والمبتهلون فيها ليسوا من عالم المنشدين أو المرتلين وقارئي القرآن الكريم، بل هم من عالم ما يُدعى بالمثقفين والأكادميين والكتّاب والصحافيين والإعلاميين، بأطيافهم : الدينية والعلمانية، اليسارية واليمينية، القومية والوطنية، الليبرالية والمحافظة. ناهيك عن رجال الدين ورجال السياسة الذين يتوزعون على الأطياف نفسها، والتيارات ذاتها.
يتجمّع المبتهلون في جوقات. كلّ بحسب طائفته، وتتميّز بعض الطوائف بتعدّد جوقاتها، وبتنوّعها، وبتكاثرها.
تصطفّ جوقة المبتهلين والرهطِ المؤتلفين، الذين "سكبوا سكباً واحداً، وأفرغوا إفراغاً واحداً، وكان القالب واحداً"، على حدّ تعبير الجاحظ، تصطفّ جوقتهم في رتل واحد، وتنشد نشيداً موحّداً، وتتقاسم أدوار الأداء، وتتوزّع أداء الأدوار : فمنهم الكورس المردِّدون، ومنهم المساعدون المفرّدون، ومنهم المصفّقون المهلّلون، ومنهم المهيِّجون المحمّسون. وتتنوّع أصواتهم وإمكاناتها، ومراتبهم ومقتضايتها، فبعض الأكاديميين لا يتعدّون طبقة (القرار)، ولا يبتهلون إلا بأناقة برجوازية، وبصوت خفيض، ومن بين الأسنان، حتى يحافظوا على الوقار العلميّ والرُّواء الأكاديمي، أما بعض المناضلين الثوريين فقد يصمتون، ولكنهم حين يجدّ الجدّ ينفجرون فجأة في طبقةٍ من (الجواب) تأتي على الأخضر واليابس، وتذر الديار بلاقع، ويواصل بعض ثالث من المتكسبين والمتعيّشين والمياومين من (الدو) إلى (الدو)، وربما اجتازوا (الأوكتاف) إلى (الأوكتافين)، فهم متفانون في وظيفتهم مستعدّون لها، بنَفَس طويل ميّاس، وبعُرب صوتية محمّلة بحقائق التاريخ والجغرافية وأصول المناظرة وعلم الكلام، وبعض هؤلاء هو من الصنف الذي إذا استؤجر للابتهال كان ثمن سكوته وصمته أغلى وأفدح من ثمن غنائه وابتهاله، لأنه إذا حمي وطيسه لم تجد له من زاجر، ولا من وليّ قاهر.
والسؤال المهمّ هنا هو : إذا كان من المعقول أن يغدو المتديّن طائفياً، فكيف يتأتّى لمن أُشرب قلبه العلمانية أن تنتشي فيه الهوية الطائفية، وأن يمحضها ولاءه الكونفورمي، وأن يلقي بجماع نفسه بين يديها، فيحبّ في الله ويبغض في الله! ولا يتشفّى بغير الإرجاف، ولا يستنيم إلا إلى مفاحشة الأبذياء.
في طائفتي مثلاً، ويؤسفني أن أستخدم ياء النسبة هنا، لأنني حقيقة لا يهمّني الانتماء لأيّ طائفة مهما كانت، يمكنني أن أسمّي أفراداً من هؤلاء المبتهلين، وأنا مغمض العينين: (الشيخ يوسف القرضاوي، الأكاديمي رضوان السيد، المفكر عبد الرزاق عيد، المفكر محمد عمارة، المتفلسف أبو يعرب المرزوقي، المفتي علي الجوزو، الإعلامي محمد الهاشمي الحامدي، الشاب الناشئ في طاعة الطائفة معتز الخطيب)، وعذراً من الذين يرغبون في ذكرهم ولم نذكرهم في هذه القائمة القاتمة الطويلة التي تزداد يوماً إثر يوم جرّاء إقامة برامج السوبر ستار الطائفي التي تصطفي وتغربل وتنتقي الطاقات الشبابية وما فوق الشبابية، هذه الطاقات الطامحة التي تقع على الاكتشاف السهل المباح المتاح، الذي يشير إلى أنّ (النبرة) و(السحبة) الطائفية هي الدرجة الرفيعة المؤهِّلة للدخول إلى ملأ الكبار، والاستمتاع بصحبتهم، والذي يومئ إلى أن (الآه) الطائفية هي الوسيلة التي من أخذ منها بنصيب، وتعلق منها بسبب، والتي من أحسن أداءها وترديدها وترجيعها فقد حاز كل أمنيّة.
يبدأ الابتهال في ألحان ومقامات بائدة بائتة لا يطرب لها إلا الهمجيّ المتوحّش الذي لا يعرف للقانون معنى، ولا للعدالة موضوعاً، ولا يأنس بها إلا كلّ ذي روح منخورة متداعية، ولا يرقص على إيقاعها إلا النفوس المجذوذة التعاطف، المحدودة التّبار، أما أحبّ المقامات إلى قلوب هؤلاء فـمقام : (أن تزر الوازرة وزر الأخرى)، الذي يمهّد لمقام: (نعمِّم ما لا يحتمل التعميم)، ويصافح مقام : (نحمّل الكل جناية البعض أو بعض البعض)، ويواسي مقام : (نأخذ الضعيف بجناية القوي)، ويعضد مقام : (ندين أبناء الطائفة الأخرى ولو ثبتت براءتهم)، وفي التنويع يتم النقل إلى مقام: (الحكم بلا استبراء)، و(القضاء من غير روية).
يمدّ المبتهلون أصواتهم ويمطّونها. يطنّون ويخنّون ويدوّون ويدمدمون ويصلصلون، وينساقون للمبالغة ذات اليمين وذات الشمال، فيسرفون في مديح زعماء طوائفهم فهم أرباب، ويُغرِقون في هجاء زعماء الطوائف الأخرى فهم شياطين، ويرون القذاة والقشة في عيون الطوائف الأخرى، ولا يرون الخشبة في عيون طائفتهم. يهولهم في الطوائف الأخرى طول الإزار، ولا يعنيهم في طوائفهم طول الأوزار، فقد خلق الله لهم عينين من أجل أن تكون الأولى عين ولاء وارتياح ورضىً تجمِّل طائفتهم وتبرز محاسنها، والثانية عين بَراء وارتياع وسخطٍ تشوِّه الطوائف المقابلة وتبدي عوارها. فإذا أخطأت طائفتهم صفّقوا لها وهللوا، وإذا أصابت الأخرى جبهوها وعنّفوها، ولم يتعاملوا معها إلا بـ (التجاهل الرخيص) لمواطن الفضل فيها، ومكامن الصواب لديها.
يبتهلون وقد شوّه التشنّج ملامحهم، ولكننا ندرك من مخايلهم أنهم مسرورون بهذا التشوه، لأنه المعبّر الأكيد عن صدق مواقفهم، وعن ابتعاد انفعالاتهم من الافتعال، إذ يريدوننا أن نقتنع أنّ إفشاءهم ونفثهم وتأوّههم ناجم عن الضغط والعصر والهصر من قِبل (الطوائف) الأخرى ليس إلا ، لكن واقع الأمر يقول : إنّهم ما برموا يصيحون ويتأوّهون، ويتذمّرون ويتنمّرون، بسبب وبدون سبب، ذلك أنهم يقفون على أهبة الاستعداد، ولا ينتظرون إلا الظَرف المواتي، فالحيوان الطائفي في دواخلهم دائم التمطّي، وهو لدى المتديّن متحفّز للقفز، ولدى العلماني متلهّف للوثوب.
ينشدون ويبتهلون ابتهالات يورث الاستماع إليها ورم القلب، أو بالأحرى يزعقون بين يدي أشباح من نسج خيالهم تنهال عليهم من كلّ فجّ عميق، وتتوارد إليهم من أساطير الأولين، فهم أملياء بالخرافات وغاصّون بها، يرتعدون في (خوف) يحيلنا إلى خوف الإنسان البدائي، ويتقلقلون في (حسد) يذكّرنا بحسد ابن آدم الأول، ويهتزون في (شهوة استئصال، ونشوة تفرّد) تعيدنا إلى النازية وأخواتها وأضرابها.
لا يتورعون عن ابتعاث التاريخ وتشريحه وأخذ العيّنة اللازمة لتأكيد حجّتهم، ولو كانت بقية العيّنات جميعاً تنقض تلك الحُجّة وتنسفها نسفاً.
ولا تسمع منهم، في ظلمة الأحداث التي نتخبّط فيها، إلا تأويلات يظنّونها محكمة محبوكة شأن كلّ مؤامرة، ولكنها تأويلات مفتعلة غريبة، لا يبلورها سوى الحنق المتطاير شرره ووضره. ولا يأنفون من أن يبحثوا في هذا الطوفان العَكِر الذي يحيق بنا جميعاً عن قطع مفككة متناثرة يتشبثون بها، ويدعون الآخرين للاعتماد عليها، ويصرفونهم في الوقت ذاته عن أن يفكروا في بناء طوف جامع يتسع للجميع ولا يُستثنى منه أحد.
هم وحدهم المحنّكون الذين ينظرون إلينا شزراً نحن الغافلين والمثبطين والفارين من الزحف الأقدس، ذلك أننا لا نعرف ما يراد بنا، وما يدبّر لنا. هم وحدهم الذين يعرفون، ومعرفتهم هي المعرفة اللدنية التي تفيضها عليهم الأجهزة الأمنية والمخابراتية المنتمية للطائفة ذاتها، أو للدول المماثلة لهم طائفياً.
لن أسترسل في الوصف، ولن أطيل في الكلام، ولن آتي بالشواهد ولا بالأمثلة، وهل نحن بحاجة إليها إذا كانت معاطننا ومرابضنا لا تتنفّس إلا غازات الطائفية، ولا تنتج إلا منتوجاتٍ طائفية، ولكن حسبي أن أقول:
أيها المُدّاح المبتهلون المغرمون بالطائفة … غرامكم خاسر.
أيها الغاضبون للطائفة… غضبتكم عاجزة.
أيها الطائفيون من المتدينين والعلمانيين.. آمنوا بالله وبالإنسانية، واكفروا بالطائفة وبالطائفية، وبمن يدعو للطائفة وللطائفية، وكونوا للجميع ومع الجميع، وإلا فستقرأ الأجيال ما قدمتم وآثاركم، وعندها فسيلعنكم اللاعنون، ولن يغفر لكم الغافرون.