رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ في الجِدَالِ والحِوارِ مع أهْلِ الكِتَابِ

رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ
في الجِدَالِ والحِوارِ مع أهْلِ الكِتَابِ

راجعه وقدم له
الشيخ علوي بن عبدالقادر السقاف

تأليف
الشريف محمد بن حسين الصمداني

تقديم

الحمد لله الذي أمر وأوجب جدال الكفار ومحاورتهم بقوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل 16/125] والقائل: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [سورة العنكبوت 29/46] والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة الذي امتثل لأمر الله وجادلهم في مكة والمدينة وفي حال القوة والضعف وفي السلم والحرب وأمر بذلك وسماه جهاداً فقال عليه الصلاة والسلام: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)) رواه أحمد وغيره. قال ابن حزم -رحمه الله- ((وهذا حديث غاية في الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله))، وهذا الواجب قد فرَّط فيه كثيرٌ من الدعاة والمصلحين، ففي الوقت الذي نجد فيه دعاة التقريب بين الأديان ودعاة العصرانية ينشطون لذلك ويعقدون الندوات والمؤتمرات تارة باسم التعاون وأخرى باسم التسامح والتعايش وثالثة لتحاشي النزاعات وصدام الحضارات -زعموا- وغير ذلك من التُرَّهات؛ في الوقت نفسه نجد تقاعساً كبيراً وعزوفاً من دعاة الحق عن هذا النوع من الجهاد وأحسنهم حالاً من اهتم بدعوة أهل الكتاب -وفي هذا خيرٌ كبير- مع أن دعوة أهل الكتاب والمشركين ليست هي جدالهم ومحاورتهم وما يُدرأ من المفاسد والشرور بالجدال لا يمكن درؤه بمجرد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة التي أُمرنا بها، قال شيخ الإسلام -رحمه الله- ((أما الجدلُ فلا يدعى به، بل هو من باب دفع الصائل؛ فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن)) والله عز وجل قد يدفع بالحجة واللسان ما لا يدفعه بالسنان قال العلامة ابن حزم -رحمه الله-: ((ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة)).
وما أحوج من أراد أن يتصدى لهذا النوع من الجهاد أن تكون له رؤية شرعية يتسلح بها في جهاده لأعداء الله، هذا وقد تكفل أخونا الفاضل الشريف محمد بن حسين الصمداني بإيضاح هذه الرؤية من خلال كتابة هذا البحث الموسوم بـ ((رؤية شرعية في الجدال والحوار مع أهل الكتاب)) وقد قرأته و وجدته بحثاً قيماً يجدر بمن تصدى للحوار مع أهل الكتاب أن يستفيد منه وقد ذكر فيه مؤلفه -جزاه الله خيراً- مباحث مهمة استوقفني منها الشرط الأول من شروط المحاور المسلم ولوازمه وهو الأهلية وإعطاء الإسلام حقه من النصرة والبيان ومن لوازم هذا الشرط -كما ذكر-:
1- العلم والعدل.
2- معرفة ما ينكي وينجع في رد صيال الخصم وجداله.
3- الصدع بالحق والجهر به.
وقد علمت أنه أطلعه على عددٍ من المشايخ الفضلاء وطلاب العلم فاستحسنوه.
أسأل الله عز وجل أن يجزي الباحث خير الجزاء، وأن يرزقنا وإياه الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا وأن ينصر جنده ويعلي كلمته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

*** أقوال ابن تيمية وابن حزم منقولة من أصل البحث فليرجع إليها

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أمَّا بعد:
فإنَّ المواجهة مع أهل الكتاب قديمةٌ قِدمَ الإسلام بدءاً بمظاهرة أهل الكتاب للمشركين بمكة على المؤمنين وقولهم: هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [سورة النساء 4/51] ومروراً بالمعاهدات والمواثيق بعد الهجرة الشريفة وجدالهم بالمدينة النبوية وإقامة الحجة عليهم ودعوتهم للإسلام والتحاكم إلى القرآن ثم إجلاء بني النضير، ثم قتل أهل الغدر منهم كما في قصة بني قريظة بعد الأحزاب، ثم كانت خيبر، ثم إرسال الرسل وكتابة الكتب لملوكهم ودعوتهم للإسلام ثم كانت مؤتة ثم النفير لبني الأصفر في الشام فكانت تبوك حتى ((أنزل الله تعالى في ذلك أكثر سورة براءة وذمَّ الذين تخلفوا عن جهاد النصارى ذماً عظيماً. والذين لم يروا جهادهم طاعة جعلهم منافقين كافرين وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [سورة المنافقون 63/6] وقال تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [سورة التوبة 9/84] الآية. فإذا كان هذا حكم الله ورسوله فيمن تخلف عن جهادهم إذْ لم يره طاعة ولا رآه واجباً فكيف حكمه فيهم أنفسهم...)) واستقبل بعد ذلك وفد نجران وطلب مباهلتهم فنكلوا ثم ختم جهاده صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب قبل موته بعملين جليلين هما:
1- الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب.
2- إعداد العدة لجهاد النصارى.
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبوبكر الصديق رضي الله عنه فكان أول عمل يعمله إمضاء غزوالروم وجهاد أهل الكتاب وتابعته الأمة على هذا العمل الجليل فكان الفاروق عمر وعثمان رضي الله عنهما فقامت سوق الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً واستمر الأمر على ذلك مدة خلافة بني أمية وصدراً من خلافة بني العباس ثم خلفت خلوف تسلطت في زمنهم البدع على الرقاب وقامت سوق دولها.
بنوبويه بدار الخلافة ببغداد والعبيدية القداحية اليهود ببلاد مصر وما حولها فتراجع حال أمة الإسلام في مواجهة أهل الكتاب واستمر الأمر في تراخٍ وإدبار حاشا ما كان من الطائفة المنصورة القائمة بحجة الله في أرضه. وقد صوَّرَ ابن السبكي حال العلماء في عصره - القرن الثامن - بقوله: ((... فقل لهؤلاء المتعصبين في الفروع: ويحكم ذروا التعصب ودعوا عنكم هذه الأهوية ودافعوا عن دين الإسلام وشمروا عن ساق الاجتهاد في حسم مادة من يسب الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ويقذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي نزل القرآن ببرائتها وغضب الرب تعالى لها حتى كادت السماء تقع على الأرض ومن يطعن في القرآن وصفات الرحمن فالجهاد في هؤلاء واجب فهلا شغلتم أنفسكم به!)).
ثم قال: ((… ويا أيها الناس بينكم اليهود والنصارى قد ملأوا بقاع البلاد فمن الذي انتصب منكم للبحث معهم والاعتناء بإرشادهم بل هؤلاء أهل الذمة في البلاد الإسلامية تتركونهم هملاً تستخدمونهم وتستطبونهم ولا نرى منكم فقيهاً يجلس مع ذمي ساعة واحدة يبحث معه في أصول الدين لعل الله تعالى يهديه على يديه.
وكان من فروض الكفايات ومهمات الدين أن تصرفوا بعض هممكم إلى هذا النوع فمن القبائح أن بلادنا ملأى من علماء الإسلام ولا نرى فيها ذمياً دعاه إلى الإسلام مناظرة عالم من علمائنا بل إنما يسلم من يسلم إما لأمر من الله تعالى لا مدخل لأحد فيه أولغرض دنيوي … ثم ليت من يسلم من هؤلاء يرى فقيهاً يمسكه ويحدثه ويعرفه دين الإسلام لينشرح صدره لما دخل فيه بل والله يتركونه هملاً لا يدرى ما باطنه: هل هو كما يظهر من الإسلام أوكما كان عليه من الكفر لأنهم لم يُرووه من الآيات والبراهين ما يشرح صدره فيا أيها العلماء في مثل هذا فاجتهدوا وتعصبوا …)) .
وبهذا ومثله تكالب الأعداء وتسلط أهل الكتاب على رقاب المسلمين في ديارهم فكانوا هم الجباة والصيارفة وهم الوزراء والصيادلة وهم المتصرفون في الأموال والأبدان بالحساب والطب وهذا كثير في كتب التاريخ والسير .
وازداد المرض في أمة الإسلام واتسع الخرق على الراقع إلا بقايا من أهل العلم والذكر سجل التاريخ لنا ردودهم على أهل الكتاب. ولما كان المرض موجوداً في بعض طبقات العلماء فإنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لم يعدم أن يقال في ردوده على الرافضة في "منهاج السنة النبوية" وعلى النصارى في "الجواب الصحيح" أنها من قبيل تضييع الزمان!! … هذا خليل بن أيبك الصفدي يقول في شيخ الإسلام ابن تيمية: ((… وضيع الزمان في رده على النصارى والرافضة ومن عاند الدين وناقضه ولوتصدى لشرح البخاري أولتفسير القرآن العظيم لقلد أعناق أهل العلوم بدر كلامه النظيم)) .
ولما كان الحال كذلك منذ مدد متطاولة واستيقظ الناس على انحلال أمر الخلافة بسقوط دولة بني عثمان وتفرق الأمة وتنازعها ورأوا استيلاء النصارى على الديار والعباد تباين الناس في كيفية التعامل مع هذا الواقع المؤلم فمنهم من ساير خطاب ما يسمى بتيار الإصلاح الذي ظهر في أواخر عهد الدولة العثمانية كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومدرستهما ومنهم من اجتر الطريقة المغروسة في جسد الأمة والتي لا تحتاج إلى مزيد تعريف ولا كثير بيان وهي مواصلة الانغلاق على النفس وترك العدو والاشتغال به لا دعوة وإرشادا ولا رداً على شبهاته وجهادا … ولهذا صحَّ أن يقال (… كثير من علماء أهل السنة وطلبة العلم من محبي شيخ الإسلام لا يكادون يتجاوزون كلامه في الفقه والتفسير والحديث إلى ما كتبه في الرد على الفلاسفة والمناطقة وأهل الكتاب والمتكلمين وإنما ظهر الاهتمام بهذه المخالفات منذ زمن قريب على يد طلاب الدراسات العليا في الجامعات …)) . وقال الشيخ العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى مصوراً لشيء من ذلك الحال:(… وكنا قبل هذا الوقت نقول: لا حاجة لقراءة ((الجهاد))؛ لأنه لا يوجد جهاد ولا لقراءة أحكام أهل الذمة؛ لأنهم غير موجودين عندنا. أما الآن فلابد لطلبة العلم من أن يقرؤوا ويحققوا أحكام الجهاد وأحكام أهل الذمة وسائر الكفار لأنه في هذا الوقت انفتحت جبهات للجهاد - ولله الحمد - في سبيل الله وأما الكفار فقد ابتلينا بهم وكثروا بيننا لا كثَّرهم الله فالواجب أن نعرف كيف نعامل هؤلاء الكفار …). أهـ .
وبقيت أمة من الناس تهدي بالحق وبه تعدل لا يضرها من خالفها ولا من خذلها وهم الذين سكبوا في أقلامهم مداد الوحي فنشروا حجج الله وبيناته في الخلق. وقد أثنى ابن القيم رحمه الله تعالى على ((قلمهم)) وسماه بـ((القلم الجامع)) وقال فيه: ((القلم الثاني عشر: القلم الجامع وهو قلم الرد على المبطلين ورفع سنة المحقين وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها وبيان تناقضهم وتهافتهم وخروجهم عن الحق ودخولهم في الباطل. وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل المحاربون لأعدائهم وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال. وأصحاب هذا القلم حربٌ لكل مبطلٍ وعدومخالف للرسل فهم في شأن وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن)) أهـ.
ولما كانت الحاجة ماسة لبحث هذا الموضوع خاصة في مثل هذه الأزمان التي للكفر فيها جولة بالسنان وصولة بالحجج الباطلة والأدلة الفاسدة كان من المتعين التنبيه على ما يتعلق بأحكام ((الجدال والحوار مع أهل الكتاب)) وما يتعلق به من ألفاظ ومصطلحات حادثة وذلك بتقرير حكم الجدال مع أهل الكتاب في الشرع وما يتعلق به على وجه الاختصار.
وهو أمر سهل التحرير لوضوحه في الكتاب والسنة ومنهج الأئمة الأعلام لكنَّ البيئة التي ينشأ فيها المرء ربما جعلته يظن أن هذا ليس من دين الإسلام خاصة إذا غُذيَ ذلك بما يرى ويرى عن الدعوات المشبوهة لإقامة الحوارات الحضارية ودعوات التعايش والسلم المدني ونحوذلك.
وقد اشتمل البحث - في اختصار - على: مقدمة وتمهيد وفصلين ثم خاتمة. وذلك على النحوالآتي:
المقدمة: اشتملت على عرض مختصرللموضوع والسبب الداعي للكتابة فيه.
أما التمهيد فتضمن أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الحوار والجدل في اللغة والاصطلاح.
المبحث الثاني: أنواع المنكرين لمجادلة أهل الكتاب.
المبحث الثالث: أنواع المجادِلين لأهل الكتاب.
المبحث الرابع: أنواع المجادَلين من أهل الكتاب.
وأما الفصل الأول فكان في: مشروعية مجادلة أهل الكتاب من القرآن والسنة وفيه:
المبحث الأول: الأدلة من القرآن.
المبحث الثاني: الأدلة من السنة.
المبحث الثالث: حكم جدال وحوار أهل الكتاب.
ثم يأتي الفصل الثاني وجعلته في: شروط الحوار والجدال مع أهل الكتاب وتضمن ثلاثة مباحث هي: المبحث الأول: الشروط الواجب توفرها في المحاور المسلم.
المبحث الثاني: شروط المحاور الكتابي.
المبحث الثالث:موضوعات الحوار والجدال مع أهل الكتاب.
ثم كانت الخاتمة.
ونسأل الله أن يلهمنا الرشد ويرزقنا حسن القصد وأن يجعلنا من القائلين بعلم وعدل وأن يعصمنا بالورع وهو حسبنا ونعم الوكيل.

التمهيد
المبحث الأول: الحوار والجدل في اللغة والاصطلاح:
أولاً: الحوار والجدل في اللغة:
الحوار في اللغة ((تراجع الكلام)) . وفي ((لسان العرب)): ((وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام. والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة)) .
أما الجدل: فقال ابن فارس: ((الجيم والدال واللام أصل واحد وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام)) .
ثانياً: الحوار والجدل في الاصطلاح:
الحوار في الاصطلاح: هو بنفس المعنى اللغوي السابق فهو إذاً: مراجعة للكلام بين طرفين أوأكثر دون وجود خصومة بينهم بالضرورة .
أما الجدل: فكما يعرفه الجويني هو: ((إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة أوما يقوم مقامهما من الإشارة والدلالة)) أهـ.
وتوجد ألفاظ قريبة من الحوار والجدال منها: المحاجة والمناظرة والمناقشة والمباحثة.
وبحثنا سيدور حول الجدال مع أهل الكتاب لا مع عموم الكفار والمشركين.
المبحث الثاني: أنواع المنكرين للجدال مع أهل الكتاب:
رأينا في المقدمة أن هناك إعراضاً من بعض المنتسبين للعلم عن دعوة ومواجهة أهل الكتاب. ودعا إلى ذلك جملة أسباب منها:
1- الركون إلى انتشار الإسلام.
2- أن الأصل في ذلك أنه من باب فروض الكفاية.
3- الاشتغال بالفروع الفقهية والتعصبات المذهبية وحصر جانب الجدال في باب المذاهب الفقهية الأربعة أوبين المعتزلة والأشاعرة أوأهل الكلام والفلاسفة.
وقد مرت فترات بالأمة ظهر فيها اشتغال مجرد بالعلم من قبل الطلبة وأهل العلم وهو اشتغال على مستوى الكتب والدراسة دون معرفة الواقع الذي يحتاج في كثير من مسائله إلى تفصيل وقول بعلم وعدل.
ولئن كانت تلك جملة من الأسباب التي منعت طوائف من أمة الإسلام عن الاشتغال بالرد على أهل الكتاب أوالحوار معهم فإنَّ هناك طوائف رأتْ أنَّ الباب يجب أنْ يغلق والنافذة يجب أن تسد فأنكرت الاشتغال بالرد عليهم من باب الشرع الذي دعاهم للقيام بالجدال والدعوة للإسلام!
فما هي أهم شبه هؤلاء وما هي أهم مرتكزاتهم؟
الشبهة الأولى: منع الجدال مع أهل الكتاب بناءً على ظهور دلائل النبوة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((… ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناءً على ظهور دلائل النبوة نجده هو ومن يعظمه من شيوخه الذين يعتمد في أصول النظر على نظرهم ومناظرتهم ويزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة قد أوردوا من الشبهات والشكوك والمطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحوثمانين سؤالاً وأجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جواباً في المسائل الظنية بل هي إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين …)) .
الشبهة الثانية: منع الجدال مع أهل الكتاب بناءً على نسخ آيات الجدال معهم بآيات السيف وفرضية الجهاد.
ردَّ شيخ الإسلام على أصحاب هذا الاتجاه من تسعة أوجه حررها في كتابه العظيم ((الجواب الصحيح)). يقول رحمه الله تعالى: ((فإنَّ من الناس من يقول: آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة وهذا غلط فإنَّ النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضاً للحكم المنسوخ كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام …))
ثم قال رحمه الله تعالى: ((… وقوله: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [سورة العنكبوت 29/46] فهذا لا يناقض الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة. فأما مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به والقتال المأمور به فلا منافاة بينهما وإذا لم يتنافيا بل أمكن الجمع لم يجز الحكم بالنسخ ومعلومٌ أن كلاً منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر وأن استعمالهما جميعاً أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق ومما يبين ذلك وجوه: …)) .
ثم عدَّدَ رحمه الله تعالى تسعة أوجه للقول بذلك وكلامه نفيس للغاية .

المبحث الثالث: أنواع الداعين للحوار والجدال مع أهل الكتاب:
هناك عدة اتجاهات وتيارات تدعوللحوار والجدال مع أهل الكتاب. وكل اتجاه يحمل في طياته أفكاراً واجتهادات متنوعة تتنوع وتختلف بحسب اختلاف أفراده وبحسب ما يغلب عليهم من مواد . ومن هذه التيارات:
التيار الأول: دعاة التقريب بين الأديان: كروجيه جارودي وأحمد كفتارو وغيرهما. ويستند هؤلاء في الغالب على عقائد الباطنية وكلام ابن عربي وغيره من ملاحدة الصوفية الذين ينادون بصحة كل الأديان. يقول جارودي: ((إنني عندما أعلنت إسلامي لم أكن أعتقد بأني أتخلى عن مسيحيتي ولا عن ماركسيتي ولا أهتم بأن يبدوهذا متناقضاً أومبتدعاً)). ويقول: ((هذا النضال هو نضال كل أصحاب العقيدة أوالمؤمنين بعقيدة مهما يكن نوع إيمانهم ولا يهمني ما يقوله الإنسان عن عقيدته: أنا مسلم أو: أنا مسيحي أو: أنا يهودي أو: أنا هندوسي)) .
ولما انتشرت بعض آراءه الكفرية الإلحادية قيل: ((إنه ارتد عن الإسلام))! قال الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله تعالى: ((لا يحكم عليه بأنه مرتد عن دين الإسلام كما توهمه بعضهم وإنما هو كافر أصلي لم يدخل في الإسلام)) . ولهذا قال العلاَّمة بكر أبوزيد فيه: (النصراني المتلصص إلى الإسلام) .
التيار الثاني: دعاة العصرانية: يجمع هذا التيار في طياته: ((الفقيه الذي أثقلت كاهله المتغيرات الحديثة..والصحفي الذي يفتقر إلى علوم الشريعة.. والعقلاني المغرق في عقلانيته)) ..والمثقف الباحث عن موقع ثقافته الحضارية.. والقومي الذي يتخبط في خبال الجاهلية… وهم درجات بحسب ما يغلب عليهم من مواد. ومن أبرزهم: الدكتور حسن الترابي والدكتور يوسف الحسن والدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري والدكتور محمد عمارة وعبده سلاَّم وغيرهم.
ومن أهم الصيغ التي تحدد مباديء ((التعايش)) و ((الحوار)) بين ((المسلم)) و ((غير المسلم)) عند هؤلاء ما يلي:
أولاً: الاتفاق على استبعاد كل كلمة تخدش عظمة الله.
ثانياً: الاتفاق على أن الله يختار رسله من أهل الصدق والأمانة.
ثالثاً: ما وجدناه متوافقاً في تراثنا نرد إليه ما اختلف فيه وبذلك يمكن وضع قاعدة مشتركة بين الأديان .
ويقرر بعض هؤلاء أنهم لا يستطيعون التقريب بين الأديان أوتذويب أحدها في الآخر وأنَّ أيَّ محاولة لذلك إنما هي من قبيل الغش الثقافي والخداع الفكري وهي أشد خطراً من الغش الاقتصادي والتجاري.
كما يدرك بعضهم أن النصارى لا يؤمنون بالتعايش ولا بالحوار ولا بالتعاون؛ وهم - أي النصارى - إذا نادوا بالتعايش أودعوا إلى الحوار قصدوا بذلك استغلالهما لفرض الهيمنة الدينية التي لا تكاد تختلف في شيء عن الهيمنة السياسية والاقتصادية .
ويرون أن المسلمين لا يمنعهم مانع من أن يستجيبوا لدعوة ((التعايش)) مع غيرهم حتى وإنْ كان مفهوم ((التعايش)) عند غير المسلمين منافياً - جزئياً أوكلياً - للمفهوم الإنساني المتحضر الذي يؤمن به المسلمون .
ويتذرع هذا التيار في دعوته لإقامة الحوار مع أهل الكتاب بشبهات شتى منها: ((مواجهة الإلحاد المادي)) و((التعاون والتسامح)) و((التعارف)) و((الدعوة إلى الله وإفهام الغرب تعاليم الإسلام)) و((أنه ضرورة يفرضها النظام العالمي الجديد)) و((أنَّ الحوار وسيلة لتحاشي النزاعات والحروب وصدام الحضارات)) وأن ((الإسلام يدعوالعالم لأن يكون منتدى حضارات)) و((هو وسيلة لتحقيق الوحدة الوطنية بين مختلف طوائف الأمة)) و((أنه وسيلة للمحافظة على الأقليات المسلمة في الغرب)).
ولا ريب أنَّ هذه قضايا متفاوتة في نفسها ومتباينة في قائليها ولا يمكنُ رؤيتها من منظار واحد بل إن بعضها ربما دعا إليها تيار آخر كتيار دعاة التقريب بين الأديان وربما شاركهم فيها بعض الدعاة والمفكرين والقول في جميع تلك القضايا يحتاج إلى تفصيل في كل مسألة منها وليس هذا محل بسطها أونقدها .
التيار الثالث: بعض المتصدين للواقع من الدعاة والمفكرين.
ويمكن تصنيف هؤلاء على وجه الإجمال إلى فريقين:
الفريق الأول: من يلمس منه ضعف في التأصيل أوتذبذب في الموقف الشرعي. وربما اقترب هؤلاء من دعاة العصرانية في بعض المسائل والقضايا حتى لا يمكن التفريق بين أقوالهم.
والفريق الثاني: من يلمس منه وضوح في التأصيل الشرعي.
و من أبرز من تصدى لبيان بطلان أديان النصارى والرد عليهم في العصور المتأخرة: الشيخ رحمة الله الدهلوي الهندي والداعية أحمد ديدات.

المبحث الرابع: أنواع المجادَلين والمحاوَرين من أهل الكتاب:
من استقرأ القرآن والسنة وكلام الأئمة يجد أنه لا يُستثنى أحد من أهل الكتاب من أصل الجدال فهناك الجدال مع كل من: أهل الذمة وأهل الهدنة والأمان وأهل الحرب لرد صيالهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((والمجادلة قد تكون مع أهل الذمة؛ والهدنة؛ والأمان؛ ومن لا يجوز قتاله بالسيف؛ وقد تكون في ابتداء الدعوة؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجاهد الكفار بالقرآن؛ وقد تكون لبيان الحق وشفاء القلوب من الشبه مع من يطلب الاستهداء والبيان...)) .

الفصل الأول: مشروعية مجادلة أهل الكتاب من القرآن والسنة:
أنزل الله القرآن لهداية الناس أجمعين فخاطب فيه عقول الناس حين تستبد بها الأهواء وحين تكتنفها الشبهات وحين تتنازعها الشهوات وما ترك حالة من حالات النفس العارضة إلا و وقف معها يجادلها ويعظها ويذكرها وهو في كل ذلك يرشدها إلى الهداية لعبادته وحده لا شريك له والى الاستقامة على أمره. ولأهل الكتاب من هذا الخطاب والجدال حظ كبير في القرآن والسنة ذلك أنَّ المسافة الفاصلة بينهم وبين الهدى:تركُ الهوى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((ولهذا تجد اليهود يصممون ويصرون على باطلهم لما في نفوسهم من الكبر والحسد والقسوة وغير ذلك من الأهواء. وأما النَّصارى فأعظم ضلالاً منهم وإنْ كانوا في العادة والأخلاق أقل منهم شراً فليسوا جازمين بغالب ضلالهم بل عند الاعتبار تجد من ترك الهوى من الطائفتين ونَظَرَ نوعَ نظرٍ تَبيَّنَ له الإسلام حقاً...)) .
المبحث الأول: أدلة مشروعية مجادلة أهل الكتاب من القرآن:
1- قال تعالى:ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن. قال ابن كثير في تفسيرها: ((وقوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل 16/125] أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب..)) اهـ. وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: ((... فإنْ كان المدعويرى أنَّ ما هو عليه الحق أوكان داعية إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلاً ونقلاً. ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنَّه أقرب إلى حصول المقصود وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أومشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها)). أهـ .
2- وقال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[سورة العنكبوت 29/46]. قال الشوكاني رحمه الله: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن وذلك على سبيل الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه لهم على حججه وبراهينه رجاء إجابتهم إلى الإسلام لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة. إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بأن أفرطوا في المجادلة ولم يتأدبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم والتخشين في مجادلتهم)) .
والمتأمل في القرآن يجد أنَّ معظم القضايا التي جادل القرآن فيها أهل الكتاب تدور على محورين:
1- توحيد الله وعبادته.
2- إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به .
والأمر بمجادلة أهل الكتاب في القرآن جاء مقروناً بالإحسان ومن الإحسان:
1- اتباع طريقة القرآن في جداله لأهل الكتاب ((والأصل في باب مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن هو آية آل عمران: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران 3/64])) . ولهذا امتثلها النبي صلى الله عليه وسلم فكتبها في رسالته إلى هرقل عظيم الروم يدعوه إلى الإسلام ونبذ الشرك. وقد حرَّفَ العصرانيون معنى ((الكلمة السواء)) إلى معانٍ فاسدة .
2- عدم تكذيب ما عندهم تكذيباً عاماً لمجرد كونه من كتبهم بل ينبغي السكوت عن ذلك فلا يصدقون ولا يكذبون .
3- ومنه: عدم تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام على وجه الحمية والعصبية لحديث أبي هريرة عند البخاري: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيروني على موسى …)) .
وفي رواية عند البخاري أيضاً: ((لا تفضلوا بين أولياء الله)) .
4- ومنه: أن تكون المجادلة: :((بحسن خلق ولطف ولين كلام ودعوة إلى الحق وتحسينه ورد الباطل وتهجينه بأقرب طريق موصل لذلك وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلوبل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق)) .
5- ومنه: أن ينزل خطاب كل طائفة منهم على ما يقتضيه فقه الواقع ومعرفة المجادل أوالمحاور بأحوالهم إذْ إنهم: ليسوا سوآءً. وقد قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأنعام 6/55] فيفوت من الإحسان في جدالهم على قدر تفريط المجادل في:
1- العلم بالحق ومعرفة تفصيل الآيات.
2- ضعف استبانة سبيل المجرمين وما هم عليه من الضلال المبين.

المبحث الثاني: أدلة مشروعية مجادلة أهل الكتاب من السنة:
وردت عدة أحاديث تدل على مشروعية جدال أهل الكتاب منها:
1-حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي …)) الحديث وفيه: ((.. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن..)) رواه مسلم .
2-وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم والسنتكم)) . قال ابن حزم:((وهذا حديث غاية في الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله)). أهـ.
والنبي صلى الله عليه وسلم مبين للقران فجداله مع أهل الكتاب هو التطبيق العملي للجدال القرآني مع أهل الكتاب وهو في هذا ماضٍ على سنة الأنبياء من قبله في جدالهم لأقوامهم وبيان الحق لهم كما قال تعالى في جدال نوح لقومه: ((قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا..)) وكذا الآيات الكريمات التي فيها جدال إبراهيم لأبيه ولقومه وللملك ومحاجة موسى لفرعون ولقومه ولهذا كان الجدال عن الحق: ((حِرْفةُ الأنبياء)) كما يقول الفخر الرازي .
وهو صلى الله عليه وسلم على سنة الأنبياء من قبله يدعوالى الله على بصيرة فكان يواجه الناس على اختلاف عقائدهم منهم: المسترشد الذي يطلب الحق ليلتزم به ومنهم الجاهل الذي يبتغي العلم فيستنير به ومنهم الجاحد الذي يسلك سبيل المدافعة والمنازعة بغية تثبيت ما عنده وتزهيق ما عند غيره لكنه قد يستسلم لما تنتج عنه المدافعة والمنازعة وظهور الحجة وبيان المحجة ومنهم المعاند المتلدد الذي لا يلوي على شيء غير الوقوف أمام كل جديد بالصد والإنكار بدعوى التزام ما كان عليه الأولون من الآباء والأجداد … ومن هؤلاء وهؤلاء من ينتسب إلى كتاب منزل أصابه من التحريف والتبديل ما جعله يخلط حقاً بباطل ورشاداً بِغَي وصدقاً بكذب وهم اليهود والنصارى … فواجههم عليه الصلاة والسلام وقد وعى طريقة القرآن في بيان الحق وتثبيته ودفع الباطل وتزهيقه فكانت العلاقة وثيقة بين جدل القرآن مع أهل الكتاب والجدل معهم في السنة المطهرة ولا عجب فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المفسر والمبين لوحي القرآن .
ومواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب اتخذت عدة صور منها: دعوتهم للإسلام ومجادلتهم ومناظرتهم وأخذ المواثيق ثم جهادهم وقتالهم وسبي ذراريهم وإجلائهم من الديار.
ومن الوسائل التي اتبعها عليه الصلاة والسلام في دعوة أهل الكتاب ما يلي:

أولاً: غشيانهم في محافلهم ومجتمعاتهم لدعوتهم إلى الإسلام.
من هذا حديث أنس رضي الله عنه قال: ((كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم؛ فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطِعْ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلَمَ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار)). رواه البخاري .
ثانياً: الكتابة إلى ملوكهم ورؤسائهم.
روى ابن عباس - كما في حديث أبي سفيان الطويل مع هرقل - أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل: ((بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلامٌ على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتِكَ اللهُ أجرَك مرتين. فإنْ توليتَ فإنَّ عليك إثمَ الأريسيين. وقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران 3/64]. رواه البخاري .
ثالثاً: استقبال وفودهم.
من ذلك استقبال وفد نجران النصارى. قال حذيفة رضي الله عنه: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه. قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً. فقال: لأبعثن معكم رجلاً أميناً حقَّ أمين فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قُمْ يا أبا عبيدة ابن الجراح فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة)) رواه البخاري .

المبحث الثالث: حكم مجادلة وحوار أهل الكتاب:
ينقسم حكم الجدل معهم إلى قسمين:
الأول: الجدل الممدوح:
وهو الجدل الذي يقصد به تأييد الحق أوإبطال الباطل أوأفضى إلى ذلك بطريق صحيح. ومن هذا الجدل ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض على الكفاية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ((… والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ونحوذلك مما أوجبه الله على المؤمنين فهذا واجب على الكفاية منهم. وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم …)) . وقال رحمه الله أيضاً:((… فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام وأمر بها في مثل قوله تعالى: قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا وقوله:) وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه وقوله: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه وقوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل 16/125] وأمثال ذلك فقد يكون واجباً أومستحباً وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع)) .
وذكر ابن القيم رحمه الله في ((الهدي)) ضمن فقه قصة وفد نجران: ((ومنها: جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم بل استحباب ذلك بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجة عليهم ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة …)). أهـ . وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله - في فوائد قصة أهل نجران -:((وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب وقد تجب إذا تعينت مصلحته)) .
الثاني: الجدل المذموم:
وهو الجدل الذي يقصد به الباطل أوتأييده أويفضي إليه أوكان القصد منه مجرد التعالي على الخصم والغلبة عليه فهذ ممنوع شرعاً ويتأكد تحريمه إذا قلب الحق باطلاً أوالباطل حقاً. قال ابن تيمية رحمه الله:((والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل والجدل بغير علم والجدل في الحق بعدما تبين …)) . ويدخل في هذا النوع دعوات التقارب ونظريات الخلط بين الأديان فإنَّها من الباطل الصرف؛ كما يدخل فيه كثير من الحوارات الحضارية المعقودة مع أهل الكتاب لما تفضي إليه من الباطل.
ومما يحسن مراعاته في هذا المقام التفريق بين مقام الدعوة ومقام دفع الصائل وهل هما على حد سواء أم لا؟ من استبان عنده الفرق بين المقامين لُمِسَ من كلامه نصرة الإسلام وعزته ولهذا فإنَّ الفرق جليٌ بين من يرد وينافح على سبيل الدعوة وبين من يرد على هيئة دفع الصائل!
إنَّ الرد على جاحد الحق الذي يقيم الحجج والشبه على باطله لا ينبغي أن يكون من باب الدعوة بالحكمة أوالموعظة الحسنة بل يجب أن يكون من باب دفع ضرره عن المسلمين وصياله عليهم فإذا صال عسكر الكفر على المسلمين بالسلاح المادي وجب أن يرد ذلك بالسلاح المادي إنْ كان في المسلمين طاقة وقدرة والقدرة بالسيف ليست دائمة للمسلمين بخلاف ما إذا صال عسكر الكفر بالحجج الباطلة فإنه يجب على أهل العلم والإيمان الدفاع عن الإسلام بإقامة حججه الصحيحة ودلائله الصريحة وذلك أن الإسلام منصور أبداً في مقام الحجة والبرهان هذا هو الأصل.
ولا يغيظ الكفار شيء كما يغيظهم إقامة حجة الإسلام وبيان براهينه والتدليل على أباطيل الكفر وأحابيله. يقول أبومحمد ابن حزم -وهو كلام نفيس-: ((وقال تعالى: ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدونيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح. ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد المسلمين. وأول ما أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعوله الناس بالحجة البالغة بلا قتال فلما قامت الحجة وعاندوا الحق أطلق الله تعالى عليهم السيف حينئذ؛ وقال تعالى: قل فلله الحجة البالغة. وقال تعالى: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لأن السيف مرة لنا ومرة علينا وليس كذلك البرهان بل هو لنا أبداً ودامغ لقول مخالفينا ومزهق له أبداً. ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً فأزهقته منها يوم الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه ويوم قتل الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم … وقد قتل أنبياء كثير وما غلبت حجتهم قط …)). أهـ .
وإذا تقرر ذلك فإنَّ المجادل عن الإسلام عليه أن يدرك أحوال من يجادل ويحاور في قبوله أورده للحق فإنْ أنزلهم منزلة واحدة فهناك يفقد الكلام معناه ويصبح الأمر مضطرباً محيراً لمن قلَّتْ بصيرته في هذا الباب ويكون ذلك داعياً لفتنة بعض المسلمين ببعض. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:((الإنسان له ثلاثة أحوال:
إما أن يعرف الحق ويعمل به.
وإما أن يعرفه ولا يعمل به.
وإما أن يجحده.
فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به.
والثاني: أن يعرفه لكن نفسه تخالفه فلا توافقه على العمل به.
والثالث: من لا يعرفه بل يعارضه.
فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة فإنَّ الحكمة هي العلم بالحق والعمل به فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به فيُدْعون بالحكمة.
والثاني: من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ بالموعظة الحسنة.
فهاتان هما الطريقان: الحكمة والموعظة. وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا فإنَّ النفس لها هوى تدعوها إلى خلاف الحق وإنْ عرفته؛ فالناسُ يحتاجون إلى الموعظة الحسنة والى الحكمة فلابد من الدعوة بهذا وهذا.
وأما الجدلُ فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل؛ فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن. ولهذا قال: وجادلهم فجعله فعلاً مأموراً به مع قوله: ادعهم فأمر بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن وقال في الجدال: بالتي هي أحسن ولم يقل بـ الحسنة كما قال في الموعظة؛ لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل فما دام الرجل قابلاً للحكمة أوالموعظة الحسنة أولهما جميعاً لم يحتج إلى المجادلة فإذا مانعَ جودل بالتي هي أحسن)). انتهى .

الفصل الثاني: شروط الحوار والجدال مع أهل الكتاب:
يتكون الحوار والجدال مع أهل الكتاب من ثلاثة أركان :
أولها: المحاور والمجادل المسلم.
ثانيها: المحاور والمجادل الكتابي.
ثالثها: موضوع الحوار والجدال.
وحتى يكون الجدال شرعياً لابد من النظر في شروط تلك الأركان.
المبحث الأول: شروط المحاور أوالمجادل المسلم:
شروط المحاور المسلم وما يلزم لها تابعة لكلمة الشهادة:((أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)) وفيها: الإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فمن كمل حظه منهما كملت فيه الشروط ومن انتقص منهما انتقص منها بقدر تفريطه فيهما.
الشرط الأول: الأهلية وإعطاء الإسلام حقه من النصرة والبيان.
والشرط الثاني: استقامة المسلم وتخلقه بأخلاق الإسلام.
الشرط الأول: الأهلية وإعطاء الإسلام حقه من النصرة والبيان.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:((… كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرةً تقطعُ دابرَهم لم يكن أعطى للإسلام حقَّهُ ولا وَفَىَ بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين)) .
وقد ظهر أثر غياب هذا المعنى في مناظرات أهل الكلام للفلاسفة وأشباههم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:((ولهذا كانت مناظرة كثير من أهل الكلام لهم مناظرة قاصرة حيث لم يعرف أولئك حقيقة ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وما ذمه من الشرك ثم يكشفون بنور النبوة ما عند هؤلاء من الضلال كما ناظرهم الشهرستاني في كتاب)) الملل والنحل ((لما ذكر فصلاً في المناظرة بين الحنفاء وبين الصابئة المشركين فإنَّ الحنفاء يقولون بتوسط البشر وأولئك يقولون بتوسط العلويات فأخذ يُبَيّن أنَّ القول بتوسط البشر أولى من القول بتوسط العلويات. ومعلومٌ أنه إذا أخذ التوسط على ما يعتقدونه في العلويات كان قولهم أظهر فكان رده عليهم ضعيفاً لضعف العلم بحقيقة دين الإسلام…)) .
ويكمل هذا الشرط في المجادل على قدر تحقق بعض اللوازم فيه، ومنها:
اللازم الأول:العلم والعدل.
اللازم الثاني: معرفته بما ينكي وينجع في رد صيال الخصم وجداله.
اللازم الثالث:الصدع بالحق والجهر به.
اللازم الأول:العلم والعدل:
الأصل في العلم علم الكتاب والسنة والدوال عليهما وليس كل من انتسب للعلم صلح أن ينافح عن الإسلام أويدعواليه بل ربما أفسد هؤلاء ما لا يمكن إصلاحه . قال شيخ الإسلام: ((… ولا ريب أن المؤمن يعلم من حيث الجملة أن ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل. لكن كثير من الناس لا يعلم ذلك في المسائل المفصلة لا يعرف ما الذي يوافق الكتاب والسنة وما الذي يخالفه؛ كما قد أصاب كثير من الناس في الكتب المصنفة في الكلام في أصول الدين وفي الرأي والتصوف وغير ذلك …)) . ويقول رحمه الله تعالى: ((… والإنسان خلق ظلوماً جهولاً فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وأكله وشربه ونومه ويقظته فكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله وعدل ينافي ظلمه فإنْ لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل والا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً  إلى قوله:  وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً فإذا كان هذه حاله في آخر حياته أوقريباً منها فكيف حال غيره؟!)) .
وقال ابن القيم في ((الهدي)) عمن يتهرب عن مجادلة أهل الكتاب: ((… ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة فليولِ ذلك إلى أهله وليخلِ بين المطي وحاديها والقوس وباريها …)) . وقال أيضاً رحمه الله تعالى:((والمقصود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل في جدال الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم إلى أن توفي وكذلك أصحابه من بعده وقد أمره الله سبحانه بجدالهم بالتي هي أحسن في السورة المكية والمدنية وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحجة إلى المباهلة وبهذا قام الدين وإنما جعل السيف ناصراً للحجة وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته وهو سيف رسوله وأمته)) .
اللازم الثاني: معرفته بما ينكي وينجع في رد صيال الخصم وجداله.
قال صلى الله عليه وسلم:((جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم والسنتكم)) . وفي الحديث أنَّ من أقسام الجهاد: الجهاد باللسان؛ ولا يعني ذلك مجرد الكلام وعموم المنافحة فإنَّ هذا يُحسِنُهُ كلُّ أحد! ولهذا كان شعر حسان رضي الله عنه ليس كشعر غيره فقد كان يقع من الكفار موقع النبل.
قالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم فهجاهم فلم يُرضِ! فأرسلَ إلى كعب بن مالك ثم أرسلَ إلى حسَّان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسَّان: قد آنَ لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلعَ لسانه فجعل يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم … “ ثم قالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسَّان فشفى واشتفى)) رواه مسلم .
قال النووي رحمه الله - في شرح الحديث -: ((وأما أمره صلى الله عليه وسلم بهجائهم وطلبه ذلك من أصحابه واحداً بعد واحد ولم يرض قول الأول والثاني حتى أمرَ حسَّان فالمقصود منه: النكاية في الكفار…)) .
وكما أن الجهاد باليد لابد من إعداد العدة فيه والا كان ملوماً على تفريطه فكذا الجهادُ في ميدان اللسان والكلمة بل أمرُهُ أخطر وأشدُّ من الجهاد باليد فإنَّ غاية المجاهد في سبيل الله بيده إذا خسر المعركة أنْ يُقتلَ في سبيل الله ولا يلام عند عامة المسلمين على تفريطه في اتخاذ العُدد كما يلام من يتخلف عن إعداد العدة لمواجهة الكفر في ميدان النظر والمجادلة وذلك أن الإسلام منصور دوماً وأبداً في مقام الحجة والظهور بخلاف الظهور بالسيف فإنه يكون مرة له ومرة عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظرُ ضعيفَ العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل كما ينهى ذلك الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار فإنَّ ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة)) أهـ.
ومما يلتحق بهذا اللازم خطاب كل قوم باصطلاحهم الذي تعارفوا عليه إذا كانت هناك حاجة وكانت المعاني صحيحة. قال ابن تيمية: :((… وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعُرفهم فإنَّ هذا جائزٌ حسن للحاجة وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتاجوا إليه)) . وقال رحمه الله: ((… ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات كالسلاح في المحاربات. فإذا كان عدوالمسلمين - في تحصنهم وتسلحهم - على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم: كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع وهو الأصلح في الدنيا والآخرة. وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك لا لفضل قوته وشجاعته ولكن لمجانسته لهم كما يكون الأعجمي المتشبه بالعرب - وهم خيار العجم - أعلم بمخاطبة قومه الأعاجم من العربي وكما كون العربي المتشبه بالعجم - وهم أدنى العرب - أعلم بمخاطبة العرب من العجمي …)) .
ومما يعين على تحقيق هذا اللازم اهتداء المجادل بطريقة القرآن والسنة في مجادلة ومناظرة أهل الكتاب إذْ بذلك تتم النصرة وتقوم الحجة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:((وكثير من المصنفين في الكلام لا يردون على أهل الكتاب إلا ما يقولون: إنه يُعلم بالعقل مثل تثليث النصارى ومثل تكذيب محمد ولا يناظرونهم في غير هذا من أصول الدين. وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن فإنَّ الله يبين في القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك والقرآن مملوء من ذلك)). أهـ .
ويفيد في هذا الشأن النظر في القواعد الجدلية المشروعة المستنبطة من الكتاب والسنة ومما دلت عليه العقول والفطر السليمة .
ومن فوائد ما قالوه: أن المناظر لا يحتاج - أحياناً - أن يظهر الحق للمخالف المعاند عند انقطاعه وإنما عليه الاشتغال برد دليله وقلبه عليه ودمغ باطله وبيان تناقضه فيترك في عماية حتى يفيق ويتبين له فساد ما كان عليه.
وهذه الطريقة نافعة في كثير من المسائل المطروحة في الحوار والجدال مع أهل الكتاب اليوم كقضية تعدد الزوجات في الإسلام وحقوق الإنسان مثلاً فلوسئل عنها المرء فليس من الضرورة تبيين حكم الإسلام فيها لكل سائل لأن السؤال - في الغالب - سؤال تعنت واستنقاص للإسلام حتى أصبحت أمثال هذه المسائل من مسائل الشعار التي يعير بها المسلمون فههنا يبين لهم ما في واقعهم من تناقض في قضية المرأة واستعبادهم للشعوب ومصادرة الحريات ونحوذلك من الأمور التي يسمعها الأصم ويراها الأعمى!
والأصل عدم العمل بهذه الطريقة - عند عدم الحاجة إليها - لأنها تخالف أصل بيان الحق والصدع به والله تعالى أعلم.
وأحياناً قد يضطر المجادل المسلم إلى الاحتجاج على الخصم الكتابي بمقدمات يسلمها ولوكانت في نفسها باطلة وذلك من أجل بيان تناقضهم لا لتقرير الحق ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية:((والله تعالى لا يأمر المؤمنين أن يجادلوا بمقدمة يسلمها الخصم إنْ لم تكن علماً فلوقُدرَ أنه قال باطلاً لم يأمر الله أن يحتج عليهم بالباطل لكنَّ هذا قد يفعل لبيان فساد قوله وبيان تناقضه لا لبيان الدعوة إلى القول الحق ودعوة العباد إليه …)) أهـ.

اللازم الثالث: الصدع بالحق والجهر به.
الأصل في المسلم جهره بالحق وصدعه به. قال تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ [سورة الحجر 15/94]. وقال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [سورة آل عمران 3/187]. وفي قصة جعفر رضي الله عنه مع النجاشي دليلٌ على الجهر بالحق والصدع به في وقت الضعف وهم بديار الكفر ولم يمنعه كونه في دار الكفر من بيان الحق .
وربما ظنَّ ظان أن مجرد مناظرة أهل الكتاب فيها تنـازل عن الحق ومخالفة لوجوب الصدع بالحق وهذا الظن ليس بشيء لأننا في هذا المقام نتكلم بطريق التنزل مع الخصم وهي من طريقة القرآن ولهذا فإننا - كما يقول شيخ الإسلام -: ((… نتنـزل لليهودي والنصراني في مناظرته وإنْ كنا عالمين ببطلان ما يقوله اتباعاً لقوله تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل 16/125] وقوله:وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة العنكبوت 29/46] والا فعلمنا ببطلان ما يعارضون به القرآن والرسول ويصدون به عن سواء السبيل وإن جعلوه من المعقول بالبرهان أعظم من أن يبسط في هذا المكان)) .
وهذا الصدع لا يعني ترك أدب الجدال والحوار أوالتخلي عن أخلاق وآداب الإسلام فالمسلم هو المسلم في كل الأحوال وإنما يصول ويجول بالله ولله لا بنفسه ولا لهواه.
الشرط الثاني: استقامة المسلم وتخلقه بأخلاق الإسلام.
وهذا المعنى متفق عليه والكلام فيه قد أشبع في كتب الحوار والجدل. ويدخل فيه الكلام عن آداب الحوار والجدال وهو من المتقرر أمره فلا نطيل بتأصيله والتدليل عليه .
تنبيه:
قد يعرض للمجادل المسلم أثناء رده مسألة تخطئة أعمال واجتهادات المسلمين إذا أوردها عليه الكتابي فما حكم ذلك في وقت الحوار أوالرد ودفع الصيال؟! يجاب بالقول: إن جواز ذلك يشترط له أمور تدور مع قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد ومن ذلك:
1- أن يكون الحرص على تأليف المسلمين بكلامه أولى من حرصه على تأليف الكفار به. وتأليف القلوب مقصد شرعي لا يفرط فيه.
2- أن يكون وجه التخطئة لأعمال المسلمين صحيحاً من جهة النظر الشرعي.
وهذه الأعمال لا تخلومن حالين:
الحال الأول: أن تكون صحيحة شرعاً. فهذه لا يجوز ردها أوتأثيمها وهذا كمسائل إقامة الحدود وحكم الردة والختان والجهاد في سبيل الله وتعدد الزوجات وأحكام أهل الذمة والرق. وذلك لأنَّ عرضَها والدفاعَ عنها دفاعٌ عن الدين وبيان له. ويبقى على المجادل توخي أحسن وأنجع الأساليب في عرضها والدفاع عنها وهو مقام تتفاوت فيه المدارك.
الحال الثاني: ألا يقرها الشرع. وهذا الحال على درجتين:
الدرجة الأولى: أن يكون القول بها من الشذوذ أواتباع الهوى المحض.
الدرجة الثانية: أن تكون من محال الاجتهاد؛ والخلاف فيها سائغ أويكون العمل فيها بناءً على تقليد عالم.
والدرجة الأولى لا يلزم المجادل التزامها إذ ليست من الدين ويخشى أن يكون في التزامها نوع من العصبية للجنس والإقليم وليس هذا من باب الولاء والبراء؛ فإنَّ شذوذها واتباع صاحبها للهوى المحض مما يخرجها عن الإسلام فلا يلزم أن يوالى فيها ويقرر بإنصاف أنَّ هذا ليس من دين الإسلام.
أما الدرجة الثانية فهي من محال النظر ولا ضابط يضبط جزئياتها فإنها تتنوع بتنوع الأحوال والبلدان وتختلف باختلاف الأشخاص والمسائل. والأصل أنه إذا كان الخلاف فيها سائغاً فإنَّ المجادلَ يبينُ وجهَ الاجتهاد ولا محذور في ذلك.
3- أن يُفَرَّقَ بين أخطاء واجتهادات المكلفين وبين الحكم على الإسلام كدين لا غنى للبشر عنه وهذا من الوضوح بمكان.
4 - ألا يؤدي كلامه في ذلك إلى مفسدة أعظم من المصلحة المنشودة. فإنَّ المصلحة المنشودة - في أحسن الأحوال - تألف قلب الكافر لدخول الإسلام وقد يكون هذا الكافر غير جاد في التفكير في الدخول في الإسلام وإنما يثير الكلام ويردد ما يقال ويذاع في بلاده وإعلامه وليس عنده أدنى باعث للدخول في الإسلام!

المبحث الثاني: شروط المحاور الكتابي:
ليس هناك شروطاً خاصة بالمحاور الكتابي في الشريعة سوى عدم الظلم والدليل قول الله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [سورة العنكبوت 29/46]. فإنْ كان منهم فيخرج الجدال معه عن مسمى ((الجدال بالتي هي أحسن))؛ وينتقل الخطاب معه إلى مجادلة بغير التي هي أحسن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:((فالظالم لم يؤمر بجداله بالتي هي أحسن فمن كان ظالماً مستحقاً للقتال غير طالب للعلم والدين فهو من هؤلاء الظالمين الذين لا يجادلون بالتي هي أحسن بخلاف من طلب العلم والدين ولم يظهر منه ظلم سواء كان قصده الاسترشاد أوكان يظن أنه على حق يقصد نصر ما يظن أنه حقاً ومن كان قصده العناد يعلم أنه على باطل ويجادل عليه فهذا لم يؤمر بمجادلته بالتي هي أحسن لكن قد نجادله بطرق أخرى نبين فيها عناده وظلمه وجهله جزاءً له بموجب عمله)). أهـ .
((… والإمتناع عن الجدال مع الظالمين واتخاذه منهجاً مطرداً يخالف منهج النبي صلى الله عليه وسلم فقد جادل اليهود بالتي هي أحسن في المدينة وكانوا يكتمون ما أنزل الله ويلبسون الحق بالباطل؛ كما جادل نصارى نجران ودعاهم إلى المباهلة فرفضوا … فالأصل أن يقبل الجدال مع كل أحد لأن كل كافر ترجى هدايته. نعم قد تكون المصلحة في الامتناع عن مجادلة طائفة منهم أومع أفراد لسبب أولآخر وهذا استثناء …)) .

المبحث الثالث: موضوعات الحوار أوالجدال مع أهل الكتاب:
موضوعات الحوار والجدال لها أهمية كبرى إذ إنها ركن من أركانه لا يتم إلا بها . وإنَّ الناظرَ في الكتاب والسنة يجد أنهما يدوران في مجادلة أهل الكتاب على محورين أساسين: التوحيد والنبوة ؛ وما يتعلق بهما من قضايا فتجد فيهما:
1- الأمر بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له. كقوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران 3/64]. وقال تعالى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [سورة المائدة 5/72]. وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [سورة المائدة 5/73]الآية.
2- الأمر بالإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول إلى العالم أجمع وهم داخلون تحت عموم رسالته. كقوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة المائدة 5/19]. وقوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة 2/146].
3- إثبات القرآن لنسخ أديانهم وتحريف كتبهم وبطلانها و وجوب إيمانهم بالقرآن. قال تعالى:  أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[سورة البقرة 2/75]. وقال: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة 5/48] الآية.
4- الرد على شبهاتهم وافتراءاتهم ونهيهم عن الغلوفي الدين. وهذا كثير في القرآن والسنة.

والأصل في مواضيع الجدال معهم ما يلي :
أولاً: كل موضوع يخدم الأهداف التي شرعها الله في مجادلة أهل الكتاب فهو مطلوب* وذلك مثل: دعوتهم للإسلام وبيان ما هم عليه من الباطل ورد شبهاتهم وطعنهم في الإسلام وتثبيت المؤمنين بإظهار علوحجة الإسلام وتحقيق مصالح مشروعة للمسلمين عبر الحوار معهم مثل: تحييد بعضهم والضغط عليهم وكشف مؤامراتهم وفضح طرقهم في التنصير ونحوذلك .
ثانياً: كل موضوع يخدم أهدافاً نهى الله عنها فهو ممنوع* وذلك مثل: موالاة الكفار ومودتهم؛ أوالتقارب معهم؛ أوالتنازل عن شيء من دين الإسلام كإلغاء الجهاد أوتحوير معناه أوالتنصل من أحكام أهل الذمة أوإبطال الرق؛ ونحوذلك .
ثالثاً: إذا كان الموضوع من الاصطلاحات والألفاظ الحادثة التي ربما جمعت حقاً وباطلاً أوكانت باطلاً ولكنها مشتبهة. ففي هذا تفصيل يقوم على أمور منها:
1-معرفة أقسام الناس في موافقة ألفاظ ومعاني الكتاب والسنة.
الناس في موافقة نصوص الكتاب والسنة على أقسام:
أحدها: من يوافقها لفظاً ومعنى. وهؤلاء أسعد الناس بالحق.
الثاني: من يوافقها في المعنى دون اللفظ. وفيه تفصيل.
الثالث: من يوافق النصوص في اللفظ دون المعنى. وهذا مثل استخدام الباطنية وأشياعهم لألفاظ الشرع للدلالة على معانٍ فاسدة خارجة عن حد الإسلام كاستعمالهم لألفاظ: الصلاة والصيام والحج. ومنه استعمال العصرانيين وأشياعهم للفظ ((الكلمة السواء)) في غير ما أنزله الله تعالى.
الرابع: مخالفة ألفاظ الكتاب والسنة لفظاً ومعنى. وهؤلاء أشقى الطوائف .
وينبغي على المرء أن ينظر حين يستخدم تلك المصطلحات الحادثة هو في أي قسم منها.
2-العلم بملابسات نشأتها وتأريخها وطرائق ودرجات استعمال المخالف لها.
العلم بنشأة هذه المصطلحات (التسامح والتعايش والحوار وغيرها) وتأريخها مما يعين على استبانة الحق فيها.
3- وزنها بوزن السلف الصالح في الاصطلاحات الحادثة.
يتميز السلف الصالح ومن يسير على أثرهم بأنهم ينهون عن: ((إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات وليس ذلك لخلوالنقيضين عن الحق ولا قصور أوتقصير في بيان الحق ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل ففي إثباتها حق وباطل وفي نفيها حق وباطل فيمنع من كلا الإطلاقين بخلاف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله به بين الحق والباطل ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه..)) .
والأصل في ((الاصطلاحات الحادثة)) أن توزن بوزنهم في مثلها وأخواتها من الألفاظ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((... فإذا عرفت المعاني المقصودة بهذه العبارات و وزنت بالكتاب والسنة بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة وينفى الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة كان ذلك هو الحق بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً في الوسائل والمسائل: من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو من الصراط المستقيم وهذا من مثارات الشبه)) أهـ.
4-تحرير محل الإجمال والإيهام في تلك الألفاظ والمصطلحات.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
((فعليك بالتفصيل والتمييز فــالـ إطلاق والإجمال دون بيـان
قد أفسدا هذا الوجـود وخبَّطا الـ أذهان والآراء كـل زمـان))
فإطلاق الأقوال المجملة والمعاني المشتبهة يثير النزاع بين المتخاصمين أمَّا التفصيل والبيان فهو إمَّا أن يرفع النزاع أويقلله ولهذا كان كثير ((.. من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها ولوسئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلاً عن أن يعرف دليله ولوعرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئاً بل يكون في قوله نوع من الصواب وقد يكون هذا مصيباً من وجه وهذا مصيباً من وجه وقد يكون الصواب في قول ثالث..)) .
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ((.. فإذا عرفت المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة وعبر عنها لمن يفهم بهذه الألفاظ ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء وما خالفه فهذا عظيم المنفعة وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [سورة البقرة 2/213] وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم وذلك يحتاج إلى معرفة معاني الكتاب والسنة ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم ثم اعتبار هذه المعاني بهذه المعاني ليظهر الموافق والمخالف)) أهـ.

الخاتمة
وبعد فقد ظهر لنا قبس من نور الكتاب والسنة فيما يحتاج إليه أهل الإسلام في مواجهة أهل الكتاب فالمعركة قائمة معهم إلى قيام الساعة … والبشرية اليوم تتخبط في عمايات لن ينجيها منها إلا الهداية إلى الإسلام وقد جربت نظريات وتصورات للكون والحياة ومناهج مختلفة فلم يزدها ذلك إلا حيرة وضلالاً … وبدأ كثير من الناس في الأرض يرمون بأبصارهم نحوالإسلام بعضها ينظر إليه باعتبار أنه العقيدة المؤهلة لتسود العالم أجمع في المرحلة المتبقية من عمر الدنيا والبعض الآخر يراه المنافس الأقوى لدينه ومبادئه فتحمله عقيدته ومصالحه الخاصة على الدس والتشويه والطعن في الإسلام وأهله وافتعال المعارك وتأجيج رحى الحرب على كافة المستويات كما هي عادة أئمة الكفر … وتبقى شرائح كبيرة من الناس في العالم تائهة ضالة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء … أفيتركون كلأً مباحاً لدعاة التقريب بين الأديان؟؟ أم يتركون هنيئاً مريئاً للعصرانيين؟؟
لقد استجابت أمة الإسلام لنداء القرآن في القرون المفضلة فاهتزَّ العالم والوجود بحركتها حمل أسلافنا في تلك القرون لواء الإسلام بصدق وإخلاص فعمروا الكون وأخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد فأضاء نور أمة الإسلام في تاريخ الوجود ثم ترك أقوامٌ منا اللواء في مواطن دون مواطن ومشاهد دون مشاهد وأزمان دون أزمان ورجال دون رجال … كان منا الظالم لنفسه وكان منا المقتصد وكان منا السابق بالخيرات ولا زلنا نعتقد ونؤمن أننا ((خير أمة أخرجت للناس)) وعندنا من الخيرية والاصطفاء على أهل الأرض ما يجعلنا نخرج العالم من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن رق الهوى إلى رحاب عبودية الله ونرفع راية أنوار النبوة وأعلامها لا مشعل النار وحرياته المزعومة!
إنَّ من معالم منهج أهل السنة أنهم يعرفون الحق ويرحمون الخلق ويأمرون بالألفة وينهون عن الفرقة. قال تعالى: ولا تنازعوفتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين. وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب مع التقوى فكيف بالصبر على أذى المؤمنين فيما بينهم؟!. قال تعالى: ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:“.. فَأَمَرَ سبحانه وتعالى بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب مع التقوى وذلك تنبيه على الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض متأولين كانوا أوغير مـتأولين. وقد قال سبحانه وتعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هو أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [سورة المائدة 5/8] فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم فكيف إذا كان البغض لفاسق أومبتدع متأول من أهل الإيمان؟ فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على ألاَّ يعدل على مؤمن وإنْ كان ظالماً. فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا فإنَّ الشيطان مُوْكَل ببني آدم وهو يعرضُ للجميع ولا يَسْلَمُ أحدٌ من مثل هذه الأمور – دع ما سواها – من نوع تقصير في مأمور أوفعل محظور باجتهاد أوغير اجتهاد وإنْ كان هو الحق …)) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ((… وكثيرٌ من هذه الطوائف يغضب على غيره ويرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع معترضاً في عينه ويذكرُ تناقضَ أقوالِ غيره ومخالفتها للمنصوص والمعقول ما يكونُ له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال أوأضعف منها أوأقوى منها والله تعالى يأمر بالعلم والعدل ويذم الجهل والظلم كما قال تعالى: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [سورة الأحزاب 33/72]…)) .
ولن يصل المسلمون إلى النصر والتمكين إلا بفيئتهم للكتاب والسنة بفهم السلف الصالح علماً وعملاً وكفى بهم تربصاً وتلفتاً تارةً في الشرق وأخرى في الغرب فهم نقاوة العالم فإنْ فاءوا فإنَّ الله غفور رحيم وإنْ عزموا الطلاق فإنَّ الله سميع عليم وسيظل باب التوبة مفتوحاً لا يؤصد إلى أن تطلع الشمس من مغربها.
وحَسْبُنا كتاب ربنا وسنة نبينا في هدايتنا لكل خير فإنه صلى الله عليه وسلم ((لم يحوج أمته إلى أحد بعده وإنما حاجتهم إلى من يبلغ عنه ما جاء به. فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عمومٌ بالنسبة إلى المرسَل إليهم وعمومٌ بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه مَن بُعِثَ إليه في أصول الدين وفروعه؛ فرسالته كافية شافية لا تحوج إلى سواها ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وفي هذا فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به … وقد عرَّفَهُم صلى الله عليه وسلم من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق النصر والظفر ما لوعلموه وعقلوه ورعوه حق رعايته لم يقم لهم عدوأبداً.. وكذلك عرَّفَهُم صلى الله عليه وسلم من أحوال نفوسهم وأوصافها ودسائسها وكوامنها ما لا حاجة لهم معه إلى سواه وكذلك عرَّفَهم صلى الله عليه وسلم من أمور معايشهم ما لوعلموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة …)) .
إنَّ الواجب في مثل هذه الأزمان على من أعطاه الله هدى وتوفيقاً وعلماً وبصيرة أن يوصل ما خوله الله من نعمته إلى من به إليه حاجة من البشر وحَقٌّ على علماء أمة الإسلام ودعاتها ومثقفيها المخلصين أن يتهيأوا لقيادة العالم كلٌ وما يستطيع ولا تهولنهم الأراجيف فـ((المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قلوبهم واحدة موالية لله ولرسوله ولعباده المؤمنين معادية لأعداء الله ورسوله وأعداء عباده المؤمنين وقلوبهم الصادقة وأدعيتهم الصالحة هي العسكر الذي لا يغلب والجند الذي لا يخذل فإنهم هم الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة)) فالسعيد من كان له في ذلك حظ ونصيب و((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) … وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك