لماذا نخاف النقد؟

لماذا نخاف النقد؟

تأليف
فضيلة الشيخ
سلمان بن فهد العودة

مقدمة(*)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].
أمَّا بعد:
فموضوع هذه الرسالة: لماذا نخاف النقد؟!( )
وفي البداية، قد يتبادر إلى الأذهان السؤال الآتي:
.لماذا هذا الموضوع بالذات؟
وللإجابة عن هذا التساؤل، نوضح الأمور الآتية:
- أولاً: ليس بغريب على المسلم أن يقرأ عن التخلف المطبق على العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، سواء من الناحية العلمية، أو الدعوية، أو الاجتماعية، أو السياسية، على المستوى الفردي والجماعي.
ومع ذلك كله، ومع أن التخلف في عالم الإسلام شامل لكل مجالات الحياة دون استثناء، إلا أننا نجد عند كثير من المسلمين مقتًا لأي لون من ألوان النقد، أو المراجعة، والتصحيح؛ بل إنك تجد المسلمين اليوم -أفرادًا، وجماعات، وأممًا، ودولاً- يعدون النقد في كثير من الأحيان جريمة، فيجرّمون المنتقد، ويعدونه- كما يرى بعضهم- خارجًا عن القانون، أو مشككاً في المكتسبات وربما وُصف بأنه ساع إلى زعزعة أمن البلد والمجتمع واستقرارهما، أو أنه يحمل أهدافاً سياسية، وهو يعبر عنها من خلال النقد والتصحيح والمراجعة!
ولذلك نجـد أن الدول تصنف الذين ينتقـدون ضمن الخصوم، وكذلك - مع الأسف - نجد أن كثيرًا من الجماعات الإسلامية قد تعد من ينتقدونها أعداء لها؛ بل ربما تعدهم -أحيانًا- أعداء للإسلام ذاته، أما الأفراد فغالبنا يرى من ينتقده، أو يستدرك عليه أو يصحح خطأ وقع فيه حاسداً له، أو حاقداً عليه.
- ثانيًا: نجد لدى كثيـر من الناس - وعلى كافـة المستويات - اعترافًا مجملاً بالنقص والتقصير، فليس غريبًا أن تجد إنسانًا ما -سواء أكان عالمًا، أو حاكمًا، أو داعية، أو تاجرًا، أو أي شيء آخر- يقول: نحن لسنا معصومين، أو نحن جميعًا عرضة للخطأ، لكنه يقف عند حد هذا الاعتراف المجمل المبهم، فلا ينتقل من هذا الكلام العام إلى تشخيص الأخطاء، والاعتراف بآحاد هذه الأخطاء، نوعياتها، وعيناتها، ومن ثم السعي إلى التصحيح.
نعم، نحن نقول: لم يدَّعِ أحد أنك ملك حتى تقول: أنا بشر، ولم يدَّعِ أنك نبي أو رسول حتى تقول: أنا لست بمعصوم، كل الناس يعرفون أنك بشر، وأنك إنسان، وأنك لست بمعصوم، وأنك عرضة للخطأ، وكل إنسان يعترف بهذا؛ بل قال كثير من الناس هذا الكلام في محاولة لتجاهل الأخطاء، والدفاع عنها، وإلباسها ثوب الصواب.
وبناء عليه نقول: هذا الاعتراف المبهم بأنك بشر، أو أنك لست بمعصوم، أو عرضة للخطأ، لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا ينفعنا في قليل ولا في كثير، ما لم يتبعه شجاعة على تقبل مناقشة هذه الأخطاء .
- ثالثًا:أن أمامنا منهجاً إلهياً، وهدياً نبوياً، وسيرة تاريخية طويلة توضح لنا كيف نتعرف على الخطأ في أنفسنا، أو في غيرنا؟ وكيف نستطيع تصحيح الخطأ؟ سواء أكان خطأنا نحن أو خطأ الآخرين، كما ستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك.
والمؤسف جدًّا أن هذا المنهج - الذي هو في أصله منهج إسلامي، ينبثق من القرآن الكريم، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم- قد أفاد منه الغرب - في الناحية الدنيوية-؛ فأرسوا قواعد النقد بين الحاكم والمحكوم، ووضعوا أسسه وضوابطه سواء في المجال الإعلامي، أو الاقتصادي، أو السياسي، أو غيرها من المجالات، بحيث أصبح كل فرد منهم يعرف كيف ينتقد؟ وكيف يوجه؟ وكيف يشارك برأيه في كل قضية صغرت أم كبرت، دقَّت أم عظمت؟ فأصبح كل إنسان منهم يُحَث على أن يشارك مشاركة فاعلة في إدارة دفة المجتمع، وفي تصحيح الأخطاء، وفي توجيه الناس، فأفادوا من المنهج الإسلامي من الناحية الدنيوية.
أما المسلمون، فإن كثيرًا من المنتسبين إلى الإسلام أقرب ما يكونون إلى سلوك المنهج الفرعوني الذي يقول: (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:29].
ومن الصعب جدًّا على كثير من الناس اليوم، ممن ينتسبون إلى هذا الدين أيًّا كانوا سواء أكانوا من أصحاب النفوذ والسلطان، أو العلماء، أو الدعاة، أو من عامة الناس، من أصعب الأمور على أحدهم أن يصغي أذنيه لتقبل نقد أو ملاحظة، فضلاً أن يوافق على ذلك أو يسعى إلى تصحيح أخطائه.
فهذه هي بعض الأسباب التي دعتنا إلى تناول هذا الموضوع المهم، وسوف نتناوله في الفصول الآتية:
الفصل الأول: ماذا نعني بالنقد؟
الفصل الثاني: الأصل الشرعي للنقد.
الفصل الثالث: مواقف الناس من النقد.
الفصل الرابع: أهمية النقد.
الفصل الخامس: الهرب من الأخطاء.
الفصل السادس: أنواع النقد.
الفصل السابع: صور من النقد المذموم.

* * *
الفصل الأول
ماذا نعني بالنقد؟
.معنى النقد في اللغة: يطلق على معنيين:
المعنى الأول: تمييز الجيد من الرديء من الدراهم والدنانير والنقود، فأنت تقول: نقدت الدراهم وانتقدتها إذا ميزت جيدها من رديئها، وأخرجت زيفها، ولذلك قال الشاعر:
الموتُ نـقَّاد على كفـه
دراهمُ يختارُ منها الثمينَ
فهذا معنى للنقد: اختيار الجيد، وتمييز الزائف.
المعنى الثاني: العيب والتجريح، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "الناس إن نقدتهم نقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك"، يعني إن عبتهم عابوك، وإن سكت عنهم عابوك -أيضًا- فلا سلامة منهم.
وعلى كل حال، فالمعنى الأول الذي هو تمييز الطيب من الخبيث، والحسن من القبيح، والمزيف من الحقيقي؛ هو الذي ينطبق على المفهوم الشرعي للنقد.
.فالنقد في الشرع يعني: معرفة الخطأ والصواب، ويعني: الثناء على الخير ومدحه، وذم الشر ونقده، سواء أكان هذا الخير أو الشر في شخص، أو كتاب، أو عمل، أو هيئة، أو دولة، أو جماعة، أو أمة، أو غير ذلك، وهذا هو المعروف لدى أهل العلم والإيمان أفرادًا وجماعات، خاصة لدى أهل القرون الأولى المفضلة، فإن الغالب على نقدهم أنهم كانوا ينتقدون لبيان المعروف والأمر به، وبيان المنكر والنهي عنه، وهذا هو المعروف من سيرتهم وأقوالهم رضي الله تعالى عنهم.
- المعنى الثاني مذموم:
أما المعنى الثاني للنقد -الذي هو: الثلب، والعيب، والتجريح- فهذا هو الغالب على أهل هذا الزمان، الذين يعدّون النقد -كما أسلفنا- صورة من صور العداوة، والبغضاء، والتشهير، والتأليب على الشخص المنتقد، أو على الجهة المنتقدة، ولذلك لا يقبلون النقد؛ لأنهم يعدّونه نوعًا من التنقص.
وكذلك هم لا ينتقدون إنسانًا إلا إذا أبغضوه، وحاربوه، فهم ينتقدونه؛ لأنهم يسعون إلى إسقاطه، لا لأنهم يسعون إلى معرفة الحق من الباطل، بل همهم جمع المثالب، وحشد المعايب. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه: "لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة"( )، فاللعان: هو الذي لا يعرف من الناس إلا موضع العيب، فكلما ذُكر عنده شخص عابه، فإن ذُكر عنده شخص بعبادة قال: نعم. عابد، ولكنه ليس بعالم، والعبادة بلا علم تضر أكثر مما تنفع! فإن ذكر عنده شخص بعلم قال: نعم هو عالم، ولكن المهم النية "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"( )!، فإن ذكر عنده شخص بجهاد قال: "ورُبَّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته"( )!، فإن ذكر عنده شخص بالإنفاق في سبيل الله قال: (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) [الأنفال:36].
وهكذا كلما ذُكر عنده شخص بمحمدة أو مدح أو ثناء، بحث عن عيب يلصقه به، وكأنه لا يسره إلا أن يذكر الناس عنده بالشر والسوء! وهذا موجود عند فئة من الناس اليوم!
.ومن شواهد التاريخ على ذلك خبر سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه -.
فقد شكا أهل الكوفة سعداً -وكان واليًا عليهم- إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه عمر فقال له: "يا أبا إسحق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي"، قال سعد رضي الله عنه: "أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أَخْرِم( ) عنها، أصلي العشاء فأَرْكُد( ) في الأُوليين، وأُخِف في الأُخريين" قال عمر: "ذاك الظن بك يا أبا إسحق".
لكن عمر رضي الله عنه لم يكتف بمجرد قناعته الشخصية بسعد بن أبي وقاص؛ لأنه أمام شكوى من الشعب، فلابد أن يتثبت من هذه الشكوى بروح المحايدة والعدل والإنصاف؛ لأن سعدًا طرف وخصم، وأهل الكوفة طرف وخصم آخر، فأرسل عمر رضي الله عنه لجنة لتقصِّي الحقائق، وتذهب هذه اللجنة لا لتسأل أعيان البلد أو خواصهم، الذين يفترض أن الأمير قد يدنيهم إليه، وقد يكسب رضاهم بأي وسيلة وبأي ثمن، لا؛ بل تذهب هذه اللجنة لتقف في المساجد والأسواق، ويقولون لأهل المساجد: ماذا تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؟
فكلما ذكروه في مسجد أثنوا عليه خيرًا، حتى جاؤوا مسجدًا من مساجد بني عبس، فقالوا: "ما تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص؟" فأثنوا عليه خيرًا، فقام رجل يقال له أسامة بن قتادة فقال: "أما إذ نشدتنا، فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية"! يعني وصفه بالجبن والظلم والحيف -والعياذ بالله- !! فغضب سعد بن أبي وقاص من ذلك أشد الغضب؛ لأنه يعلم أن هذا الرجل كاذب، فقام وقال: "أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن".
قال أحد رواة الحديث: "فأنا رأيته بعد، قد سقط حاجباه على عينه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن"( ).
وكان بعد إذا سُئل يقول: "شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد".
فتأمل، كيف أن هذا الرجل لم يعرف لسعد بن أبي وقاص أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بلاءه وجهاده في الإسلام، ولا أنه من أهل الجنة، ولا شيئًا من ذلك؛ إنما بهته بذكر مثالب ومعايب هي في الواقع كذب وافتراء.
.حكم هذا النوع من النقد:
ولا شك أن النقد بهذا المعنى محرم؛ لأنه نوع من الغيبة، والله عز وجل يقول: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات:12]، وفي صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما الغيبة؟" قالوا: "الله ورسوله أعلم"، فقال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل: "أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟"، قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه"( ).
وقد ذكر القرطبي رحمه الله إجماع العلماء على أن الغيبة من كبائر الذنوب، فإما أن تكون غيبة بهذا الاعتبار، وذلك كالذين يبحثون عن عيوب الناس ومثالبهم، ويفترضون أن هذه العيوب والمثالب موجودة فيهم، فإن كانوا أبرياء مما وصفوهم به فهي بهتان وظلم، والله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الظالمين، يقول عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر: "يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا"( ) أي: لا يظلم بعضكم بعضًا!
وليس دافع هؤلاء بكل حال الإصلاح ولا تصحيح الأخطاء، وإنما دافعهم الحسد والبغي، والحقد والظلم، و"ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من: البغي وقطيعة الرحم"( ) كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل في الغيبة الحرمة والحظر إلا في حالات محصورة.
وقد ذكر العلماء ست حالات، وذكر البعض تسع حالات، قالوا: إنه يجوز فيها أن يُنال من الشخص بعينه وبذاته؛ لأن مصلحة الغيبة حينئذ تكون راجحة ظاهرة؛ وذلك كالتحذير من الفساق والمنافقين وأهل البدع، وغير ذلك.
* * *

الفصل الثاني
الأصل الشرعي للنقد
ما هو الأصل في موضوع النقد من الناحية الشرعية؟
مما يدخل في باب النقد من الناحية الشرعية أمور:
.أولاً: النصيحة:
فإن النقد نوع من النصيحة، وقد قال الله عز وجل: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِه) [التوبة:91]، فذكر النصيحة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك النصيحة للمؤمنين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه مسلم عن أبي هريرة- في حق المسلم على المسلم: "وإذا استنصحك فانصح له"( )، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضًا: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا وذكر منها: أن تناصحوا من ولاه الله أمركم"( )، والحديث المشهور عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة"، قلنا: "لمن؟" قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"( )؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال -في الحديث الذي رواه أبو داود بسند حسن كما يقول الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام-: "المؤمن مرآة المؤمن"( )، فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم شبَّه المؤمن بالمرآة، إذا وقف أمامها الإنسان رأى صورته الحقيقية، بما فيها من حسنات وما فيها من عيوب، فإننا نعرف أن المرآة تعكس صورة الشخص بحسنها وقبحها، وذلك لأن الإنسان ربما لا يستطيع أن يعرف نفسه، ولا يرى نفسه جيدًا، إلا من خلال رؤيته لنفسه في عين أخيه المسلم الذي هو مرآة له.
إذن النصيحة تدخل في باب النقد.
.ثانيًا: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
كذلك مما يدخل في باب النقد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو شعيرة عظيمة، ألّف فيها خلق من أهل العلم كتبًا لا تحصى كثرة، ونصوص هذا الباب أكثر من أن تذكر، وأشهر من أن تحصر، منها قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُـونَ بِاللهِ) [آل عمـران:110]، وذكر عن المؤمنيـن (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة:71] إلى غير ذلك.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يستثنون أحدًا من ذلك لا أميرًا ولا مأمورًا، ولا كبيرًا ولا صغيرًا، ولا يجاملون فيه أحدًا قط.
فقد انتقد عليّ رضي الله عنه عثمان أنه نهى عن نسك التمتع في الحج، ولما سمع أنه ينهى عنها، أهلَّ بهما بأعلى صوته: "لبيك بعمرة وحجة"، وقال: "ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد"( )، ولم يقل: أجامله، أو أستحي منه، لأنه لا يرى في هذا حطًّا من قدره، فضلاً أن في ذلك إحياء لسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك لما رأى ابن عباس معاوية يستلم أركان البيت كلها ويقول: "ليس شيء من البيت مهجورًا"، انتقده ابن عباس علانية - وذلك معاوية يطوف بالبيت، وعن يسـاره عبد الله بن عباس، فطفق معاوية يستلم أركان الكعبة كلها، فقال له ابن عباس: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم هذين الركنين"، فقال معاوية: "دعني منك يا ابن عباس، فإنه ليس منها شيء مهجور" فطفق ابن عباس لا يزيده، كلما وضع يده على شيء من الركنين قال له ذلك( )، ولم ير معاوية أن في ذلك حطًّا من قدره، ولا بخسًا لمكانته، كما لم ير ابن عباس أن مكانة معاوية تمنع من أن يُؤمر بالمعروف، ويُنهى عن المنكر.
.ثالثًا: محاسبة النفس:
وكذلك مما يدخل في باب النقد محاسبة النفس، فإن الإنسان قد ينتقد نفسه دون أن يحتاج إلى غيره، وكذلك الجماعة قد تنتقد نفسها؛ بل الدول قد تنتقد نفسها، وتجعل هناك مؤسسات وأجهزة مهمتها المراقبة، والمراجعة، والتصحيح، على سبيل الحقيقة؛ لا على سبيل التغطية أو التمويه .
قد نجد في كثير من الدول مؤسـسات للإشراف، أو المراقبة؛ لكن مهمة هذه المؤسسات تكون شكلية، وهذا لا ينبغي؛ بل على الدولة في الإسلام أن تقيم مؤسسات وأجهزة نزيهة حرة، تقوم بالمراجعة والتصحيح على الكبير والصغير، والأمير والمأمور، دون أن تجد في ذلك حرجًا؛ بل هذا هو عين الكمال، وعين القوة والصواب. فالفرد والجماعة والدولة والأمة كلها بحاجة إلى أن تحاسب وتراقب نفسها.
ولذلك قال عمر رضي الله عنه -كما في سنن الترمذي-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخِفّ الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا"(1)، وجاء عند غيره: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية"(1).
ومن ذلك خبر حنظلة بن الربيع قال: "لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا. قال أبو بكر: فوالله، إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات"( ).
والمقصود أن حنظلة انتقد نفسه وحاسبها حتى اتهم نفسه بالنفاق، وكذلك فعل أبو بكر.
إذن ينبغي على الإنسان أن يبدأ بنقد نفسه قبل غيره، وكذلك الفئة والجماعة والطائفة والأمة والدولة عليها أن تنتقد نفسها قبل أن تترك فرصة لينتقدها الآخرون، أو تترك فرصة لاستفحال الأخطاء والأمراض والآفات والمنكرات، بحيث يصعب بعد ذلك تصحيحها أو استدراكها.
ورضي الله عن سلف هذه الأمة الكرام، كيف كانوا في صدق عبوديتهم لله عز وجل، وخالص إيمانهم، وحرارة تقواهم، وصفاء قلوبهم -ومع ذلك كله- لم يكن هناك أحد أكثر منهم محاسبة لنفسه، وإننا نجد اليوم من الناس من يكون والغًا في المعاصي والفسوق، ومع ذلك لو أنكر عليه لقال: أنا أفعل هذا؟!
أما هم، فمع صيام النهار، وقيام الليل، وصدق التعبد، وحرارة التقوى -مع ذلك- كانوا لا يعدون أنفسهم من الصالحين؛ بل يعدون أنفسهم من العصاة.
يقول مطرف بن عبد الله رضي الله عنه في يوم عرفة -وهو من عباد السلف وزهادهم-: "اللهم لا تردهم من أجلي"!( ) رأى الحُجاج وما هم فيه من البكاء والابتهال؛ فأنحى على نفسه، وخشي أن يُردّ الحجاج بسببه هو، فقال ما قال.
ومثله بكر بن عبد الله المزني يقول: "ما أشرفه من مقام وأرجاه لأجله، لولا أني فيهم"( )!
ويونس بن عبيد رضي الله عنه يقول: "والله، إني لأعد مئة خصلة من خصال الخير، ما أعلم في نفسي واحدة منها"( )! فلم يكن عندهم كبرياء، ولا غطرسة، ولا غرور.
يقول ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل"( ). هؤلاء هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وسار من بعدهم التابعون لهم بإحسان.
فهذا محمد بن واسع -وقد مدحه الناس، وأثنوا عليه وهو مريض- قال: "ما يغني عني ما يقوله الناس إذا أخذ بيدي ورجلي، فألقيت في النار؟!"( ).
إذن مدح الناس وثناؤهم، والضجيج الإعلامي حول فلان من العلماء، أو فلان من المسؤولين، أو مدح الناس لفلان لأنه مشهور أو معروف؛ هذا لا يغني عنه شيئًا، إذا كان ما بينه وبين الله غير مستقيم، أما إذا كان ما بينه وبين الله حسن، فلا يضره أن يكون الناس بخلاف ذلك:
فليتَ الذي بيني وبيَنك عامرٌ
وبيـني وبينَ العالمين خـرابُ
إذا صحَّ منكَ الودُ فالكلُّ هينٌ
وكلُّ الذي فوق الترابِ ترابُ
- فوائد محاسبة النفس علانية:
وقد يحاسب الإنسان نفسه سرًّا بينه وبين نفسه فيعاتبها ويوبخها، وهذا لا شك أنه أبعد عن الرياء، وهو يدعو الإنسان إلى أن يتواضع، ويعترف بالخطأ، ويراجع نفسه أولاً بأول، وقد يحاسبها علانية على ملأ من الناس وعلى مرأى ومسمع منهم.
وهذا له إيجابيات ومنافع كثيرة منها:
- أولاً: أنه يعترف بهذا الخطأ لئلا يتابع عليه، وهذا إن كان خطأ مشهورًا معروفًا متداولاً عند الناس، فيعلن أنه رجع عنه، أو تاب منه؛ لئلا يتابعه الناس عليه، كأن يكون صاحب بدعة تاب منها فيقول للناس: من كان يعرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فلان بن فلان، كنت أقول: كذا وكذا، والآن تبت. من مثل ما قاله أبو الحسن الأشعري في خطبته المعروفة.
- ثانياً: أن يعوّد الآخرين على ذلك، فإن الناس يحنُّ بعضهم إلى بعض، ويقلد بعضهم بعضًا، فإذا كان العالم، أو الحاكم، أو الداعية عوَّد الناس أنه يعترف بالخطأ علانية وأمامهم فيقول: قلت كذا وهذا خطأ، وفعلت كذا وهذا خطأ، وقد رجعت عنه ؛ فإن الناس حينئذ يتعوَّدون على الاعتراف بأخطائهم والرجوع عنها، ومحاولة تصحيحها أولاً بأول.
- ثالثاً: أنه يقطع الطريق على الخصوم؛ لأنهم قد يأخذون هذه الأخطاء ويشنّعون بها عليك، فإذا اعترفت بها علانية قطعت الطريق عليهم.
- الفائدة الرابعة: أنه يضع الإنسان في مكانه الحقيقي، فلا يكون هناك تعصُّب لعالم ولا تحزُّب لجماعة، فإننا نجد من الطلاب من يتعصَّب لعالم من العلماء؛ لأنه لا يعرف إلا الصواب من أقواله، لكن لو أن هذا العالم قال: أنا أخطأت في كذا وكذا، عرف الناس حينئذ أنه ينبغي ألا يتعصبوا له، وأن يأخذوا أقواله باعتدال ودراسة ومقارنة.
وكذلك الحال بالنسبة لغيره، فمثلاً المتنفذ أو المسؤول، إذا كان يعترف بخطئه ويتراجع عنه؛ فإنه بذلك يشجع الناس على أن يوافوه بالخطأ ويناصحوه، كلما رأوا عليه شيئًا يحتاج إلى مناصحة.
* * *

الفصل الثالث
مواقف الناس من النقد
.المؤمن يحب أن يُنقَد:
الإنسان بطبيعته يحب المدح ويكره الذم، وقد قـال أبو ذر رضي الله عنه: "قيل يا رسول الله، أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"تلك عاجل بشرى المؤمن"( ).
فلا تثريب على الإنسان أن يكون بطبعه يحب أن يمدح، أو على أقل تقدير لا يحب أن يذم؛ وذلك لأن في النقد نسبة الخطأ إلى الإنسان، وكذلك الذم فيه نسبة الخطأ إليه، والخطأ مكروه فطرة، فكل إنسان بفطرته يكره أن يخطئ، ويحب أن يصيب دائمًا.
ولكن ما دام أن الخطأ مكتوب على الإنسان لا محالة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"( )، فما دمت لا يمكن أن تنفك عن الخطأ سواء أكنت فردًا أو جماعة أو دولة أو أمة؛ فإن المؤمن يفضّل أن يكاشف بالخطأ الآن ويبيَّن له، فهذا أحب إليه من السكوت، الذي تكون عقوبته سوءًا عليه في الدنيا والآخرة.
إنه يدري أن ثمة اعترافاً سوف يكون منه في الدار الآخرة بالأخطاء كلها، والمنافقون والمشركون والكفار كلهم سوف يعترفون بأخطائهم يوم القيامة اضطراراً: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور:24] (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) [فصلت:22]، فهو اعتراف مفضوح لابد لهم منه.
لذلك يقول الأشهاد يوم القيامة: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود:18] فيعترفون بالخطأ؛ بل يفضحون بالخطأ فضحا على رؤوس الأشهاد بعدما كانوا ينكرونه، ويقولون: (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام:23] ويقولون كما قال الله عز وجل: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جميعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) [المجادلة:18]، فيُفضحون على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
أما المؤمن، فلأنه كان يعترف بخطئه في الدنيا، ويرجع عنه قريبًا ويحب أن يبيّن له؛ فإن الله تعالى يستره في الدار الآخرة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث النجوى من حديث ابن عمر وهو في الصحيح-: "يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيدنيه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم. ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم. فيقرره ثم يقول الله عز وجل: إني سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم"،( ) وفي رواية أخرى "فيعطى كتاب حسناته"( ).
وما دام أن الخطأ لابد منه، فإن قبول النقد من الكمال البشري. وإذا كان النقص مركبًا فيه وهو جزء من طبيعته، فمن الكمال أن يعرف هذا النقص، ويعمل على تلافيه.
مثال: شخصان كلاهما ناقص؛ لأن كلاً منهما بشر، فمعناه أن النقص موجود في الشخص الأول، وموجود في الشخص الثاني ولابد. لكن الشخص الأول مصرّ لا يعترف بالنقص؛ بل ينكره، أو يعرفه، ولكنه لا يعترف به، ولا حتى أمام نفسه، فهو يغالط نفسه ودائماً يدَّعي الكمال، فهذا الشخص عنده نقص من جهتين:
الجهة الأولى: النقص الفطري الموجود فيه، والجهة الثانية: إصراره على الخطأ، وعدم اعترافه به.
وأما الشخص الآخر، فعنده النقص الفطري الموجود في البشر جميعًا، ولكنه يعرف هذا النقص، ويعترف به، ويسعى إلى معالجته، فهذا -لاشك- أكمل وأعظم؛ لأن نقصه من جهة واحدة فقط، وهو النقص الأصلي الفطري، وله في مقابل هذا النقص كمال، وهو الشجاعة، والقدرة على الاعتراف، وكذلك العلم بهذا النقص، والعمل على إزالته.

.أسباب الخوف من النقد:
أولاً: نجد كثيرًا من الناس يخافون من النقد؛ لأنهم يعدّون النقد نوعًا من التنقص، والبحث عن العيوب، وأنه لا يصدر إلا من حاسد، أو حاقد، وهذا المفهوم يجب تغييره، وأن يفهم الناس أن الذي ينتقدك هو من يحبك؛ لأن صديقك من صدَقك لا من صدَّقك.
ثانيًا: ومنهم من يخاف من النقد لأن بيته من زجاج، فهو يحارب النقد البناء، تجنبًا للفضيحة، وسترًا على الهفوات والجرائم التي ارتكبها، سواء أكان هذا النقد في ذاته أو في جرائمه، أو على استغلاله لموقعه ومنصبه، أو هزائم جر الأمة إليها، أو أمور وفضائح أخلاقية، أو مالية، أو اقتصادية، أو عسكرية، أو سياسية، أو غير ذلك، فتجد أنه يتستر على هذه الأمور؛ لأنه يعرف أن بناءه من زجاج، وأنه عرضة للفضيحة في أي وقت، ولذلك يعدّ النقد قضاء على مصالحه، فهو إن كان حاكمًا عدّ النقد تشكيكًا للشعوب في جدارته وصلاحيته، وإن كان عالمـًا عدّ النقد تشكيكًا للطلاب في علمه وفضله، وإن كان داعية عدّ النقد تشكيكًا للأتباع والمريدين في جدارته وصلاحيته وهكذا.
أما النبلاء والفضلاء و العلماء فلم يزالوا يستدلون على جدارة الشخص وعظمته ورجولته وكماله، بقدرته على الاعتراف بالخطأ والنقص، وقدرته أيضًا على التراجع عن ذلك بكل أريحية وسرور نفس وبدون أية حساسية، كما يستدلون على سفاهة إنسان بإصراره على الخطأ، ورفضه الاعتراف به.
إن آدم وحواء عليهما السلام، وقعا في الخطأ وأكلا من الشجرة، لكن بعد الخطأ: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، ولذلك استحقا الرحمة، فرحمهما الله عز وجل وجعل مآلهما إلى الجنة، وفي مقابل ذلك فإن إبليس عصى الله تعالى ورفض السجود لآدم و(قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف:12]، فأصابه الكبرياء والغرور؛ ولذلك رفض السجود، فعاقبه الله عز وجل بقوله: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ.وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) [الحجر: 34،35].
وكما أن لآدم ذرية، فلإبليس أيضًا أتباع وذرية، فمن الناس من يفعل الخطأ فيندم ويستغفر، ويقول: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص:16].
ومنهم من يفعل الخطأ ثم يستمـرئه ويعجب به؛ بل يتحول إلى إنسان يبحث عن مخرج أو تصحيح يفلسف به هذا الخطأ؛ حتى يصبح هذا الخطأ صوابًا! حتى إن بعض دول العالم اليوم أصبحت تبحث بحثًا جادًّا -كما يقولون- عن إعادة تعريف الجريمة؛ لقد وجدوا مثلاً أن الجرائم كثرت واشتهرت، فقالوا: إذن لابد أن نعيد النظر في تعريف الجرائم، فنبحث مثلاً عن الزنا هل هو جريمة؟! واللواط هل هو جريمة؟! كل هذه الأشياء أصبحوا يبحثون عن تعريف جديد لها؛ لإخراج هذه الأشياء أو بعضها من دائرة الجرائم؛ لأن السجون عندهم امتلأت، ولم يعد في إمكانهم أن يضعوا فيها أحدًا أكثر من ذلك: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه: 124].
ومن المسلمين اليوم من يلوي أعناق النصوص، أو يبحث عن فُتيا أو رأي شاذ يدعم به خطأ وقع فيه.
وما أجمل أن يقول الإنسان: أنا أخطأت، وأسأل الله أن يغفر لي ويتوب علي، لكن كون الإنسان يقع في الخطأ ثم يقول: هذا أمر لا أرى فيه شيئًا؛ لأن فلانًا في القرن السابع قال كذا، وفلانًا في القرن العاشر قال كذا، والعالم المعاصر قال كذا وكذا..!! فيبحث عن الخطأ ليحوله إلى صواب، فهذا مسلك غير مقبول.
. نماذج في الاعتراف بالخطأ:
أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام كلهم كانوا نماذج في الاعتراف بالخطأ والخروج منه.
- موسى عليه السلام:
فموسى عليه السلام يقول في قصته مع الخضر: (لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) [الكهف:73]. ويقول: (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا) [الكهف: 76].
- عيسى عليه السلام:
اقرأ قصة عيسى عليه السلام، التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق فقال له: أسرقت؟! قال: كلا، والله الذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني"( ).
إنه في شدة تواضعه واعترافه، يرى السارق ثم يقول لما حلف بالله الذي لا إله إلا هو: "آمنت بالله وكذبت عيني"( ).
- محمد صلى الله عليه وسلم:
أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو صاحب القدح المعلى في ذلك، وكيف لا، وقد خاطبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه يأمره بالاستغفار وبالتقوى؟! يقول الله عز وجل: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد:19]، ويقول: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ.وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا.فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:1-3]، ويقول: (إِنَّا أنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا. وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا.وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [النساء:105-107]، ويقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) [الأحـزاب:1]، ويقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) [التحريم:1]، ويقول: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) [الأنفال: 67].
وهكذا عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره بالاستغفار، وبالتقوى، ونهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين، ولهذا كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أمر عجيب، في تواضعه، وقبوله للرأي الآخر، وإعراضه عن الجاهلين، ورجوعه إلى ما يرى أنه صواب إذا قاله أحد.
فمن ذلك أنه لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسًا في قسمة الغنائم، فقال رجل: "والله إن هذه قسمة ما عُدل فيها، وما أريد بها وجه الله". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر"( )، والثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقبض على هذا الرجل الذي قال تلك الكلمة، وشكّك في القيادة العليا -قيادة النبي صلى الله عليه وسلم-، ولا أن يودع في السجن، ولا فتح محاضر التحقيق معه، ولا شهّر به ولا فضحه، وإنما تركه حرًّا طليقًا لم يتعرض له بشيء سوى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر"( )، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق المبرأ المنـزه.
مثال آخر: وآخرون طعنوا فيما يتعلق بموضوع الولاة، واختيار العمال والأمراء الذين كان يختارهم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المغازي، والبعوث، والجيوش، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثًا، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في إمارته، وكان من هؤلاء الناس بعض الصحابة الفضلاء كعياش بن أبي ربيعة المخزومي وغيره، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل -يعني زيد بن حارثة؛ لأنهم طعنوا فيه عندما عينه النبي صلى الله عليه وسلم أميرًا في سرية مؤتة- وايمُ الله إن كان لخليقًا للإمارة -يعني أنه جديرٌ بها، وأنه أهل لذلك- وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا -يعني أسامة بن زيد- لمن أحب الناس إليَّ بعده!"( ).
وأيضًا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح محاضر التحقيق مع هؤلاء الذين طعنوا في هذا الأمير الذي عينه، ولا سجنهم، ولا عاتبهم، بل لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنتم فيكم وفيكم وفيكم! وإنما بيـّن الحقيقة، وأن هذا الرجل جدير بالإمارة وخليق بها.
هذا المنهج التربوي النبوي العظيم، ظل هو السنة المتبعة للمسلمين قرونًا طويلة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، سواء أكانوا من الخلفاء والحكام، أو من العلماء والدعاة، أو من عامة الناس.
- أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
وهذا أبو بكر رضي الله عنه سمع الناس يثنون عليه، فكـان يقول: "اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون"( )، فلا يغتر بثنائهم، وإنما يسأل الله تعالى أن يغفر له ما لا يعلمون من عيوبه.
ولنتأمل هذا الموقف من مواقفه رضي الله عنه:
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبكم فقد غامر" فسلَّمَ، وقال يا رسول الله: "إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ، فأقبلت إليك" فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر" ثلاثًا، ثم إن عمر ندم فأتى منـزل أبي بكر فسأل: "أثَمَّ أبو بكر؟" فقالوا: "لا"، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: "يا رسول الله، والله أنا كنتُ أظْلَمَ، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ مرتين فما أوذي بعدها"( ). والشاهد أن أبا بكر رضي الله عنه، كان سريعاً إلى الرجوع إلى الحق والاعتراف به.
- عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أما عمر رضي الله عنه، فكما كان شديدًا في الحق؛ وكان شديدًا على نفسه، ولذلك أعلنها صيحة مدوية: "رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي"( )، ولم يشترط عمر -رضي الله عنه- أن تسر أو تعلن، ولم يشترط أسلوبًا معينًا في النصح؛ بل المهم أنك تهدي له عيوبه بأي شكل.
وكان رضي الله عنه يتقبل النصيحة حتى وهو على المنبر، فربما صعد وقال: "أيها الناس اسمعوا وأطيعوا"، فقام رجل من الرعية من عامة الناس، وقال: "لا سمع ولا طاعة!" فقال: "لم، رحمك الله؟" قال: "أعطيتنا ثوبًا ثوبًا ولبست ثوبين!" فقال: "قم يا عبد الله بن عمر!"، فيقوم ابن عمر ويشرح القضية أنه قد أعطاه ثوبه، فلبس عمر ثوبه وثوب ولده عبد الله؛ لأنه رجل فارع الطول.
ومرة أخرى يقول له رجل: "لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا"( )، وهذا لا يعني أنهم كانوا سوف يخرجون عليه بالسيف؛ بل المقصود أن هؤلاء الناس كان لديهم استعداد لأن يقوّموا الخطأ من أي إنسان كائنًا من كان، حتى ولو كان من عمر رضي الله عنه.
.نشترك في رفض النقد:
على مدار التاريخ كان المسلمون يحرصون على التصحيح والتوجيه، والنقد الهادف البناء الرشيد، ويعدُّون هذا أساسًا لبقاء الأمة.
وإذا غاب هذا المعنى عن الحاكم في بعض الظروف، وفي بعض الأحوال، وهيمنت النظم الاستبدادية المتسلطة التي تكتم أنفاس المسلمين، وتمنعهم من أن يقولوا كلمة الحق، وتمنعهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن النقد الهادف البناء؛ لأنها لا تريد كشف الحقائق، ولا مصارحة الشعوب بالأمور وأبعادها وخلفياتها ومجرياتها، إذا غاب هذا عن الحكام في حقبة من حقب التاريخ، أو رقعة من الواقع الموجود اليوم؛ فإن هذا لم يكن ليغيب عن العلماء والدعاة؛ بل كان العلماء والدعاة ينصح بعضهم بعضًا، وينصحون عامة المسلمين؛ بل وينصحون حكام المسلمين -وإن لقوا في سبيل ذلك ما يلقون-، ولو شرعنا في ذكر مواقف من نصيحة العلماء بعضهم لبعض، أو نصيحتهم للمسلمين من العامة، أو نصيحتهم للحكام سرًّا وعلانية -سواء من خلال المخاطبة، أو من خلال الخطبة، أو من خلال الكتاب- لخرجنا عن مقصود هذه الرسالة، ونحيل على كتاب واحد فقط، وهو كتاب: "الإسلام بين العلماء والحكام" للشيخ عبد العزيز البدري، ففيه من ذلك شيء كثير.
أما اليوم فنقول - وبكل أسف - : إن عيوب الأمة الإسلامية اليوم ليست محصورة في طبقة معينة. فلا نخدع أنفسنا! لنقول إن العيب اليوم في الحاكم، أو العيب في العالم، أو ليس في الداعية! ولكن العيب موجود في الجميع بدون استثناء، من القمة إلى القاعدة.
فداء التسلط وسلب الحريات، ليس موجودًا في الحاكم فقط، ولكنه أيضًا موجود عند بعض العلماء والدعاة والمجتهـدين، من حيث يشـعرون أو لا يشعرون.
فتجد أن المعلم مثلاً يستثقل أن يصحح الطالب له خطأ، وتجد الداعية يستغرب أن يصحح أحد الأتباع عليه شيئًا وقع فيه، ولا يعطيه من الحرية إلا هامشًا صغيرًا جدًّا، هو نفسه الهامش الذي تعطيه الحكومات لبعض الشعوب.
ولذلك نقول: إن الأمة اليوم لازالت تعدُّ النقد نوعًا من الاستفزاز أو حطَّاً للمكانة، فلم يتعود الناس على هذا ولم تتعود آذانهم عليه؛ ولهذا صاروا يشمئزون منه ويستغربونه ويرونه شيئًا عظيمًا!
.الأخطاء الظاهرة تنقد علانية:
هل كتب على المسلمين وحدهم أن يظلوا في مثل هذه الحال، ليس لديهم قدرة على تصحيح أخطائهم ولا على اكتشافها؟! وهل كتب علينا أن نظل نواجه هذه الأخطاء، وهي تتراكم وتزداد يومًا بعد يوم.
ومع ذلك تجد أحدنا لا يفعل شيئًا، لكنه لو سمع إنسانًا ينصح غيره قال: يا أخي لماذا تفعل كذا؟ ولماذا لم تأت بالنصيحة بالطريقة الفلانية؟ ونحن بدورنا نقول له: مارس أنت من النصيحة ما تقتنع أنه صحيح؛ لأن النصيحة مسؤولية الجميع وليست مسؤولية فرد معين أو فئة معينة! وكأن الكثيرين ظنوا أن الدين لم يأت بهذه الأمور، وكأنهم نسوا أن الصحابة رضي الله عنهم كان بعضهم يستدرك على بعض، وبعضهم يصحح لبعض علانية إذا كان الأمر يقتضي الإعلان، وسرًّا إذا كان الأمر يقتضي الإسرار.
ولاشك أن النقد أحيانًا يحتاج إلى سرية، فلا تأتي إنسانًا مستترًا بذنب فتفضحه على الملأ، لكن إذا كان الخطأ معلنًا على رؤوس الأشهاد فله شأن آخر.
ولنتأمل في هذا الموقف، الذي قصه أنس رضي الله عنه، قال: ٍ"مرّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت"، ثم مرّوا بأخرى، فأثنوا عليها شرًّا، فقال: "وجبت". فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض"( ).
فالأخطاء المشهورة التي يتداولها الناس في أحاديثهم، ويتناقلونها فيما بينهم، لا وجه لأن يقال لمن ينكرها علانية: لا تتحدث فيها لأن ذلك يؤدي إلى نشرها؛ وذلك لأنها موجودة أصلاً والجميع يعرفها.
ولكن لأن الأمة لم تتعود على النقد الصحيح، صارت تعتبر النقد نوعاً من الاستفزاز، والتشهير، وإثارة الفتنة وهذه كلها مفاهيم خاطئة.
وإذا كان الخطأ ظاهرًا مشهورًا فلا معنى لإنكاره سرًّا، فإن الناس يقولون: أين العلماء؟ أين الدعاة؟ أين الخطباء؟ أين المصلحون؟ والأخطاء تقع صباح مساء وهم ساكتون عليها، لا يحركون ساكنًا، وماذا يدري الناس عما تقوله لفلان أو علان؟ أو ما كتبته، أو من رفعت نحوه سماعة الهاتف؟! وخاصة إذا تكررت هذه الأمور ولم تَزُل، لا بأس أن تنكر مرة ومرتين وعشرًا بالطريقة التي تناسبك، إذا ظل الأمر موجودًا فعليك أن تعلن بالنصيحة؛ حتى تعذر إلى الله ويعذرك الناس ويعرفوا أنـك بذلـت ما تستطيع، وحتى تحذّر الناس من هذا الأمر، وتبين لهم خطورته وعواقبه.

* * *

الفصل الرابع
أهمية النقد
.أولاً: النقد مهم لكشف الأخطاء وسرعة علاجها:
النقد مطلب إنساني لمواجهة الانحرافات والأخطاء التي تتسلل إلى حياة الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات، وغياب النقد معناه تراكم الأخطاء وتماديها، حتى يستحيل التصحيح بعد ذلك.
إن النقد هو الكشف الطبي المتواصل الذي يكتشف المرض بسرعة، وبالتالي يعالج قبل أن يستفحل، ويصل إلى مرحلة الخطر أو فقدان الأمل في العلاج؛ ولذلك لابد من النقد.
.ثانيًا: النقد مشاركة من الجميع في الإصلاح:
النقد مشاركة حقيقية من الجميع في عملية الإصلاح، بحيث يصبح كل فرد في المجتمع له دوره ومجاله، ولا يغدو الناس مجرد قطعان تساق، وهي لا تفكر ولا تعي.
.ثالثًا: النقد احتفاظ بإنسانية الإنسان:
حيث يتأمل وينظر ويعمل عقله، ويراجع ما يعرفه من نصوص الشرع، ومن نصوص الكتاب والسنة، فإذا وجد أمرًا لا يليق من الناحية الشرعية، أو من الناحية العقلية، أو من ناحية المصلحة، فإنه لا يتوانى عن النقد الصحيح البناء؛ وذلك لأنه يعلم أنه إن سكت فإنه يكون شريكًا في الإثم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "الساكت عن الحق شيطان أخرس"( ).
لقد صنع الإسلام رجالاً كان أقلهم يرى أنه قوي في تغيير المنكر وإنكاره، وفي إقرار الحق والأمر به.
ونضرب مثالاً يدلنا على الفرق البعيد بيننا وبين الأجيال الأولى.
فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه، كان عبدًا أسود حبشيًّا في مكة، يباع بالدرهم والدينار، فلما أسلم سرت فيه روح العزة والكرامة والقوة والرجولة، فشعر أنه هو شخصيًّا ممن يقومون بتثبيت دعائم الإسلام، والدعوة إليه، والصبر، والمقاومة من أجل الدفاع عنه؛ ولذلك كان يعذَّب بمكة ويؤذى، وهو يقول:"أحد أحد، أحد أحد!"(1) وكان يقول: "والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها"!(2).
فوقف في وجه الظالمين والمتسلطين، والذين يفتنون الناس عن دينهم، حتى فرّج الله تعالى عنه، ولم يقل: أنا عبد مسكين كيف أقف أمام أبي جهل، وأبي لهب، وعتبة، وشيبة، وفلان، وفلان، من علية القوم وزعمائهم ورؤسائهم؛ بل ثبت بصبره وإيمانه حتى جعل الله العاقبة له.
إذن تأتي أهمية النقد من حيث إنه يعيد للإنسان اعتباره من جهة أنه مكلَّف ومسلم، ومطالب بأن يقوم هو بعملية التصحيح، والمشاركة في الإصلاح، والمصارحة، والنقد، والنصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالطريقة التي تناسبه، لكن لا يجوز أبدًا أن يتخلى عن دوره ويقول: المسؤول غيري!! وما أصيب المسلمون بما أصيبوا به إلا يوم أن تخلوا عن مسؤولياتهم، وصاروا على الحال التي وصفناها.
.رابعًا: النقد مرآة تكشف عيوب النفس:
كما أن من جوانب أهمية النقد أنه يجلي للإنسان وللأمة، وللجماعة وللدولة صفة نفسها وصورتها، فهو مرآة حقيقية لا زيف فيها ولا تزيُّد ولا نقصان.
وربما لا يستطيع الكثير من الناس أن يعرفوا عيوب أنفسهم؛ وذلك لأن الإنسـان يمـارس عيبه أحيانًا بشكل طبعي، وربما يعتقد أحيانًا صوابه ولا يرى أنه خطأ، فكم من إنسـان يقع في الخطأ وهو يظن أنه صـواب، فيحتاج إلى من يبصِّره بهذا الخطـأ، ويقول له: أخطأت والصواب كذا وكذا.
وقل مثل ذلك بالنسبة للدول والجماعات والأمم، فهي تحتاج دائمًا وأبدًا إلى أفراد من غير صانعي القرار، يستدركون ويصححون وإلا غرقت السفينة، فالذي اتخذ القرار بهذا الأمر اتخذه باجتهاد، يرى أنه صواب، وليس بالضرورة أن يكون اتخذه عن تعمد الخطأ، وبناء على هذا فليس من الصعب أن يصحح لنفسه؛ لكن الآخرين قد يملكون التصحيح، وقد يكون لديهم وجهات نظر تستحق التقدير والاحترام.
.خطورة غياب النقد:
إذا غاب النقد فإن البديل عن النقد الصحيح هو المديح! وكثيرون يكيلون المديح بلا حساب، وهذا الإطراء يغر الإنسان ويغريه بأن يصر على الخطأ، كما أنه يخدع الأمة ويزوِّر الحقائق.
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في المديح، ولما مدحوه وقالوا: أنت سيدنا، قال صلى الله عليه وسلم: "السيد الله تبارك وتعالى" قالوا: "وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً" فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان"( )، وفي حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "احثوا في وجوه المداحين التراب"( )، رأى رجلاً يمدح أخاه، فقال صلى الله عليه وسلم: "ويلك قطعت عنق أخيك "( ).
فنهى عن المبالغة في المديح والإطراء؛ لأن الإطراء لا يزيد الإنسان إلا إصرارًا على ما هو عليه، ولكن يُمدح الإنسانُ بقدر، تشجيعًا له على صواب صدر منه، واعترافًا بفضل له؛ لكن لا ينبغي أن يكون هذا دأبًا وديدنًا، كما هو الواقع اليوم في عالم الإسلام:
إن المديح أصبح فنًّا يمارس، وأصبحت أجهزته المخصصة للإعلام لا همَّ لها إلا إزجاء المديح بالحق والباطل، ومهما كان الشخص الممدوح، فإنها لابد أن تمدحه بكل شيء، حتى لو أخطأ فإنها تحول الخطأ إلى صواب، ثم تمدحه بهذا الإنجاز العظيم في زعمهم.
.أنواع المديح:
- أولاً: مدح الأشخاص: سواء أكان عالمـًا، أو حاكمًا، أو أميرًا، أو داعية، وقد حفظ لنا التاريخ صورًا كالحة عن هؤلاء المنافقين الذين لا همَّ لهم إلا إزجاء المديح، ومن المشهور تلك الأبيات التي قالها ابن هانئ يمدح فيها أحد الأمراء العبيديين فيقول:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ
فاحكمْ فأنتَ الواحدُ القهارُ
وكأنـَّما أنتَ النبيُّ محمدٌ
وكأنَّما أنصارُك الأنصـارُ
وهذا الصنف من الناس من المرتزقة -لا كثرهم الله- موجودون في كل زمان ومكان، وليست القضية أو المشكلة أن يقوم شاعر نبطي مثلاً فيمدح -لأن هذا شأنه وعمله-، وليست القضية أو المشكلة أن يقوم صحفي مرتزق فيمدح -لأن هذا عمله وهذه وظيفته-؛ لكن المشكلة أن يقع هذا من عالم، أو من رجل من رجال الفكر أو الأدب، الذين يشار إليهم بالبنان، وتعقد عليهم الخناصر، ويعدّون نموذجًا حيًّا لما يجب أن تكون عليه الأمة، فإذا به يقع في زلات وورطات عظيمة، قد كثرت اليوم حتى ما عاد الإنسان يحصيها.
- ثانيًا: مدح المكاسب والمنجزات:
هذا لون آخر من ألوان المديح، وهو مدح المنجزات والانتصارات والمكاسب، حتى لو كانت مكاسب وهمية؛ بل حتى لو كانت خسائر فإننا نحولها إلى مكاسب، وقد توضع الأعياد في بعض الدول بمناسبة أو بأخرى، ويدندن حولها الإعلام، وكأننا بذلك نعوض عن العجز الموجود عندنا، عن تحصيل مكاسب جديدة، أو نتستر على ألوان من الفشل القائم الدائم الذي نحاول أن نصرف وجوه الناس عنه، بالحديث عن مكاسب مضت وانتهت، وقد تكون مكاسب حقيقية أحيانًا، وقد تكون مكاسب وهمية في كثير من الأحيان.
- ثالثًا: مدح الأعمال:
وقد لا يكـون المدح - أحيـانًا - مدحًا لشخص، ولا لمكاسب أو منجزات؛ بل يكون مدحًا لعمل، كنشاط دعوي مثلاً، أو نشاط جهادي في بلد من البلاد، أو نشاط علمي، بحيث تسري روح التزكية والثناء والإطراء، وتختفي روح النقد والتصحيـح، ولا يملك الناس القدرة على اكتشاف الخطأ.
وهذا - مع الأسف - داء موجود في كل المسلمين، لا نعني في أفرادهم بالضرورة، كلا، فإن من المسلمين من لا يكون كذلك، لكننا نعني أنه موجود على كافة المستويات.
فأنت حين تنتقل إلى عالم الدعوة، وعالم الجهاد، وعالم الشرع؛ تجد هذا الداء موجودًا، وروح التزكية تسري، وروح النقد ضعيفة، فالذي يمدح ويثني ويطري محبوب؛ أما الذي ينتقد فإنه يعدّ مخذلاً ومشاغباً وحوله علامات استفهام، وقد لا يكون مرغوبًا فيه، فسرت عدوى التسلط والطغيان والاستبداد إلى الجميـع، ولفتهم في عباءتها الثقيلة.
* * *

الفصل الخامس
الهروب من الأخطاء
نحن نمارس - في بعض الأحيان - هروبًا من الأخطاء بطرائق مختلفة؛ لأننا لا نريد النقد ولا نحبذه. ومن ذلك:
.الطريقة الأولى:
أن نحيل إلى الصدفة، ونتجاهل السنن الكونية، فإذا وقعت الأمة في خطأ، أو هزيمة عسكرية، أو اقتصادية، أو سياسية، أو غير ذلك؛ أحالت الأمة ذلك على الصدفة، أو على ظروف طارئة! ونسينا دورنا نحن في هذا الخطأ، ونسينا قول الله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46]، ونسينا قول الله عز وجل في الحديث القدسي: "إني حرمت الظلم علي نفسي وجعلته بينكم محرمًا"( )، ونسينا قول الله تعالى: (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى:30]، وقول الله عز وجل: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].
.الطريقة الثانية:
تجاهل الخطأ والتقليل من شأنه وتبريره، أو حتى اعتباره صوابًا، فلا نعترف أن هذا خطأ؛ بل نقول إنه صواب ونصرّ عليه.
.الطريقة الثالثة:
هي الإحالة إلى القضاء والقدر، ونحن نعرف أن القضاء والقدر والاحتجاج به لم يُعفِ أبانا آدم عليه السلام من الاعتراف بخطئه: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23] ومع ذلك احتج آدم على موسى عليهما الصلاة والسلام في القضاء والقدر، وقال: "أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني؟!"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فحجَّ آدم موسى"( )، لكن هذه الحجة لا تعني أنه لم يعترف بالخطأ ولم يتب منه، كلا؛ لكن الذنب إذا مضى واعترف به العبد وتاب منه فإن له أن يحتج بما قضاه الله عليه وقدَّره.
.الطريقة الرابعة:
هي أن نلقي باللوم على الآخرين، ونخرج نحن من دائرة المسؤولية. فمثلاً على مستوى الأمة يقولون: الأخطاء الموجودة الآن في الأمة هي من صنع الجيل السابق ومن آثاره، وسوف يقوم بحلها الجيل اللاحق! أو أن نحيل الخطأ على العدو، أو على المستعمر، أو على الصهيونية، أو على الحكام، فكثير من الناس يكتفي بأن يقول: إن الحكام هم المسؤولون، وكأنه خرج من دائرة المسؤولية بمثل هذا الأسلوب.
.الطريقة الخامسة:
تفسير الخطأ تفسيرًا هروبيًّا، وذلك كمن يفسر الفشل بأنه ابتلاء من الله تعالى، ويسوق الآيات الواردة في الابتلاء والاختبار، ولا يقول: ما سبب ما حصل؟! هل سببه خطأ مني، أم تقصير في اتخاذ الأسباب مثلاً؟ وكمن يفسر العجز بأنه نوع من الصبر، وكمن يفسر الجبن مثلاً بأنه نوع من الحكمة، وهكذا.
.الطريقة السادسة:
الإحالة إلى المنهج، فهناك من لا يفرقون بين الإسلام الذي هو دين منـزل من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، والناس كلهم مطالبون بأن يدينوا الله تعالى به؛ وبين فئة تنتسب إلى الإسلام -أمة، أو دولة، أو جماعة، أو شخص- فيعطون العصمة التي للمنهج -وهو الإسلام- لدولة تنتسب إلى الإسلام، أو يعطون العصمة لجماعة من الجماعات الدعوية التي تدعو إلى الله تعالى، وهي وإن كانت جماعة إسلامية لكنها غير معصومة، ومن الممكن أن تخطئ في فهمها للإسلام أو تطبيقها له، وقد يكون اجتهادها في غير محله؛ بل ربما يكون بعض ما نحن فيه، هو بسبب تقصير الدعاة في معرفة الوسائل النافعة في الدعوة، والتي يجيزها الشارع.

الفصل السادس
أنواع النقد
هناك عدة تقسيمات للنقد:
.التقسيم الأول: تقسيم النقد إلى: نقد عام، ونقد خاص:
- النقد العام: هو نقد المظاهر المنحرفة دون تخصيص، ودون أن نسمي أحدًا.
فتقول - مثلاً-: من الناس من يفعل كذا، ما بال أقوام يفعلون كذا؟، وفي القرآن كثير من هذا، ومن ذلك قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [البقرة:204] وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ) [الحج:11] وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) [البقرة:8] وقد ورد كثير من هذا في سورة التوبة: كقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) [التوبة:49]، كقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 58]، كقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) [التوبة:76]، وجاء الحديث في القرآن الكريم مستفيضًا عن هؤلاء. فهذا نقد عام: نقد المظـاهر المنحرفة أو الأخطاء دون تحديد أصحابها.
- النقد الخاص: وهو نقد الأشخاص، ولسنا نعني بالأشخاص الأفراد، فقد يكون الشخص المراد عبارة عن شخص معنوي -دولة، أو جماعة، أو مؤسسة-، وقد يكون فردًا بعينه.
وثمة كثيرون يهتمون بالنقد العام، ولا يهتمون بالنقد الخاص، ويقولون لا داعي له، والواقع أنه لابد من الاثنين معًا؛ لأننا حين نتحدث عن مظاهر الانحراف عند الناس بصفة العموم، فإن كثيرًا منهم قد يظن أنه ليس المقصود بهذا النقد، وبالتالي فإنه لا يسعى إلى تغيير ما به من أخطاء. وخير مثال على ذلك، أننا إذا استمعنا إلى محاضرة أو خطبة فيها نقد لبعض الأخطاء، وكان هذا النقد عامًّا، فإننا قد نظن أن المخاطب غيرنا؛ ولذلك لابد - في كثير من الأحيان - من النقد التشخيصي المباشر، دون حاجة -بطبيعة الحال- إلى ذكر أسماء إلا بقدر الحاجة إلى ذلك، وهذا النقد لابد منه؛ لأنه أقرب إلى تحصيل المصلحة، وإزالة الخطأ وتحقيق المقصود.
وعلى النقيض من ذلك، فإن بعض الناس حسَّاس جدًّا، وإذا سمع نقدًا -ولو كان مجملاً- ظن أنه المقصود؛ لأنه يسمع بحساسية فيقول: لماذا ينتقدني فلان؟! فهذا الإنسان ينبغي أن يتنبه لأمرين:
أولاً: ما الذي جعلك تظن أن فلانًا يقصدك إلا وجود الخطأ عندك؟ إذا تنبه لهذا الخطأ.
ثانيًا: أنه كـان يجب أن تقول لو لم ينتقـدك: لمـاذا لم ينتقدني؟! لأنه كرامة لك أن يهدي إليك أخوك المسلم عيبًا، سواء أهداه بطريقة صحيحة أو غير صحيحة، فالمسلمون ناصحون، والمنافقون غشاشون.
.التقسيم الثاني: تقسيم النقد إلى: نقد الذات، ونقد الغير:
- نقد الذات: هناك من ينتقد نفسه، وهذا ما يسمى بالنقد الذاتي، فيكتشف خطأه بنفسه، ويحاسب نفسه بنفسه، بكثرة المراجعة والتحري واكتشاف الخطأ، ومن ثم إشهار الرجوع عن هذا الخطأ والاعتذار عنه، خاصة إذا كان خطأ معلنًا كفتوى شرعية، أو اجتهاد، أو منكر معلن وقع فيه هذا الإنسان، سواء وقع في هذا فرد أو جماعة أو دولة، فيكتشفون الخطأ بأنفسهم ويصححونه.
والنقد الذاتي مهم جدًّا؛ لأنه دليل على شجاعة الإنسان، وتحرره من عبوديته لنفسه، واستعداده للتغيير والإصلاح، أما النقد من الآخرين فإنك قد تقبله أو لا تقبله، وقد تصر على ما أنت عليه وتقول: هذا أمر هين ونحو ذلك، وأما ما كان من نفسك فلديك استعداد أصلي للقبول.
أهمية النقد الذاتي: تكمن أهميته في عدة أمور:
أولاً: أنه دلالة على شجاعة الإنسان، وقدرته على التصحيح.
ثانيًا: أن الإنسان في بعض الأحيان أقدر على ملاحظة نفسه، وربما يكون هناك أمور لا يستطيع الآخرون أن يدركوها؛ ولكن أنت تدركها. وعلى سبيل المثال: مقاصدك الداخلية، ونياتك، وأسرارك، وخواطرك لا يدركها الآخرون، وذلك أن في النفس جوانب لا يملك الناس أن ينتقدوك فيها؛ ولكنك أنت تملك أن تكتشفها بنفسك وتصححها.
ثالثًا: كما أن نقد الإنسـان لذاتـه، أو نقد الأمـة أو الجماعة أو الدولة لذاتها، يوجه طاقة الإنسان وجهة سليمة، بحيث يشغله عيبه عن عيوب الناس، وكما روي: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس"( )، أما أن يشتغل بعيب الناس وينسى عيبه، فهذا دليل على مرض مستتر موجود في ذاته.
- نقد الغير: يعني أن يكون النقد من جهة أخرى، سواء أكان النقد سرًّا أم علانية.
ويجب على الجميع تهيئة الفرص للنقد، وتأمين الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم؛ ليتمكنوا من النقد، لأن النقد مهم جدًّا لصلاح الأمة والفرد والجماعة والدولة. ولذلك ينبغي أن نحرض الجميع على تهيئة الفرص للنقد؛ حتى لا يغيب النقد، أو يستحي منه الآخرون، ينبغي أن تتاح الفرصة للنقد البناء الصحيح الهادف بالوسيلة الصحيحة، وبالأسلوب المناسب، وبعيدًا عن أساليب الجرح، أو التنقص، أو سوء الظن، أو غير ذلك.
لكن لو فرض أن النقد كان بأسلوب غير مناسب، فإن هذا لا يمنع أبدًا من قبول النصيحة؛ فليس الجميع قادرين على إتقان قواعد النقد وأساليبه وطرائقه.
وإذا كنا نعرف أن المسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى؛ فنحن نعرف أن اليد قد يكون فيها أحيانًا نوع من الخشونة، فلا يمنع هذا من أن تغسل اليد الأخرى وفيها نوع من الخشونة، وكذلك أخوك المسلم ينتقدك، أو يصحح خطأك -ولو كان فيه شيء من الخشونة- فلا ينبغي أن تتردد في قبول هذا النقد.

* * *

الفصل السابع
صور من النقد المذموم
من صور النقد المذموم ما يلي:
- أولاً: النقد الذي يستهدف حياة الإنسان الخاصة:
وشخصيته، وأموره الذاتية الخاصة، التي لا يطلع الناس على جوانبها وغوامضها، مثل فضائح لفلان أو علان، وهذا قد يتم أحيانًا باسم الإثارة الصحفية، فقد يتكلمون كثيرًا عن الجوانب الشخصية في حياة البعض، أو يتعرضون لأمور خاصة مما لا يتعلق بحياة الأمة، ولا يؤثر في مصالحها، وربما كانوا أشخاصًا مغمورين، حتى إننا نجد اليوم بعض الصحف تضع حلقات بعنوان "فضائح"..! وهذه الفضائح تتعلق بحياة أشخاص بأعيانهم، وقد يكونون موجودين يعيشون على ظهر الأرض، فتنشر خزيهم وفضائحهم، وربما يكون في ذلك -أحيانًا- إغراء للآخرين بالوقوع في مثل هذه الفضائح، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فباسم الإثارة الصحفية يتم كشف بعض الجوانب الشخصية من حياة الناس، التي لا تستفيد الأمة من ظهورها.
وأحيانًا يتم كشفها باسم التجسس والمخابرة التي حرمها الإسلام كما قال الله عز وجل: (وَلا تَجَسَّسُوا) [الحجرات:12]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ولا تجسسوا"( )، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تتبع الإنسان لعورة أخيه المسلم: "من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله"( ).
وكم رأينا مَن همهم حفظ الزلات على بعض الشخصيات المرموقة بواسطة أجهزة ووسائل، ثم يتم نشرها وإشاعتها عند الحاجة لغرض أو لآخر؛ بل رأينا - مع الأسف الشديد - أجهزة متخصصة في صناعة الأكاذيب، وتلفيق التهم، وأحيانًا دبلجة الصور والأصوات لتشويه صورة عالم أو داعية أو زعيم أو خصم أيًّا كان، وهذا معروف في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها، وهذا بلا شك مما لا يبيحه الإسلام بحال.
- ثانيًا: النقد المفتقد للعدل:
لقد فقد المسلمون العدل في النقد، فصاروا إذا خالفوا شخصًا في موقف أو مواقف أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، وحولوه إلى شيطان رجيم كأنه لا حسنة له قط، ولو كان من أهل لا إله إلا الله، ولو كان من الدعاة المجاهدين في سبيل الله! وإذا جاملوا شخصًا لموقف مصلحي تستروا على كل أخطائه وحولوه إلى قديس، وإلى بطل عظيم، ففقد الناس الثقة بالإعلام جملة وتفصيلاً!.
صرنا نجد داعية تختلف معه أجهزة الإعلام في رأي أو موقف فتحوله إلى شيطان رجيم ، وتجلب عليه، وتعدّه عميلاً للمخابرات العالمية ، وطالب حكم، وأنه تسبب في ردة الناس عن دينهم، وأنه وأنه...، كما أنه إذا أثنى على شخص فإنه يتحول إلى قديس لا يسمح بنقده أو الاختلاف معه وجعل له من الفضائل والمناقب ما ليس في أمة من الناس مجتمعين. وصرنا نكذب بلا حساب، ونأخذ بقاعدة اكذب واكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس! ونسينا أن الناس -مهما كانوا أغبياء في نظرنا- لهم عقول، ويعرفون هذه الأكاذيب الملفقة، ولا يمكن أن تنطلي عليهم، وإذا كذبت على الناس اليوم، فإنك لا تستطيع أن تكذب عليهم غدًا.
أين العدل الذي يتطلب منك أن تعترف لخصمك بالحق الذي عنده، وحتى أقرب الناس إليك ينبغي أن تعترف بالخطأ الموجود لديه، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة:8] فهذا هو المنهج العلمي الموضوعي الشرعي، الذي يحفظ للإنسان كرامته ومكانته وعقله، ويجعله يثق بهذه الأجهزة الإعلامية التي من المفروض أن همَّها وهدفها هو بناء الإنسان، بناء عقله، وتكوين شخصيته، وبناء الإنسان المعتدل المستقيم المنضبط، لكن -مع الأسف- لم تفلح إلا في صناعة الإنسان المزدوج المتناقض، الذي ينتقل من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ومن أقصى الشمال إلى أقصى اليمين.
لقد أصبح الناس عندنا - في كثير من الأحيان- أحد صنفين: إما ضدنا فهذا نكيل له الذم بلا حساب، وإما معنا فهذا يُمدح أيضًا بلا حساب، أما أن يكون عندنا صديق أو متعاطـف أو حتى إنسـان محايد، فهذا لا وجود له في حياة كثير منا اليوم، فضلاً عن عدو تداريه، أو تقلل من عداوته بقدر ما تستطيع، فضلاً عن أن نتخذ مبدأ الإنصاف -وهو مبدأ شرعي- بغير نظر إلى المصالح الذاتية أو المصالح الشخصية.
- ثالثًا: جمع مثالب الإنسان للتشهير به:
من صور النقد المذموم، النقد الذي يستهدف جمع مثالب الإنسان، وإحصاء أخطائه؛ ليشهر به، فيكون بعض الناس -والعياذ بالله- مثل الذباب لا يقع إلا على الجرح، فيجمع عيوب الآخرين، ويتكلم عنهم في المجالس، وكأنه لا حسنة لهم قط، ولا سيئة له قط.
حالات استثنائية:
هناك حالات يجوز فيها تناول الأوضاع الشخصية، كما أشرنا إلى شيء من ذلك قبل قليل، ومن هذه الحالات النماذج الآتية:
- النموذج الأول: شخص مجاهر بالفسق والمعصية، ويسعى إلى إفساد المجتمع، توجهات غير محمودة، وبعض الناس ذوي النفوذ الذين ثبت تواطؤهم واشتراكهم في بعض المؤسسات، وبعض الأجهزة، وبعض المعاهد التي تحارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء ينبغي بيان حالهم والتحذير منهم والكلام عنهم بأعيانهم؛ حتى يحذرهم الناس ويتجنبوهم، وقد جاء في ذلك أدلة سبق أن ذكرنا شيئًا منها.
- النموذج الثاني: قد يوجد شخص يُخشى أن يغتر الناس به؛ لأنه يتظاهر بالخير والصلاح، وله أهداف ومآرب أخرى، مثل المشعوذين والرقاة الذين يتضح انحرافهم ولكنهم يتسترون ببعض المظاهر التعبدية؛ ليخدع بها العامة، فهذا لابد من ذكره.
النموذج الثالث: أيضًا هناك شخص لا يُنظر إليه باعتباره فلان بن فلان؛ بل ينظر إليه بالاعتبار العام، أي أنه صار مُلْكًا للأمة وللتاريخ، وصاحب نفوذ، أو شخصية علمية، أو شخصية اجتماعية، أو شخصية تاريخية، يعني أن قراراته وآراءه ومواقفه وشخصيته أصبحت منطبعة على الأمة كلها، وله تأثير قريب وبعيد وفي الحاضر والمستقبل، وهؤلاء لم يعودوا ملكًا لأنفسهم؛ بل عادوا ملكًا للأمة وملكًا للتاريخ، فلابد من تناول هؤلاء الأشخاص.
وما زال العلماء يكتبون عن تراجم هؤلاء بل عن غيرهم، يكتبون عن تراجمهم ويتحدثون عنهم، وقد يذكرون الحجاج بن يوسف مثلاً فيذكـرون ما فعله من الجرائم والمنكرات والمظالم، وربما تكلموا فيه، وربما دعوا عليه، وقد يذكرون رجلاً آخر بعكس ذلك، كما يتكلمون عن الرجال الفضلاء الكبراء الأجلاء العدول، كعمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين أو غيرهم.
- النموذج الرابع: كذلك الأشخاص الذين يجاهرون بجرائمهم، فماذا عساك أن تتستر على أديب كبير شعره يبين عنه، ويتكلم عن كل صور الفجور والفساد والانحلال؟ فماذا عساك أن تتستر على مثل هذا الإنسان أو غيره ممن يجاهرون بمعاصيهم؛ بل ينشرون ألوان فسقهم وخزيهم على الأمة؟!.

* * *

الخـاتمـة
أيها القارئ الكريم: في ختام هذه الرسـالة، نود أن نذكرك بأن نقد شخص ما -أو جهة ما- لا يعني الحط من قدره؛ بل يعني أننا نريد بهذا النقد أن نصل إلى أفضل صورة ممكنة.
وينبغي على كل مسلم أن ينقد ما يراه من أخطاء -شريطة أن يكون هدفه الإصلاح والتقويم وبالأسلوب الصحيح المناسب - حتى يكون فاعلاً في مجتمعه، وإيجابيًّا في عملية الإصلاح.
وبالجهة المقابلة فعلى من يُنتقد أن يقبل النقد بسرور، وألا يعدّ ذلك تشنيعًا عليه أو حطًّا من شأنه. وقد كان السلف الصالح -وعلى رأسهم الصحابة الكرام- لا يتوانون عن نقد خطأ مهما كان المتلبس به، وينبغي أن يكون هذا ديدننا.
والبديل عن النقد البناء هو إزجاء المديح والنفاق، فتتراكم الأخطاء، ويزداد الانحراف إلى أن يصل إلى مرحلة يصعب معها العلاج.
وعلينا ألا نهرب من أخطائنا بأي صورة من صور الهروب؛ بل علينا أن نواجه أخطاءنا بشجاعة، وعلينا أن نبدأ بنقد ذاتنا قبل أن ننقد غيرنا.
وأخيرًا فإن النقد ينبغي أن يبتعد عن تشويه الصورة والفضيحة والتشهير، والأمور الشخصية التي لا تهم عموم الناس، وأن يكون النقد عادلاً، فلا نضخم من الأخطاء ولا نهون منها.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الحوار الداخلي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك