لا وجود لغير التعايش والتسامح في عُمان
لا وجود لغير التعايش والتسامح في عُمان
عندما مرَّ العيد الوطني لسلطنة عُمان قبل أيام، تساءلت: أيّ موضوع أهمّ من أن يتحدث المرء عن التعايش والتسامح في ذلك البلد. ربما تكون هذه المفردة عامة، إلاَّ أن ضبطها وتقييدها ووضعها في مسارها الصحيح يمنحنا فرصة المعرفة الحقَّة عن هذا البلد الشقيق؛ وخصوصاً في هذا الوقت، الذي أصبحت فيه فتاوى التحريض والتكفير والتفسيق والتأثيم؛ وخطابات الحضّ على الكراهية، رائجة بصورة مخيفة في عالمنا العربي والإسلامي، تنذر بمستقبل خطير، ينتظر الشعوب التي تستهدفها تلك المشاحنات الطائفية المقيتة.
في مسألة التعايش في عُمان حديث يطول، لكنه يبقى عِظة. هنا، لا يُمكن إغفال الفلسفة السَّمحة، التي تنتهجها سلطنة عُمان في التعاطي مع مسألة المذاهب الإسلامية وطوائفها، حين نرى أن وزارة الأوقاف العُمانية تنحو باتجاه التوازن بين النصّ والعقل، والأخذ بالأقوى من الآراء الفقهية، من أيّة مدرسة كانت، وبمنهج منفتح وسمح. وهو تطور ديني فريد من نوعه، لا يعرف طريقاً للتعصب ولا للانحياز الأعمى، ارتفع من التنظير إلى الحالة العملية.
أكثر من ذلك، فإن هناك «موزاييك» دينياً خارج الديانة الإسلامية، يُمارس طقوسه بحريّة كبيرة في عُمان. هناك بوذيون وهندوس، ومسيحيون كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس وأقباط، والجميع يُمارس حريته الدينية في ديره ومعبده وكنيسته. نقول ذلك وسط مجتمع أغلبية سكانه «المطلقة» هم من المسلمين، وهو سرّ القول بانتظام التسامح في السلطنة.
هذا النهج التسامحي باعتقادي له صلة وثيقة ببناء الدول السليمة، التي تستطيع أن تؤسس لمجتمعات هادئة، وحياة أهلية وسياسية منضبطة. وقد وجدنا في التاريخ البشري ما يؤكد ذلك، وبالتحديد في القارة الأوروبية، التي ابتليت ولمدة قرنين بحروب دينية طاحنة، أكلت من أبناء القارة، قتلاً وجرحاً وخطفاً، بصور يندى لها الجبين، ويستحي الأوروبيون من تذكرها.
فما كان يجري في الاتحاد السويسري في القرن السادس عشر من قمع للحرية الدينية، يجعلنا ندرك جيداً مدى المأساة التي اجتاحت هذا البلد، والحروب والمذابح التي تورَّطت فيها الكانتونات السويسرية، وبالتحديد تلك التي اندلعت بالقرب من كابيل المتاخِم لكانتونَي زوغ وزوريخ، الأمر الذي أدّى إلى القضاء على البروتستانت ومصرع المصلح التبشيري زفنغلي، ولم تنفع مع حروبهم سوى الاتفاقيات الهشَّة، التي وقعها المتحاربون لوقف النزف.
فالدول الأوروبية، وعندما انتبهت إلى ما هي فيه من مشكلة استطاعت أن تضع عقداً دينياً واجتماعياً جديداً ينهي ما هي فيه من اقتتال دامٍٍ. وربما كان ذلك التنبُّه قد قاده زعماء أوروبيون، بينهم أباطرة وملوك تاريخيون. جزء منهم كانت لديهم ميول نحن التهدئة، وتحجيم دور الكنائس التي كانت أساساً لذلك القتال، سواء بدواعي التجديف، أو دعوات بروتستانتية وكالفانية. وجزء آخر من العروش كانوا من ينتمون إلى سلك الطغيان المستنير.
يُحدثنا جوزيف لوكلير صاحب أهم كتاب باعتقادي تمّ تأليفه في القرن العشرين، وهو «تاريخ التسامح في عصر الإصلاح»، عن أن أمير منتخبيَّة براندبورف يواكيم الثاني وخلال القرن السادس عشر كان له جُنوحٌ نحو الإصلاح، والإراسميّة، الأمر الذي كان له تأثير كبير على الأرض التي كان يسودها. وأيضاً، فإن جان الثالث زعيم دوقيّة كلييف – جولييه، قد تجنَّب الإجراءات الراديكالية، والتعصب الديني فكان له ما كان من استقرار على دوقيّته ومجتمعه.
كذلك، عندما نقرأ سيرة الملك هنري الرابع ملك فرنسا في السنتين الأخيرتين من القرن السادس عشر لإنهاء القمع الديني عندما قال: «نسمح لجميع المنتمين إلى الديانة المدعوّة مُصلِحَة، بالعيش والإقامة في جميع مُدن مملكتنا وأرجائها من دون أن يتعرّضوا إلى مضايقة»، واستقبل المثلين عن الكنائس الكالفينية التي كان دم أعضائها يُراق علناً. لقد كانت تلك السياسة، (وبالتحديد قرار نانت الشهير) عملاً إيجابياً لعموم المملكة الفرنسية.
هذه حقيقة، سجَّلها لنا التاريخ، ونحن اليوم كقراء نستدعيها ونستحضرها لكي نستفيد من تجاربها. وما سياسة السلطنة في ذلك إلاَّ حصافة من قيادتها لتطبيق ذلك التسامح. وربما شاءت الأقدار، أن يلقى كلامي هذا دعماً من أرباب الثقافة والعلم في العالَم، ليس آخرها ما جرى بجامعة روفيرا فيرجيللي وفي مدينة تاراغونا الإسبانية، وبعد استضافة كرسي اليونسكو للحوار بين الثقافات والأديان فيها، حين تمَّت الإشارة إلى تجذر التسامح في عُمان.
كما نذكر هنا أيضاً، ما جرى في ألمانيا، عندما افتتح «معرض التسامح الديني في عُمان»، وتحدث فيه المنتدون مثل رئيس الدائرة الاتحادية للهجرة وشئون اللاجئين بوزارة الداخلية الألمانية مانفليد شميت، ورئيس جمعية الصداقة العمانية الألمانية جورج بوب، والإشادة التي حصلت عليها السلطنة في تلك الفعالية على مسلكها في موضوع التسامح الديني والفكري.
في نهاية شهر أكتوبر الماضي، كان لي شرف حضور مراسم افتتاح مجلس عُمان، والاستماع لكلمة جلالة السلطان قابوس بن سعيد، وحديثه عن حرية التعبير، وعدم احتكار الرأي، ومصادرة حرية الآخرين في التعبير عن آرائهم، وعدم السماح بالتطرف والغلو من جانب أي فكر كان، وهو ما يتناغم مع مسلك السلطنة في ذلك. فلو أن أحداً لا يعمل بذلك ثم ينادي به في الوقت نفسه لحصل التناقض، لكن الحال بالنسبة للسلطنة، هو تناغم الشعار مع الشعور، والنية مع العمل، واللغة مع الاصطلاح، وهي سياسة نتطلع إلى أن تسود في العالَم العربي والإسلامي، لكي يُقضى على أي مسعى فئوي أو طائفي يحاول تفتيت المجتمع الواحد لصالح مجتمعات فرعية مُحجَّمة الضمير، لا تنتج سوى الدمار والخراب