حوار الحضارات بأي معنى؟
حوار الحضارات بأي معنى؟
الميتروبوليت جورج خضر*
حوار الحضارات كتاب أتى صرخة وشهادة بعد الخضة التي أحدثها مؤلف صموئيل هنتغتون عن صراع الحضارات فانبرت مجموعة من المفكرين بمبادرة سهيل فرح وأليغ كولوبوف لتبيان إن الحضارات تتشارك في العطاء لأنها قابلة للتلاقي.
نودي كتاب روسيون وعرب ليسهموا في تشييد هذه العمارة الشاهقة الخلابة من زواياها الكثيرة. مفكرون روسيون وعرب ما جعل الفضاء العربي والروسي مدى الأبحاث بالدرجة الأولى مع هاجس العولمة.
هذا حد الكتاب إذا كان يتعذر أن يضم الحوار كل حضارات العالم. من هنا أن المصنف بدا نموذجيا لمحاولة المقارنة بين كل مدنيات العالم. وإذا كان مداك أولا روسيا ودنيا العرب فأنت بالضرورة ناطق في الإسلام وفي المسيحية الأرثوذكسية. وان طغت هاتان الديانتان في مجال تأملك فلست انت في انحصار إذ جاء التأمل واسعا، متعددا، دقيقا ودقيقا جدا في بعض الحالات وإذا جمعت المداخلات كلها تقنعك الأطروحة وتدنو من ان عالمنا ليس بتركيبته العقلية غابة وحوش ولو لم يكن الآن جنة »تجري من تحتها الأنهار«. تشتم أنت مما كتب أن ثمّة فراديس وأننا نحاول السمو بحيث نزاوج العقل والقلب في نور واحد فتحكي نبضات الوجود إننا إلى مصير أنساني تحركه إرادة الوحدة.
لا تعجب أن رأيت في الكتاب حضورًا روسيا ومشرقيا مجتمعا ذلك إن الكثير من جوهر روسيا أتى من عندنا وان بعضا من مفكريها تشرقوا ويتشرفون وعددا من مثقفينا نهلوا من علوم عدة في مشارب ذلك البلد العظيم. هل هو من أوربا كليا أم من مشارق الأرض أيضا؟ إذا قلنا إن بيزنطية ليست العاصمة أولا للإمبراطورية الرومانية الشرقية ولكنها مصب لما نبع عندنا من قداسة ولاهوت أمكنك بحق إن تشهد إنطاكية المسيحية في واقع النسيج الوجداني الروسي. كذلك أمكنك أن تلمس أثر الحضارة الإسلامية في شعر بوشكين وغيره أي في ينابيع الإحساس العقلي الروسي بحيث تذوق الإسلام بأرقى ما يكون عليه التعبير بلسان من ولدوا على المسيحية.
في هذا السياق يأتي الحديث عن الاستشراق الروسي الذي هو متجلى كبير في الجهود الأدبية عندهم. لقد أتيح لي في شبابي أن اطلع على بعض من كتبهم في هذا الباب وأتيح لي ان أقوم بمقارنته مع المسمى الأستشراق في الغرب وما لفتني عمق الاستشراق الروسي الذي كان يعنى بالموضوعات الإسلامية في معرفة كبيرة لم يتنطح لها الاستشراق الغربي الا قليلا.
أهمية بحث العرب في التراث الروسي أنهم يوسعون دائرة معرفتنا لأوربا التي كانت عندنا محصورة في الغرب وقد أبان مناصرو السلافية في القرن العشرين فرادة التراث ألسلافي وشرقا ما في أوربا وأنت تاليا لا تقيم كل أوربا إزاء الشرق.
إلى هذا يلفتك وضع المسيحيين العرب في تعبيرهم الحضاري كما يرى هذا او ذاك من مساهمي الكتاب. إن احتساب مسيحيينا على الغرب بالإطلاق والتعميم ظلم لهم واستعمار الغرب للشرق منذ الحملة الصليبية الأولى لم يميّز بين مسيحي مشرقي ومسلم ليقتلهما هنا وثمة ولا سيما في القدس. من المؤكّد للمطّلع أن المسيحي له لونه الخاص في الحياة العربية ملتزما كنيسته أم علمانيا كما معظم رواد النهضة ولكنه ينتمي إلى الوعي العربي بل كان مثيرا لهذا الوعي في حقبة غير بعيدة. ولكن، يجب أن يبرهن للمسيحيين مرة نهائيّة أن العروبة تتسع لهم وعليهم هم أن يتبنوا كيف يقيمون مع الآخر عيشا مدنيا واحدا. هناك إشكاليات إسلامية لا حل لها في اعتقادي إن لم توضع على صعيد الفكر العالمي الذي لا بدّ للإسلام أن يواجهه.
ولكن ليس من فكر عميق لم تلامسه خبرة القلب. ليس من نشاط عقلي بحت وتجد في هذا المصنّف غير مساهمة طالعة من وجدان انسكب في العقل أو انسكب العقل فيه. لعلّ هاتين الحركتين هما الحب.
يتراءى هنا وثمة من وراء العرض الفكري عن المسيحيّة والإسلام إن حياتهما لا تقوم على التجريد ولكن على تلاقي القلوب في مغامرة فريدة عنيت بها مغامرة المعية بين هذه الشعوب غير منفصلة عن النصوص إذ النصوص لا تتحاور ولكنك لا تلاقي الآخر ضدها او بدونها. هذا التحرك من النص إلى الإنسان الآخر ومن الإنسان إلى النص عمل عربي بامتياز لأن اللغة سكرنا الواحد ولأن عندنا مشاعر متقاربة أن لم تكن واحدة في كل شيء، تلك المشاعر التي لا تعثر عليها موحّدة للمسلمين والمستشرقين.
الكتاب الذي عليه نحن مجتمعون يحتوي على تحليل للحضارات ومقارنتها رائع الى جانب المعلومات القيمة التي تدعم السلام. ولكن هذا وجه من العملة. ولكن ماذا إذا حلّ العنف وضرب الحوار. ماذا اذا شاع التطرف واحتلّ هذا الدين او ذاك؟ كيف نردم الهوة بين المثال وتطبيقه وهل المثال دائما نقي ودعوة حقيقيّة إلى السماحة الكاملة؟ العيش قد يكون أفضل من النص بسبب من إرادة العيش الواحد وكسب النفوس بالسلام. للعنف قواعده في النفس البشرية. كيف نطهرها ونجعلها لطيفة بالنفوس الأخرى؟
القصة وما فيها أن الحياة لا تقوم على استخدام نصوص آليا إذ لا يخضع البشر بالضرورة لآيات يعتبرونها نازلة عليهم. يقرؤون كما يشاؤون او لا يقرؤون. ماذا تعمل بالشهوة وتحريكها من قبل الذين يرغبون في إشعال الأرض؟ الواقع ان العنف في عالم التوحيد أعظم بكثير مما هو عند الشعوب الوثنية. ليس صحيحا إذا أن الإيمان بالله ساهم في السلام. ثم لماذا تصبح شعوب في السلام قرونا طويلة ثم فجأة تستعمل السيف؟
هل يحد من استعماله إذا قرأنا المصادر الدينية مجازا أو أولتاها او قراناها عابرة بسبب من إننا نقرأها تاريخية، ظرفية، وليست مطلقة. اعتقد أن هذا الجزء من العالم الديني مشكلة او مشكلات غير محلولة حتى الآن كما اعتقد أننا في حاجة إلى ما هو غير ديني، إلى إيمان بالحرية لأنها شرط السلام والإنسان تلقائيا مؤمن بالسلام لكونه يريد الحياة.
أهل هذا البلد وهو مذكور كثيرا في هذا الكتاب يحاولون كل شيء لدرء خطر حرب مجدّدة وبذورها حاضرة ولكنهم يريدون أن ينزل السلام عليهم نزولا في هذه الهدنة الخائفة التي يقيمون فيها ويتحدثون رومانسيا على أن الأديان قيما إنسانية تجمعهم ولكن لا يعرفون الطريق إلى حياة السماحة والتعاون. السلام له ثمن وهو التوبة إلى الله والتوبة الى وجه الآخر. حياته هي القيمة الكبرى وهي معنى حياتك ومبررها.
كل دين يجب فحصه على ضوء استمرار الوجود السلامي كائنة ما كان بهاؤه او ما كانت حقائقه. في الفكر الإلهي في البدء كان السلام لأنه هو كلمة الله الأولى والأخيرة وما كان ضده تفسير مغلوط.
حوار الحضارات، عنوان الكتاب الذي جمعنا كلمة مهذبة لتعني حوار الأديان. في الحقيقة ليس من حوار أديان. هناك فقط حوار أهل الأديان. والطريق إلى ذلك أن ما يسبق حوار أهل الأديان هو حوار أهل كل دين فيما بينهم ليتبينوا بنعمة الله ورضاه ما يقدمون في حياتهم العملية من سلام للآخرين وإذا أمكنهم كيف يستخرجونه من كتبهم المقدسة. بعد هذا للمسيحيين إن يتلوا على أنفسهم قول معلّمهم: »طوبى لصانعي السلام. انهم أبناء الله يدعون«. والله عندهم كما في الإسلام سلام اسمه. بهذا يستعيدون سكنى الله في نفوسهم اذا تاقت إلى العنف. فليقرؤوا في تراثهم ما يوطد علاقات الأخوّة وهي إخوة البشر جميعا إلى أي دين انتموا. وقد خلقهم ربهم إنسانية واحدة ثم تبلبلت ألسنتهم بوسوسات شياطينهم. أنهم مدعوون أن يسكتوا الشيطان حتى يسمعوا فقط صوت الله أبيهم الواحد. اذ ذاك يصبحون إلهيين او متألهين كما تقول المسيحية وكما يقول الإسلام. حوار الكلام جيد وحوار القلوب كل الجودة. بهذا يوحّدون الله.
* المطران جورج خضر ( لاهوتي و مفكر أنطاكي , ميتروبوليت الروم الأرثوذكس
في جبل لبنان, أستاذ سابق للحضارة الإسلامية في الجامعة اللبنانية).