تبدو الحداثة مختلفة اختلافا جوهريا عن الإسلام لمن يريد أن يرى الاختلاف. فحسب النظرة الإسلامية، يتصرّف الإنسان تحت رقابة الله، والله هو الذي يضمن له حريته أو على الأقلّ هو الرّاعي الأوّل لها. أمّا في الحداثة فالكائن البشريّ ذاته هو الذي يعتبر القيمة المطلقة في الكون. فلا يعتمد سوى على عقله باستعمال فكره النقديّ وتَحمّل مسؤوليته الفردية.
فهل يشجّع الفقه الإسلاميّ على استعمال العقل وممارسة حرّية الفكر وتحمّل المسؤولية؟ هل يتقبّل الفكر الإسلاميّ في عمومه ركائز الحداثة الأساسية؟ من يتولّى مسؤولية الحكم في الإسلام ليس مسؤولا أمام الشعب بل هو مسؤول أمام الله. فليس للشعب المسلم حقّ رفض الشريعة، ولا أحد من الحكّام العرب تجرّأ على إعادة النظر فيها صراحة.لا يمكن الذهاب بعيدا في التساؤل عن مدى توافق الفكر الإسلاميّ والديمقراطية، فهي تناقضه ابتداء منذ اللفظ: ديمكراتوس، "حكم الشعب". في الإسلام لا يعود الحكم إلى الشعب وإنّما لله. فلا يستطيع الناس التصويت من أجل تحريم ما حلّل الله ولا تحليل ما حرّم. وهو ما حدث في مسألة المآذن في سويسرا إذ أراد القوم فرض إرادة سمائهم على السويسريين!
دولة "إسلامية من غير انتخابات" و"الديمقراطية كفر"، تلك كانت شعارات جبهة الإنقاذ الجزائرية المحظورة ولا زالت. وهي شعارات مؤسّسة إسلاميا وليست شعارات متطرّفة كما يدّعي المحللون وأغلبية الذين لا يريدون النظر إلى الواقع كما هو.
في فرنسا وفي مدينة بوردو بالذات عارضت القنصلية المغربية تحريق أو ترميد جسد أحد الفرنسيين من أصل مغربيّ كان قد أوصى بذلك في حياته، وتحت ضغوط الإسلاميين وحتى بعض الدول الإسلامية، تنازلت السلطات العمومية الفرنسية تجنّبا للقلاقل لهذا المنطق الفئويّ العصبويّ على حساب الضمير الفرديّ. ذاك المنطق الذي لا يعتبر الفرد ملكا لنفسه بل كـ"شيء" تابع لقبيلة، هي المؤهّلة لتقوم في مكانه بتحديد معتقداته الشخصية. وعلى نفس الوزن والمعنى يصرّح إمام جامع مدينة ليل الفرنسية ورئيس رابطة الشمال الإسلامية :"لا يوجد مفهوم المواطنة في الإسلام. ولكن المجموعة أو الطائفة مهمّة جدّا. إذ الاعتراف بمجموعة هو اعتراف بالقوانين التي تحكمها".
وهكذا يجد المسلم نفسه في أرض الحداثة تائها ينشد الانعزال. ففي داخل كلّ مسلم يعيش في الغرب تلتهب شبه حرب أهلية، بل صراع حضارات بين إيمانه والحداثة التي تهيمن على محيطه وتغزوه في عقر داره. لا يكترث الناس بما يقوله القانون بل بما يقوله الشرع، فيفوق عدد الاستشارات الفقهيّة أضعاف الاستشارات القانونية في بلدان القانون. يصاب بالذهول من يطّلع على عدد الفتاوى المقدّمة وفحواها عبر العالم الإسلاميّ كلّ يوم. فتاوى من أجل البقاء داخل القالب الإسلاميّ لأنّ المسلم يريد أن يكون مؤمنا مثاليا، يتطابق سلوكه مع ما يأمر به الشرع. لذلك فهو يريد أن يطّلع على كلّ كبيرة وصغيرة ليدخل في الصفّ أو يبقى في القفص الفقهيّ حتى لا يسهو ويغضب الله. هل تجوز الصلاة في الفضاء وكيف نتعرّف على جهة القبلة هناك؟ هل يجوز للمرأة تكحيل عينيها وهي صائمة؟ وهل مهنة طبّ النساء جائزة للرجال؟ والمسابح المختلطة حرام ارتيادها أم حلال؟ في كلّ يوم تشرق فيه الشمس على مصر تصدر دار الإفتاء أكثر من 1000فتوى عبر الهاتف، في أربع لغات، فضلا عن الــ500التي يتمّ تقديمها مباشرة للمؤمنين الذين يقصدون الدار طلبا للرأي والفتوى، كما يقول مقدّم برنامج فتاوى على قناة "الحوار" اللندنية. يتعجّب من يسمع أسئلة مشاهدين واردة من باريس ولندن ولوزان وروما و..ويصاب بالغثيان إن استجمع قواه وصبر حتى سماع ردود جلالة المفتي القروسطية.
يا أيها المؤمنون خافوا الله
الحداثة مقاربة جديدة للإنسانية، في قلبها الفرد والحرية والاستقلالية. لذلك فالتناقض بينها وبين الإسلام ليس حادثا عابرا فحسب، وإنما هو نتيجة حتمية يعود إلى منطقهما الداخليّ الهيكليّ. وحتما سيتصارعان بل لا مجال لتعايشهما، كما سبق أن رأينا في سويسرا وغيرها. كانت بريطانيا مثلا أرض ميعاد للأصوليين، واليوم يحاولون أسلمتها بعدما استقرّت أقدامهم وأصبحوا بالتجنس مواطنين. ها هو شهيب حسن، الناطق الرسمي للمجلس الإسلامي في بريطانيا يدعو الإنجليز إلى استبدال نظامهم السياسيّ الديمقراطيّ العريق بالدولة الإسلامية: "إذا طبّقتم الشريعة، تستطيعون تحويل هذا البلد إلى حديقة سلم، إذ إذا تمّ قطع يد سارق، فلا أحد يتجرّأ على السرقة إطلاقا. وإذا رجم زاني مرّة واحدة فلا أحد يرتكب جريمة الزنا أبدا. إن قبل المجتمع البريطاني بالشريعة فهذا يعود عليه بفوائد جمّة". ها هو يحاول إعادة توصيف الحبّ إلى زنا، جاهلا أن أوروبا هي اليوم في مرحلة "ما بعد الزواج" والحبّ الجنسيّ.
بدأت الضغوط تأتي أكلها، ففي 12 جانفي2007 رفضت قاضية ألمانية طلب طلاق تقدّمت به ألمانية من أصل مغربيّ بدعوى أنّ زوجها المسلم يضربها، وقد برّرت القاضية رفضها قبول الدعوى بحجّة أنّ القرآن يجيز للزوج ضرب زوجته. وهذا ما بدأ ينحو نحوه كثير من الأوروبيين والكنديين، وهو ما أصبح يعرف بـ"التسوية المعقولة". ففي امستردام وزّعت نسخ القرآن على موظّفي الشرطة ليفهموا ويتفهّموا ثقافة المسلمين أكثر!
تخرج الحقيقة أحيانا من أفواه شيوخ الدين، فالإسلام ليس ملكا للمسلمين يفعلون به ما شاؤوا، وإنّما الإسلام هو الذي يملكهم. لقد تمّ طرد إمام مسجد روان بفرنسا لأنه عقد زواجا مختلطا، وخطب بالفرنسية، فاعتبر فعله بدعة وضلالة. فهل تتناسب الثقافة الإسلامية مع الحياة الحديثة (الشكلية) التي يحياها المسلمون في الغرب؟
أن تريد أن تعيش إسلامك في الغرب كما هو الحال في بلد إسلاميّ فأنت تضاعف مشاكلك إلى ما لا نهاية. فعوض أن تبحث عن عمل فقط مثلا، فأنت تبحث عن عمل لا يغضب الله أيضا. وبدل أن تأكل لقمة أو قطعة لحم وتمضي بسرعة كما يفعل الآخرون، فأنت مضطر للبحث عن المذبوح الحلال..وهكذا.