في أزمة الحوار الإسلامي- المسيحي

في أزمة الحوار الإسلامي- المسيحي

بقلم: أبي حسن

ذكر الباحث الإسلامي اللبناني الدكتور رضوان السيد موقف الكاردينال توران، مسؤول العلاقات مع الأديان في الفاتيكان، المتعلّق بالحوار بين الأديان (المقصود الحوار الإسلامي- المسيحي)، والذي انطوى على أن "الحوار الحقيقي صعب، فالمسلمون لا يتقبلون الحوار في الشأن الديني البحت، لأنهم يعتبرون القرآن كلام الله المُوحى ويأبون النقاش فيه. ثم إذا كان الحوار بدون شروط، فينبغي سؤال المسلمين لماذا لا يكون من حق المسيحيين أن تكون لهم كنائس في السعودية مثلما للمسلمين جوامع في ايطاليا؟" .

هذا مع العلم أنه يوجد قرابة المليون مسيحي كاثوليكي، من العمال المهاجرين، في السعودية لا يُسمح لهم ممارسة شعائرهم الدينية في العلن!. وهذه القضية أثارها "البابا بنديكت السادس عشر مع الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز إبان زيارته إلى الفاتيكان" في السادس من نوفمبر2007.

حقيقة الأمر أن الجواب الصريح والشفاف للكاردينال توران، قد أوجز ولخص الكثير من الجهد والوقت الذي عادة ما كان يهدر بحوارات تلفيقية لا طائل منها في ظل وجود عقليتين لاهوتيتين متناقضتين. وإن كان لنا من تعليق، فلن نزيد عن تذكيرنا القارئ بالهدية التي قدمها الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود إلى البابا بندكتوس السادس عشر في الزيارة التاريخية المذكورة التي قام بها إلى الفاتيكان، إذ كانت هديته للبابا عبارة عن سيف"؟!" .

مهما يكن من أمر، دعونا نقف قليلاً عند النظرة الإسلامية التي تقسم العالم ما بين دار حرب ودار سلم من وجهة نظر إسلامية "حديثة" تدّعي التطور والارتقاء بالإنسان، لا من وجهة النظر الفقهية الكلاسيكية فحسب (ومع ذلك تريد الحوار وتدعو إليه)، بل من وجهة نظر حداثوية أزهرية (نسبة إلى الأزهر)، ذلك من خلال الاستعانة بنظرة ومنطق السيد عبد المعطي بيومي العضو بمجمع البحوث الإسلامية وأستاذ العقيدة بكلية أصول الدين (في مصر)، الذي أراد أن ينظر إلى الأمور نظرة عقلانية مستنيرة، كما يبدو، فارتأى أن العلاقات الدولية –الراهنة- لم تعد تسمح بتقسيم العالم إلى تينك الدارين، أي دار حرب ودار سلم، بل أصبح العالم كله داراً واحدة، والسبب في ذلك حسب وجهة نظره طبعاً إنه "في كل مكان أينما توجهت تجد مسلمين، لم تعد أوربا دار حرب كما كانت أيام الحروب الصليبية ولم يعد المسلمون دار إسلام فقط، أصبح غير المسلمين من الغربيين وغيرهم يعملون ونحن مضطرون لاستقبالهم عندنا وإعطائهم إقامة، ليس البترول فقط، البترول والعلم والاقتصاد، كل هذه الأمور تدفعنا إلى النظر إلى الغرب كحليف لا كعدو وكضرورة للتعاون وليس مدعاة للحروب" .

إذا ما أمعنا النظر جيداً وبتجرد، في وجهة نظر السيد بيومي سنجد أن الغرب لم يعد دار كفر لا لأن من يقطنون فيه هم بشر ولهم حقوق إنسانية، ويجب النظر إليهم من وجهة نظر إنسانية وأخلاقية (بمعزل عن حاجتنا إليهم)، وقد يكون الكثير منهم أفضل منا أخلاقياً وإنسانياً ودينياً وان كان يخالفنا في المعتقد، بل لأن المسلمين صاروا موجودين وبكثرة فيه، لهذا السبب (الفقهي) لم يعد ذاك الغرب دار حرب، فالمسلمون الذين يقطنون فيه قد شرّفوه وباركوه وطهروه!. يا للإنسانية الطاغية!

قبالة ذلك لم تعد البلاد المعروفة بكونها بلداناً إسلامية عبر تاريخها، دار سلم (طبعاً المقصود هنا بهذه البلدان، البلدان العربية الإسلامية بالدرجة الأولى)، لأن مسيحيين (وربما يهودا) صاروا مقيمين فيها بحكم حاجتنا إليهم والى خبراتهم في العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والإدارة الخ…، لكن ما إن تنتهي حاجتنا إليهم والى خبراتهم وعقولهم ويديروا لنا ظهورهم عائدين إلى بلدانهم وأوطانهم الأصلية حتى "تتطهر" أراضينا من رجسهم ودنسهم، وتعود كما كانت "طاهرة"، "نقية"، "مقدسة"، أي "دار سلم"!.

ترى هل تلك النظرة الإسلامية، التي ساعدنا السيد عبد المعطي بيومي في الوقوف عليها، مختصراً علينا بذلك الكثير من الوقت بغية الوقوف عند آراء سواه من رجال الدين الإسلامي، هي ما يفسر لنا صمت رجال دين العالم الإسلامي –العربي منه تحديداً- إزاء تكفير المفكر المصري محمد عمارة للمسيحيين هادراً دمهم في كتابه "فتنة التكفير بين المسلمين والشيعة" الصادر في بداية عام 2007؟ لن نجد صعوبة كي نقنع ذاتنا بالقول نعم هو السبب، فببساطة لم يستند عمارة إلى مخيلته أو قواه "العقلية" أثناء هدره لدماء مواطني بلده من الأقباط (سكان مصر الأصليين)، بل استند إلى الإمام أبي حامد الغزالي وكتابه "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة". ومن البديهي أن إدانة رجال الدين الإسلامي لعمارة ستكون إدانة مباشرة للإمام أبي حامد الغزالي وهو المُسمى بـ"حجة الإسلام"!.

حقيقة الأمر يمكننا التوقف عند أكثر من جانب في مسألة تكفير عمارة للمسيحيين وهدره لدمهم. فأول ما يلفت الانتباه هو صمت رجال الدين الإسلامي وإحجامهم عن إدانة مفكّر عصر الانحطاط محمد عمارة حسب وصف أحد الصحفيين المصريين له. والذي تولى متابعة الموضوع السلطات المصرية لا الأزهر الشريف، ولا الشيخ يوسف القرضاوي أو الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي بما يرمزان إليه من "اعتدال" و"انفتاح" في العالم الإسلامي.

والأقلام التي تجرّأت وانتقدت (المفكّر الشيوعي السابق) محمد عمارة سواء أكانت مصرية أم عربية (الكثير منها من خلفية إسلامية مستنيرة ومستقلة) هي أقلام بعيدة كل البعد عن المؤسسة الدينية الإسلامية الرسمية.

من جانب آخر قدّم لنا رجال الكهنوت المسيحي القبطي موقفاً أخلاقياً يُشكرون عليه، إذ لم يتورطوا في الجدل الذي دار حول الكتاب الذي كان يباع في الأسواق بأسعار تشجيعية، على الرغم من إباحته لدمهم! هذا مع العلم أنه سبق لعمارة أن قدّم مجموعة مقالات نُشرت في يومية "الأخبار" التابعة للحكومة المصرية، تكفّر الأقباط. وأخيرا كما هو معروف إن أي محاكمة لم تجر بحق محمد عمارة وفتواه المثيرة للحقد الطائفي" في بلد بالكاد يمضي عام فيه من دون وقوع صدامات طائفية بين الأقباط والمسلمين، عادة ما يذهب فيها ضحايا!

انطلاقاً مما سلف ذكره نستطيع القول إن الوضع الحالي للديانتين، المسيحية والإسلامية، أفرز سلوكين متناقضين من خلال طريقة تعاطي هذا الآخر أو ذاك مع المقدس المسيحي أو الإسلامي. لابل إن المسألة تجاوزت حدود المقدس حتى تكاد تصبح جزءاً من مفردات الحياة العامة في الغرب، من ذلك أن تسعى دنمركية من أصل فلسطيني وهي محجبة "إلى الحصول على مقعد في البرلمان في الانتخابات التشريعية المقبلة" ، أو أن يكون الموقف النرويجي أفضل من المواقف الغربية والعربية عندما "هطلت أمطار الصيف على قطاع غزة (صيف 2006) قنابل وصواريخ وقذائف" ، ونذكر هنا بالمبادرة التي قامت فيها البرازيل من خلال استضافتها منذ فترة قصيرة أكثر من مئة وخمسين عائلة فلسطينية (كانت في العراق) كانت منسية في العراء على الحدود العراقية الأردنية في ظل تجاهل عربي وإسلامي كلي لمعاناتهم التي استمرت شهوراً طوالاً!.

يحدث هذا كله في زمن من الصعب الحديث فيه عن مواطن مسيحي، بالمعنى الفعلي لكلمة مواطن، في البلدان الإسلامية، لا بل يصعب فيه الحديث عن مواطن حتى لو كان إسلامياً في ظل النمط الثقافي السائد لدينا!.

وهذا السلوك أو ذاك، إنما يعكس في ما يعكس وعياً جديداً بهُويّة مأزومة قبالة وجود هُويّة منتصرة في مكان ما في هذا العالم. وعلى ما يبدو لنا أن التأزم يزداد في الهُويّات المأزومة طرداً مع ما تحققه الهُويّات المنتصرة من إنجازات على الأصعدة كافة. من غير أن نغفل أن سلوك الهُويّة المأزومة عادة ما يُصدّر إلى خارج حدود البلد مؤثراً بذلك في صوغ هُويّات أخرى تقع خارج حدود السعودية أو مصر أو إيران وباكستان، وحقيقة إننا بدأنا نلمس تأثير وصدى ذلك السلوك في بلدان أخرى كسوريا ولبنان الخ… (إلى درجة أن إحدى المحاكم السورية أقرت "بتبعية الأبناء لأشرف الوالدين ديناً"! ، وهذا كان من المحال أن يحدث في سوريا قبل قرابة عقد من الزمن. )!.

حالة التأزم تلك هي ما يجعل من المهزوم يستخف بمشاعر الآخرين ومقدساتهم، والمأزوم في الهُويّة هنا ممثل برجل الدين بالدرجة الأولى. لنقرأ، مثلاً، ماذا يقول "العلامة" بكر أبو زيد عضو هيئة كبار "العلماء" في السعودية وكيف يطلق النعوت مكفراً الآخرين: "إن أعداء الله عباد الصليب وغيرهم من الكافرين" ، وعلى المنوال ذاته ينسج الشيخ عبد الحليم محمود عندما قال في كتابه "كتاب الإيمان": "إن المسيحيين أشبه بمرض خبيث معد، وإنه يجب على المسلمين أن يظلموهم وان يسيئوا معاملتهم، ويحتقروهم ويقاطعوهم حتى يضطروهم إلى اعتناق الإسلام" . وفي السياق ذاته قال مصطفى مشهور المرشد العام السابق للإخوان المسلمين: "إن على الأقباط دفع الجزية لقاء دفاع المسلمين عنهم. ويجب أن يخرجوا من الجيش المصري لأنهم عناصر لا يؤمن لها، ويمكن أن يمالئوا وان يسهلوا للعدو هزيمتنا" . ومن الجدير ذكره أن أياً من رجال "الاعتدال" ودعاة "الحوار" في العالم الإسلامي لم يُدن مثل هكذا هرطقات يفصح عنها علناً بعض إخوانهم!. هذا ولن نتطرق إلى مضامين كتب كثيرة تشير عناوينها إلى أين وصل حد الإساءة للدين المسيحي من قبل بعض المتدينين المسلمين، من قبيل "الكنيسة والانحراف الجنسي"، و"الكتاب غير المقدس" و"أمة بلا صليب" و"آه يا غجر: رسالة إلى نصارى المهجر" الخ.. التي كتبها المدعو "أبو إسلام احمد".

ويذكر صقر أبو فخر في كتابه(الدين والدهماء والدم) إن ثمة كتاباً صدر في بيروت سنة 1995 لكاتب أردني يدعى احمد زكي بعنوان: "انزعوا قناع بولس عن وجه المسيح" وهو مليء بشتائم بحق الأناجيل الذين وصفهم بالمزورين وبمؤلفي التمثيليات، وقدح بحق الفاتيكان وتلامذة المسيح، وبالسخرية من المسيحية ومن عقيدة التثليث الخ… على الضفة الأخرى، عندما استخدم بعض الفلسطينيين المحاصرين، إبان حصار كنيسة المهد في بيت لحم 2002، أوراق الكتاب المقدس كأوراق تواليت، لم يخرج المسيحيون في فلسطين أو سوريا أو لبنان ومصر وأوربا وحتى أمريكا، مطالبين بقتل المسلمين!. فكما يذكر مجدي خليل "إنه لم يقع أي اعتداء على أي مسلم أو فلسطيني" .

ولنا أن نتذكّر كيف تعامل العالم الإسلامي مع كتاب "الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي، وسباق الفتاوى بهدر دمه بين الخميني وسواه من رجال الدين الإسلامي، وهي فتاوى أعيدت إلى الحياة مجدداً عقب تكريمه من قبل الملكة البريطانية إليزابيث ومنحه لقب "فارس". لابل أن تجاراً باكستانيين عرضوا جائزة "قيمتها 165 ألف دولار لأي شخص يقطع رأسه"! . حتى إن فتحي سرور رئيس مجلس الشعب المصري اعتبر أن "تبجيل من أهان الدين الإسلامي وتكريمه يعد أكثر خطراً من نشر الرسوم المسيئة إلى الرسول محمد" .

وان كنا نستطيع تفهّم سبب تصريح رئيس مجلس الشعب المصري ودوافعه السياسية في بلد كمصر، خاصة أنّا كنا قد رأينا ما جرى لفاروق حسني وزير ثقافة مصر جرّاء انتقاده للحجاب ). غير أننا لم نتفهم صمته إزاء الإساءة شبه اليومية لمواطني بلده الأقباط من قبل كتّاب إسلاميين مصريين!، كما لم نستطع أن نستوعب صمته حيال "إساءة الرئيس معمر القذافي إلى السيد المسيح خلال خطبة ألقاها في النيجر احتفاء بعيد المولد النبوي، حيث تضمنّت إساءات متعددة للديانة المسيحية تحديداً تاريخاً وعقيدة" .

وحبذا لو نعرف رأي السيد سرور وموقفه، هو وسواه من رجال الكهنوت الإسلامي، في ما يخصّ اقتحام الكعبة وقصفها من قبل قوات الأمن السعودي والعربي إبان ملاحقتها للمتمرد جهيمان العتيبي سنة 1979، وكذلك سبب صمته –هو وسواه من رجال كهنوتنا- عن الإساءة إلى القرآن الكريم، من خلال تبول بعض الجنود الأمريكيين عليه في معتقل غوانتانامو قبل قرابة الثلاثة أعوام!.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ترى لماذا هذه الانتقائية في الغضب من قبل المسلمين المتدينين وبعض قادة رجال الفكر والدين الإسلاميين؟. وهل هذا الغضب ينمّ عن غيرة دينية حقاً أم أنه يعكس نقصاً في المناعة العقلية كي لا أقول الإيمانية؟، أم تراه ينطوي على فوات تاريخي تشكو منه هُويّاتنا الممزقة التي تكاد تصبح قاتلة ورافضة للآخر فعلاً!؟. واللافت حقاً إن إساءة الرئيس معمر القذافي للسيد المسيح لم تثر الحمية لدى أي من رجال الدين الإسلامي، وكأن السيد المسيح لا يعنيهم كرسول!، أو كأنه طالما الإساءة بدرت من الرئيس القذافي إلى مقدس غير مقدسهم، ولم يتعرض في الوقت نفسه إلى مقدس إسلامي فلا إثم عليه!.

وبالتأكيد أن البابا بندكت السادس عشر لم يدع إلى مظاهرات تعم العالم المسيحي رداً على إساءة الرئيس معمر القذافي تلك، كما طالب الداعية الإسلامي الشيخ يوسف القرضاوي إلى "يوم غضب إسلامي" عقب نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم في الدنمرك.

ومن الصعب في هذا المقام أن نجد ردّات فعل من قبل العالم المسيحي، الشرقي والغربي منه على حد سواء، على الإساءات التي يتعرضون لها من قبل بعض المسلمين و بعض رجال دينهم.

لابل إن السلوك الكنسي المسيحي بلغ من الرقي والجرأة واحترام الذات حد مطالبة الواعظ الشخصي للبابا بندكتوس السادس عشر بـ"إعلان يوم للصوم والتوبة على الجرائم الجنسية التي استهدفت أطفالاً على أيدي رجال دين كاثوليك" ، في زمن مازال فيه العالمين العربي والإسلامي أجبن من أن يقرّا بوجود ظاهرة الشذوذ الجنسي في مجتمعاتهما، وهو شذوذ نسمع الكثير من الحكايات والأقاويل التي بعضها لا يبرّئ بعض رجال الدين الإسلامي منه، خاصة علاقة ذلك البعض مع الأطفال والقاصرين! ).

معظم ما سبق وذكرته، من أمثلة، يحدث –من حسن حظنا- في مجمله خارج سوريا حتى تاريخه، وهنا تأتي أهمية تحصين الإسلام السوري من إسلام الآخرين، وتحديداً الإسلامين السعودي والمصري.

وانطلاقاً مما سلف نعيد تساؤلنا مجدداً أي إسلام نريد؟ قطعاً لم يعد يكفينا التساؤل(القديم) إن كنا نريد إسلام أبا ذر أم إسلام معاوية؟ جعفر الصادق أم أبي حنيفة؟ الخ… إذ بات الصالح العام السوري، والحفاظ على الهُويّة السورية ووجودها ومنعها من الانفجار والتشظي يفرض علينا عدم الاقتناع بفكرة أن هناك إسلاماً واحداً فقط..

فببساطة نحن أمام إسلام تركي وآخر سعودي و ثالث مصري ورابع إيراني وطالباني وباكستاني واندونيسي الخ….؟، ويجب ألا نغفل انه يجب أن يكون للإسلام السوري خصوصيته التي تفرضها مكونات المجتمع السوري المتباينة والتي قد تكون متنافرة، وهذا ما يجعلنا نربأ الاكتفاء بالقول كلمة إسلام مضيفين إليها جملة "بشريعته السمحاء والغراء".. قطعاً لا يكفي هذا، إذ أن حركة طالبان تقول عن الإسلام انه سمح وشريعة غراء في الوقت الذي تسوّق فيه الأفلام التي تجز من خلالها رقاب المختلفين معها دينياً!.

وما يجعلنا نرتاب حقاً مؤكدين سؤالنا الدائر حول أي إسلام نريد هو تصنيف سوريا، راهناً، بخامس دولة في ارتكاب ما يُسمى «جرائم شرف»، وهذا ما أكدته "مصادر سورية حقوقية وأهلية (إذ) أن «جرائم الشرف» في سورية بازدياد في المجتمع السوري خلال العقود الأخيرة، مشيرة في هذا السياق إلى أن سورية الخامسة عالمياً والرابعة عربياً في انتشار جرائم الشرف، وتقدر عدد جرائم الشرف المرتكبة سنوياً بنحو 300 جريمة معظمها في المجتمعات الريفية" ، ومن المعروف أن القانون السوري يمنح أحكاماً مخففة لمن قتل زوجته أو أخته أو أحد أصوله أو فروعه بداعي «الشرف»، وقد يمنحه البراءة التامة في ما لو ثبت صحة الإخلال بالشرف!.

— 

على الرغم مما سبق ذكره حذار أن يعتقدن قارئ إبان سوقي للأمثلة سابقة الذكر وإجرائي مقارنة بين سلوكين لأتباع ديانتين متناقضتين، إن المشكلة كائنة في جوهر هذا الدين أو ذاك، بمعنى أن المسيحية متحضرة في جوهرها، في ما الإسلام متخلف بجوهره. لا.. إطلاقاً، فالمشكلة ليست كامنة هنا.

فضلاً عن أنه لا يوجد دين سماوي متطور في جوهره بالمطلق، كما لا يوجد دين سماوي متخلّف في جوهره بالمطلق. وكما أن كل الأديان السماوية تحمل في أحشائها بذرة عنصرية رافضة للآخر وبعيدة كل البعد عن الإنسانية، قبالة ذلك ينبثق عنها شعاع نوراني من دون شك.

إن الذي يجعل هذا الدين أو ذاك متطوراً أو متخلفاً هم أتباعه، أما الدين كدين لا علاقة له بهكذا مسألة إطلاقاً. بدليل وجود الإسلام التركي المختلف اختلافاً شبه كلي عن الإسلام السعودي أو الطالباني!. والأرجح إن الذي جعل الإسلام التركي مرتجى ومشتهى وقريباً من المثال )، مقارنة بما موجود حولنا، هو العلمانية التركية، فكما يرى صادق جلال العظم "بأنه لولا علمانية الدولة التركية وتجربتها الحديثة والتحديثية القوية لما كان النموذج الإسلامي التركي الدستوري والانتخابي والديموقراطي الحالي ممكناً. إنه الابن الشرعي للعلمانية التركية" .

ناهيك عن أن التاريخ الإسلامي حفل بوجود فلاسفة وأعلام، استفادت منهم ومن علومهم البشرية جمعاء، ولاشك ساهموا في إغناء التجربة الإنسانية والحضارة البشرية، من قبيل الفارابي وابن سينا وابن خلدون وابن رشد، وقد كان هذا الأخير فقيهاً،الخ…. وهذا كله يؤكد لنا صحة ما جنحنا إليه بأن الدين كدين لا علاقة له بالتطور أو التخلف قدر ماهي العلاقة كائنة في أتباع هذا الدين أو ذاك، وسلوكهم الذي من خلاله يظهر هذا الدين أو ذاك متخلفا أو متحضراً. ولنا أن نضرب مثلاً بعدم علاقة جوهر الدين بالتطور أو التقدّم باليابان، إذ ثمة من أهل اليابان من هو على مذهب بوذا، وكثيرون منهم يتبعون الحكيم الصيني كنفوشيوس. ولقد مضى عليهم نحو ألفي سنة ولم تكن لهم هذه الحضارة الباهرة التي هم عليها الآن!، ولا هذه المكانة بين الأمم!. لكن من المؤكد أن المذاهب الدينية المتبعة في اليابان الآن، أياً كانت، لا تتدخل في خصوصيات الناس، فضلاً عن إقصائها الكلي عن الدولة ودساتيرها، وهذا كله غير متوفر حالياً لا في المجتمعات الإسلامية ولا دولها، باستثناءات محدودة، مثال تركيا.

من جانب آخر، ولئن كان، كما يروي الباحث الإسلامي محمد السمّاك، إنه قد "مضى كثير من الزمن على الواقعة التاريخية التي جرت في علم 1637 عندما طلب رئيس أساقفة كانتبري في ذلك العام وكان يدعى «لوند» من مجلس العموم البريطاني تحريم شرب القهوة باعتبارها مؤامرة على المسيحية.. وقال في مذكرته التي رفعها إلى المجلس «إن من يتناول القهوة يصاب بالهلوسة التي تؤدي به إلى اعتناق الإسلام»، وقد استجاب مجلس العموم في ذلك الوقت لطلب رئيس الأساقفة فحرّم القهوة وحرّم التحول من المسيحية إلى الإسلام. حتى إن حبات البن كان يطلق عليها اسم «حبة محمد»!" . نستطيع الإضافة عليه كذلك إنه مضى زمن طويل على مرحلة صكوك الغفران وحرق بعض العلماء الخارجين عن أوهام الكنيسة في القرون الوسطى التي "نفخر" أننا نعيشها الآن نحن!.

غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ترى هل يسمح لي الوعي اللاهوتي الإسلامي النظر إلى فكرتي الجنة والنار، على سبيل المثال لا الحصر، الواردتين بوفرة وبوصف شبه دقيق في القرآن الكريم، فضلاً عن وصف المفسرين للنص، النظر إليهما وفقاً لمعطيات البيئة الصحراوية التي انطلقت منها الدعوة المحمدية؟. أقول هذا خاصة وأني أعيش في رحاب القرن الحادي والعشرين متنعماً بإنجازاته العلمية التي حققها العقل الغربي من بعد أن تحرر من سلطة الكنيسة وتسلطها. وقبل أن أوضح ما أرمي إليه من منظور البيئة الصحراوية، هل يسمح لي أولئك السادة الإيمان بأن الجنة والنار ليسا أكثر من رموز وإشارات قد تحيلان إلى المعرفة والجهل على سبيل المثال؟ أو أنهما عبارة عن عناصر ترغيب وترهيب قد تكون احتاجت إليهما الدعوة الإسلامية في بداياتها لهذا السبب أو ذاك؟.

قلت ترهيباً وترغيباً وأنا أضع في حسباني البيئة الصحراوية التي انطلقت منها الرسالة المحمدية، وأثر تلك البيئة على التكوين الفيزيولوجي لسكان شبه الجزيرة العربية ومدى رغباتهم وحاجاتهم التي قد تختلف في مداها عن آخرين يعيشون في بلدان أخرى! ولعلي أكمل تساؤلي : لو افترضنا إن رسالة السيد الرسول (ص) كانت في سيبيريا (مثلاً) هل كان وصف الجحيم في القرآن الكريم سيبقى كما أتى به، أم أنه كان سيأتي محاكياً البيئة الجغرافية لسيبيريا؟ أليس من أهم أسباب حصول العمليات الانتحارية على يد بعض المتطرفين الإسلاميين، في هذه البقعة أو تلك من العالم، هو الإيمان العميق لدى ذلك الانتحاري بوجود الجنة وفق الفهم المادي الشائع والمتداول لها، بما فيها من أنهار عسل وغلمان وحور عين الخ.. حقاً أليس هذا ما يدفع بالكثيرين منهم إلى القيام بتلك العمليات الإجرامية طمعاً بتلك المغريات، المادية طبعاً؟. ألم تكن وصية عبد العزيز العمري لرفاقه الذين قضوا نحبهم في "غزوة" نيويورك "المباركة" في 11/9/2003 هي: "اعلموا إن الجنان تزينت لكم بأحلى ظلها والحور تناديكم وهي قد لبست أحلى حللها (….). ليكن صدرك منشرحاً فإن ما بينك وبين زواجك إلا لحظات يسيرة تبدأ بعدها الحياة السعيدة الرخية والنعيم الخالد"؟ نابعة من معين ذلك الفهم؟. وشخصياً لا أستطيع أن أعاتب السيد عبد العزيز العمري ورفاقه، فالرجل قد استعوق الجنة وحور العين!.

وسيزداد الأمر خطورة حال كان وعي من يلقن ذلك "الانتحاري" آيات قرآنية كريمة، من دون أخذها في سياقها التاريخي، أو عدم النظر إليها من منظور قراءة معاصرة جديدة وإنسانية، من قبيل "يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال" ، أو "قاتلوهم، يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين" ، الخ…

ومفردة "غزوة"، سابقة الذكر، تحيلنا كذلك للنظر مجدداً في وجوب التمعن في السياق البيئي الذي ظهر فيه الإسلام. فالحياة البيئية لشبه الجزيرة العربية وثقافتها البدوية التي فرضتها ظروف القرن السابع الميلادي، وما قبله وما تلاه من قرون عدة، هي التي فرضت عليهم حياة الغزو فكان من الطبيعي أن نسمع بغزوة بدر، وغزوة أحد، وغزوة مؤتة وتبوك الخ… قبالة عدم وجود مفردة حرب أو معركة! وبالرغم من أن الإسلاميين الآن يعيشون في المدن، أوربية كانت أم عربية، فإن المتطرفين منهم يطلقون على بعض ما يقترفونه من جرائم اسم "غزوة" ما يحيلنا مباشرة إلى صحراء شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي!

من الأمور التي تدعو للأسف حقاً، أن نجد أن المتدينين من رجال الدين الإسلامي، وهم أشد الناس اقتناعاً أن النص القرآني هو كلام إلهي مُوحى، قبالة قناعتهم بأن الفقه هو نتاج بشري بما في ذلك تفسير النص. ما يعني أنه على الرغم من الإيمان الراسخ لرجل الدين الإسلامي بألوهية النص وصلاحيته لكل زمان ومكان –حسب إيمانه طبعاً-، فإن صلاحيته هنا تعني أنه مطلق، والإطلاق هنا يحيلنا مباشرة إلى أن فهم النص الإلهي لا يمكن أن يكون إلا نسبي، وحال كان غير ذلك فهذا يعني في ما يعني أن مُفسر النص -أياً كان- شارك الخالق علمه، وحاشا لله!.

والسؤال الذي يمكننا طرحه في هذا السياق، لماذا لا يسمح رجال الدين الإسلامي وحراس هيكل المنظومة الفقهية التراثية التي ما برحت تعيد إنتاج نفسها منذ إحدى عشر قرناً، بقراءة جديدة للنص تنسجم مع الإمكانيات العلمية والمعطيات المعرفية للعصر الذي نعيش فيه؟.

ترى أليس ذلك الجمود الذي نشكو منه، وبتنا نخشاه حقاً، هو ما جعلنا نبدو على هذه الصورة التي لا تغبط صديقاً ولا تسرّ عدواً؟ وبالاتي ألم يكن من شأن ذلك الجمود أن أنتج هذه الهُويّات إما القاتلة وإما الحائرة وإما الممزقة والضائعة وإما المنهزمة في زمن لا حياة فيه إلا لأبناء الهُويّات المنتصرة؟.

المصدر: http://www.alawan.org/%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1.html

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك