالف ما يدعو إليه حتى لا يتعرض لوعيد الله، ولا يتسبب في صد عباد الله عن دينه وهداه.
وخلاصة ما سبق أن موافقة القول للعمل تتحقق بها منافع عظيمة:
الأولى: تحقيق عبادة الله تعالى التي هي فريضة الله على عباده قولًا وفعلًا وهذا في حق نفسه.
الثانية: بيان العلم بيانًا يزول به اللبس، ويتحقق به الفهم، ويسهل معه العمل.
الثالثة: حفظ العلم وكمال الانتفاع به؛ حيث يتلقى عنه بيانًا وفهمًا وتطبيقًا، وهذا في حق غيره، وهو مما يثمر تنوع الإحسان، وزيادة الإيمان، ورفعة المقام والدرجة في الدنيا والآخرة.
الرابعة: التشبه بمن أثنى الله عليهم من المرسلين والنبيين عليهم الصلاة والتسليم، وعباد الله الصالحين بحسن الدعوة والعمل الصالح، وهو من أسباب حبهم، والثبات على طريقتهم، وأن يلحق بهم ويحشر معهم، والبعد عن التشبه بمن ذمَّهم الله وغضب عليهم، وتوعّدهم بلعنته وشديد عذابه، وفي الحديث: «من تشبه بقوم فهو منهم»( )، وفي رواية: «حشر معهم»( ).
الخامسة: أن العامل بعلمه وما يدعو إليه، يصبح من أئمة المتقين الذين يفوزون بمثل أجور من اقتدى بهم إلى يوم القيامة.
السادسة: أنه من أسباب العصمة من الضلالة والنجاة من الفتن، والسلامة من موجبات الخزي في الدنيا والآخرة.

ثالثًا:

أ‌- حقيقة الإخلاص والنصوص بشأنه:
هو قصد وجه الله تعالى في القول والعمل، وعدم صرف شيء من حقه سبحانه إلى أحد من خلقه كائنًا من كان، قال تعالى في معرض الثناء على الأبرار الموعودين بالجنة في أشرف الأذكار: ﮋ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﮊ [الإنسان:٩], وقال سبحانه: ﮋ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﮊ [النساء:١١٤], وقال تعالى: ﮋ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮊ [البقرة:٢٧٢], وقال ﷺ: «إنك لن تُخلَّف فتعمل عملًا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة»( ).
ذلك لأن إخلاص العمل لله تعالى هو أساس الدين، وسبب لقبول العمل من المكلفين، وهو الحكمة من خلق الجن والإنس، كما أخبر الله عن ذلك بقوله المبين: ﮋ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﮊ [الذاريات:٥٦], وقال: ﮋ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮊ [البينة:٥], وأمر الله تعالى نبيه ﷺ بقوله: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﮊ [الزمر:١١], ﮋ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﮊ [الزمر:١٤], إلى قوله: ﮋ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﮊ [الأنعام:١٦١ - ١٦٣ ].
وكما أمر الله تعالى نبيه محمدًا ﷺ أن يوحد الله تعالى، ويخلص له في عبادته، فقد أمره أن يدعو إلى توحيده: وهو الإخلاص له في الدعاء والقصد، وأن تكون دعوته خالصة لوجه الله، لا يبتغي بها غيره، ولا يلتفت فيها إلى أحد سواه، فقال تعالى: ﮋ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮊ [يوسف:١٠٨].
فأرشد الله تعالى نبيه ﷺ إلى أن تكون دعوته خالصة لوجهه، سليمة من الشرك به؛ فإنه سبحانه منزه عن الشركاء والأنداد، وفي الحديث القدسي الصحيح يقول الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»( ), وفي رواية: «فهو للذي أشرك وأنا عنه غني»( ), وقال تعالى: ﮋﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮊ [الحج:٦٧].
وأثنى سبحانه وتعالى على من دعا إلى توحيده وأخلص لله تعالى في دعوته واستقام، فقال سبحانه: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﮊ [فصلت:٣٠ ].
ولذا أمضى النبي ﷺ في مكة ثلاث عشرة سنة كلها في الدعوة إلى «لا إله إلا الله»، أي: إلى أن يعبدوا الله وحده مخلصين له الدين، ويتركوا الشرك به، ويباينوا المشركين، فيبرؤوا منهم ومن معبوداتهم من دون الله، وتكسر الأوثان، وإلى الأمور التي اتفقت عليها شرائع المرسلين قبله من بر الوالدين، وصلة الأرحام، والصدقة، والعفاف، والنهي عن الزنا، وقتل الأنفس بغير حق، وأكل الأموال بالباطل ونحو ذلك، فإن التوحيد هو أصل الدين، وهو القاعدة التي لا تصلح الحياة البشرية كلها في أصولها وفروعها إلا إذا قامت عليه؛ فإن الناس إذا عرفوا الله وآمنوا به وعظموه وأحبوه ورجوه وخافوه سهل عليهم الانقياد لفعل الأوامر واجتناب النواهي، رغبة في ثواب الله وخشية من عقابه.
ب‌- تقصير بعض الدعاة والجهات الدعوية في العناية بالإخلاص:
ومن تأمل واقع بعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة وجد أن معظم خصال الجاهلية قد شاعت فيها وانتشرت بين أهلها، ومن ذلك الشرك الأكبر الخفي والجلي، من عبادة غير الله، والسجود له، وتقديم النذور والقرابين للأموات والقبور والشياطين ونحوهم، والخوف من المقبورين ورجائهم، وكذلك تنتشر بينهم أنواع من الشرك الأصغر كالحلف بغير الله، والرياء والسمعة، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا، وبعض الأقوال الخاطئة مثل قول (لولا الله وأنت)، ونحو ذلك، وكم في مجتمعاتهم من أنواع البدع وكبائر المعاصي.
وترى أن كثيرًا ممن ينتسب للعلم والدعوة يتركون إنكار الشرك وبيان حقيقة العبادة وتفاصيل أنواعها ومكملاتها، ولا يحذرون من هذه المظاهر الشركية والعادات الجاهلية ولا ينهون عن تلك البدع والكبائر تعظيمًا لرب البرية، بل إن قاموا بشيء من النهي عن بعض هذه الأمور فعلى استحياء وإجمال دون التفصيل في بيان أفراد هذه الأمور وأحكامها وأخطارها وشؤمها على الأفراد والشعوب في الدنيا والآخرة، بل ترى جهودهم وكثير وقتهم متوجهة في التنبيه على شناعة الخضوع للحكومات الفاسقة والنظم الوضعية المعاصرة، والتصريح بأن ذلك وحده هو عبادة الطاغوت، فلا يتكلمون عن التوحيد حقيقته وأنواعه، وخصاله وفضائله، وحسن عواقبه حقيقة، وتفاصيل وأفراد الشرك ويبينون شناعته وعظم عقوبته، بل يذكرونه إجمالًا وعمومًا عكس المنهاج الرباني والهدي النبوي.
فإغفال الكلام عن الشرك والخرافة والأمور الجاهلية الباقية في الأمة، والاشتغال بمحاربة القوانين الوضعية والحكومات القائمة عليها فحسب، وترك الدعوة إلى التوحيد والنذارة من الشرك قصور في اتباع وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأتباعهم على هداهم إلى يوم القيامة، وتحريف لهذا الدين، وانحراف عن المنهج السماوي إلى منهج سياسي محدث نهاية أصحابه ـ لو كتب لهم النجاح ـ أن يسيروا في فلك خصوم الإسلام، أو يحاكوهم في كثير من السياسات والتنظيمات، وقد ينسبون ذلك إلى الإسلام، أو يدَّعون الضرورة إليه، وتلك مصيبة عظيمة وفتنة خطيرة.
فكما يجب أن يدعى الناس إلى التشريع الإلهي، وإقامة الحكم الإسلامي في العالم على منهاج الكتاب والسنة، ومنهاج الخلافة الراشدة، وألا يُدّخر جهد في السعي إلى ذلك، فأوجب منه وأهم وأعظم شأنًا أن يدعى الناس إلى توحيد الله تعالى فيما يختص به، وإخلاص الدين له كما شرع، ومحاربة الشرك بجميع أنواعه، والبدع وأمور الجاهلية بكافة صورها وأشكالها، وبيان الأحكام الشرعية العملية التي تعبَّد اللهُ بها المكلَّفين في سائر الأماكن والأوقات والمناسبات والأحوال، ذلك لأن العناية بهذه الأمور أهم وأولى؛ لأنها إذا صلحت الاعتقادات ورسخ الإيمان سهل على الناس ترك أمور الجاهلية، فإن الشرك وخصال الجاهلية أخطر شيء على عقيدة ودين الأمة، وهما أعظم موجبات خسارة الإنسان وشقائه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﮋ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﮊ [النساء:٤٨]، وفي الآية الأخرى: ﮋﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮊ [النساء:116]، وقال سبحانه: ﮋﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﮊ [الزمر:65]، وقال سبحانه: ﮋﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ [المائدة:72].
ت‌- تحقيق المرسلين والنبيين الإخلاص في دعوتهم لله، ودعوتهم أممهم إلى إخلاص الدين لله:
1- ولقد أمضى النبي ﷺ ثلاث عشرة سنة من عمره المبارك بعد بعثته يدعو قومه إلى توحيد الله وإخلاص الدين لله، وكذلك بعد نزول الفرائض والأحكام العملية بعد الهجرة كان ﷺ يُبلّغها ويبيّنها مع اهتمامه العظيم في العناية بتحقيق التوحيد وسد ذرائع الشرك؛ حتى في مرضه الذي مات فيه، بل وهو ﷺ يعاني سكرات الموت؛ لأن ذلك هو الأصل الذي تقوم عليه العبادة، وهو شرط قبولها وترتب الثواب عليها، وهو ﷺ سيد الدعاة وإمامهم، وفي ذلك أبلغ الأسوة للدعاة إلى الله تعالى أن يعتنوا بالدعوة إلى التوحيد، فإن ذلك هو الأصل الأصيل، والمنهاج القويم للدعوة والإصلاح والفلاح في العاجل والآجل.
2- وهكذا باستقراء دعوات النبيين والمرسلين عليه الصلاة والسلام تتجلى عنايتهم بالدعوة إلى إخلاص الدين لله، أي: الدعوة إلى إفراد الله بالألوهية والعبادة، وترك الشرك به قبل أي أمر آخر مهما كان عظيمًا، فإنهم عليهم الصلاة والسلام بعثوا في مجتمعات وأمم فيها الشرك والضلال وأنواع الظلم والاستبداد، وغاية من فساد النظام السياسي وانهيار النظام الاقتصادي والاجتماعي، ومع ذلك كانت كلمتهم واحدة، يقول كل واحد منهم: ﮋ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﮊ [الأعراف:٦٥], فكانت الدعوة إلى إخلاص العبادة لله أول وآخر دعوتهم، وأعظم مهمتهم وزبدة رسالتهم، ذلك لأن الناس إذا انقادوا لعبادة الله وترك عبادة ما سواه سهل انقيادهم لترك كل ما لا يُرضي الله وتحقيق طاعة الله في كل أمر.
فإن الناس إذا اعتقدوا ألوهية الله وحده، والتزموا بعبادته وحده، وعرفوا مقتضى أسمائه وصفاته وآثارهما في ملكوته وخلقه، وتعبدوا بدعائه بها سؤالًا له وثناءً عليه، وسلموا بوجوب طاعته وحده بما شرع، ووجوب طاعة نبيه ﷺ واتباعه، فإن ذلك من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن النبي الداعي إلى ذلك رسول الله، ولزوم وطاعة من يدعو إلى طاعة الله ورسوله، وفرُّوا من الشرك والكفر والإلحاد، ومن البدع وغيرها من أسباب عقابه إلى أسباب ثوابه، مُتحلِّين بمحبة الله تعالى راغبين راهبين، فبذلك يسهل انقيادهم، وتصلح أحوالهم، ويطيب مآلهم، ويسعدوا في دنياهم وأخراهم، وبذلك يدرك عامة المدعوين فضل الله عليهم بالهداية وإحسان الدعاة إليهم بالدعوة، وأنهم لا يسألون الناس أجرًا على دعوتهم وهداهم، إنما يبتغون الثواب من ربهم ومولاهم.
ولذا أخبر الله تعالى عن رسله عليهم السلام أنهم لكمال إخلاصهم لربهم، وَعِظم طمعهم في الفوز بفضل ربهم ورحمته، والنجاة من غضبه وعقوبته لا يسألون أممهم أجرًا على دعوتهم؛ وإنما يبتغون الأجر من ربهم فإنهم عليهم الصلاة والسلام دعوا إلى الله مخلصين لله، وطلبوا من أممهم إخلاص الدين لله وترك عبادة من سواه، فأولهم نوح عليه السلام خاطب قومه بقوله: ﮋﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑﮊ [الشعراء:١٠٩ ], وآخرهم محمد ﷺ أوحى الله إليه قوله: ﮋﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﮊ [ص:٨٦ ], وقوله: ﮋﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐﮊ [سبأ: ٤٧ ], فكانت دعوتهم عليهم الصلاة والسلام لأمَمِهِم جميعًا خالصة لوجه الله لا ينتظرون عليها أجرًا من أحد من الخلق.
بينما من يدعو الناس إلى إصلاح الأوضاع السياسية والنظم، الاقتصادية، والأحوال الاجتماعية لا بد أن يكون له حظ مما يدعو الناس إليه واقعًا أو مظنونًا، وهذا من شأنه أن يحِّول الدعوة من وظيفة شرعية تعبدية إلى وسيلة مادية دنيوية.
فينبغي للدعاة إلى الله تعالى الذين هم من ورثة النبيين، وأتباع المرسلين في العلم النافع والعمل الصالح، ودعوة الخلق إلى توحيد رب العالمين أن يكون الإخلاص في دعوتهم إلى الله تعالى أمرًا واضحًا معلومًا من هديهم وسيرتهم في دعوتهم، فلا يقصدون بدعوتهم رياءً ولا سمعةً، ولا مدحًا من الناس، ولا منزلة في قلوبهم، ولا تحصيل شيء من دنياهم؛ وإنما يقصدون بدعوتهم إظهار دين الله تعالى وإعلاء كلمته، ونفع الناس وهدايتهم إلى ربهم، وإقامة حجة الله تعالى على الخلق، يتقربون بذلك كله إلى الله تعالى، وينتظرون المثوبة منه سبحانه.
فإن أجر الداعية إلى الله تعالى على ربه كما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله تعالى عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله»( )، وفيه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا»( )، وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال لعلي رضي الله عنه يوم خيبر: «أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمرْ النعم»( ).
وقد قال الله تعالى بعد ثنائه على من دعا إليه: ﮋ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮊ [فصلت:٣٤ - ٣٥ ], فليبشر الدعاة إلى الله تعالى المخلصين له، والمتبعين لنبيه ﷺ في دعوتهم بجميل العاقبة وجزيل المثوبة في الدنيا والآخرة.
والمقصود: أن الإخلاص لله تعالى في الدعوة أمر تتوقف عليه صحتها، ويترتب عليه ثوابها كما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»( )،وفيهما أيضا أن النبي ﷺ قال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إنك لن تخلف فتعمل عملًا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة»( ).
وفيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»( ).
فعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يخلصوا لله تعالى في دعوتهم ابتغاء وجه الله تعالى، والتماسًا لمرضاته، وليحذروا من الرياء، أو قصد حمد الناس، أو اتقاء مذمَّتهم، أو طلب المنزلة بينهم، أو الوجاهة والرئاسة فيهم، أو إصابة عَرَض من دنياهم، وغير ذلك من حظوظ النفس التي هي من أنواع الشرك بالله تعالى، ونواقص أو مبطلات الأعمال الصالحة، فإن من السيئات ما يبطلن أو يأكلن الحسنات لما فيها من قصد غير وجه الله.
ولذا قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في قوله سبحانه: ﮋﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮊ [يوسف:١٠٨], فيها التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرًا ولو دعا إلى الحق فإنه يدعو إلى نفسه.
قلت: لعله يريد حظ نفسه من أمور الدنيا، ومن حطام الدنيا، والتصدر في المجالس، والظهور والمدح من الناس، وهذا ينافي الإخلاص ويحبط العمل.
من الفتن التي تعرض للداعية في دعوته:
أ‌- شدة الأذى الذي يواجهه الداعية من بعض الناس مما قد يجره بسبب نقص إخلاصه وصبره، وضعف إيمانه إلى مداهنة الناس ومصانعتهم، مجاملة لهم أو طمعًا في دنياهم، وهم ينتظرون ذلك منه، قال تعالى: ﮋﯗ ﯘ ﯙ ﯚﮊ [القلم:٩], وقد يحمله ذلك أيضًا على ترك دعوتهم مطلقًا فيكون من الداخلين في قوله تعالى: ﮋﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮊ [العنكبوت:١٠ ].
ب‌- وإذا طال صبر الداعية، واشتهر أمره في ثباته على دعوته وصبره على أذى خصومه، فقد يُبتلى بإعجاب الناس به والتفافهم حوله، وهذا أيضا ً من الفتن العظيمة؛ لأنه يفسد على الداعية إخلاصه افتتانًا بالجمهور، وطلبًا لمحمدتهم والرئاسة فيهم، أو تكثُّرًا بهم، إلى غير ذلك من أنواع الافتتان بكثرة الأتباع والشهرة في الأمر، عياذًا بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، ومن الشرك كله دقيقه وجليله، ظاهره وخفيه، وكبيره وصغيره، آمين.
*****

رابعًا:

وهو أساس الإيمان، وهو يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين): وحقيقته حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه، ويكون في القصد والقول والعمل:
أ‌- فمعناه في القصد: كمال العزم، وقوة الإرادة على السير إلى الله تعالى، وتجاوز العوائق، ويكون ذلك بالمبادرة إلى أداء ما افترضه الله عليه، ومنه الدعوة إلى الله تعالى.
ب‌- وأما الصدق في القول فمعناه: نطق اللسان بالحق والصواب، فلا ينطق بالباطل أيًّا كان.
ت‌- ويكون الصدق في الأعمال: بأن تكون خالصة لله صوابًا على سنة رسوله ﷺ.
فإذا ما تحقق للمسلم الصدق في القصد والقول والعمل؛ فإن ذلك يؤدي إلى درجة الصدِّيقية التي أمر الله بها عباده المؤمنين، موجهًا الخطاب إلى رسوله ﷺ: ﮋﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮊ [الإسراء:٨٠ ].
ومعنى مدخل الصدق ومخرجه: أن يكون دخول المسلم في أي شيء، ومباشرته لأي عمل وخروجه منه، وتركه له بالله ولله، فتكون أفعاله وتُروكُه موصولة بالله، موصلة إليه، مستعينًا على أدائها به ومقصوده مرضاة الله، فغايته هي الله وحده قال تعالى: ﮋﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﮊ [الأنعام:١٦٢-١٦٣], وأثر الصدق يظهر على الوجه والقول، فقد كان الرسول ﷺ إذا رآه من لا يعرفه، وسمع منه ما تحدث عنه فقال: (والله ما هو بوجه كذاب، ولا صوت كذاب).
وقد جاءت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تأمر بالصدق وتبين فضله وعظم مثوبته وتحذر من ضده وتتوعد عليه بأشد الوعيد، كقوله تعالى: ﮋﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﮊ [التوبة:١١٩], وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا»( ).
ويكفي في بيان فضيلة الصدق وعلو مرتبة أهله أن الله تعالى جعل الصديقية ـ وهي لمن اتصف بالصدق وتصديق المرسلين فيما جاءوا به من رب العالمين ـ في مرتبة تلي مرتبة النبوة، كما قال تعالى: ﮋﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮊ [النساء:٦٩].
ووعد الصادقين بالجنة والرضوان والفوز العظيم، كما في قوله سبحانه: ﮋﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﰓ ﰔ ﰕ ﰖﮊ [المائدة:١١٩], وقال تعالى: ﮋﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﮊ [الأحزاب:٣٥ ].
فالصدق ينفع أهله في الدنيا والآخرة أعظم النفع، إذ هو من أسباب الهداية إلى البر والنجاح في الدعوة، بل في كل عمل نافع، وهو من أسباب محبة الخلق، وكثرة الرزق، وتيسير الأمر، وكثرة الأجر، ورفعة الدرجة، والنجاة من النار، والفوز بأعلى درجات الجنة، قال تعالى: ﮋ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﮊ [محمد:٢١].
فينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون صادقًا مع ربه في العمل له، وصادقًا مع الخلق في وعوده وعهوده وعقوده، وفيًّا في كل ذلك؛ فإن المؤمن يطبع على الخلال كلها ما خلى الكذب والخيانة؛ فليس الكذب من خلال المؤمنين، وما أضره على الإيمان برب العالمين، وما أفسده لذات البين بين المتعاملين، ولذا عدَّه النبي ﷺ من خلال النفاق، وعلامات المنافقين في قوله ﷺ: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب...الحديث»( ).
فليحذر الداعي إلى الله تعالى الكذب كله؛ فإنه قبيح بالداعي وشؤم على الدعوة ومصدة للمدعوين عن الخير، اللهم اجعلنا من الصادقين الصديقين، وأعذنا من الكذب وحال ومآل الكاذبين.
*****

خامسًا:

قال تعالى: ﮋﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﮊ [النحل:١٢٥], فهذا الأمر العظيم والتوجيه الرباني الكريم ـ وإن كان موجهًا إلى النبي ﷺ ـ فهو أمر لأمته جميعًا، وإنما خُوطب به النبي ﷺ؛ لأنه الأصل والأساس والإمام والقدوة، والقاعدة الشرعية المعروفة عند أهل العلم أن الأمة تبعٌ له ﷺ فيما يُوجه إليه من الأمر والنهي، إلا ما دل الدليل على اختصاصه به عليه الصلاة والسلام، ومن مهام النبي ﷺ التي أرسل بها تعليم الأمة الحكمة، ومن معانيها في الوحي المنزل عليه ﷺ: السنة، والعلم، والحق، وكلها معانٍ متقاربة، وكلها تدور حول العلم بالحق والعمل به، وتعليمه لمن لا يعلمه، بما يحببه إليه ويحمله على قبوله والعمل به.
وسبق أن الدعوة فرض على جميع الأمة حسب الاستطاعة، فالواجب على دعاة الهدي ومحبي النبي ﷺ أن يتأسوا به ﷺ في تحقيق ما أمره الله تعالى به وأرشده إليه من الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، وتوجيه عباده إليه، وإرشادهم إلى أسباب نجاتهم، وتحذيرهم من أسباب الهلكة والخسران في الدنيا والآخرة.
وأصل الحكمة: وضع الشيء موضعه وتوفية الأمر حقه دون زيادة أو نقصان، وتطلق الحكمة على القول الصائب والمثل السائر لما فيها من الإيضاح والبيان، ويسمى العلم حكمة؛ لأنه يردع عن الباطل ويعين على الحق.
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالحكمة في قوله تعالى: ﮋﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮊ: الآيات والأحاديث، فالمعنى على ذلك: ادع إلى سبيل ربك بآيات الله تعالى وسنة نبيه ﷺ لما فيهما من الفقه وإيضاح الحق وبيانه والردع عن الباطل والتوجيه إلى الخير.
فالواجب على الدعاة إلى الله تعالى أن يتحروا الحكمة في دعوتهم: ﮋﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﮊ [البقرة:٢٦٩].
من معاني الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى:
الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى أكثر ما تتعلق بمعرفة حاجة وحال المدعو، ومناسبة الدعوة، والوسيلة النافعة، والأسلوب الأمثل فيها، وأقرب الطرق لتحقيق مقصودها.
وفيما يلي ذكر جملة من تفصيلاتها:
1- معرفة مجتمع الدعوة وحال المدعوين:
أن يتعرف الداعي إلى الله تعالى على طبيعة البيئة التي سيدعو فيها، وحال القوم الذين يدعوهم، والأمور التي يحتاجون إلى الدعوة والتوجيه بشأنها، كما أرشد النبي ﷺ معاذًا رضي الله عنه إلى ذلك بقوله: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى...الحديث»( )، فبيَّن ﷺ لمعاذ حال أهل اليمن، ونبهه على الأمور المهمة التي ينبغي أن يدعوهم إليها مبتدئًا بالأهم ثم الذي يليه، ليكون حديثه معهم واضحًا، وتوجيهه لهم واقعيًّا، حتى تكون دعوته علاجًا لأدوائهم، وحلًا لمشكلاتهم، وإصلاحًا لما فسد من أمرهم وحالهم وعلومهم.
2- إيضاح الحق بحججه وبراهينه:
ومن الحكمة أيضًا إيضاح الحق بالحجج القوية والبراهين الظاهرة، وبيانه بالأساليب المؤثرة واللغة الواضحة التي يفهمها المخاطب، ولذا صح في الحديث عن النبي ﷺ قال: «إن من البيان لسحرًا»( )، وفي التنزيل يقول الحق سبحانه: ﮋ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮊ [إبراهيم:٤]. ولذا كاتب النبي ﷺ ملوك زمانه يدعوهم وينذرهم بلغتهم، وكان ﷺ يعرف لهجات العرب على اختلافها، وهذا من معجزاته ﷺ، أي: إلمامه بها مع أميته وقلة خلطته؛ فإن في قوة الحجة ووضوح البيان وتحريك العواطف بالترغيب والترهيب والقصص الواقعية المؤثرة والأمثلة التي تفهم السامع بأوجز عبارة وأحسنها ما يأخذ بمجامع القلوب، ويجعلها تذعن للحق وتنقاد له.
فعلى الداعية أن ينتقي من الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة وكلام أئمة العلم والهدى والقصص الواقعية والأمثلة السائرة والكلمات والأبيات الشعرية الحكيمة ما يسعفه فيما يرمي إليه، ويوضح الحق الذي يدعو إليه، ويغري بقبوله والانصياع إليه، ويزجر عن الباطل الذي ينهى عنه، ويبعث الهمة والعزيمة على تركه.
3- لين الخطاب ومناسبة الأسلوب:
ومن الحكمة كذلك أن يتحرى الداعية غالبًا الرفق في خطابه، واللين في قوله، وأن يختار الألفاظ المناسبة للمقام والأساليب المفيدة في هداية الأنام، دون غلظة في القول إلا عند الضرورة التي تقتضيه؛ حيث تكمل المصلحة أو تترجح فيه، وأن يتجنب العبارات الفظَّة أو التي توحي تَنقُّصَ المخاطبين، أو عيبهم، أو اتهامهم بالقصور، أو كراهة الحق، أو محبة الباطل، ونحو ذلك مما ينفر السامع عن الاستماع، أو يصرفه عن الإقبال على المتكلم.
ولهذا قال الله تبارك وتعالى لموسى وهارون عليهم السلام وقد أرسلهما إلى فرعون أكفر أهل الأرض في زمانه: ﮋ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮊ [طه:٤٤], وقال سبحانه لموسى عليه السلام موجها له في خطابه لفرعون: ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﮊ [النازعات:١٨- ١٩], فمراعاة الأدب في الخطاب ولين القول مما يثمر ـ غالبًا ـ انصياع مخالف الحق إلى قبوله، ورجوعه إليه، ورضاه به، وإيثاره على غيره، وعلى الأقل قيام الحجة عليه، والمعذرة إلى الله تعلى في أداء الواجب نحوه.
4- معرفة الأبواب التي يدخل منها على الناس:
ومن الحكمة الجديرة بالعناية والرعاية أن يجتهد الداعية في تحري أسباب الوصول إلى قلوب الناس، وكيفية فتح مغاليقها وأقفالها، ويأتي الأمور من أبوابها، فيتعرف على أهم قضاياهم وما يشغل بالهم وأحب العبارات إليهم، حتى يكونوا أكثر إصغاءً لحديثه، وفهمًا لمقاصده، وأسرع استجابة له، وليجمع بين إثارة الوجدان وإقناع العقول، فإن ذلك أدعى للتأثر بوعظه، وقبول نصحه، وبقاء أثرها في القلوب دهرًا طويلًا، فتظهر ثمرات هدايتها، وتؤتي أكلها في كل حين بإذن ربها من صحيح الاعتقاد، والكلم الطيب، والعمل الصالح، والخلق الحسن، وترك ما يضاد هذه الأمور أو ينقضها، ولذا كان خطاب الرسل عليهم الصلاة والسلام لأقوامهم بهذه الكلمات الجميلة، والعبارات المؤثرة: ﮋ ﭫ ﭬ ﭭ ﮊ، ﮋ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﮊ، ﮋ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﮊ.
5- بساطة الأسلوب ومخاطبة الناس بما يعرفون:
ومن الحكمة البليغة الأثر أن يكون الداعية موضوعيًا في حديثه، وأن يبسط المفاهيم التي يريد طرحها على الناس ويؤصلها في نفوسهم، ومن وسائل ذلك أن يجتنب الغريب من الألفاظ والمعاني والمصطلحات التي لا تستوعبها عقول الناس.
ولذا قال بعض السلف: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله، وقال آخر: ما أنت بمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تكاد تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
6- الإيجاز في القول وتفهيم الناس:
ومن الحكمة التي لها شأن في التأثير في عقول وقلوب المدعوين التأني في إلقاء الكلام على الناس عبارة عبارة، وجملة جملة، وإعادته إذ اقتضى الأمر ذلك، ولذا صح أن النبي ﷺ كان يتكلم بكلام يعدُّه العاد، وربما أعاد الكلمة ثلاثًا لتفهم عنه، أو ليعتني بها ويتبين المخاطب خطرها، وأما الخطبة والكلام في المجامع العظيمة؛ فأسلوب الخطابة فيه أبلغ، والبلاغة مراعاة مقتضى الحال، وفي وَجَازَةِ كُتُبِ النبي ﷺ إلى ملوك زمانه وبلاغتها وإنزالهم منازلهم في الخطاب أبلغ وأقوى دليل على ذلك.
7- ترك المواجهة المنفرة:
ومن الحكمة المفيدة في دعوة أهل الشهوات والأهواء أن يجتنب الداعية مواجهة المدعو، وإنكار ما هو عليه من باطل، إذا كان ذلك يزيده نفورًا عن الحق، أو توغلًا في الباطل، كما قال تعالى: ﮋﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﮊ [الأنعام:١٠٨ ], فلما كان سبُّ آلهة المشركين يحملهم على سوء الأدب مع رب العالمين نهى الله المؤمنين عن سب آلهة المشركين دفعًا للمفسدة الكبيرة، فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
بل ينبغي للداعية ـ في مثل هذه الأحوال ـ أن يبين الحق، ويرغب فيه بذكر فضائله ومحاسنه وجليل منافعه، حتى يغري به الناس ليتركوا ما ألفوا من الباطل اختيارًا، فإن ترك المألوف صعب على النفوس، وليس من السهل على كل أحد أن يدع مألوفه إلا بمقاومة عظيمة، وجهد كبير، فليس المهم أن تلزم المبتدع أو المبطل بأنه صاحب بدعة أو باطل، وإنما المهم أن تغريه بترك ما هو عليه من هذه الأمور، والأخذ بالحق أو السنة، وانظر إلى حكمة الله في تشريع بعض العبادات وتحريم بعض المحرمات: كيف أخذ الناس بالتدرج حتى انقادوا إلى ترك مألوفاتهم، وفعل ما يشق عليهم، طاعة لله تعالى، ورغبة في ثوابه، وخوفًا من عقابه؟! وقد أُثِرَ عن الإمام مالك وابن المبارك والإمام أحمد رحمهم الله تعالى قولهم: «بيِّن السنة للناس ولا تخاصم».
8- إنزال الناس منازلهم:
ومن الحكمة أن يراعي الداعية مقامات الناس ومنازلهم، وفي الحديث عنه ﷺ قال: «أنزلوا الناس ـ وفي رواية: أمرنا رسول الله ﷺ أن ننزل الناس ـ منازلهم»( ), فإن لكل مقام مقالًا، والبلاغة مراعاة مقتضى الحال، فالأم والأب والسلطان والوزير والعالم وغيرهم ممن هو عظيم في نفسه أو مُعَظَّم عند ذويه وقومه، وكان النبي ﷺ يُكنى أكابر المشركين، يقول:«يا أبا فلان أو كذا» لما في التكنية من توقيرهم، والأخذ بمجامع قلوبهم، وفي كتبه ﷺ إلى ملوك زمانه: من محمد عبدالله ورسوله إلى فلان عظيم كذا...»، فينبغي مراعاة مقاماتهم، وإتيانهم من الباب الذي يُظنُّ قبولهم للحق من جهته، فكلٌّ له أسلوب في الخطاب يناسبه، وباب يدخل إليه منه، فليستعمل مع كل شخص ما يناسبه ويكون أقرب إلى قبوله وانقياده.
9- مخاطبة المدعو بما تقتضيه حاله من البيان:
ومن الحكمة النافذة إلى القلوب: مراعاة حال المدعو من حيث حاجته إلى البيان، فيعطى ما يتحقق به المقصود دون زيادة أو نقص، وحتى لا تنعكس الأمور:
أ‌- فمن الناس من يكون أصلًا طالبًا للحق مريدًا له مستعدًا لقبوله إذا ظهر له، لكن خفي عليه الحق بسبب خفاء الدليل، أو تعارض الأدلة، وعدم أهليته للترجيح، أو لغير ذلك من الأسباب، فمثل هذا يكفيه أن يوضح له الدليل ووجه الدلالة منه، وأن يبين له الأهم فالمهم، وما يكون قبوله له أتم، ولا يحتاج الأمر معه إلى بسط وتطويل.
ب‌- ومن الناس من قد يعرف الحق لكن يكون عنده شيء من التوقف والجفاء لهوىً في نفسه، أو شهوة جامحة غالبة عليه، أو لغير ذلك من الأسباب، فمثل هذا يحتاج إلى الموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، إما ببيان ما تشتمل عليه الأوامر الشرعية من الحكم والمحاسن والمصالح وتعدادها، وما في ارتكاب المناهي من المضار و الشرور وبيانها، وذكر أمثلة من كلام الله تعالى المبين لثواب الله تعالى للمطيعين، وعقابه للعاصين المعاندين، ونحو ذلك مما اشتملت عليه نصوص الوعد والوعيد، وقصص الله تعالى عن السابقين وسنته في المستجيبين والمعرضين، فيُذكر له من نصوص الوعد أو الوعيد الواردة في الكتاب والسنة والحوادث الواقعة ما يناسب المقام؛ حتى يخشع قلبه لله، وينقاد للحق، مبادرًا إلى امتثال المأمور راغبًا أو راهبًا، أو ترك المحظور؛ فإن القلوب تلين مع الموعظة الحسنة، وتطمع فيما عند الله من خير ورحمة للتائبين، وتزجر من عواقب الإصرار وآثار الاستكبار التي يتعرض لها المصرون المسوِّفون.
ت‌- وقد يكون عند المدعو بعض الشبهات، أو شيء من التأويلات، أو اللبس والمفاهيم الخاطئة أو سوء الظن ونحوها من الأمور التي صرفته عن الحق، أو أغرته بالإصرار على الباطل، فمثل هذا يحتاج إلى جدال ومناظرة بالأدلة الشرعية والبراهين الواضحة، لإيضاح الحق، وكشف الشبهات، وتفنيد التأويلات، وبالطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلًا وشرعًا، ويُحتج عليه بالأدلة التي يُسلِّم بها ويعتقد صحتها، حتى يكون على بينة من أمره.
ولكن ينبغي أن تكون المجادلة والمناظرة ممن يُحسِن وله مِرَاسٌ في هذا الشأن، وأن تكون بكلام طيب وأسلوب حسن، ورفق لا بعنف وشدة، قال تعالى: ﮋ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﮊ [آل عمران:١٥٩ ], وقال تعالى: ﮋ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﮊ [العنكبوت:٤٦ ].
فإن العنف والشدة قد يفوِّتان الفرصة، ويضعفان الفائدة، ويقسِّيان القلب، أو يحملان على العناد والإصرار، وكذلك ضعف المناظر والمجادل وقصور أهليته مما قد يحمل المدعو على الإعجاب بنفسه واعتقاد انتصاره فيما هو عليه، والتكبر والإعراض عن الحق، واحتقار الخلق، وبغي أحد المتجادلين على الآخر.
ث‌- وإذا كان أهل الكتاب لا يُجَادَلُون إلا بالتي هي ـ أحسن إلا الذين ظلموا منهم ـ، فأهل الإسلام أولى بأن يُجادلوا بالحسنى، فيُراعى في جدالهم الأدب والرفق، وإيضاح الحق والرحمة بهم، والحرص على هدايتهم، والحذر من كل ما من شأنه صدهم عن الحق وبعدهم عنه.
ج‌- أما الظالمون من الفريقين فيُعاملون بما يستحقون، ويُنهج معهم النهج الذي يناسب الحال، ويقدر عليه، ويتحقق به المقصود الشرعي:
1- فقد يقتضي المقام اللوم والزجر والتوبيخ.
2- وقد يقتضي التعزير بالتأديب بالهجر، أو النفي عن البلد، أو السجن، وأنواع العقوبات الأخرى، التي هي من اختصاص أولي الأمر، فيرفع إليهم بمن هذه حاله، ويُنصحون بشأنه بما ينبغي نحوه.
3- وقد يحتاجون إلى جهاد وقتال ـ إذا قُدِر عليهم ـ، لإلزامهم بالحق وصرفهم عن الباطل.
4- وقد يحتاج إلى كف شرهم، أو إيصال الحق إلى من تحت أيديهم وولايتهم بغير الجهاد؛ بل بإعطائهم ما يؤلف قلوبهم للحق، أو يكف شرهم ويوصل الحق إلى من تحت أيديهم من الخلق.
وهذه من مسؤوليات أولي الأمر الذين يَلُون الجهاد، ونبذ العهد، وعقد السلم، ونحو ذلك من أمور الحرب، فليست لآحاد الرعية أو جماعات منهم كما هو مقرر في أصول اعتقاد ومنهاج أهل السنة والجماعة.
*****

سادسًا:

المقصود الأعظم من الدعوة إلى الله تعالى أن يدعى الناس إلى عبادة الله وحده والكفر بالطاغوت ـ وبقية المقاصد تأتي تبعًا له وتتحقق بتحقيقه ـ، وهذا الأمر هو الذي بعث الله تعالى به جميع رسله من أولهم إلى آخرهم، قال سبحانه وتعالى: ﮋﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮊ [النحل:٣٦ ].
وحقيقة هذا المقصود: اعتقاد أن الله تعالى وحده هو الإله الحق المستحق للعبادة وحده بالحق، وأن لا يشرك به في عبادته وخصائصه أحد من الخلق كائنًا ما كان، فيجب أن يعبد تبارك وتعالى وحده من المكلفين، فلا يسوى به غيره، ولا يلتفت بشيء من حقه لأحد من خلقة كائنًا من كان، فكما أنه لا خالق غيره فلا رب سواه ولا إله حق إلا هو، فلا معبود بحق سواه، فوجب إخلاص العبادة لله، والبراءة من كل معبود سواه ومن كل عبادة لغير الله، وسبيل ذلك اتباع النبي ﷺ في الاعتقادات والأقوال والأفعال وسائر الأحوال، فإنه هو الذي أنزل الله عليه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم، وخاطبه بقوله: ﮋﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮊ [المائدة:٦٧], وخاطب الله سبحانه وتعالى المؤمنين بقوله: ﮋﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﮊ [الأحزاب:٢١], وتهدد المخالفين له بقوله: ﮋﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮊ [النور:٦٣ ], وجعل الله سبحانه اتباعه ﷺ ظاهرًا وباطنًا سببًا لمحبة الله ومغفرته، فقال تعالى: ﮋﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼﮊ [آل عمران:٣١ ].
وقد بين ﷺ ما نُزِّل إليه من ربه بقوله وفعله وتقريره وإنكاره على من خالفه وإيضاح وجه الصواب فيه بيانًا كافيًا شافيًا قامت به الحجة واتضحت به المحجة، وزالت به المعذرة، ووجب به العمل على جميع من بلغه، فإنه ﷺ لم يلحق بالرفيق الأعلى حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده وترك الأمة على بيضاء نقية، وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وعند الصحابة منه خبر، وفي يوم عرفة من حجة الوداع أنزل الله عليه قوله سبحانه: ﮋﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮊ [المائدة:٣ ], وقرر ﷺ الصحابة في تلك الحجة بقوله: «إنه يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب»، ثم قال: «وأنتم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟»، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فأشار بإصبعه السبابة إلى السماء ثم نكتها إلى الأرض قائلًا: «اللهم فاشهد»( ).
فقد تلقى الصحابة رضوان الله عليهم الدين عنه ﷺ علمًا وعملًا، لذلك فهم رضوان الله عليهم أعلم الأمة بما أنزل الله تبارك وتعالى على رسوله ﷺ، وهم أئمتها في العمل به، وأسعدها بإصابة الحق والنصح للخلق، فإنهم خير أمة أخرجت للناس، والشهداء على الناس.
وهم رضي الله عنهم كما قال فيهم ابن مسعود رضي الله عنه: أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا، وأصدقها ألسنًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ، فاتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وقد اتفقوا ولله الحمد على أصول العقيدة وجملة أحكام الشريعة، وما اختلفوا فيه من الأحكام فهم مجتهدون فيه، ولا بد أن يكون الصواب مع أحدهم، فلا يمكن أن يتفقوا على ما يخالف الصواب، فإن هذه الأمة معصومة من أن تجتمع على ضلالة، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فهو معذور وخطؤه مغفور، فله أجر اجتهاده ونصحه لله ولكتابه ولرسوله ولعباده، وعلى المجتهد أن يتحرى الصواب من أقوالهم وفتاويهم.
أ‌- فإنهم رضوان الله عليهم قد خلفوا النبي ﷺ في أمته في نشر العلم، والدعوة إلى الهدى، وإحياء السنن، وإنكار البدع، والشدة على أهل الأهواء، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، فكانوا بحق خلفاء الرسول الأمين ﷺ، وأئمة الأمة من بعده إلى يوم الدين، وقد بلغوا التابعين العلم كما حفظوه، وعلموهم العمل كما تعلموه، وشاهدوهم وهم يعملون بما بلغوه وعلموه، فما كان من عملهم وهديهم صحيحًا أقروه، وما كان خلاف ذلك أنكروه وصححوه، فبلغوا العلم والعمل والهدي بأمانة وإخلاص ونصيحة، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين.
ب‌- ولقد سار التابعون للصحابة بإحسان رحمهم الله تعالى على منهاج الصحابة في فهم الكتاب والسنة، والعمل بهما، وتعليمهما الأمة، والنصح للرعاة والرعية، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والإنكار على من خالف الحق وسعى في ظلم أو إضلال الخلق.
ت‌- وعلى هذا النحو أيضًا مضى من جاء بعدهم من تابعي التابعين وأئمة الهدى والدين، أولئك الذي لزموا سنة النبي ﷺ واجتمعوا عليها حتى عُرِفُوا هم وأتباعهم بها فسموا فيما بعد: «أهل السنة والجماعة»، وكان منهاجهم سبيل النجاة من فتن الدنيا وعذاب الآخرة.
فمن أحب أن يُلحقه الله بالسلف الصالحين، وأن يجعل له لسان صدق في الآخرين فليسلك سبيلهم، وليتحرَّ آثارهم، ويمضِ على هديهم ومنهاجهم، حتى يكون من الطائفة الناجية الظاهرة المنصورة التي لا يضرها من خذلها ولا من خالفها ـ اللهم اجعلنا من أئمتهم آمين ـ، فهي الطائفة التي يحفظ الله بها الدين والهدى، ويقيم بها الحجة على أهل الضلال والردى.
ومن لم يسعه سبيلهم فلا وسع الله عليه، ومن تنقصهم وصد عن منهاجهم فإنما يعود وبال أمره عليه، قال تعالى: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪﮊ [التوبة:١٠٠], وقال سبحانه: ﮋ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂﮊ [النساء:١١٥].
والمقصود: أن الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من الأمة والتي هي قواعد وجوامع مذهب أهل السنة والجماعة هي أصول ومعالم الحق وبراهين الصدق، من اهتدى بها هُدي وعصم من الضلالة والردى، وهي المعايير التي توزن بها الاعتقادات والأقوال والأعمال وأحوال الرجال ومناهج الطوائف والجماعات وسياسات الدول والمؤسسات، فما وافقها فهو الحق الصراح الذي يُرجى أن يتحقق به لمن كان عليه الصلاح والإصلاح والفوز والفلاح، وما خالفها فهو الباطل الذي ينبغي أن يُقابل بالرد والاطّراح.
فعلى الدعاة إلى الله ـ وكل مريد لنفسه النجاة والفلاح ـ أن يتمسك بهما ويدعو إليهما، أعني: الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح من الأمة، وأن يزن بها كل ما يُعرض عليه مما ينسب إلى الدين، ويزعم أنه قربة إلى رب العالمين فما وافقها قبله، وما خالفها طرحه ورده على من جاء به، وأن يحذَر ويُحذِّر ممن خالفها وما خالفها.
أصول ومعالم منهاج السلف الصالح:
ولمنهاج أهل السنة والجماعة أصول ومعالم تميز سالكيه، وتغري كل مسلم بأن يكون من أنصاره ومتبعيه، وتعطف قلوب وألسن مريدي الحق على محبة صاحبه والثناء عليه، وهي في نفس الوقت تحفظ الدين وتنشره وتوضحه، وتسم المستمسك بها بسمة السلف الصالح، وتكمل خصاله وسجاياه، وتبين مخالفه والصاد عنه وتفضحه، فينبغي للداعية إلى الله تعالى وكل مسلم أن يستمسك بتلك الأصول، وأن يهتدي بتلك المعالم حتى يكون من أنصار الحق ودعاة الهدى، وحتى يكون في عصمة ونجاة وأمنٍ من الفتن وأسباب الهلاك والردى.
وفما يلي ذكر لتلك الأصول، وإشارة إلى بعض تلك المعالم:
أ‌- الاعتصام بالقرآن العظيم، قال تعالى: ﮋ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮊ [آل عمران:١٠٣]، وقال تعالى: ﮋﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﮊ [الزخرف:٤٣].
فإن هذا القرآن هو حبل الله المتين، ونوره المبين, وصراطه المستقيم, وصفه الله بأنه نور وهدى، وموعظة وذكرى، وتبصرة وضياءًا، وتبيانًا لكل شيء, وهاديًا للتي هي أقوم، ومصدقًا لما قبله من الكتاب ومهيمنًا عليه وهو مشتمل على بيان أصول العقائد الصحيحة, وكليات الأحكام الحسنة الميسرة الحكيمة، وأمهات الأخلاق الكريمة، والنهي عن ضد هذه الأمور من اعتصم به عصم من الفتن، ومن تمسك به نجا من الشرور والعذاب والضلال، ومن أعرض عنه وكله الله إلى نفسه وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا، قد تعهد الله بحفظه وبيانه ولمن تمسك به واتبع هذه أن يبلغه جنته ورضوانه، وقال ﷺ: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله...الخ»( ).
ب‌- اتباع هدي النبي ﷺ ـ أي: طريقته، وسنته القولية والفعلية والتقريرية ـ في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات ظاهرًا وباطنًا، والتمسك به والدعوة إليه قولًا وعملًا وحالًا، والحذر والتحذير مما خالفه، ومن كل من دعا إلى ضده أو الإعراض عنه، فإن هديه ﷺ خير الهدي وأكمله وأتمه وأحسنه، وبه تُنال المصالح وتُتقى القبائح، فلا يُعارض ما ثبت عنه ﷺ من ذلك برأي أو عمل أحد من الخلق كائنًا من كان، قال ﷺ: «عليكم بسنتي»( )، وقال ﷺ: «من رغب عن سنتي فليس مني»( ).
وقد أخبر ﷺ بأن هديه خير الهدي، وحث على لزوم سنته، وبين أنها مع القرآن عصمة لمن تمسك بهما من الضلال، وقال ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به»( )، وقال ﷺ: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»( )، وفي لفظ قال: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد»( ).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: «أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد».
قلت: وذلك لما ورد من نصوص الكتاب والسنة في الأمر بالأخذ بسنته ﷺ، والنهي عن مخالفته، والوعيد الشديد على مشاقَّته، فإن سنته ﷺ بيان لما نزل إليه من ربه، فقد أوتي ﷺ القرآن ومثله معه.
ت‌- السير على منهاج السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من آل بيت النبي ﷺ الطيبين الطاهرين وخلفائه الراشدين وبقية صحابته ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ والتابعين لهم بإحسان، لما ذكر الله تعالى ورسوله من سابقتهم وفضلهم، وأوجب من محبتهم ومتابعتهم ولما خصهم الله به من الفقه عن الله ورسوله لتلقيهم رضوان الله عليهم عن النبي ﷺ بلا واسطة، فقد حضروا الرسول وشاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل، ورأوا النبي ﷺ وهو يعمل بدين الله وعملوا به مقتدين بهداه، فما وافق الحق أُقِرُّوا عليه، وما خالفه أنكر عليهم، وبين لهم وجه الصواب فيه، فاجتمع لهم صحة فهم الدين وصحة العمل به والدعوة إليه، والنبي ﷺ فيهم والله تعالى يراهم من فوقهم ويقرهم، فقد رضي الله عنهم وأرضاهم، وأثنى عليهم وعدّلهم وزكاهم، وأثنى على من اتبعهم بإحسان ووعده على ذلك بالفوز بالجنان وعظيم الرضوان، وما ذلك إلا لأنهم أجدر الأمة بفهم واتباع الكتاب والسنة وأسعدها بإصابة الصواب في كل مهمة.
قال عليه الصلاة والسلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ»( )؛ ولما ذكر ﷺ الفرقة الناجية من النار من بين فرق الأمة قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»( )، فبين ﷺ أن أصحابه على هديه، وأنهم أئمة الأمة من بعده؛ ولذا قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ.
ث‌- تعظيم الكتاب والسنة، ورفع مقامهما في نفوس الناس، فإنهما مصدرا العلم وفيهما الهدى، وقد ضمن الله تعالى لمن ابتغى الهدى منهما أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، فالواجب تعلمهما والتفقه فيهما، وأخذ العقائد والأحكام والآداب والأخلاق منهما، فإنهما تِبْيانٌ لكل شيء، وهداية للتي هي أقوم في أمر المعاش والمعاد، وما اختلف الناس فيه من أمر الدين فالواجب الرد فيه إليهما، عملًا بقوله تعالى: ﮋﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒﮊ [النساء:٥٩], فقد أجمع المسلمون على أن الرد إلى الله تعالى هو رد ما أشكل حكمه إلى كتابه، والرد إلى الرسول ﷺ هو الرجوع إليه ﷺ في حياته وإلى سنته بعد وفاته.
ج‌- العناية بتعلم وتعليم منهاج السلف الصالح والدعوة إليه، وإظهار مذهبهم في الإيمان والتوحيد والأسماء والصفات والقدر وأحوال البرزخ واليوم الآخر وأهواله، ومواقف الناس فيه والشفاعة والجنة والنار، وفي الصحابة رضي الله عنهم، ومع ولاة الأمر، وفي النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرد على من خالفهم، وبيان وجه مخالفته لهم، والذود عن عقيدة أهل السنة والجماعة، والتحذير ممن ينتقصهم أو بعضهم، أو يشكك في شيء من أصول عقيدتهم، وذلك بالأقوال والأفعال والدروس والمواعظ والمحاضرات والخطب والكتابات والمؤلفات إلى غير ذلك مما يتحقق به نشر مذهب السلف الصالح ونصرته والدعوة إليه.
ح‌- التمسك بشعائر الدين الظاهرة كما أمر الله تعالى وسن رسوله ﷺ، والمحافظة على فرائض الصلوات وما يلحق بها من السنن وأنواع التطوعات وشهود الجمع والجماعات، والإعانة على الخير وتكثير سواد أهله، والنصح لأئمة وعامة المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ما توجبه الشريعة، واجتناب المعاصي، والبعد عن المحرمات، واتقاء الشبهات ومواطن الريبة، والسلامة من التلبس بشيء من البدع والشركيات أو الطرق الضالة والأهواء المنحرفة، أو تمجيد أحد من أهل هذه الأمور أو السكوت ـ مع القدرة ـ عمن صدر عنه خطأ في العقيدة أو رأي شاذ في الأحكام خصوصًا إذا كان ممن اشتهر بالخير وأحسن الناس به الظن حتى لا يظن عوام الناس ومن في حكمهم ممن ينتسب إلى العلم صواب ذلك، أو أن التسامح في ذلك سائغ، فإن من شأن الدعاة إلى الله تعالى الوضوح في المعتقد والهدي، والصراحة في القول، مع الأدب وعفة اللسان، والبراءة من البدع والأهواء وأهلها.
خ‌- أمر كل أحد بكل معروف ـ وهو اسم لكل ما عرف من طاعة الله من الإيمان والعمل الصالح ـ، ونهي كل أحد عن كل منكر ـ وهو اسم لكل ما حرمه الله ونهى عنه من الشرك والمعاصي ـ، باليد ثم باللسان ثم بالقلب، عن علم ورفق وصبر حسب القدرة، مع ملاحظة تحصيل المصلحة الكاملة أو الراجحة ودرء المفسدة الكاملة أو الراجحة، وسلوك أقرب الطرق التي يحصل بها المقصود قصدًا لنفع الخلق، وإيصالهم إلى كل خير، وإبعادهم عن كل شر.
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا النحو من صفة النبي ﷺ في الكتب السابقة، قال تعالى: ﮋﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮊ [الأعراف:١٥٧], وصفة المؤمنين المقتدين به ﷺ أنهم كما وصفهم الله تعالى بقوله: ﮋﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮊ [التوبة:٧١]، وقال ﷺ: «من رأى منكم منكرًا فليغيرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»( )، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه»( ).
فأتباع المصطفى ﷺ في هديه المحققون لحسن التأسي به ﷺ عملًا بقول الحق تبارك وتعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﮊ [الممتحنة:٦ ], فإنهم يعنون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ما توجبه الشريعة طاعة لله تعالى، وإحياءً لسنة رسوله ﷺ، ونصحًا للإسلام وأهله.
د‌- السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، أبرارًا كانوا أو فجارًا ويكون ذلك فيما لا معصية لله تعالى ورسوله ﷺ فيه، وحث الناس على ذلك لقوله تعالى: ﮋﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿﮊ [النساء:٥٩ ], ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني»( ).
وفي صحيح مسلم أنه ﷺ أوصى العامة ـ في حق الولاة ـ بقوله: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم»( )، وفي حديث آخر قال ﷺ: «إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها»، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»( )، متفق عليه.
وفيهما أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»( )، وفي رواية عند مسلم قال ﷺ: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك»( )، وفي رواية أخرى قال ﷺ: «وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع»( ).
فحق الولاة المسلمين على الرعية السمع والطاعة في طاعة الله وفيما لا معصية لله تعالى فيه من الأمور المباحة من التنظيمات التي لا تخالف الشرع ونحوها، فإن طاعتهم في هذه الأمور من طاعة الله ورسوله، حتى ولو أظهروا شيئًا من الفسوق والمعاصي فذلك عليهم والله تعالى سائلهم عن ذلك وعن ما قد يكون منهم من أثره في الرعية فإن الرعية في الغالب تبعًا للولاة في أمور الدين والدنيا، فإن في الطاعة لهم في المعروف، وإن جاروا وظلموا – من المنافع ما لا يحصى من سعادة الدين وانتظام مصالح العباد في معاشهم ومعادهم وحفظ بيضتهم وتأمين سبلهم وتحقق هيبتهم في صدور عدوهم؛ لاجتماع كلمتهم ووحدة صفهم، قال الحسن رحمه الله وهو ممن ناله أذى شديد من الأمراء والله ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وإن ظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون.
وقيل للإمام أحمد رحمه الله وهو لم يبرد ظهره من جلد السلطان: ألا تدعو على السلطان؟ فقال: لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها في السلطان، أو كلامًا نحو هذا.
ومن القواعد المقررة عند علماء المسلمين: أنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة.
لذا كان منهج أهل السنة والجماعة طاعة الولاة والحكام بالمعروف وترك طاعتهم في المعصية والبراءة إلى الله تعالى مما يأتون من المعاصي والفجور والجور والاستئثار بالمال ونحوه والنصح لهم ـ فإن من النصيحة النصح لأئمة المسلمين وعامتهم ـ والصبر على جورهم وإعانتهم على الخير وجمع قلوب الرعية عليهم وتحذيرها من الفرقة والاختلاف؛ لأن غرض أهل السنة والجماعة من ذلك كله طاعة الله ورسوله تحصيل ما اشتملت عليه الشريعة من المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ لذلك لا يمتنعون من إعانة الظالم على الخير وترغيبه فيه قولًا وفعلًا، فيشاركون الولاة الظلمة في الخير ويفارقونهم في الشر، ويحرصون على الاتفاق وينهون عن الافتراق.
أما التشهير بولاة الأمر أمام العامة والقدح فيهم بما من شأنه إضعاف هيبة السلطان مطلقًا، أو بسبب ما يأتون من المعاصي، أو ما يحصل منهم من جور، فليس ذلك من شأن أهل السنة والجماعة، وإنما هو من شأن أهل الأهواء، وخصوصًا الخوارج والمعتزلة والرافضة الذين يرون الخروج على السلطان بسبب ما يأتي من الكبائر، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ قال: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية( )». وفي صحيح مسلم عنه ﷺ قال: «من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية»( ).
فعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يحضوا عامة المسلمين على السمع والطاعة لولاة الأمور في المعروف، وأن يكونوا أسوة حسنة في ذلك، وأن يحذروا من التهوين من حق الولاية أو تجرأة العامة على الأئمة، فإن ذلك شر وفتنة.
ومما يجدر التنبيه عليه والتذكير به: أن الدولة والدعوة هما دعامتا إصلاح الأمة، فإذا اجتمعتا تحقق بذلك صلاح عظيم وفلاح كبير، واندفعت شرور كثيرة وفتن عظيمة، وإذا ضعفت الصلة بين الدعاة والحكام أو حصل الاختلاف تشعبت الأهواء وتمكن الأعداء.
فالواجب على الولاة أن يناصروا العلماء والدعاة، وينفذوا أحكام الشرع، ويعظموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجتهاد في إقامة العدل، وأن يرفقوا بالأمة جهدهم، فإن ذلك من أسباب التمكين في الأرض، واستقرار الملك، وحلول البركات، وكثرة الخيرات، وصرف العقوبات والبليات.
والواجب على العلماء والدعاة وعامة المسلمين السمع والطاعة بالمعروف للولاة، والنصح للولاة، وإخلاص الدعاء لهم في سائر الأوقات، وإعانتهم على الخيرات، وتذكيرهم وتحذيرهم من عواقب المخالفات، وحث العامة على طاعة الولاة في المعروف، والصبر على الأثرة والجور، والتذكير بأن ذنوب العامة من أسباب جور الولاة وتسلطهم وظلمهم، والتوبة ترفع ذلك عنهم.
وليتذكر الولاة أن الله تعالى قد ابتلاهم بالولاية العامة أو الخاصة، كلٌّ على قدر ولايته، وهو سائلهم غدًا عما استرعاهم، فإن الولاية أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحق وأدى الذي لله تعالى عليه فيها، وإن الله تعالى ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وأنه إذا ضعف وازع الإيمان في قلوب العامة صار الوازع السلطاني أردع للناس عن المعاصي، وأقوم لهم في الطاعة حتى يستقيموا ويصلحوا، وفي الحديث: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن اليمين الرحمن عزَّ وجلَّ وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا»( )، وقال ﷺ: «إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه»( ).
وليتذكر الدعاة إلى الله أنهم من أهل العلم الذين قال الله فيهم: ﮋﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﮊ [آل عمران:١٨٧], فعليهم البيان والحذر من الكتمان، وليجتهدوا في نصح الخلق وتحري الرفق، وليتحلوا بالصبر، وليثقوا بالنصر وعظيم الأجر مع الصبر.
*****

سابعًا:

‌أ- حقيقة الصبر وأنواعه:
الصبر خُلُق من أخلاق النفس الفاضلة، وقوة من قواها التي بها صلاحها، وقوام أمرها في العاجل والآجل.
وأصله: الحبس، وله معنيان:
أحدهما لغوي: وهو حبس النفس عن الجزع والجهل والسفه، ونحو ذلك مما لا تليق نسبته إلى العاقل.
ثانيهما: ديني شرعي: وهو حبس النفس على موافقة الشرع، وترك ما يخالفه من الأقوال والأعمال والأحوال على وجه التقرب إلى الله تعالى، رغبةً في ثواب الله تعالى، وحذرًا من عقابه، وهو أنواع:
فالأول: صبر على ما أمر الله تعالى به من الطاعات: مع ما قد يلحق العبد من مشقة بعض العبادات لتكرارها كالصلاة، أو لمشقة بذلها على النفس كالزكاة، أو لكلفة مباشرتها كالصيام، أو إيذاء الناس للشخص بسببها كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لخطر على البدن أو النفس كالحج والجهاد في سبيل الله.
قال تعالى في الدعوة إلى التوحيد والنذارة من الشرك: ﮋ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﮊ [المدثر:١-٧ ], وقال تعالى بشأن الصلاة: ﮋﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟﮊ [طه:١٣٢], قال تعالى في قصة لقمان: ﮋ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﮊ [لقمان:17]، وأمر بالصبر في الجهاد ومصابرة الأعداء، فقال تعالى: ﮋﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﮊ [الأنفال:٤٥-٤٦], وقال تعالى: ﮋﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﮊ [آل عمران:٢٠٠].
فالصبر على امتثال المأمورات وأداء العبادات على أكمل الوجوه المستطاعة وأحسنها، والاستمرار على ذلك مدة الحياة، وعدم الإخلال بشيء منها.
وهكذا المصابرة والمرابطة للأعداء، والتقوى في جميع الأمور والأحوال من أسباب النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
الثاني: صبر عما نهى الله عنه من المحرمات وأنواع المنكرات وظلم البريات، ونهي النفس عن الهوى والوقوع في الشبهات، كلُّ ذلك من جليل وعظيم العبادات وأسباب وراثة الجنات، قال تعالى: ﮋ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﮊ [النازعات:٤٠- ٤١ ].
والصبر على الطاعات أكمل وأنفع للنفس من الصبر عن المحرمات ـ وفي كلًّ خير، وكلاهما خُلق حسن، وعمل صالح ـ، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الله وأنفع للعبد من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره عنده من مفسدة وجود المعصية وارتكابها، ولكن كل ما نهى الله عنه فإنما نهى عنه لرجحان مفسدته وتحقق مضرته، ولتحقيق كمال ضده، فيجب تركه وتوطين النفس على الصبر عنه والبعد عن أسبابه ومظانه وأهله، فإنه من تحقيق التقوى وخصال أولي النهي.
الثالث: الصبر على المصائب المؤلمة والحوادث الموجعة: من مرض أو جوع أو فقد قريب أو فوات حبيب أو خسارة مال، قال تعالى: ﮋ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﮊ [البقرة:١٥٥], وثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها»( )، وعن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: «ما يصيب المسلم من نصب، ولا وَصَب، ولا هَمّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمًّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه»( )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من يُردِ الله به خيرًا يصب منه»( )، فهذا النوع من الصبر كفارة، ومع الاحتساب فيه فهو من أسباب الفلاح وربح التجارة.
الرابع: الصبر على الأهواء المضلة: بالإعراض عن الشبهات، والحذر من دعاة الضلالات، قال تعالى: ﮋﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﮊ [المائدة:٤٩ ], وقال تعالى: ﮋﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬﮊ [الإسراء:٧٣], وقال تعالى: ﮋﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﮊ [النساء:١٤٠], وقال سبحانه: ﮋﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﮊ [الأنعام:٦٨ ].
وذلك لأن هذا الصنف المبطل يزخرف باطله بما يجعله مقبولًا عند بعض الناس، وقد يستدل بنصوص من الوحيين بما يُشبِّه به على بعض الناس، لأن الدليل حقُّ ولكن الاستدلال باطل.
وعامة الناس وجملة ممن ينتسب إلى العلم يَلفتُ نظره الدليل ولا يدرك بطلان الاستدلال، فعند استماع هؤلاء إلى أهل الباطل والضلال قد تنفذ الشبهات إلى قلوبهم، فتسبب شكهم وحيرتهم وزهدهم في الحق، وتأثرهم بالباطل، ولذا نهى الله تعالى عن مجالسة المبطلين، وأمر بالإعراض عن الجاهلين، وحذر من شبهات المضللين المضلين، ومجادلتهم المفتونين لما في مجالسة هؤلاء، والإصغاء إليهم من الضرر المطلق والهلاك المحقق.
‌ب- حاجة الدعاة إلى الصبر:
يحتاج الداعية إلى الله تعالى إلى أنواع الصبر كلها، فلا غنى به عنها، فإنها كلها تجتمع له في دعوته، ولها أثرها العظيم في نجاح مهمته، وهي من أعظم عدته، فحاجته إليها شديدة، فإنه يحتاج إلى:
1- الصبر على القيام بواجب الدعوة: امتثالًا لأمر الله تعالى، وعبادة له، ورغبة فيما وعد الله به الدعاة إلى سبيله من الثواب العظيم، والأجر الكريم في الدنيا والآخرة، وحذرًا من عقوبة الله للمفرطين في العاجلة والآجلة.
2- الصبر عن داعية النفس إلى التكاسل في الدعوة: وترك مواجهة الناس.
3- الصبر على أذية الخلق الذين يدعوهم إلى الله تعالى: وكم يتعرض الداعية إلى الله لأنواع من الأذى في سبيل دعوته، وإلى فتن الشبهات والشهوات، وأنواع المغريات؟! حتى يبتلى بعضهم بأنواع من البأساء والضراء والزلازل، والهجرة عن الأوطان، ومفارقة الأهل والأولاد والإخوان.
فلا بد من الصبر العظيم على ذلك كله، طلبًا للأجر الكريم، وحذرًا من الفتنة والعذاب الأليم ـ وإن طال الزمن ـ، وأسوته في ذلك النبي ﷺ؛ فإنه إمام الصابرين، وسيد الشاكرين المؤمنين، ولقد تعرض ﷺ لأنواع الابتلاء وأصناف الأذى فصبر صبرًا عظيمًا، ولما أوذي ﷺ مرة قال:«رحم الله موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر»( )، وكان ﷺ يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»( ).
فإن الاعتبار بما جرى للنبي ﷺ ولإخوانه من المرسلين وأتباعهم على الهدى والدين وما كانوا عليه من الصبر العظيم والصفح الجميل والكريم، وصدق الضراعة واللجوء إلى الرب الكريم ـ من أنفع الأمور وأحسنها عقبى في العاجل و الآجل ـ، فقد أوذوا في الله فصبروا لله تعالى مستعينين به، فنالوا ثواب الصابرين، ورضا رب العالمين وثنائه عليهم في كلام محكم يتلى إلى يوم الدين، فالاعتبار بما جرى لهم من الشدائد والمكاره وفي البأساء والضراء وحين البأس وصبرهم عليهم الصلاة والسلام على ذلك كله بالله ولله مما يثبِّت الله به الداعية إليه، ويكون من أسباب تخلقه بالصبر الجميل، بل والصفح الجميل، وحسن ظنه بالمولى الجليل، قال تعالى: ﮋﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﮊ [الأنعام:٣٤ ]، وقال تعالى: ﮋ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﮊ [هود:١٢٠].
فإن الصبر مع اليقين من أسباب التمكين والإمامة في الدين وهداية الله تعالى ومعيته للصابرين، قال تعالى: ﮋﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮊ [السجدة:٢٤], وقال تعالى: ﮋﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮊ [العنكبوت:٦٩], والأجر على قدر التعب والنصب،والمثوبة على قدر الحسبة وحسن الظن بالرب.
فالداعية إلى الله تعالى في غاية الضرورة إلى الصبر، وهو مرتبة عالية، وخليقة فاضلة لا تنال إلا بأسبابها التي يتجرع بها العبد مرارة الصبر إيماناَ بفائدته، وطمعًا في حسن عاقبته وجليل مثوبته، ففي الحديث عنه ﷺ قال: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا»( )، وفي الحديث الآخر قال ﷺ: «والصبر ضياء»( )، وقال تعالى: ﮋﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘﮊ [الزمر:١٠]، وقال ﷺ: «ومن يتصبر يصبره الله»( ).
فليصبر الداعية وليصابر في بيان الحق والدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ومجاهدة نفسه وغيره على الحق وفي سبيل الحق، وليتخلق بسعة الصدر، وعظم الحلم، وطول النَفَسْ، وبعد النظر، حتى تتحقق الغاية المنشودة، وفي الحديث في صفة المؤمن: «وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»( )، وفيه أيضًا قال ﷺ: «وما أعطى الله أحدًا من عطاءٍ خيرًا ولا أوسع من الصبر»( )، ومن لم يصبر استعجل في أمر له فيه أناة ففاته مقصوده، وشمت به حسوده.
ولذا قال تعالى: ﮋ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﮊ [الطور: ٤٨ ], وقال تعالى: ﮋ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮊ [القلم: ٤٨ ], يعني: يونس عليه السلام، أي: في نفاد صبره ومغاضبته لقومه، وذهابه عنهم بسبب غيرته، فمع أنه حق إلا أنه خلاف الأولى منه عليه الصلاة والسلام في حق ربه وحق قومه؛ ولذا عاتبه الله تعالى ولامه وابتلاه بسبب هذه العجلة، ولعل الحكمة ـ والله أعلم ـ أنه لم يستأذن ربه في مفارقتهم، وإلا فإن قومه مستوجبون للعقوبة؛ لولا أن الله تعالى لطف بهم وبنبيهم يونس عليه الصلاة والسلام فرحمهم وإياه فاستجاب دعاءهم، وصرف العقوبة عنهم، وقبل إيمانهم ورد إليهم نبيهم، ومتعهم إلى أجلهم؛ ولهذا نهى الله تعالى نبيه محمدًا ﷺ أن يتأسى بيونس عليهم الصلاة والسلام جميعًا في هذا الأمر لكونه خلاف الأولى.
‌ج- خطر ترك الصبر:
وقلة الصبر قد يحمل الداعية على ترك مهام الدعوة، وهجران ميدانها، وفي ذلك خطر عظيم عليه، وفتنة كبيرة له ولغيره، وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: «لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله»( )، ومن لم يصبر تأخر ولا بد، وتنازل عن دعوته، ومتى تنازل كان محل طمع الشيطان وجنده في أن يفتنوه عن دينه، ويصدوه عن هدى ربه لينضم إلى ركب الباطل، وحزب الشيطان الخاسر، ويُخشى على مثل هذا أن يكون داخلًا في قوله تعالى: ﮋﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﮊ [الأعراف:١٧٥- ١٧٦ ].
‌د- بعض ثمرات الصبر:
فالإيمان والخير والصلاح والنصر، وسعادة الدنيا والآخرة، والنجاة من الفتن والمكاره في العاجل والآجل، كل ذلك مقرون بالصبر، ولذا تواترت النصوص بشأنه وفضله وتنوعت في بيان ثمراته وحسن عواقبه:
1- فنزل القرآن بتأكيد الصبر فيما أمر به وندب إليه، وعما نهى عنه وكرهه، وجعله من عزائم التقوى، ومن خصال أولي النهى الفائزين بخير الحظوظ وأوفرها في الدنيا والأخرى، فكم في القرآن من الأمر به والثناء على أهله، والتنبيه على جميل عواقبه وجليل منافعه.
2- وأكثر الله تعالى من ذكره، فقد ورد ذكره في أكثر من ثمانين موضعًا ينبه سبحانه في جملتها المخاطبين واللاحقين على عظيم منافع الصبر، وكريم آثاره على صاحبه في الدنيا والآخرة ويحثهم عليه، فقد علق الله تعالى محبته بالصبر، وجعلها للصابرين: ﮋﯡ ﯢ ﯣﮊ [آل عمران:١٤٦], وأخبر على وجه الثناء والبشارة بمثوبته أنه سبحانه مع الصابرين له تعبدًا وبه استعانةً، يعدهم تبارك وتعالى بهدايته ونصره وفتحه، قال تعالى: ﮋﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﮊ [الأنفال:٤٦ ].
3- وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، قال تعالى: ﮋﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮊ [السجدة:٢٤], وأوصى سبحانه عباده أن يستعينوا بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين، فقال تعالى: ﮋﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﮊ [البقرة:١٥٣], وبيّن أنه إذا اقترن الصبر بالتقوى كان عصمة لصاحبه من ضرر كيد الأعداء: ﮋﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﮊ [آل عمران:١٢٠ ].
4- وأخبر سبحانه في قصة يوسف أن يوسف عليه السلام وصل إلى العز والتمكين بصبره وتقواه، قال تعالى: ﮋﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮊ [يوسف:٩٠ ], وبشر سبحانه الصابرين بثلاث خصال كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها، فقال تعالى: ﮋ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮊ [البقرة:١٥٥- ١٥٧].
5- وجعل سبحانه الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به إلا أهل الصبر فقال: ﮋ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮊ [المؤمنون:١١١], وعلق سبحانه المغفرة والأجر بالعمل الصالح والصبر، قال تعالى: ﮋ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﮊ [هود:١١], وجعل سبحانه الجزاء على الصبر في الدنيا والآخرة بغير حساب فقال: ﮋ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﮊ [الزمر:١٠].
وهذه النصوص وأمثالها كثير بشأن الصبر تدل على أن الصبر:
أ‌- من عظيم العبادات، وأجل المقامات.
ب‌- وأن أخص الناس بالله وأولاهم به أشدهم قيامًا وتحققًا به.
ت‌- وأن الخاصة أحوج إليه من العامة، والكل محتاج إليه، فلا ينال المسلم بغيته ويحقق عبوديته إلا به ـ أي: الصبر ـ.
ث‌- وأنه سبب عظيم في حصول كل كمال ممكن للمخلوق.
ج‌- وأن أكمل الخلق سعادة وأعظمهم منزلة في الدنيا والآخرة أعظمهم وأحسنهم صبرًا، ولم يتخلف شخص عن كماله الممكن إلا مِنْ ضعف صبره وقلة جلده ـ غالبًا ـ، فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن فاته أحدهما فهو ناقص؛ وإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمرا كل مقام شريف وحال كامل، ولهذا كان من دعاء النبي ﷺ: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وعزيمة الرشد»( ).
6- وجاءت في السنة النبوية أحاديث صحيحة صريحة تشيد بالصبر وترغب فيه، وتدل على وسيلة تحصيله، ومن ذلك:
‌أ- النص على أنه خير ونور: ففي صحيح مسلم عن النبي ﷺ قال: «والصبر ضياء»، وقال ﷺ: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»( )، رواه مسلم.
‌ب- أنه كفارة للخطايا مطلقًا، وأجر مع الاحتساب: ففي الصحيحين قال ﷺ: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه»( ) النصب: التعب, والوصب: المرض.
وفي الترمذي عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لا يصيب عبدًا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» قال: وقرأ: ﮋﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﮊ( ).
‌ج- النص على أنه من خير العطاء وأوسعه: كما في الصحيحين عن النبي ﷺ قال: «ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدًا عطاء خيرًا وأوسع من الصبر»( ).
وفي ذلك تنبيه على شرف الصبر وطيب عاقبته، وعظم نعمة الله تعالى على العبد به إذا منحه إياه وأعانه عليه، ووفقه للإخلاص له تعالى فيه، وفي الحديث أنه لا بد للعبد من التصبر لتحصيل الصبر، قال ﷺ: «ومن يتصبر يصبره الله»، فمن أخذ بالأول فاز بالثاني غالبًا، فالتصبر وسيلة لتحصيل الصبر، والصبر ثمرة يعطيها الله العبد على التصبر، فمنزلة التصبر من الصبر كمنزلة التعلم من العلم، والتفهم من الفهم، والصبر نصف الدين، وذلك أن الإيمان نصفان: نصفٌ صبرٌ، ونصفٌ شكرٌ، قال تعالى: ﮋ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﮊ [إبراهيم:5], ولا انفكاك للعبد عن الصبر في سائر أحواله.
* فإنه إن كان في نعمة ففرضُها الشكر والصبر:
أما الشكر: فهو قيدها وثباتها والكفيل بنموها وزيادتها.
وأما الصبر: فعن مباشرة الأسباب التي تسلبها، وعلى القيام بالأسباب التي تحفظها، فهو أحوج إلى الصبر على النعمى من حاجة المبتلى على البلوى، والشكر مستلزم للصبر ولا يتم إلا به، ومتى ذهب أحدهما ذهب الآخر.
* وإن كان في بلية ففرضُها الصبر والشكر أيضًا:
أما الصبر: فظاهر.
وأما الشكر: فللقيام بحق الله في تلك البلية، فإن لله تعالى على العبد عبودية في البلاء، كما عليه عبودية في النعماء، والواجب عليه أن يقوم بعبودية الله تعالى في الحالين.
ثم إنه مأمور بطاعة الله، وترك معصيته، والصبر على قضاء الله، فعليه أن يصبر على طاعة الله حتى يؤديها، وأن يصبر عن معاصي الله حتى لا يقع فيها، وأن يصبر على أقدار الله فلا يشكو ربه فيها إلى أحد من الخلق، بل يشكو الحال إليه، ويتضرع في كشفها إليه، وينطرح من أجلها بين يديه، فالصبر لازم للإنسان المسلم في سائر الأحوال، ومن لا صبر له فلا دين له، ومن لا دين له فقد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
7- ولأئمة السلف رحمهم الله تعالى كلام كثير في نصيحة الأمة بالصبر، وحثها عليه، وبيان حسن عاقبته وجميل أثره، ومن ذلك:
• ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (وجدنا خير عيشنا بالصبر).
• وقال علي ر: (الصبر مطية لا تكبو).
• وقال أيضًا: (الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد)، ثم رفع صوته فقال: (ولا إيمان لمن لا صبر له).
• وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أفضل العدة الصبر في الشدة).
• وعن خالد بن الوليد ر قال: (إن الصبر عز، وإن الفشل عجز، وإن مع الصبر النصر).
• وقال الحسن البصري رحمه الله: (الصبر من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده).
• وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: (ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانه الصبر إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزعه).
• ومن خطبة الحجاج بن يوسف قال: (اقدعوا هذه النفوس، فإنها طَلعِةٌ إلى كل سوء، فرحم الله امرءًا جعل لنفسه خطامًا وزمامًا فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن معاصي الله أيسر على العبد من الصبر على عذاب الله).
• ومن كلام بعض الحكماء قول أحدهم: (بالصبر على مواقع الكره تدرك الحظوظ).
• وقول الآخر: (بمفاتيح عزيمة الصبر تعالج مغاليق الأمور).
وقد عرف الناس من تقلُّبهم في الحياة أن الله تعالى قد جعل الصبر جوادًا لا يكبو، وصارمًا لا ينبو، وجندًا لا يُهزم، وحصنًا حصينًا لا يُهدم، وأنه والنصر أخوان شقيقان وحليفان لا يفترقان، والنصر مع الصبر، والصبر مقدمة الظفر.
فما أحوج الدعاة إلى الله تعالى إلى الصبر! وأسعدهم به! وما أحسن عواقبه على أهله في عاجل أمرهم وآجله! فليجعلوه من نفيس عدتهم وليستعملوه وقت حاجتهم وليحسنوا استعماله؛ لينالوا مثوبة ربهم، وحسبهم قول تعالى: ﮋﭫ ﭬﮊ [البقرة:155].
*****

ثامنًا:

ذكر الله تعالى: هو دعاؤه والثناء عليه باللسان، وتقديسه وتنزيهه عن النقائص والعيوب، واستحضار دائم اطلاعه ومعيته للعبد، وتبليغ دينه وهداية عباده إليه، وفعل طاعته وترك معصيته بالجوارح والأركان، وامتلاء القلب من تعظيمه ومحبته وخوفه ورجائه، والتوكل عليه مع الثقة به، والرغبة إليه والرهبة منه في كل آن.
‌أ- شأن الذكر والنصوص الواردة فيه:
أمر الله تعالى أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، والمصطَفيْن من عباده وعموم المؤمنين به أن يذكروه ويكثروا من ذكره آناء الليل والنهار، وأن يختموا به جليل العبادات، ويتحروا به أشرف الأوقات، شكرًا لله تعالى على أن هداهم واجتباهم، واعترافًا بفضله ونعمه التي أولاهم، واستعانة به على ما كلَّفهم وابتلاهم، وعدة يواجهون به من عاداهم.
فإن الذكر رأس الشكر، وآية الاعتراف والاغتباط بالفضل لذي الفضل سبحانه، وهو نِعْمَ العون والعدة للأمور المهمة ومن براهين ذلك:
1- أن الله تبارك وتعالى قد أمر به خواص خلقه والمصطفين من عباده وعامة المؤمنين به، فقال سبحانه لزكريا بعد أن بشره بيحيى عليهما السلام: ﮋﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮊ [آل عمران:٤١], وخاطب تعالى نبيه محمدًا ﷺ بعد أن منَّ عليه بالنبوة والرسالة بقوله: ﮋ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮊ [المزمل:٨], وقال جل ذكره: ﮋﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﮊ [الأعراف:٢٠٥].
2- وأنه تعالى وعد الذاكرين المكثرين من ذكره وعودًا كريمة وأجورًا عظيمة، قال تعالى: ﮋﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﮊ [الجمعة:١٠], وقوله: ﮋﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﮊ [الأحزاب:٤١- ٤٤], وقال تعالى: ﮋ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﮊ [البقرة:١٥٢].
3- وكم جاء في السنة الصحيحة عن النبي ﷺ من الأحاديث الصحيحة تحث على ذكر الله عز وجل، وتبين عظم فضله وكثرة أجره، وحسن عاقبته على أهله في الدنيا والآخرة، فمن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يسير في طريقه إلى مكة فمر على جبل يقال له جُمْدان فقال: «سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون» قيل : وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات»( ).
وفي مسند الإمام أحمد عن معاذ رضي الله عنه وعند الطبراني عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: «ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «ذكر الله عز وجل»( ).
وروى ابن حبان عن معاذ رضي الله عنه قال: سألت رسول الله ﷺ: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل»( )، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عتق عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت حرزًا له من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك»( )، «ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر»( ).
وفي صحيح مسلم عنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس»( ).
فينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يكثروا من ذكر الله عز وجل، عبادةً له وتقربًا إليه، ومحبة له، وإجلالًا له، وتلذذًا بذكره، ورغبةً فيما وعد الله الذاكرين المكثرين من كريم الثواب وحسن المآب، واستعانة به على عبادة الله وطاعته والدعوة إليه ومواجهة المدعوين والتحصن به من أذاهم وشرهم وفتنهم ومن شر كل ذي شر من الخلق، وأسوتهم في ذلك نبي الهدى محمد ﷺ في كمال ذكره لربه، وكثرته وتنويعه، وتحري جوامعه وأشرف أوقاته وأحسن هيئاته.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (كان النبي ﷺ أكمل الخلق ذكرًا لله عز وجل، بل كان كلامه كله في ذكر الله تعالى وما والاه، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرًا لله، وإخباره عن أسماء الر ب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرًا منه لله، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وحمده وتسبيحه ذكرًا منه له، وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرًا منه له بقلبه، فكان ذاكرًا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله. وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائمًا وقاعدًا، وعلى جنبه وفي مشيه وركوبه ومسيره ونزوله وظعنه وإقامته)( ).
‌ب- من فوائد ذكر الله:
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (الوابل الصيب من الكلم الطيب): لذكر الله تعالى أكثر من مائة فائدة، كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها، وقد تقدم ذكر شيء من شأن الذكر من كلام الله تعالى، وما صح عن النبي ﷺ من بيان، فخير الدعاة إلى الله تعالى وأسعدهم في العاجل والآجل، وأكملهم اتباعًا للنبي ﷺ وأسعدهم بمعية الله وهداه وحفظه وأنفعهم لأنفسهم والناس، وأقواهم في الدعوة إلى الله أكثرهم لله ذكرًا، فإن ذكر الله تعالى مفاتيح لخزائن الخير، ومغاليق لمداخل الشيطان، وقطع لذرائع الشر، وجُنَّة من الخطر، وشر ما يجري به القدر، وعصمة من الفتن، ومطردة للشيطان، ومدد وعون وهداية وتسديد من الله تعالى للعبد وفتح لقلوب المدعوين، وشرح لصدورهم لهدى رب العالمين، وأوفر الناس حظًا من ثواب كل عبادة أكثرهم لله تعالى ذكرًا، وأكملهم من ذلك اقتداء بالنبي ﷺ في ذلك.
فقد جاءت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تفيد أن أفضل أهل كل عبادة أكثرهم لله ذكرًا، فأفضل المصلين أكثرهم لله ذكرًا، وأفضل المتصدقين أكثرهم لله ذكرًا، وأفضل الصوام أكثرهم لله ذكرًا، وأفضل الحجاج أكثرهم لله ذكرًا، وأفضل المجاهدين أكثرهم لله ذكرًا، فهكذا أفضل الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أكثرهم لله تعالى ذكرًا.
ومما ورد صريحًا في ذلك ما رواه البيهقي مرسلًا أن النبي ﷺ سُئل: أي أهل المسجد خير؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا عز وجل». قيل: فأي أهل الجنازة خير؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا عز وجل». قيل: فأي المجاهدين خير؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا عز وجل». قيل: فأي الحجاج خير؟ قال: «أكثرهم لله ذكرًا عز وجل»( ) الحديث، وفيه: قال أبو بكر رضي الله عنه: ذهب الذاكرون بالخير كله.
قلت: ومما يؤيد ذلك أن الله تعالى شرع الذكر وأمر به ورغب فيه مع وبعد هذه العبادات وغيرها، وذلك - والله أعلم - لأن ذكر الله تعالى يُرغّب الذاكر في العبادة، ويُنشّطه ويقويه عليها، ويدعوه على تكميلها والإحسان فيها، ويكمل نقصها ويسد خللها، ويحض على المداومة عليها والاستزادة مما شرع من جنسها، ويطرد الشيطان عن العابد حتى لا يفسد عليه عبادته وسائر عمله.
فالداعية إلى الله تعالى أولى الناس وأحقهم وأحوجهم إلى الاشتغال بذكر الله تعالى والإكثار منه، ليستعين به على مهمته وليتوصل به إلى بغيته، وليحصِّل به فوائده العظيمة ومنافعه الكبيرة وأجوره الكثيرة، وليستجن به من الشيطان الرجيم ومما يخاف ويحذر من العوائق والأخطار وغير ذلك مما هو عرضة له آناء الليل والنهار، فيحتاج إلى أن يذكر الله تعالى على كل أحيانه وفي جميع أحواله.
ولهذا لما أرسل الله تعالى موسى وهارون ـ عليهما الصلاة والسلام ـ لدعوة فرعون كان مما أرشدهما إليه قوله سبحانه: ﮋ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮊ [طه:٤٢], أي: لا تفترا ولا تكسلا عن مداومة ذكري بالاستمرار عليه، والْزَمَاهُ كما وعدتما بذلك في قولكما: ﮋ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﮊ [طه:٣٣-٣٤ ], فإن ذكر الله تعالى فيه معونة على جميع الأمور ويسهلها ويخففها.
ولقد أرشد الله عز وجل نبيه محمدًا ﷺ خاتم النبيين وسيد المرسلين وإمام الدعاة المصلحين بقوله: ﮋﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﮊ [الأعراف:٢٠٥], فأمره الله سبحانه بالإكثار من ذكر الله آناء الليل والنهار، خصوصًا طرفي النهار ـ لما فيهما من مزية وفضيلة على غيرهما ـ، وأن يكون مخلصًا لله خاشعًا متضرعًا مضطرًا متذللًا ساكنًا متواطئًا على الذكر قلبه ولسانه بأدب ووقار وإقبال على ربه بقلبه، وأن يحذر الغفلة، فإن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه، وقال تعالى: ﮋﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮊ [غافر:٥٥ ], فأمره بالصبر الذي يحصل به المحبوب، وبالاستغفار الذي فيه دفع المحذور والمرهوب، وبالتسبيح بالعشي والإبكار الذين هما أفضل الأوقات لتكفير الذنوب والفوز بالمطلوب، وفيهما من الأوراد والوظائف الواجبة والمستحبة، ما فيهما لأن في ذلك عونًا على جميع الأمور وخاصة الدعوة إلى الله تعالى.
وهذا يبين أن الإكثار من ذكر الله تعالى من أعظم العون على القيام بالمهام العظيمة، ولا سيما الدعوة إلى الملة المستقيمة.
*****

تاسعًا:

أ‌- بيان فضل الصلوات وشأنها في نجاح الدعاة:
الصلاة أعظم فريضة عملية، وأجل شعيرة دينية بدنية يقوم بها المسلم خمس مرات يوميًا في الفريضة وما شاء الله من النافلة بين يدي ربه تبارك وتعالى، خاضعًا لكبريائه، متذللًا لعظمته، مستسلمًا له بروحه وبدنه، متجردًا لله سبحانه وتعالى بقصده، يرجو القرب منه سبحانه والزلفى لديه، وأن يزحزحه ويبعده عن ناره وأنواع عذابه، وأن يسكنه الفردوس من جناته، ويحل عليه عظيم رضوانه، وكم فيها من تربية للنفس على تحقيق التقوى والإنابة والصبر والمجاهدة والتوكل والمحبة، إلى غير ذلك مما تتطهر به النفس من أدناسها وتنجو به من موجبات خسرانها وإفلاسها، ويتحقق لها به الصلاح والفلاح حتى تتبدل النفس من أمارة بالسوء ولوامة إلى نفس مطمئنة ترجع إلى ربها راضية مرضية، وذلك لمــا جمع الله تعالى لعباده في الصلاة من أخص أعمال العبودية، فقد اشتملت على أكمل الأحوال وأحسن الهيئات وأفضل الأذكار والتعظيمات وأجمع الدعوات لسائر المطلوبات.
ب‌- منزلة الصلاة عند المرسلين والنبيين عليهم الصلاة والسلام:
الصلاة خير عمل يستعين به العبد على تزكية نفسه ونهيها عن هواها، ودعوة الأمة إلى الخير والهدى لتسعد في دنياها وأخراها، فنعمت الراحة للروح والبدن، ونعمت المنجية من الفتن والمحن، ونعمت الوسيلة للهداية إلى الحق والجالبة للرزق، ونعمت العبادة الواصلة لصاحبها بالله، والمعينة له على طاعة الله ومجاهدة من أعرض واستكبر واتبع هواه، ولذا سألها إبراهيم عليه السلام لنفسه وبنيه فقال: ﮋﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫﮊ [إبراهيم:40], فاستجاب الله له فجعلها قرة عينه، وعبادة ظاهرة في بنيه من بعده يتقربون بها إلى الملك القدوس السلام، وأصبحوا بها أئمة هداة للأنام، واستعانوا بها على جليل الأعمال وعظيم المهام، قال تعالى: ﮋﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠﮊ [الأنبياء:٧٢ - ٧٣ ].
فلما كانت الصلاة أجل عمل بدني يتقرب به العبد إلى رب العالمين، ومن أعظم أسباب الإمامة في الدين اعتنى بها ورثة إبراهيم من صالحي ذريته وأتباعه على ملته، فذكر الله تعالى إسماعيل عليه السلام مثنيًا عليه بالعناية بالصلاة بقوله: ﮋﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﮊ [مريم:٥٤ - ٥٥ ].
وكانت الصلاة أول ما أمر الله بها موسى وأخاه هارون وقومهما فقال تعالى: ﮋﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﮊ [طه:١٤], وقال سبحانه: ﮋﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦﮊ [يونس:٨٧ ].
ولقد تميز نبي الله شعيب عليه السلام بالعناية بالصلاة، وظهرت آثارها على نفسه وفي دعوته، حتى عرف قومه أثرها في نفسه، وعدُّوها سببًا لما ينصحهم به من التوحيد وإيفاء الكيل والوزن وترك ظلم الناس وما ينذرهم عنه من الشرك والبخل والإفساد في الأرض وعواقب ذلك: ﮋﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﮊ [هود:٨٧].
وهكذا عيسى عليه السلام يخاطب قومه في صباه آية على نبوته من الله الذي أوصاه بالصلاة والزكاة مدة الحياة فيقول: ﮋﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮊ [مريم:٣٠- ٣١ ].
ت‌- منزلة الصلاة عند نبينًا محمد ﷺ:
وها هو خاتم النبيين وسيد المرسلين وخليل رب العالمين محمد ﷺ يرشده الله تبارك وتعالى في أوائل نبوته إلى أن يأخذ حظًا وافرًا من الصلاة ليستعين بها على تحمل أعباء النبوة ودعوة الأمة، ولتكون له راحة وفرجًا من كل غم يصيبه، فيقول سبحانه: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﮊ [المزمل: ١- ٥ ].
فكانت الصلاة أول عمل يوجه الله تعالى النبـي ﷺ إليه، وفريضتها أول فريضة فرضت عليه في وقت بلغ أذى الكفار له غايته وكاد صبره أن يصل نهايته، فأسري به ﷺ ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السموات العلى فرأى هناك من آيات ربه ما رأى، وفرضت عليه الصلاة هناك بلا واسطة، فرضت خمسين في اليوم والليلة، ثم خففت إلى خمس فصارت خمسًا في العدد وخمسين في الثواب، تكريمًا له وتخفيفًا على العباد، وأمر مع الفريضة بمواصلة النافلة لينال بذلك عليَّ الدرجة وشريف المقام: ﮋﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮊ [الإسراء:٧٨- ٧٩ ].
فكانت الصلاة مفزع النبي ﷺ من همومه، وراحة نفسه وقرة عينه، ومنذ فرضت عليه الصلاة وهو ﷺ في انشراح صدر ويسر أمر وارتفاع ذكر، ودينه في ظهور، وأتباعه في ازدياد وعز، وخصومه في إدبار، وكان ﷺ يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فإذا قيل له : لم تصنع ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا؟»( )، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وكان ﷺ يقبل بصلاته على ربه، ويطيل الصلاة -خاصة في الليل-، فكان ﷺ يقرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم يركع فيقول: «سبحان ربي العظيم» في ركوعه، ويطيل حتى كان ركوعه قريبًا من قيامه، ثم يرفع قائلًا:«سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد»، فيقوم قيامًا طويلًا قريبًا مما ركع، ثم يسجد فيقول في سجوده:«سبحان ربي الأعلى»، ويطيل حتى كان سجوده قريبًا من قيامه، فكان للصلاة عنده ﷺ منزلة، وكان له فيها شغل وله معها شأن، وكان ﷺ يقول:«جعلت قرة عيني في الصلاة»( )، وكانت أول عبادة تميز بها بعد نبوته، وكانت له نعم العون على دعوته.
فإذا كانت الصلاة بهذه الأهمية ولها تلك الآثار المباركة، ولصفوة خلق الله من النبيين والمرسلين بها ذلك الاهتمام والاغتباط، وقد قال تعالى: ﮋﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﮊ [الأنعام:٩٠], وقال سبحانه: ﮋﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﮊ [الأحزاب:٢١ ].
ث‌- ما ينبغي أن يكون عليه الدعاة من العناية بالصلوات:
فجدير بالدعاة إلى الله تعالى وهم من ورثة النبيين في العلم النافع والعمل الصالح ودعوة الخلق إلى الخير والهدى أن يعتنوا بالمحافظة على فرائض الصلوات في المساجد مع الجماعات، وألا يتساهلوا في شيء منها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ فإنها أعظم الفرائض بعد التوحيد، وخير الوسائل لعلو المقام في الدنيا والآخرة، وأعظم ما يستعان به على هداية الخلق للحق، فما أعظم بركتها، وأحسن عاقبتها على أهلها في الدنيا والآخرة !! قال تعالى: ﮋﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮊ [الإسراء:٧٩].
فعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يعنوا بشأنها طلبًا لآثارها، واقتداء بالنبي ﷺ الذي كان يأتي إلى الجماعة مع شدة المرض، حتى كان يجاء به ﷺ إلى المسجد يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، وفي مرضه الذي توفي فيه حاول ثلاث مرات أن يقوم ليغتسل حتى ينشط ويصلي في الجماعة فيغمى عليه في كل مرة، فإذا أفاق قال: «أصلى الناس؟» فيقال له: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله والناس عكوف في المسجد. فبعد المرة الثالثة قال: «مُروا أبا بكر، فليصل بالناس»( ).
ج‌- من فضائل الصلوات وخصوصياتها :
وليتذكر الداعية أنه قدوة للناس في ذلك، فإذا تساهل في حضور الجماعة في صلاة واحدة تساهل من حضره من الناس في عدة صلوات، واستشهدوا بما رأوه منه، وربما زادوا عليه.
وليتذكر الداعية وليذكر من لقي من الناس أن المحافظة على الصلاة مع الجماعة في المسجد بشارة للمحافظ عليها بحسن الخاتمة والوفاة على الإسلام، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: من سره أن يلقى الله تعالى غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه.
فهذا ولا شك مما تلقاه ابن مسعود من النبي ﷺ، فإنه لا مجال للرأي، لأنه بيان مقدار ثوابٍ، فهو في حكم المرفوع إلى النبي ﷺ، وناهيكم بما ورد في صحيح السنة من فضائل صلاة الجماعة، والتي ينبغي أن يكون الداعية أسبق الناس إليها وأحرصهم عليها، فإن من سَابق إلى الخيرات سبق إما بنيته وعمله أو بنيته فقط، قال تعالى: ﮋﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﮊ [المؤمنون:٦١].
والصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر فإن الصلوات هن الحسنات اللاتي يذهبن السيئات، ومن أسباب رفعة الدرجات والضيافة في أعلى الجنات، فقد ثبت في الصحيحين قوله ﷺ: «الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا»( ).
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط»( ).
وفيه أيضًا عنه رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته: إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة»( ).
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا ً ـ يعني: ضيافة ـ، كلما غدا أو راح»( )، وقال ﷺ: «بشِّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة»( ). فمن أولى من الداعية إلى الله بهذا الفضل.
وكثرة السجود لله تعالى –أيضًا- مما يتوسل به إلى رفعة الدرجة، ومرافقة النبي ﷺ في الجنة، كما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله ﷺ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة»( ).
وفيه أيضًا عن ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله ﷺ قال: كنت أبيت مع النبي ﷺ فآتيه بوضوئه وحاجته. فقال: «سلني». فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: «أَوَ غَيْر ذلك؟» قلت: هو ذاك. قال: «فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود»( ).
فلما كانت الصلاة فريضة ونافلة متميزة بهذه الفضائل الكثيرة والخصائص العظيمة، ولها هذه الآثار المباركة، مع أنها أكبر الذكر ورأس الشكر، والداعية إلى الله تعالى لا غنى به عن بركة الله، ولا مشبع له من فضله، وقد أنعم الله تعالى عليه بما يسر له من العلم النافع، وفتح له من أبواب العمل الصالح، وشرح صدره للدعوة إليه والنصح لعباده، وهذه نعم كبرى ومنح جليَّة كان جديرًا به أن يعتني بأمر الصلاة عامة، وأن يكثر من السجود، وخاصة الفرائض.
ومن تكميل الصلاة واستكمال فضائلها العناية بنافلتها، ذلك لأن نوافل الصلاة يكمل بها نقص فريضتها ويستوفي ثوابها وتزيد حب الله للعبد، ويزداد بها العبد من الله فضلًا كما في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشر ركعة تطوعًا غير فريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة»( ).
وفي الأحاديث الصحاح الثابتة عن النبي ﷺ الترغيب في صلاة الليل، وأنها أفضل الصلاة بعد الفريضة، وكم أثنى الله على الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ووعدهم الوعد الجميل وحسن المقيل: ﮋﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮊ [السجدة:١٧], ويكون ختامها الوتر قبل الصبح عملًا بقوله ﷺ: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا»( )، متفق عليه، وعند مسلم قال ﷺ: « أوتروا قبل أن تصبحوا»( )، وعند أبي داود وغيره قال ﷺ: «إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن»( ).
وصلاة الضحى لها شأن عظيم، فهي صلاة الأوابين، وتعدل ثلاثمائة وستين صدقة التي من أداها في يوم أمسى وقد زحزح نفسه عن النار.
فإذا تحرى الداعية إلى الله المحافظة على هذه الصلوات، وأداها على أحسن الأحوال وأكمل الهيئات، قد أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها لئلا يضيع شيء منها، بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها وإتمامها على الوجه المرعي، قد استغرق قلبه شأن الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيما اختار الله لها من الأوقات، وقد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل على أكمل الحالات، فتراه مقبلًا بقلبه على ربه، فرحًا بإقباله له، ممتلئًا من محبته وتعظيمه وخشيته فيقف بين يدي ربه كأنه يراه ويشاهده، يرجو أن يكون مقربًا من ربه وممن قرت عينه بمناجاته وذكره، حتى يكون من المفلحين الموعودين بالفردوس من الجنات مع المصطفَيْن من البريات.
ح‌- فضل بقية فرائض الطاعات ونوافلها المستحبات:
كما أن الصلاة توحيد لله تعالى بالأفعال والأقوال والمال فإن الزكاة توحيد لله تعالى بالمال، والصوم توحيد لله تعالى في ترك المحبوب المألوف، والحج توحيد لله تعالى في جميع هذه الأمور، ولذا كان أحد الفرائض الشريفة، وفرضه الله على هذه الأمة كل عام، ويكفي في بيان عظمة شأن تلك العبادات أنها أركان الإسلام، وأنها أعظم الفرائض الظاهرة بعد التوحيد والصلاة.
فلذلك جعلها الله أركان دينه وأعظم فرائضه الظاهرة على عباده، وهي شعائر ظاهرة وكم في نوافل تلك الفرائض العظيمة من عظيم الغنيمة كالصدقات، وصيام الأيام الفاضلات، وتكرار العمرة والحج، والجهاد، والمجاهدة للنفس على أنواع الطاعات، وخصوصًا نافلة الصلاة من الأجر العظيم والثواب الكريم.
ولقد كان النبي ﷺ يتعبد لله تعالى بنوافل جنس هذه العبادات في أول دعوته قبل هجرته، وبعدها حتى فرضت عليه فرائضها، فكان ﷺ أكمل الناس عناية بفريضتها، وإكثارًا من نافلتها مع الإحسان فيها والمداومة عليه، وهديه ﷺ في هذه العبادات معلوم لدى أهل العلم بسيرته وسنته منذ فرضها الله عليه حتى الممات، ووصاياه للأمة بتلك القربات ثابت بالأحاديث الصحيحات.
فليكن الداعية من أئمة الناس في ذلك حتى يكون له أجره ومثل أجر من اقتدى به مع ثواب إحياء السنن ونشر الهدى، فإن التقرب إلى الله بالنوافل مما يكمل الله به الفرائض، فإن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته، فإن وجدت تامة كتبت تامة، وإن وجدت ناقصة قال الله تعالى للملائكة أنظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيتم بها ما انتقص من فريضته، ثم يسار بسائر العمل على نحو ذلك، كل فريضة تكمل من نافلتها التي من جنسها، مع أن التقرب بالنوافل من أسباب محبة الله للعبد وحفظه له في حواسه وجوارحه واستجابة دعائه ودفاع الله تعالى عنه، وحفظه له في حواسه وجوارحه، وأن يمتعه الله تعالى بها متاعا حسنًا إلى أجل مسمى، كما في الحديث القدسي الصحيح، قال رسول الله ﷺ: «إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»( ).
فالتقرب إلى الله تعالى بالنوافل ـ بعد أداء الفرائض ـ يجعل العبد فائزًا بولاية الله ومحبته، محاطًا بمعية الله وعنايته، مجابًا عند مسألته، مجارًا مما يحاذر في يومه وليلته.
وكان النبي ﷺ كثير الصدقة، كثير الصوم، فيصوم حتى يقال: لا يفطر، واعتمر ﷺ خلال عشر سنوات أربع عمر، مع ما هو فيه من مجاهدة المنافقين والجهاد في سبيل الله، وتعليم العلم والدعوة إلى الله تعالى، ونحو ذلك من أنواع الطاعات وجليل القربات، وهو ﷺ إمام المسلمين عامة والدعاة خاصة في استباق الخيرات والمسارعة إلى المغفرة والجنات.
*****

عاشرًا:

الكرم: هو سعة الخلق، فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر من الإنسان، ولا يقال هو كريم حتى يظهر منه ذلك، فيقال للشخص بأنه كريم إذا ظهر منه أعمالٌ كبيرة: كإنفاق مال في تجهيز جيش الغزاة، أو تحمل حمالة تُرفأ بها دماء قوم وقعت بينهم فتنة وقتال.
وأكرم الأفعال المحمودة ما يقصد به أشرف الوجوه، وأشرف الوجوه ما يقصد به وجه الله تعالى، فمن قصد وجه الله تعالى في أفعاله فهو التقي الكريم، قال تعالى: ﮋﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮊ [الحجرات:١٣], فأكرم الناس من قصد بأفعاله المحمودة وجه الله تعالى، وهو الذي يفوز بثواب الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: ﮋﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﮊ [النساء:١١٤], فخص سبحانه بالأجر العظيم من أراد بإحسانه مرضاة الله الكريم.
وكل شيء يشرف في بابه يوصف بأنه كريم، كما قال تعالى: ﮋﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﮊ [لقمان:١٠], فأشرف كل جنس أكرمه، ولما كان عطاء الله ورزقه لعباده وثوابه لهم لا نظير له في حسنه وكثرته وسعته وُصف بأنه كريم، كما قال تعالى: ﮋﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﮊ [الحج:50], وقال تعالى: ﮋﯙ ﯚ ﯛ ﯜﮊ [يس:١١].
وقد سمى سبحانه نفسه بالكريم والأكرم، ووصف نفسه بالكرم، لأن لفظ الكرم جامع للمحاسن، لا يراد به مجرد الإعطاء، بل الإعطاء من تمام معناه، وإلا فالكرم كثرة الخير ويسره، فالله سبحانه أخبر بأنه الأكرم في قوله تعالى: ﮋﮆ ﮇ ﮈﮊ [العلق:٣], ـ بصيغة التفضيل والتعريف لها ـ، فدل على أنه الأكرم وحده مطلقًا غير مقيد، فدل على أنه متصف بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه، فهو سبحانه الكريم مطلقًا الذي كمل كرمه وكبر فضله.
أما الجود: فهو سعة العطاء وكثرته، ولهذا يوصف الله تبارك وتعالى به لسعة عطائه وكثرته، كما في سنن الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إن الله كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود»( )، فالله تعالى أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، وكل ما بالعباد من نعم فمن جوده وكرمه سبحانه وتعالى.
ولما كان الله تبارك وتعالى قد جبل نبيه محمدًا ﷺ على أكمل الهيئات وأشرفها وبعثه ليتمم مكارم الأخلاق كان ﷺ أكرم الناس وأجود الناس على الإطلاق كما كان أفضلهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة، ففي صحيح مسلم رحمه الله تعالى أن النبي ﷺ كان يقول ـ في استفتاح صلاة الليل ـ: «واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت»( )، وكان جوده ﷺ يجمع أنواع الجود.
ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ أجود الناس وأشجع الناس( ).
وفيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله ﷺ كان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام، فيدارسه القرآن. فلَرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة( ).
وفي الصحيحين عن جابر قال: «ما سُئل رسولُ الله ﷺ شيئًا قط فقال: لا»( )، وفي الترمذي وغيره ـ بسند قوي ـ عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان لا يدخر شيئًا لغد( ).
والمقصود: أن الكرم والجود من الأخلاق الكريمة والصفات الجليلة التي يحبها الله تعالى، وجبل عليها نبيه محمدًا ﷺ، وشرع لعباده المؤمنين التأسي به ﷺ فيها، فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يتحلى بالكرم والجود عن احتساب وغنى نفس، وليجاهد نفسه على ذلك فإنه منصور ومهدي، قال تعالى: ﮋﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮊ [العنكبوت:69]، وقال سبحانه: ﮋﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﮊ [الحشر:9].
وكما أن العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتصبر يصبره الله، فهكذا من جاهد نفسه على الجود والكرم وفقه وزاد من فضله وبارك له فيما أعطاه، وحشره مع أهل الكرم والتقوى، فما أكرم المآل وما أعظم البشرى!! وحتى يكون من أتباع نبيه ﷺ ومرافقيه في الجنة، فإن الله تعالى لما خلق جنة عدن بيده قال لها: «تكلمي»، قالت: قد أفلح المؤمنون، قال تعالى: «وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل»( ).
وحتى يكون الداعية ناجحًا في دعوته نافعًا للخلق بفضل ما آتاه الله تعالى، فإن الكرم والجود من أسباب محبة الخلق وهدايتهم للحق، ولذا كان الكرم والجود ديدن النبي ﷺ وأظهر أخلاقه، فكان ﷺ أكرم الخلق نفسًا وأجودهم بالخير وأجزلهم عطية، فكان ﷺ لا يحصي ما يعطي، ولا يَمُنُّ بما أعطى، فقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيرًا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها( ).
وفيه أيضًا أن النبي ﷺ أعطى يوم حنين صفوان بن أمية مائة من الإبل، ثم مائة، ثم مائة( )، قال صفوان رضي الله عنه: والله لقد أعطاني رسول الله ﷺ يومئذ ما أعطاني, وإنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ.
وفي البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال للأعراب يوم حنين: «فلو كان لي عدد هذه العضاة - أي الشجر الذي في الوادي - نعمًا لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذوبًا ولا جبانًا»( ).
ففي كرمه ﷺ وجوده أسوة للداعية إلى الله تعالى الذي يرجو أن يكون من اتباع المصطفى ﷺ في الدعوة على بصيرة، وأن يجمعه الله تعالى به في الجنة لما كان عليه من محبته واتباعه في السيرة، فإذا جمع الله للداعية أن مَنَّ سبحانه عليه ببذل العلم والدعوة إلى الخير، والجود بالمال في وجوه الخير ابتغاء وجه الله تعالى، فقد جمع الله له أسس الخير وأعلى مقامات الإحسان والبر وصدق المصطفى ﷺ إذ يقول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»( ) متفق عليه. فكيف إذا جمع له بين الاثنين: العلم والمال، والجود والكرم فيهما؟!
وفي الترمذي عن أبي كبشة عمر بن سعد الأنماري رضي الله عنه أنه سمع النبي ﷺ يقول: «ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه...الحديث، وفيه: قال ﷺ: «إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء...الحديث»( ).
فأنفق ـ أخي الداعية ـ مما آتاك اللهُ في وجوه الخير عند الحاجة، وعلى قدر الطاقة، وعن طيب نفس، ولا تتطلع إلى ما بيد غيرك، فإن حد السخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن توصله مستحقه بقدر الطاقة، فكن سخيًا متورعًا متعففًا جوادًا كريمًا، فإن السخي قريب من الله تعالى، ومن خلقه، ومن أهله، وقريب من الجنة، وبعيد من النار.
ولا تظنن أن كثرة الإنفاق تنقص الرزق ـ فذلك ظن سوء برب العالمين ـ بل ثق أن ما أنفقته سيخلف الله عليك بدله وخيرًا منه، قال تعالى: ﮋﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅﮊ [سبأ:٣٩ ].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا»( )، وفيهما أيضًا عنه رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: « يا ابن آدم أَنفق أُنفق عليك»( )، وفيهما عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله ﷺ: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» ( ).
وفي البخاري عنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أربعون خصلة أعلاهنّ منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة» ( ).
حادي عشر:

معاملة الناس بحسن الخلق ـ وهو طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى عن الخلق، وتحمل أذاهم ـ، والإحسان للمؤذي ما كان في الإحسان إصلاحٌ، اقتداءً بالنبي ﷺ وأصحابه، وطلبًا لكريم ثوابه، وحسن عاقبته، جماع خيري الدنيا والآخرة، ومؤهلة لبيت في أعلى الجنة، فإن تحلي الداعي إلى الله تعالى بحسن الخلق من أعظم أسباب نجاحه في دعوته ومحبة الناس له، وولعهم به، وقبولهم لقوله، لذا كثر في التنزيل الثناء على المؤمنين والمتقين بمحاسن الأخلاق التي استقاموا عليها ولازموها؛ حتى صارت من كريم سجاياهم وجميل صفاتهم، وهي من صفات إيمانهم وجليل أعمالهم، وتواترت الأحاديث الصحيحة ببيان حقيقته وفضله والبشارة لأهله بحسن عواقبه.
فقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقًا( )، وقال ﷺ: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»( ). رواه الإمام أحمد والترمذي وحسَّنه.
وقال ﷺ: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»( )، رواه أبو داود.
وفي الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق»( ).
وسئل ﷺ عن أكثر ما يدخل الجنة فقال: «تقوى الله، وحسن الخلق»( ). رواه الترمذي وغيره. وضمن ﷺ بيتًا في أعلى الجنة لمن حسن خلقه( ). رواه أبو داود.
وقال ﷺ: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا»( ). فاجتمع في حسن الخلق خيري الدنيا والآخرة.
ومن حسن الخلق ما روي عن النبي ﷺ قال: «أفضل أخلاق أهل الدنيا: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك»( ).
ويكفي في ذلك قوله تعالى في وصف المتقين: ﮋ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮊ [آل عمران: ١٣٤ – ١٣٦].
ثاني عشر:

يعني كثير من الدعاة إلى الله تعالى بدعوة الناس البعيدين منه نسبًا ودارًا، ويغفل عن دعوة عشيرته الأقربين وذوي نسبه الأدنين، وجيرانه وأهل بلده.
• إما لكونهم لا يقبلون منه لأول وهلة.
• أو لكونهم يحقرونه أو يحسدونه.
• أو لمواقف دنيوية كانت بينه وبينهم.
أو لغير ذلك من الأمور التي تحمله على أن يعرض عن ذويه ويصد عن أهل ناديه، مع أنهم أحق ببره وأولاهم بوصله، وأعظم بر ووصل أن يسعى لهم بزيادة الهدى وإبعادهم عن أسباب الردى.
وهذا الإعراض والصد عن القرابة وأهل الحي والبلد، مهما كانت دوافعه وأسبابه ضرب من التقصير وخطأ كبير، وذلك لأمور:
الأول: أن الله تعالى قد أرسل رسله إلى قومهم يدعونهم إلى عبادة الله وتقواه، ولهذا كان مفتتح دعوتهم قولهم: ﮋﭫ ﭬ ﭭﮊ [الأعراف:59]، وفي بعض السور يذكر تعالى أنه بعث إلى كل أمة: ﮋﯝﮊ [الأعراف:65].
الثاني: أن الله تعالى قد امتن على العرب وجعل من حجته عليهم أن أرسل إليهم رسولًا منهم كما قال تعالى: ﮋﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﮊ [الجمعة:2]، وقال تعالى عن قريش: ﮋﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮊ [النحل:113]، وهناك عدة آيات بهذا المعنى؛ وذلك لأن كونه منهم يعرفون نسبه ولغته وسجاياه وحرصه على هداهم وإيصال الخير إليهم مما ينبغي أن يحملهم على قبول دعوته ونصره والدفاع عنه ولأنه أعرف بأساليب التأثير عليهم وهو أغير عليهم وأرعى لمصالحهم وأعلم بما يصلحهم، ولأن داعية القرابة من دواعي التراحم والتناصح والحرص على جلب ما ينفع ودفع ما يضر.
الثالث: أن الله تعالى قد بعث موسى عليه السلام إلى قومه بني إسرائيل وأهل بلده فرعون وقومه مع ما كان من أمر قتله القبطي وطلب فرعون له لقتله وفراره من بين ظهرانيهم، فإرساله إليهم ـ والحل هذه ـ وهذا من البلاء المبين، وكذلك ما كان من أمر الملأ من بني إسرائيل.
كل هذا مما يدل على عظم حق القرابة والقبيلة وأهل البلد على الداعي، وضرورة البدء بدعوتهم إلى الهدى وإبعادهم عن أسباب الهلاك والردى، وأن هدايتهم من أبر البر وأعظم الصلة في الأجر والذخر.
الرابع: أن الله تعالى قد أمر نبيه محمد ﷺ أن يبدأ بقرابته كما قال تعالى: ﮋﭿ ﮀ ﮁﮊ [الشعراء:214]، وقد فعل النبي ﷺ فجمع قرابته وقومه وخصَّ وعم وقال: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»( )، وقال: «أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئًا فقد أبلغتكم»( )، وقال تعالى: ﮋﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮊ [الشورى:7]، وقال سبحانه: ﮋﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮊ [القصص:46].
فتضمن ذلك التوجيه الرباني الكريم تنبيه الدعاة إلى الله تعالى بأن يبدؤوا بالدعوة والنصيحة قرابتهم وذويهم، ثم من يليهم ثم مجاوريهم ثم بني جنبهم، صلةَ للرحم وبراءةً من الإثم وعملًا بأصدق الكلم.
الخامس: أن الداعي إذا ظهر صدقه في دعوته ونصحه وتجرده وحبه الخير لقومه، وتحلى بالإحسان والصبر على الأذى والجور، فإنه لن يعدم من قرابته وقومه من ينصره ويقف معه، ولو خالفه ولم ينقد له فيكون ذلك درعًا واقيًا له من أذىً محقَّق وخطرٍ محدق، كما قال تعالى عن قوم شعيب عليه السلام أنهم قالوا له: ﮋﮀ ﮁ ﮂﮃﮊ [هود:91]، وكما كان موقف أبي طالب والعباس وحمزة وغيرهم من أقارب النبي ﷺ ورجالات من قريش من قومه ممن كانوا سببًا في دفع شر كبير عنه وتردد خصومه من قريش في قتله حتى أظهره الله ونصره وقيض له من غيرهم من ينصره.
السادس: ثم إنه من الواقع المشهود أن الأجيال المتأخرة من القرابة يكونون ـ في الغالب ـ أحسن استجابة من أبائهم لداعي الحق والتفافًا حوله ونصرة له؛ وذلك لأن الشخص لا يسود في كبار قومه ولا في أقرانه غالبًا، وإنما يسود في الجيل الذي بعده ومن يليه، وحسبك في قرابات النبي ﷺ الذين اتبعوه فإن أقلهم يكبره سنًا بل جملتهم من جيله والجيل الذي بعده، ولن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلًا، وإذا كان هذا في أمور الدنيا فأمر الدعوة أعظم وأجل .
فمن تفهم هذه الأمور اعتنى بدعوة قرابته وذويه، وصبر على جفائهم وجورهم عليه، طمعًا في مثوبته وإحسانه إليه، ورجاء هدايتهم إلى خالقه وباريه وذلك من فضل الله تعالى عليه لما فيه من صلة القرابة وعظيم الإثابة؛ ولأنه من مظان النصرة والمنعة، وعملًا بهدي الكتاب والسنة وإقامة للحجة وطلبًا للمعذرة، ومن غفل عن ذلك فغلطه كبير وتقصيره خطير، وقد فاته خير كثير.
*****

ثالث عشر:

دل هدي الكتاب والسنة واستقراء مجمل تاريخ هذه الأمة على الأثر المبارك للمرأة الصالحة في الدعوة.
• فكم كان لسارة زوج إبراهيم عليهما السلام من أثر في تثبيت إبراهيم عليه السلام وإعانته على مهام دعوته بحسن العشرة والقيام بالخدمة وحفظ الأمانة وكريم الإعانة.
• ولقد كانت امرأة فرعون المؤمنة الصابرة سببًا في إنقاذ موسى عليه السلام من القتل، وتربيته التربية الكريمة ومناصرته والدفاع عنه، وكانت من أول من آمن به وصبرت على صنوف الأذى من أجله ومن أجل رسالته ودعوته، وكانت نصرًا للمؤمنين به في قصر فرعون.
• وكم لمريم الصدِّيقة من أثر مبارك على ابنها النبي المبارك في تصديقه وتثبيته ومضي دعوته في قومه وصبره وجهاده، ولذا اثني الله تعالى عليها بالعفة والصديقية ودوام القنوت وشكر النعمة والتذكير بحق المنعم سبحانه وشأنه إلى غير ذلك من فضائلها وكراماتها.
• وكان لصدِّيقة هذه الأمة الأولى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها الأثر العظيم المبارك في أول أمر الإسلام في تثبيت النبي ﷺ أول نبوته وطمأنينته ومواساته وتفريغه لدعوته وإعانته على همومه والصبر على أذى قومه ما جعلها تُبشَّر وهي حية ترزق ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولانصب، وكان النبي ﷺ يذكرها مثنيًا عليها وبارًا بها وواصلًا لرحمها من أجل صدقها وتصديقها وكريم مواقفها وحسن رعايتها لزوجها وأولادها وبذلها لمالها من أجل دينها.
• وكان للصدِّيقة الثانية عائشة رضي الله عنها بعد الهجرة وظهور الإسلام المواقف العلمية والدعوية المتنوعة في حفظ الحديث وفهم السنة ومراجعة النبي ﷺ فيما أشكل فهمه، وكانت لها المواقف المعلومة في التحديث وفي الفتوى الحسنة والاستدراك على المخطئين وتعليم الجاهلين ونصيحة أولي الأمر إلى غير ذلك مما اشتهرت به حتى عُدَّت من أكابر العلماء ومشاهير المفتين وجهابذة المناظرين.
• ولبقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن دور بارز في حفظ السنن والتحديث عن النبي ﷺ، فيما لم بحضره سواهن، وكذلك في الفتيا ومناصحة آحاد المسلمين وولاتهم لهن مشاركات خيِّرة ومواقف بارة، وقواعد شرعيَّة؛ حفلت بها دواوين السنة وكتب التراجم وغيرها.
وهكذا يتجلى جهد المرأة المسلمة العلمي والتربوي والدعوي في سائر العصور والأمصار الإسلامية، حتى قيل: وراء كل رجل عظيم امرأةٌ عظيمة، فمنهن مربيات الأئمة، ومنهن حافظات الحديث والسنة، ومنهن ناصحات الأئمة، والناصرات للدعاة من الأمة، ومنهن مصلحات الأزواج، والداعيات إلى صحيح المنهاج، ومنهن الكريمات البارات بالوالدين، والمحسنات إلى الحجاج، فما أكرمهن في الأمة! وما أطيب أثرهن على الملة في الجملة!
وكم في تراجم الخلفاء والعلماء وغيرهم من ذكرٍ لنساء خيِّرات بارَّاتٍ كن نعم العون لأزواجهن وأولادهن ومن أخذ الحديث عنهن في حفظ السنن، والتربية على خير منهاج وسنن، والإعانة على البر؛ كما كانت زوجة عمر بن عبد العزيز وزبيدة زوجة الرشيد وأمثالهن، وهكذا أمهات الأئمة: ربيعة الرأي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأمثالهن كثير، بل ذَكَرَ بعضُ مَنْ كَتَبَ مِنَ العلماء في الجرح والتعديل في رواة الحديث أن جملة النساء اللاتي اشتهرن بالتحديث وروى عنهن محدثون كبار لم تجرح واحدة منهن بكذب ولا وهم ولا تدليس، وحسبك ما ذاع بين أئمة الحديث أن كريمة رحمها الله أثبت من روى عن البخاري رحمه الله صحيحها، وأن نسختها من أصح النسخ إن لم تكن أصحها على الإطلاق.
*****

رابع عشر:

ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يوجه دعوته إلى كافة فئات المجتمع؛ لأنه يسعى في صلاح الجميع وهدايتهم وإسعادهم في العاجل والآجل، فكل الناس بحاجة إلى علمه ونصحه، وهو لكل الناس، لكن ينبغي أن يعتني بالفئة التي تنتفع كثيرًا وتؤثر في الآخرين تأثيرًا إيجابيًّا كبيرًا؛ مثل الشباب؛ فإنهم مستهدفون من خصوم الإسلام لإفسادهم أكثر من غيرهم، وهم إذا اهتدوا واشتغلوا في هداية الخلق فَنَفْعُهُم في هداية نظرائهم ومن دونهم أبلغ من غيرهم.
ولقد حفظت لنا سير الصحابة والتابعين رضي الله عن الجميع نماذج فريدة من جهود الشباب المبارك في الدعوة، فلقد كان جل أصحاب رسول الله ﷺ شبابًا طاهرًا زاكيًّا مباركًا، استجابوا لدعوة الإسلام عن رغبة ولم تردهم عنه شبهة أو فرية، وكانت لهم جهود مباركة في السبق إلى الإسلام وقت الغربة والتعليم والتربية والدعوة والصبر عند المحنة والمبادرة إلى الهجرة والنصرة والجهاد مع البلاء والكربة.
وفي طليعة هؤلاء الشباب المسلم علي بن أبي طالب وحمزة بن عبدالمطلب وبلال بن رباح وعمار بن ياسر ومصعب بن عمير في رهط من شباب مكة قبل الهجرة . وبعد الهجرة كان ابن عباس وعبد الله بن الزبير وجعفر الطيار والحسن والحسين وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص ونحوهم من شباب قريش ممن يخدمون النبي ﷺ ويتلقون عنه الحديث ويحفظون سنته العملية ويتسابقون إلى ميادين الجهاد والدعوة إلى الله تعالى.
وهكذا كان من رهط الأنصار شباب سبقوا إلى الإيمان بالنبي ﷺ ونصرة دعوته، والجهاد في سبيل الله من أمثال: أنس بن مالك، وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، ومعاذ بن جبل، وابني عفراء، وغيرهم من شباب المسلمين المهاجرين من غير قريش ونحوهم جم غفير نذروا أنفسهم لخدمة النبي ﷺ وحفظ سنته ونصرته والدفاع عنه ما سجل بمداد من نور، ينير السبيل للشباب المسلم في العلم والدعوة والحسبة والجهاد والبر والصلة، وغير ذلك من المهام والوظائف الإسلامية العظيمة الجليلة.
وكذلك: اشتهر الجيل الأول من التابعين، كعلي بن الحسين والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وسالم بن عبدالله بن عمر وعروة بن الزبير، ونحوهم ممن نذروا أنفسهم لتعلم العلم بسنده، وأخذه عن أهله وتعليمه لطالبيه، وكم قدموا من البحوث والمناظرات فيه وبذل الجهد الكبير لضبط ألفاظه وفهم معانيه والنظر في حال رواته ومؤديه، كل ذلك مما يجلي ويؤكد أن جهد الشباب في تاريخ الإسلام يضارع جهود الشيوخ أو لا يقل عنه خصوصًا في ميادين تلقي العلم وحفظ السنة والدعوة والجهاد غير أن الشيوخ سبقوهم في أثر سبقهم على الإسلام في إظهار الدين والصبر على أذى وجهاد الكافرين والجهاد بالمال، والرأي في مكيدة العدو والإيواء والنصرة، والغبطة بالإسلام والبغضة والغلظة على الجاهلية وأهلها.
وكل ذلك مما ينير للشباب المعاصر طريق الدعوة وبحثهم على البصيرة والقوة في الدعوة، ويحفزهم على التقيد بمنهاج السلف الصالح من الأمة ومعرفة الموقف الشرعي العلمي والعملي من أهل الأهواء والبدعة وغيرهم من أعداء الأمة حتى يدعو إلى الله تعالى على منهاج مستقيم ويحذروا من الإعراض أو التشبه بأهل الجحيم.

خامس عشر:

فقراء الناس وضعفاؤهم ومساكينهم في الغالب أرق قلوبًا وألْينَ أفئدةً، لأنها لم تتشبع قلوبهم من متع الحياة، وليس لهم شيء يتوهمون زواله عنهم باستجابتهم لدعوة الخير، بل إنهم لحاجتهم وشدتهم يطمعون في بر الداعي إلى الخير، وإحسانه إليهم ويكفيهم منه البلغة والنوال اليسير.
ولهذا كان فقراء الأمم وأراذلهم وأرقاؤهم من أول المستجيبين للرسل عليهم الصلاة والسلام في الجملة، كما قال قوم نوح لنوح عليه السلام: ﮋﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﮊ [هود:٢٧]، وكما قال المستكبرون من قوم صالح للذين استضعفوا: ﮋ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮊ [الأعراف:٧٥]. وهكذا غيرهم من الأمم، وهكذا كان الفقراء والغرباء والعبيد من أول من آمن بالنبي ﷺ، وهم الذين أمر الله نبيه ﷺ أن يصبر نفسه معهم، وعاتبه الله فيهم لما شغلته نفسه عنهم بالأكابر طمعًا في هدايتهم.
فالعناية بهذه الفئات من المجتمع من أسباب نجاح الدعوة ومن الدلائل على إخلاص الداعي وشفقته ورحمته بالناس، وأنه لا يريد من دعوتهم أجرًا ولا تكثرًا، بل يريد هدايتهم لأنفسهم، وصلاحهم لإسعادهم دنيا وأخرى، ومخالطتهم تزيده تواضعًا، ورفقةً ورحمةً، ورقةَ قلبٍ، وسكون نفسٍ.
فالفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والعمال وذووا المهن هم أوسع ميادين الدعوة ومقدمات نجاحه، وعلامات فلاحها وصحة منهاجها، وتأسي الداعي بالنبي ﷺ وإخوانه المرسلين والنبيين وأتباعهم في دعوة الناس.

سادس عشر:

النصيحة كلمة جامعة تدل على الإخلاص والنقاء وسلامة الصدر نحو الناس وحب الخير لهم وكراهة ما يؤذيهم أو يضرهم، ومعناها: حيازة الحظ ـ أو الخير ـ للمنصوح له.
فإن النصيحة من حق كل مسلم على أخيه المسلم، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «حق المؤمن على المؤمن ست...الحديث، وفيه: وإذا استنصحك فانصح له»( ).
وفي المسند عن حكيم بن أبي زيد عن أبيه عن النبيﷺ قال: «إذا استنصح رجل أخاه فلينصح له»( ).
وقال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: بايعت رسول الله ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم( ).
وفي الصحيحين عن تميم بن أوس الداري أن رسول الله ﷺ قال: «الدين النصيحة» ـ قالها ثلاثًا ـ قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»( ).
وعند الطبراني من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لا يصبح ويمسي ناصحًا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين»( ).
فأتباع السلف الصالح ينصحون لكل مسلم كبيرًا كان أو صغيرًا، غنيًا كان أو فقيرًا، قريبًا كان أو بعيدًا، أميرًا كان أو مأمورًا؛ لأن قصدهم نصرة الحق وهداية الخلق، وكلما كانت مسؤولية المرء أعظم كانت نصيحته وإعانته وحقه أكبر وأعظم وأوجب.
*****

سابع عشر:

ذلك أن من أصول أهل السنة والجماعة المأخوذة من الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من الأمة؛ الرد على المخطئين في المقالات والأحكام، وبيان ضلال المنحرفين في الاعتقادات والأعمال من أهل الإسلام، وكذلك الرد على خصوم الإسلام الطاعنين في القرآن أو السنة أو شريعة من شرائعه، أو فريضة من فرائضه، ونحو ذلك من أضاليلهم وتحريفهم، وبيان وجه الصواب في هذه الأمور بالقول البين والبرهان القاطع، دون فحش في العبارة أو شيء من الهمز أو اللمز ولو بالإشارة، فإن الفحش في القول وغمط الناس ورد الحق إذا جاء على لسان الخصم ليس من منهاج أهل السنة والجماعة، بل هم يقبلون الحق ويحترمون حرمات الخلق ويحكمون بالحق ولو على الخصم، عملًا بقوله تعالى: ﮋﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﮊ [النساء:١٣٥], وقوله تعالى: ﮋﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﮊ [المائدة:٨]، ومن الجور والبغي الحكم على النيات وتحميل العبارات ما لا تحتمل.
وكم في القرآن العظيم من الآيات المحكمات المتضمنة الرد على ما أثاره الملأ المستكبرون من أهل الكتاب والمشركين من شبهات حول القرآن، وافتراءات على الرسل عليهم الصلاة والسلام عامة، والنبي ﷺ خاصة، وكذلك اعتراضات المنكرين للبعث أو القادحين في شيء من الأحكام، وكل ذلك ببراهين ساطعة وحجج قاطعة دون تسمية لشخص أو تعيير أو تشهير، لأن المقصود إظهار الحق، وكشف الشبهة ورد الضلالة وإقامة الحجة وهداية مريد الحق لبغيته، وبيان ضلال الضال ووجه ضلالته.
وكان النبي ﷺ ينكر أخطاء الناس وجهالاتهم دون أن يسميهم أو يشهر بهم ـ إلا في أحوال نادرة تقتضي ذلك ـ بل يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا أو من شأنهم كذا، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي ﷺ فاحشًا ولا متفحشًا( ).
وفي الترمذي وغيره عن النبي ﷺ قال: «إن الله ليبغض الفاحش البذيء»( )، وثبت عنه ﷺ قوله لعائشة رضي الله عنها: «إن شر الناس من تركه الناس ـ أي: ابتعد عنه الناس ـ اتقاء فحشه»( ).
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»( )، وفيهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك »( ).
وفي الترمذي عن ابن مسعود رض الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء»( )، وفيه عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «ما كان الفحش في شيء إلا شانه»( ).
*****

ثامن عشر:

ذلك لأن الداعي إلى الله تعالى خير الناس وأنفعهم للناس وأرحمهم بهم، لما في قلبه من الخير، ولما يعلم من فضل الإحسان إلى الناس؛ وأن نافلة العمل الصالح المتعدي نفعه إلى الخلق أفضل من القاصر على النفس، وربما تضاعف المتعدي نفعه أضعافًا مضاعفة، كالصدقة على ذي الرحم المسكين والمضمر للعداوة والجار؛ فإنها تكون أربع صدقات وفضل الله واسع.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺأنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»( )، ولقوله تعالى: ﮋ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﮊ [المائدة:٢], ولما جاء عنه ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»( ).
وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته»( ). وقال ﷺ أيضًا: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»( ).
وقال ﷺ: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته، ومنبله، والرامي به»( ).
وقال ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»( ). وقال ﷺ: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه»( ).
وقال ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه»( ). وقال ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»( ).
وروي عنه ﷺ أنه قال: «إن أحدكم مرآة أخيه»( ). وروي عنه أيضًا أنه قال: «المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه»( ).
ففي هذه الأحاديث أن من صفات المؤمنين التواد فيما بينهم، والتراحم والتناصر على الحق، والتعاون على الخير ودفع الشر، وأن أحدهم يسره ما ينال إخوانه من الخير، ويسوؤه ما يصيبهم من المكروه، رحمة منه بهم وشفقة عليهم، واغتباطًا بإيمانهم بالله تعالى وطاعتهم له، ورجاءًا لثواب ذلك عند الله تعالى، فلذا يسويهم بنفسه، ويحب لهم الخير كما يحبه لنفسه، إلى غير ذلك مما يدل على صفاء القلوب وكمال المودة والمحبة في الله وسلامتها من الغش والحسد والحقد والضغينة.
وقد كان السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ كذلك، فواجب على أتباعهم ـ من الدعاة خاصة والمسلمين عامة ـ إلى يوم القيامة أن يكونوا كذلك؛ لأن ذلك من اتباع السلف الصالح بإحسان الذي وعد الله أهله الجنة والرضوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
*****

تاسع عشر:

فإنها من صفة النبي ﷺ وإخوانه المرسلين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، ومن صفة أصحابهم وأتباعهم بإحسان إلى أن يأتي الله بأمره، وهي من أسباب رحمة الله للعبد في الدنيا والآخرة، قال تعالى في صفة نبيه ﷺ: ﮋﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﮊ [التوبة:١٢٨].
وأخبر الله تعالى عن رسله من أولهم إلى آخرهم أنهم إنما ينذرون أممهم؛ خوفًا عليهم من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فدعوتهم ونذارتهم لأممهم من رحمتهم بهم وشفقتهم عليهم، وفي صفة هذه الأمة المذكورة في التوراة: ﮋﭚ ﭛﮊ [الفتح:٢٩].
وقال ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»( )، وقال ﷺ: «ارحموا ترحموا»( )، وقال: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي»( ).
قال بعض السلف رحمهم الله تعالى: «وددت لو أن لحمي قرض بالمقاريض؛ وأن الناس أطاعوا ربهم».
وقال آخر: «لو أن لي مالًا لجعلت على كل جبل مناديًا ينادي في الناس: النار النار»، أي: يحذرهم وينذرهم من النار.
فالداعية إلى الله تعالى ينبغي أن يكون رحيمًا بالخلق في كل مقام بحسبه، فيتحرى اللين في خطابه ـ غالبًا ـ، والرفق في النصح والإرشاد، ويجمع بين الترغيب والترهيب في الدعوة إلى الله، ويكون على اهتدائهم وانتفاعهم بدعوته أحرص منه على المعذرة وإقامة الحجة عليهم؛ ولذلك يبذل الجهد في نصيحتهم، ويتحرى أنجح الأساليب التي يظن فيها هدايتهم، ويصبر على أذاهم يبتغي المثوبة من الله تعالى، بل يسوؤه ضلالهم وهلاكهم على الكفر والضلال والفسق والبدع والمعاصي.
وفي الحديث عن النبي ﷺ قال: «الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»( )، وقال ﷺ: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس»( )، وفي صحيح مسلم قال ﷺ: «أهل الجنة ثلاثة...الحديث، وفيه: ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم»( ).
*****

عشرون:

فإن من الأصول المقررة في الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويجوز تأخيره لوقت الحاجة، ومن له معرفة بأسباب نزول القرآن العظيم ومناسبات بيان النبي الكريم ﷺ يتجلى له مراعاة المناسبة في إجابة السائل وبيان حكم الحدث أو النازلة.
وهكذا كان النبي ﷺ لا يدع مناسبة إلا بيَّن ما تدعو الحاجة إلى بيانه بشأنها، أو ما له صلة بها؛ فلما رأى عند عائشة رضي الله عنها سترًا فيه تصاوير هتكه وقال: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم»( ), ولما جيء إليه بجمار النخل أو شحم النخل قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟»( ).
ولما ذكرت له بعض أمهات المؤمنين كنيسة رأتها في أرض الحبشة وما فيها من الصور قال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»( ).
ولما قال له اليهودي إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، قال ﷺ: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان»( ).
وهكذا من تدبر سنة النبي ﷺ تبين له بجلاء أنه ﷺ كان لا يدع مناسبة إلا اغتنمها في بيان ما أنزل إليه من ربه، وبذل العلم لأمته.
فاغتنام الداعي المناسبة في البيان مع لطف القول واختصاره من أنفع الأمور في هداية الناس وتعليمهم وأخفها عليهم؛ لأنه يوافق حاجتهم، حتى إن البيان لا يكاد ينسى، وفضل المبين لا ينكر.
*****

حادي وعشرون:

فإن الغرض من الدعوة هداية الخلق للحق، فينبغي تبليغ الحق للخلق بكل وسيلة لا محذور فيها.
وقد كان النبي ﷺ يبلغ دعوته إلى الناس بما أمكنه من الوسائل:
1- فكان ﷺ يجمع الناس ثم يخطبهم، يبشرهم وينذرهم، كما جمع ﷺ بطون قريش فخص وعمَّ، وقال فيما قال: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»( )، وقال: «أنقذوا أنفسكم من النار لا أملك لكم من الله شيئًا»( ).
2- وكان عليه الصلاة والسلام يحضر أماكن ومناسبات تجمع الناس فيعرض عليهم دعوته، كما كان ﷺ يشهد موسم الحج قبل الهجرة، ويحضر أسواق العرب، عكاظ، ومجنة، وذا المجاز وغيرها للدعوة إلى الله تعالى.
3- وكان ﷺ يلتمس من زعماء العرب أن يحملوه إلى أوطانهم، ويحموه لعله أن يجد من يستجيب له، فيقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشًا منعتني أن أبلغ كلام ربي»( ).
وكان من نتائج ذلك بيعتا العقبة الأولى والثانية، ثم الهجرة، وما تلى ذلك من أمور كانت سببًا في ظهور الإسلام وعزة أهله.
4- ولما صالح النبي ﷺ قريشًا صلح الحديبية وظهر أمره وعظم سلطانه وصارت له الولاية العامة على المسلمين باعتراف أهل الكتاب والمشركين، كاتب ملوك زمانه وبعث بكتبه ورسله إليهم، ليبلغهم دعوته حتى يستجيبوا له، ويُمكِّنوا من تحت أيديهم من شعوبهم من الإيمان به واتباعه، وكاتبهم ﷺ بلغتهم وندب بعض كتابه لتعلم اللغة السريانية من أجل ذلك.
5- ومن شرائع الدين والشعائر الظاهرة في مجتمع المسلمين خُطب الجمعة والعيدين وغيرها لموعظة الناس، وإرشادهم، وبيان أحكام وفضائل المناسبات التي تلقى بشأنها تلك الخطب.
6- وكان ﷺ يتخول أصحابه بالموعظة كلما رأى مناسبة أو حاجة.
7- وبعث ﷺ الدعاة إلى القبائل والنواحي، تلبيةً لطلب أهلها، أو سدًّا لحاجتها.
8- ولما كثر الناس اتخذ المنبر، واستبدله بغيره لما وجد منبرًا أفضل منه، كما في قصة المنبر الذي اتخذه من طرفاء الغابة بدلًا من جذع النخلة.
فدلت هذه الأمور على أنه يتعين على الداعي إلى الله تعالى اغتنام كافة الوسائل الممكنة التي لا محذور فيها لتبليغ الدعوة وتعليم الأمة وبيان الحق للخلق، وقد قال تعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﮊ [الممتحنة:٦].
وقال ﷺ: «عليكم بسنتي»( )، وقال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني»( ).
وقد دلت سنته ﷺ على العناية بوسائل إيصال الدعوة إلى أكبر قدر ممكن من الخلق الداني والقاصي.
وقال لجرير بن عبد الله في حجة الوداع: «استنصت لي الناس»( )، ففتح الله له القلوب والأسماع حتى سمعه أهل الموقف على كثرتهم، ولما قال رجل يقال له أبو شاه: يا رسول الله اكتبوا لي ـ يعني: الخطبة أو بعضها ـ قال: «اكتبوا لأبي شاه»( ).
*****

ثاني وعشرون:

مالُ المرء قرين نفسه ـ في المنزلة ـ في الشرع والواقع، ولهذا جاد المؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر بأموالهم كما جادوا بأنفسهم، ونالوا عز الدنيا وسعادة الأبد بهذا البذل السخي ابتغاء وجه الله ومرضاته، وَبَخِلَ المنافقون والكفار بأموالهم وكان ذلك من أسباب خسرانهم وشقائهم في الدنيا والآخرة، ولذا باؤوا بغضب الله ولعنته والعذاب الأليم والخلود في الجحيم لكونهم لم يؤمنوا، فكانوا يقبضون أيديهم، نسوا الله فنسيهم.
فكان من أقوى أسباب إعراض الكفار والمنافقين وصدودهم عن دعوة النبي ﷺ الشح بدنياهم، لمسْكِهِم وريبهم وتوهمهم أن دخولهم في دين الإسلام يقطع أرزاقهم أو ينقص ما عندهم أو ينحيهم عن مناصبهم الاجتماعية، وخضوع الناس لهم وتبعيتهم لهم، أو يؤثر من هو دونهم شأنًا في المجتمع عليهم، فيقدمه عليهم أو يغمطهم مقامهم، ولذا أقر كل ذي شرف من منصب أو غنى على شرفه فلم ينقص شيئًا، بل زادهم الإسلام عزًّا ورفعةًّ دنيا وأخرى.
ولهذا تواطأت الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة على أن رسل الله عليهم الصلاة والسلام لا يسألون الناس على دعوتهم أجرًا ولا مالًا ولا غيره، وإنما يريدون لهم الخير وصلاح الشأن وحسن العقبى في الدنيا والآخرة.
وما طلب منهم إنفاقه على وجه التعبد لله تعالى من زكاة مفروضة أو صدقة تطوع أو جهاد بالمال أو طلب للبر فهو لأنفسهم وَوُعِدُوا بالخلف عليه، وعُدَّ ذلك قرضًا لتأكيد رده ومثوبته( ).
ولذا كان النبي ﷺ لا يطلب المال من الناس إلا أن يكون زكاة واجبة في أموالهم الظاهرة التي كلفه الله بأخذها ممن وجبت عليه، وصرفها في مصارفها التي عينها الله تبارك وتعالى بنفسه، أو أن يعرض عليهم حاجة ظاهرة لعامة المسلمين، كبئر رومة، وتجهيز جيش العسرة، والتصدق على شخص أو جماعة تحقَّقَ فقرهم وظهرت حاجتهم، كوفد مضر، بحيث يكون قرار الإنفاق نابعًا عن اختيار وقناعة من ذوى الغنى و اليسار، وإلا فقد طلب ﷺ من بني النجار مثامنة حائطهم ليشتريه موضعًا لمسجده عليه الصلاة والسلام، وكان يستسلف من الأغنياء البعير بالبعيرين من الصدقة للجهاد حتى لا يثقل على الناس.
فكل هذه الأمثلة وغيرها كثير تدل وتؤكد على أنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يتعفف عن دنيا الناس، وأن لا يثقل عليهم بالإلحاح في الصدقات والتبرعات، وإذا اقتضت الحال شيئا من ذلك فليكن ظاهرًا بيِّنًا هم يرونه ويختارونه ويتولونه حتى لا يمل الناس ولا يثقل عليهم ويحملهم على الشح، فإن النفوس مجبولة على الشح، ﮋﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﮊ [الحشر:٩]، وحتى لا يفتح على نفسه شبهة أو باب تهمة أنه يطلب من الناس أموالهم لينتفع بها من ورائهم، ورحم الله امرأً اتقى الشبهات، وكف الغيبة عن نفسه وعرضه، وحبب الخير إلى الناس وجعلهم يتبصرون فيه، ولم يجعل نفسه وكيلًا عليهم، وحمد الله على العافية، فليس هو ولي أمر، ولم يجب عليه المشروع الخيري عينًا، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من العافية، فإن بدا الأمر راجحَ النفعِ للناس فليكن دوره دور المشير الناصح لا الطالب القابض المتوكل عنهم.

الباب الرابع:

الدعوة إلى الله تعالى مهمة عظيمة لها أولويات متنوعة، وأمور متعددة، يصعب حصرها فضلًا عن استقصائها ـ وما سبق جهد مقل ـ.
وفيما يلي أذكر فوائد منثورة رجاء أن تكون مكملة لما سبق، وهادية للحق، وفاتحة الباب لمن يريد السبق:
الأولى: في الحث على المبادرة إلى الدعوة والمنافسة فيها:
تقدم أن الدعوة إلى الله تعالى من جليل العبادات، وفريضة من فروض الكفايات، وذكر شيء من فضائلها، وشرف أهلها، وعظم المثوبة عليها، فينبغي لكل ذي أهلية لها ورغبة في مثوبتها أن يسابق إليها وينافس غيره فيها، فهي ميدان فسيح مفتوح للرجال والنساء من الجن والإنس، قال تعالى: ﮋﭯ ﭰﮊ [البقرة:١٤٨], وقال سبحانه: ﮋﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﮊ [آل عمران:١٣٣], وقال سبحانه: ﮋﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﮊ [الواقعة:١٠-١٢].
وقال ﷺ: «بادروا بالأعمال»( )، وقال ﷺ: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم»( )، وقال ﷺ: «ألا مشمر للجنة؟»( ).
والأصل عموم الخطاب للمكلفين من الجن والإنس, الرجال والنساء, إلا ما دل الدليل على خصوصه بشخص معين أو جنس معين.
الثانية: من بركة القيام بمهمة الدعوة إلى الله تعالى:
للقيام بوظيفة الدعوة بركات كثيرة وعواقب حميدة، حاضرة ومستقبلة، ظاهرة وباطنة، ومن ذلك أن الله تعالى يحفظ الداعي في صحته وعافيته، ويحفظه في أهله وذريته وماله ويكفيه همه ومؤونته، فيجمع له بين انشراح الصدر وتيسير الأمر، مع ما يرجى له من المثوبة وحط الوزر وعظم الأجر، وفي الحديث: «احفظ الله يحفظك»( )، وفي الحديث الآخر: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»( ).
وصدق الله العظيم إذ يقول: ﮋﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﮊ [الطلاق:٢-٣ ]، وقال سبحانه: ﮋﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﮊ [الطلاق:٤]، وقال تعالى: ﮋﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﮊ [الطلاق:٥].
والدعوة إلى الله تعالى من أهم أمور التقوى والدعاة المخلصون في دعوتهم وعملهم لله من سادات المتوكلين، وقد قال تعالى: ﮋﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﮊ [الطلاق:٣], أي:كافيه، وقال سبحانه: ﮋﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮊ [الزمر:٣٦ ], وقال تعالى: ﮋ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮊ [المزمل:٩].
فمن اشتغل بالدعوة إلى الله وتوكل على الله وأخذ بالأسباب التي شرعها وأباحها الله كفاه الله أمر دينه ودنياه وأخراه.
الثالثة: متى يكون الشخص مباركًا أينما كان؟:
إذا رزق الله العبد معرفة الحق بدليله والعمل به وتعليمه للناس مع الإخلاص والسنة فقد جعله الله مباركًا أينما كان، لأنه أينما حل نفع، ونفع العلم والهدى للقلوب أعظم من نفع الغيث للأرض، فادع الله أن يجعلك مباركًا أينما كنت تضرعًا وخفية، واشتغل ببيان الحق للناس ولاسيما عند المناسبة والحاجة، وبالأسلوب الذين يحفز السامع إلى قبول ما توجهه به يجعلك الله كذلك.
الرابعة: في الدعاة إلى الخير والدعاة إلى الشر:
الدعاة صنفان:
الأول: هداة للخلق إلى الحق على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة، وأئمة هؤلاء المرسلون والنبيون، قال تعالى: ﮋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠﮊ [الأنبياء:٧٣ ], وكذلك أتباعهم من الصديقين والعلماءِ العاملين الذين قال الله تعالى فيهم: ﮋﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮊ [السجدة:٢٤ ].
وقال ﷺ: «من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه...الخ »( )، وقال ﷺ: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»( ).
فهؤلاء مباركون عل أنفسهم وعلى من حولهم وهم الفائزون بالتجارة التي لن تبور، المفلحون في الدنيا والآخرة، جعلنا الله من أئمتهم بمنه وكرمه.
الثاني: دعاة الباطل وهم كل من عرف الحق وتركه ودعا إلى الضلال والبدع، اتباعًا للهوى، أو أغرى الناس بالشرك والكفر، كما قال تعالى عن آل فرعون: ﮋﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﮊ [القصص:٤١،٤٢ ].
وقال ﷺ: «من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من تبعه إلى يوم القيامة»( )، وقال عليه الصلاة والسلام في دعاة الشر في آخر الزمان: «دعاة ضلالة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها»( ).
فكن ـ يا عبد الله ـ من دعاة الحق، ولا تكن من دعاة الباطل والضلال، حتى لا تكون ممن قال الله تعالى فيهم: ﮋﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﮊ [النحل:٢٥ ].
الخامسة: في نفع الدعوة للداعي والدين والخلق:
في قوله تعالى: ﮋﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﮊ [الذاريات:٥٥], وقوله: ﮋﯧ ﯨ ﯩ ﯪﮊ [الأعلى:٩], على أن معناها: قد نفعت الذكرى، بشارة بأن الدعوة نافعة لا محالة، ومن نفعها: بيان أحقية الحق وبطلان الباطل وسقوط الإثم عن الداعي، وفوزه بثواب الدعوة، وإظهار الحق للناس، وإعلان بطلان الباطل، وإقامة الحجة على الخلق وقد ينتفع بها من يشاء الله هدايته ولو بعد حين.
السادسة: للهداية وقت معلوم فلا يستعجل:
للهداية أجل لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه كالرزق والمنية وغيرها من الأمور المؤجلة، وقد اهتدى أناس من الصحابة لأول وهلة ولم يهتدِ آخرون إلا بعد بضع سنين، ومنهم من تأخر إسلامه إلى فتح مكة وبعضهم بعد ذلك، فعلى الداعي إلى الله أن يجتهد في دعوته وأن يبالغ في موعظته، وأن يلح على الله عز وجل بسؤاله هداية المدعو على يديه، وأن يؤمن بقضاء الله وقدره، ويسلم النهايات والخواتيم إلى الله تعالى فإن الله تعالى بصير بعباده.
السابعة: الفرق بين هداية التوفيق وهداية الإرشاد:
اعلم أن هداية القلوب ـ أي التوفيق لقبول الحق ـ وانشراح الصدر به، بيد علام الغيوب لا يملكها غيره سبحانه، قال تعالى: ﮋﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮊ [القصص:٥٦], نزلت في أبي طالب حيث حرص النبي ﷺ على هدايته وكرر دعوته له حتى لحظة حياته الأخيرة، ومع ذلك لم يهتدِ بل كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
أما الدعوة إلى الله فهي من هداية التعليم والبيان والدلالة والإرشاد، وهي التي قال الله تعالى فيها: ﮋﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﮊ [الشورى:٥٢], وقال تعالى: ﮋﭶ ﭷ ﭸﮊ [الرعد:٧]. فأما ما لله عليك من الدعوة فإنه عبادة وإحسان, واترك ما على الله تعالى له, فإن له سبحانه الحكمة, وهو بعباده أبصر.
الثامنة: في الحث على كثرة الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة:
في قوله تعالى: ﮋﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﮊ [ق:٤٥], تنبيه على أنه ينبغي للداعي أن يكثر من الاستدلال بالقرآن، وما ثبت عن النبي ﷺ له من بيان في دعوته: في موعظته، في خطبته، في درسه، في مناظرته، فإن القرآن والسنة أبلغ الكلام، وهو شفاء للقلوب، وقد اشتمل على أظهر البراهين وأقوى الحجج، ولبلاغة قصصه ووعده ووعيده آثار معلومة في هداية القلوب وإصلاح أحوال الناس.
التاسعة: في الجمع بين أسلوب الترغيب والترهيب في الدعوة:
قال بعض السلف: الفقيه كل الفقه من لم يُقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يجرئهم على معصية الله، فينبغي للداعي أن يخوف الناس من شؤم ذنوبهم ومعاصيهم، ويطمعهم في عفو ربهم ومغفرته وفضله ورحمته، فيجمع لهم في حديثه بين الترغيب والترهيب، وهو منهاج رباني عظيم وهدى نبوي كريم، وهو الجمع بين النذارة والبشارة في سياق واحد، كقوله تعالى: ﮋﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﮊ [الليل:١-٢١ ].
وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك»( )، وعن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي ﷺ كلمة وقلت أخرى، قال النبي ﷺ: «من مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار، وقلت أنا: من مات وهو لا يدعو لله ندًّا دخل الجنة»( )، وقوله ﷺ: «من لقي الله وهو لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه وهو يشرك به شيئًا دخل النار»( ).
في هذه النصوص الجمع بين النذارة والبشارة، وتقديم النذارة على البشارة.
العاشرة: الحذر من القول على الله وفي دينه بغير علم:
تذكر أن الله تعالى قال في حق نبيه ﷺ: ﮋﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮊ [الحاقة:٤٤-٤٧], فإذا كان الله تعالى قد توعد نبيه وخليله ﷺ لو قال عليه ما لم يقل ـ وحاشاه ـ، فكيف بمن قال عليه من الخلق سواه ﷺ؟!، فاحذر أن تقول على الله وفي دينه بغير علم فإنه كذب على الله تعالى وإضلال لعباده، قال تعالى: ﮋ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮊ [الأنعام:١٤٤], فإن القول على الله وفي دينه بغير علم أكبر الكبائر وأعظم المحرمات، قال تعالى: ﮋ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮊ [الأعراف:٣٣ ].
فلا يحملنك كونك واعظًا مؤثرًا أو مناظرًا حجيجًا، أو إقبال الناس عليك على أن تتكلم في دين الله بغير علم، فإنه هلكة وشقاء في الدنيا والآخرة، قال الصديق رضي الله عنه: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله بغير علم؟!
الحادية عشر: وجوب التثبت فيما ينسبه للنبي ﷺ من الحديث:
تواتر عن النبي ﷺ قوله: «من يَقُلْ علي ما لم أقل ـ وفي لفظ: من كذب علي، فليتبوأ مقعده من النار»( ). وهذا وعيد شديد وتهديد أكيد؛ ولذا قل حديث جمهور الصحابة، وامتنع بعضهم عن التحديث عن رسول الله ﷺ، خوفًا من الوعيد الوارد في هذه الأحاديث، ولأن غيرهم قد كفاهم مئونة التحديث، فاحذر أن تنسب إلى النبي ﷺ حديثًا لم تثبت صحته أو تصدر فيه عن أحد دواوين السنة المعتبرة.
الثانية عشر: اجتناب الحديث بكل ما سمع والإجابة على أي سؤال:
من عيوب كثير من القراء ـ غير الفقهاء ـ التحديث بكل ما سمع والإجابة عن كل سؤال، وقد قال النبي ﷺ: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع»( )، وذلك لأن الذي يحدث بكل ما سمع يعرض له الخطأ والوهم فينسب إلى الكذب، وقد يستمري ذلك ويهون علية أمر الخطأ فيتلقى الناس عنه مما ليس من دين الله فيبؤ بإثم ذلك. وقال ابن مسعود: «إن الذي يفتي الناس في كل شيء لمجنون».
وقد عُرضت على الإمام مالك أربعون مسألة فأفتى في أربع وقال عن ست وثلاثين: لا أدري، فقال له السائل: سبحان الله، تقول هذا وأنت مالك؟ فقال: أخبر من وراءك أن مالكًا لا يدري.
الثالثة عشر: تعين ترك الفتيا أو القول بالظن:
إذا جاءك المستفتي أو المسترشد عن شيء من دينه فلا تفته بالظن، فإن الظن ليس بعلمٍ، قال تعالى: ﮋﭘ ﭙ ﭚ ﭛﮊ [الحجرات:١٢], وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»( )، وقال عقبة بن عامر: «تعلموا قبل الظانين»( )، ولا تحملنك العاطفة أو حب الخير على أن تفتي سائلًا في مسألة لست من أهل الفتيا فيها، قال بعض السلف: (إنكم لتفتون في المسألة لو وردت على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر), وقال آخر: (إذا جاءك السائل فلا تقل لعلِّي أجد له مخرجًا حتى تعرف مخرجك عند الله).
الرابعة عشر: يتعين على الداعي الفرح بظهور الحق مطلقًا:
الداعية إلى الله تعالى على منهاج السلف الصالح ـ من رجل أو امرأة ـ شخص صحيح الفطرة، سليم الصدر من الغل والحقد والحسد، محب للخير لكل أحد، أمره واضح جلي، فليس لديه غش ولا خديعة ولا مكيدة لأحد؛ لأن همه أن يظهر الحق على لسانه أو لسان غيره، وأن يقبل الحق منه أو من غيره، فيبين عند الحاجة ويؤخر البيان لوقت الحاجة، ويفرح إذا كفاه غيره البيان أو الفتيا، ولا يجبن إذا توقف ظهور الحق عل بيانه ما لم يخف على نفسه أو على حرمته وذويه ضررًا محققًا، ويبتعد عن ما يؤدي إلى الاختلاف والفرقة والفتنة، ويصبر على الأذى ما أمكن، ويُعنى في كل موقف بما هو أرضى لله تعالى وأحرى بإصابة السنة وظهور منهاج السلف الصالح، ولا يتسبب في إثارة الناس عليه إلا بموجب شرعي تتحقق به المصلحة وتدرأ به المفسدة، وعند التزاحم تراعى القواعد الشرعية التي تحكم ذلك.
فلا ينازع الحكام حكمهم، ولا ينتقص أهل العلم قدرهم ولا يزدريهم، ولا يغمط العوام أو يحتقرهم، ولا يدعو إلى بدعة أو سلوك في الدعوة خلاف منهاج السلف الصالح، ولا يقصد من دعوته أن يتكثر بالناس أو محمدتهم، ولا يأخذ على دعوته أجرًا من الناس لا ماديًا ولا معنويًا، بل همته منصرفة إلى إظهار الحق، وهداية الخلق؛ وأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وكل يوم يمضيه في الدعوة يعده منحة من الله وذخرًا عنده.
الخامسة عشر: إيضاح موضوع الدعوة وذكر أمثلة من تطبيقاته:
لعل من الحكمة في الدعوة العامة في المساجد وغيرها من مجامع الناس أن يؤسس الداعي في كلامه قاعدة عامة مثل: (بيان معنى التقوى، وفضلها وحسن عواقبها في الدنيا والآخرة), ثم يورد أمثلة متنوعة مما يدخل في معنى التقوى، بحيث ينطبق كل مثال من أمثلتها على شخص أو مجموعة من الأشخاص.
فمن أمثلتها: المحافظة على الصلوات، ومن أمثلتها أداء الزكاة، ومن أمثلتها بر الوالدين، ومن أمثلتها ترك الربا، ومن أمثلتها البعد عن أسباب الزنا، ومن أمثلتها حسن عشرة الزوجات. وكذلك يبين حقيقة الشرك بالله تعالى وخطره، ثم يذكر أمثلة من أنواعه وصوره.
السادسة عشرة: مهمة الداعي إلى الله تعالى:
ليست مهمة الداعي أن يعلم الناس كل ما يعلمه، أو كل ما يحتاجون إليه في مقام واحد، وإنما هي وصية بالتقوى، ودلالة على باب هدى، أو حض على واجب ظهر تركه، أو نهي عن محرم ظهر فعله، أو تصحيح خطأ أو تفنيد شبهة، أو تذكير بحق نعمة، أو إنذار من بوادر عقوبة ونقمة، فهي هداية للإسلام أو خصلة من خصاله، ونذارة من شيء من نواقصه أو نواقضه.
فلذلك ينبغي أن تكون مع الشخص في خاصّة نفسه، ولا يسمع غيره الكلام الموجه إليه إلا برغبته، ومع العامة على وجه التعميم والإجمال دون التخصيص أو التعيين.
كما ينبغي مراعاة مقتضى الحال، وتغليب جانب الإيجاز والترغيب والترهيب وتنويع الأدلة، وإذا كان الموضوع هداية شخص للإسلام، أو استنقاذه من جريمة أو فاحشة كبرى، فتنبغي متابعته بلطف حتى يطمئن من تحقق المقصود والسلامة من العوارض فيكون الداعية بمثابة الطبيب الذي يتابع مريضه حتى يبرأ من علته ويستعيد عافيته، وتغليب جانب التبشير والترجية، والبعد عن العنف أو التوهين، قال ﷺ: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطى على الرفق ما لا يعطي على العنف ولا على ما سواه»( )، وقال أيضًا ﷺ: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا»( )، وقال ﷺ: «من يحرم الرفق يحرم الخير»( ).
والنصوص في هذا المعنى كثيرة ومشهورة، والموفق من وفقه الله، والسعيد من جعله الله مفتاح خير، ومغلاق شر، ونفع للخلق بما يقدر.
*****

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك