رسالة عاجلة للدعاة
رسالة عاجلة للدعاة
خالد بن سامر السبيعي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهُوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}( )، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم محمدٍ الأمين، القائل: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي))، وبعد:
في قرون مضت قدنا العالم كله، وكانت لنا السيادة والريادة، وفي صحراء الجزيرة المنقطعة عن الحضارات كلها صنع محمدٌ عليه الصلاة والسلام أمة عجبًا، قال العدو في وصف أهلها: (إنهم رهبانٌ بالليل فرسان بالنهار)..
(فإذا بالصحاري المتسعرات المقفرات التي لبثت دهورًا لا تسقى بغير الدم، ولا تنبت غير الأحقاد والثارات، تنبت رمالها الدوحة الباسقة التي ظللت الشام ذات الأعناب، والعراق ذات النخيل، ومصر ذات النيل، والقسطنطينية ذات الأبراج والقباب، وما شرَّق من الأرض وما غرَّب دوحة العدل والحضارة والخير)( ).
وما زالت الأمة في خير عظيم منذ بزوغ شمس الإسلام على يد الحبيب صلى الله عليه وسلم تنهل من المعين الصافي وتستمد قوتها من فيض رحمة الله حتى تنكبت الطريق وزلت بها القدم وأخذت بأخذ الأمم من قبل فانتشر الفسوق والعصيان ودب اليأس والقلق وصال الشيطان وجال حتى أصبحت الأمة في ذيل القافلة، فتداعت علينا أمم الكفر كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فحل البلاء وسالت الدماء وقطعت الأشلاء ودنَّس المسجد الأقصى بأيدي أحفاد القردة والخنازير وانتهكت أعراض العفيفات ظلمًا وعدوانًا.
وطفلة ما رأتها الشمس إذ بزغت
كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة
والعين باكية والقلب حيران
والعالم كله قد أصيب بالشلل التام، لا حراك، ولا نصير إلا الله سبحانه وتعالى، عندها تذكرت قول ابن الأثير وهو يصف المجازر التي حلت بالمسلمين على يد التتار والتي ختم وصفها بقوله: (يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت شجرة تعضد)..
ولكن هذا الكلام يحكي واقعًا ولا يقودنا إلى اليأس {فَإِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقُومُ الْكَافِرُونَ}( ).
ويشاء الله العلي القدير أن يُظهر ما تكن صدور الأعداء تجاه الإسلام والمسلمين، فإذا بهم يعلنون في تحدٍّ سافر مصداقًا لما أخبر الله تعالى به: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وأصبح الأعداء لا يرضون بأنصاف الحلول، وإنما هو الاجتثاث الكامل للإسلام وأهله!!
وكشر العدو عن أنيابه، ورمانا من قوس واحدة، بل أحاط بنا إحاطة السوار بالمعصم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عندها يكون من أولى المهمات وأسمى الغايات توحيد الأمة الإسلامية ونبذ الفرقة والخلاف، ويتأكد ذلك بشكل كبير في حق الدعاة والقيادات في العالم أجمع؛ إذ لا مجال للتخاذل أو المماطلة في هذا الوقت تحديدًا.
لذا أعددت هذا العمل المتواضع والذي أسميته (رسالة عاجلة للدعاة) وأردفت (بمعالم في طريق الأمة الواحدة) إسهامًا مني في إعادة ترميم جسد هذه الأمة المتمزق علَّ وعسى أن تكون خطوة في طريق وحدة الأمة وعودتها إلى موقع الصدارة في هذا العالم والذي ينبغي ألا يكون إلا لها.
أخي الحبيب/ إن ما ستقرأه في هذه الورقات ليس رجمًا بالغيب ولا ضربًا من الخيال، بل هي رؤية من الداخل عايشتها ما يقارب عقدًا من الزمان ونيِّفًا أسجلها اليوم بمحض إرادتي شهادة لله ثم للتاريخ ثم للأجيال.
فإن صادفت كفؤًا كريمًا لها لن تعدم منه إمساكًا بمعروف أو تسريحًا بإحسان، وإن صادفت غيره فالله تعالى المستعان وعليه التكلان( ).
وختامًا.. كل ما أصبو إليه أن نعود أيها الإخوة إلى (الأمة الواحدة) حتى نعد الصفوف ونحفظ الحقوق ونرفع راية الإسلام، فإما النصر أو الشهادة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أخوكم
خالد بن ثامر السبيعي
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن من أعظم المصائب التي حلت بالأمة في هذا الزمان تركها لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الشعيرة التي هي صمام الأمان لهذه الأمة ومفتاح وحدتها وسعادتها في الدارين كما قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَّدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُؤلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، يقول ابن عثيمين رحمه الله معلقًا على آخر الآية: (وهذه الجملة تفيد عند أهل العلم باللغة العربية الحصر، أي الفلاح إنما يكون لهؤلاء الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعون إلى الخير)( ).
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي ‘ قال: ((والذي نفسي بيده؛ لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم))( ).
إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوجب على الأمة عقوبات ربانية ويورث فسادًا اجتماعيًا واقتصاديًا خطيرًا فضلاً عن تسلط الأعداء على رقاب المسلمين.
(إن من أنكى العقوبات التي تنزل بالمجتمع المهمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتحول المجتمع إلى فرق وشيع تتنازعها الأهواء فيقع الاختلاف والتناحر {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَّبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَّيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضَ}، وذلك التناحر يجعل المجتمع عرضة للانهيار والانهزام أمام العدو الخارجي المتربص)( ).
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بعد إيراد قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}: (والنهي عن التفرق بعد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدل على أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببٌ للتفرق)( ).
وبعد.. فإن الواجب على طلبة العلم والدعاة أن ينتبهوا إلى أهمية هذا الأمر، وأن يربوا الأجيال على هذا الأمر العظيم وأن يوجدوا برامج عملية لإحياء هذه الشعيرة في القلوب وترجمتها على الواقع بالوسائل المتاحة.
إنَّ مما يؤسف لـه أن تجد بعض الدعاة ينظِّر في الدعوة في المساجد والمجالس ويجمع الشباب حوله في المنتديات وكثير من اللقاءات، وربما يتحدث عن كل شيء وينسى تربية الشباب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة.
بل إن البعض يُبدع في إيجاد برامج تربوية وبرامج إدارية، ولم يضع في قاموسه يومًا من الأيام إيجاد برنامج لإحياء هذه العبادة العظيمة، وربما يخرج الداعية أو طالب العلم من دورته أو من درسه ويرى شبابًا أمام أحد المساجد لا يصلون فيتركهم ويذهب يسارع الخطى لأداء الصلاة متجاهلاً الموقف ومتناسيًا دوره في المجتمع.. فأين القلوب الحية؟!
فهل تعود الأمة إلى منهج السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك عن طريق نصح الناس في الطرقات والأسواق والمؤسسات، وإيجاد برامج لنشر الخير ودفع المنكرات، وما تزال المكاتبة والمناصحة الشفهية والهدايا والأشرطة وغيرها متاحة أمامنا فضلاً عن الثورات الحديثة في الاتصالات والمواصلات، لكننا هجرناها وانشغل بعضنا ببعض، فانحسر الخير في واقع الناس، وانتشر الفساد انتشار النار في الهشيم.
أيها الأخوة؛ لقد قامت الحجة على الأمة بعدما استطاع الأعداء اختراق مجتمعات المسلمين، بل الأعظم من ذلك أنهم تمكنوا من مداهمة الأسر في بيوتها فحولوا المجالس والغرف قاعات للسينما يُعرض فيها مشاهد تشيب منها رؤوس الولدان، أما استباحة الحرام والغزو الثقافي فقد أصبحت أولوية لأعداء الإسلام خصوصًا في ظل العولمة والمتغيرات العالمية، فهل يدرك الدعاة خطورة الأمر فيهبوا لنصرة الدين وحماية شرع رب العالمين؟ أرجو ذلك.
كيف تطيب لنا الحياة ونتمتع بالدنيا ونحن نرى الأمة تنحر أمام أعيننا والأخلاق تذبح بسكين الأعداء، قال علي رضي الله عنه: (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة؛ لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء ألا يقارُّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم؛ لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عتر). انتهى
اختزال الأمة.. لمصلحة من:
هذا العنوان اقتبسته من مقال (الأمة الواحدة) للشيخ سلمان العودة حفظه الله، فوافق شيئًا في نفسي كنت أعددته للطرح والتبيين. يقول الشيخ: (إن من أسباب طرقي لموضوع الأمة الواحدة هو مثل هذه المعاني التي تنتشر أحيانًا عند بعض الشباب وتجعلهم يختزلون الأمة في طائفة أو مجموعة أو فرقة أو فئة، ويبتعدون عن سواد الأمة وعامتها ودهمائها وإن كان فيهم ما فيهم؛ إلا أنه فرق بين من يشفق على الأمة وينصح لها ويحرص على إصلاحها ويشعر بأنه فرد منها، يؤلمه ما يؤلمها، ويسعده ما يسعده، وبين من يبتعد عن هذه الأمة فيرميها بالعظائم من التكفير أو التبديع أو التفسيق أو التضليل أو غير ذلك)( ).
أرى أن سبب هذا الاختزال ـ في وجهة نظري القاصرة ـ والابتعاد عن عامة الناس وسواد الأمة والتركيز على بعض الفئات هو تغير الأهداف.
لا شك أن المقصود من الدعوة قد تغير عند البعض في خضم العمل الدعوي حتى ابتعدوا عن الغاية والمقصود، يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: (فالمقصود والهدف ـ من الدعوة ـ إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به وينجو من النار وينجو من غضب الله)( ).
قال تعالى: {اِتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَّهُم مُّهْتَدُون}( ).
هذا هو المحك والمعيار، فمن أخذ به واستوعبه بارك الله في دعوته ووفقه، ويكون بذلك قد نقى ساحة دعوته من الشوائب والأمراض التي تمحق بركة الدعوات.
فإخراج الناس من الظلمات إلى النور هو الهدف الأول، ثم يأتي التمكين بعد ذلك، أما إذا اختلف الترتيب المنطقي للدعوة، كتجميع الناس حول فكرة ثم يأتي الإنقاذ من النار بعد ذلك؛ فهذا هو الاختزال المذموم.
ولنتأمل معًا هذه الأمثلة:
- الغلام الذي أشار على الملك وقال لـه: ((إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به..)) إلى أن قال: ((قل بسم الله رب الغلام ثم ارمني؛ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني))( ).. ماذا حقق! أنقذ الناس من النار ومات شهيدًا في سبيل الله.
- الغلام اليهودي الذي نطق الشهادة وهو يحتضر والرسول ‘ يحاول معه حتى النهاية، فحينما نطق الشهادة قال الرسول ‘: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار))( ).
ترى ماذا تستفيد الدعوة من غلام يهودي ينازع الموت، إنها الشفقة على الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
- الفتوحات الإسلامية بلغت ذروتها بعد وفاة الرسول ‘.
- يقول الشافعي: (وددت أن هذا العلم بين الناس، وأني في شعب من الشعاب لا يدري بي أحد).
ومع هذا كلُّه فلا ننسَ الأخذ بالأسباب والإعداد والجهاد بشتى صوره الذي يقود الأمة إلى التمكين ولكن كمرحلة ثانية بعد ابتغاء الأجر في أعمالنا ومحاولة إنقاذ الناس من النار.
إن تلك الأهداف الجزئية وذلك الترتيب غير المنطقي أفرزا في الواقع بعض المظاهر التي مزقت الأمة الواحدة وانعكست سلبًا على مجتمعات المسلمين مولدة عدة عيوب منها:
1- الانتقائية: لقد أصبحت هناك معايير لدعوة الناس، مثل التركيز على فئة دون أخرى، وأفراد دون آخرين، فهذا لا يدعو إلا الأذكياء، أما غيرهم فلا مكان لهم في دعوته، وآخر لا يدعو إلا التجار، وأما الفقراء فلا مولى لهم، وثالث يبحث عن المصلين، وأما المجرمين أو المدمنين أو حتى المطربين؛ فهؤلاء قد حكم عليهم بأنهم حثالة المجتمع، فلا يحق لهم البقاء بيننا فضلاً عن دعوتهم، كم سُمعت عبارات (فلان ساذج، فلان بسيط، فلان فاسق)!! فكم من مدمن صار شهيدًا في سبيل الله، وكم من مطرب صار إمامًا حافظًا لكتاب الله، وكم من بسيط على حد زعم البعض صار يدًا حانية على الفقراء والمساكين واليتامى! ولم يعاتب الله سبحانه النبي صلى الله عليه وسلم ـ في سورة عبس ـ إلا لنبذ فكرة الانتقائية في الدعوة.
إن الرسول ‘ قد جاء بشريعة كاملة ودين عظيم، {الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}( ).
إنه مشروع إسلامي لجميع الفئات، فلماذا نجزئ مشروع الإسلام ثم نتنازع بعد ذلك؟!
ومع ذلك فإننا لا نذم هذه الطريقة إن نحن وضعنا الهدف الأساسي نصب أعيننا؛ ألا وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإنقاذهم من النار، بل نسعى لإيجاد الرواحل، والداعية الذي [يشفيك إن قال وإن قلت وعى]، وتجهيز الرامي قبل السهم والداعية قبل الخطة، وكلهم يخدمون الهدف الكبير ألا وهو [إخراج الناس من الظلمات إلى النور].
ولنا عبرة في موقف عمر مع المسبل إزاره حينما نصحه، وابن مسعود مع المغني زاذان كيف نصحه فأقلع عن الغناء وأقبل إلى الله.
2- التزاحم على السيادة والريادة في الدعوة {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}:
لقد أفرز الخلل في ترتيب الأهداف واقعًا مرًّا عند بعض الشباب، فظهر في المجتمع الإسلامي ما يُعرف بالتزاحم على السيادة الدعوية وأصبح هناك سباق محموم على المناصب، والمواقع الدعوية مما جعل البعض يدخل في غيبوبة مؤقتة تدفعه لأن يضحي بالمبادئ والثوابت إذا كان ذلك يوصله إلى مبتغاه، وفي الجانب الآخر يترك المجتمع يهيم في ظلام دامس وفتن تجعل الحليم حيرانًا.
أيها السادة؛ إن نتائج سنوات من الدعوة على مستوى عامة الناس وشرائح المجتمع مخيِّبة للآمال فضلاً عن الآثار الجانبية الأخرى، وخذ على سبيل المثال لا الحصر:
أ- انتشر الفساد انتشارًا رهيبًا في غفلة من المصلحين الذين شُغلوا بالريادة والبحث عن السيادة في الواقع.
ب- خسارة عدد غير قليل من الشباب الطموح المضحي، بين متساقط، وآخر قد أصيب بالفتور، وثالث انتكس بعد أن كان شمعة تضيء للآخرين الطريق.
ج- لقد اهتزت ثقة الناس ببعض الشباب والدعاة حينما شاهدوا الضريبة المحزنة لهذا التزاحم كالفُرقة والحقد وسوء الظن، وأحيانًا تُطرق أبواب الكذب والخداع كالذي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيها، فماذا بقي لعامة الناس.
د- الاستعراض الدعوي، إن إلقاء نظرة عامة على واقع العمل الدعوي تولد لدى المتأمل إحساسًا بتعاظم المظهر على حساب الجوهر.
فالصخب الإعلامي لبعض الأنشطة يتناسب تناسبًا عكسيًا مع أبجديات الدعوة من تربية إيمانية وعلمية وسلوكية، ومن مظاهر ذلك الاستعراض المبالغة في الثناء والمديح لبعض الأسماء بقصد جعلها رموزًا لمنهج معين لا تقبل المنافس.
فما عسى أن تكون هذه المظاهر من الاستعراض الدعوي إلا نتيجة للتزاحم على السيادة في ميدان الدعوة! فهل نسي الدعاة في خضم هذا السباق المحموم على الريادة الشرط البدهي لقبول العمل وهو الإخلاص، قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}( )، فقل لمن لا يخلص لا يتعنَّى.
(وقد كان السلف يسترون أعمالهم الصالحة ويبالغون في ذلك خوفًا من الرياء، ويلاحظ اليوم أن الطلب اشتد على المديح والثناء، وهذا يعكر صفاء النيَّات، ويعرض الأعمال الصالحة لخطر الرفض، واستجابة لذلك الطلب نجد الكثير من الدعاة يبالغون في المديح والثناء لبعضهم بعضًا ولغيرهم، وهذه المبالغة في المديح تتخذ أحيانًا نوعًا من التألِّي على الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وفيها من صنوف الخضوع وإذلال النفس وإدخال الغرور على الممدوح!! إذا كان الصواب شرطًا أساسيًا للنجاح فإن الإخلاص شرط أساسي للثواب والقبول، ولا غنى للداعية عن هذا وذاك)( ).
وما زال حديث أول من تسعر بهم النار يوم القيامة واعظًا لنا ومقومًا لتصحيح عملنا الدعوي.
ورد عن الشاعر المشهور الطرماح بن حكيم الطائي (أنه قعد للناس وقال: اسألوني عن الغريب وقد أحكمته كلّه، أي غريب اللغة، وكان صادقًا فقال لـه رجل: ما معنى الطرماح؟ فلم يعرفه، فهو قد ذهب إلى البعيد وتعنَّى لـه وترك القريب وانصرف عنه ولم يعرف اللفظة الأولى التي تعنيه هو قبل غيره. ولا بد أن ندرك أن أهم أركان أي خطة عندنا هو الرجوع إلى أحكام الابتداء وألفاظ الدعوة الأولى التي يقوم بها اسمها وإلى بديهيَّات الدعوة وإصلاح النفس وتربية قطاعات من الشعب على الأخلاق والتعبد وترك الحرام، ثم يأتي التحدي الإسلامي بعد ذلك لا قبله)( ).
وإني أعود إلى ما ابتدأت به:
اختزال الأمة.. لمصلحة من ؟!
إخوان العلانية أعداء السريرة :
ظاهرة خطيرة وداء عضال ضرب أسمى علاقة ربانية في مقتل، وأظنها أصابت الهدف، وذلك بعد أن يئس الشيطان أن يُعبد في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}( ).
نعم إخوة في العلانية يضحك بعضهم مع بعض ويتبادلون أطراف الحديث كما لو أنهم يعيشون حالة من الصفاء التي ليس لها نظير، وحينما يتوارى البعض عن الآخر تبدأ بعض الممارسات التي لا تليق بعامة الناس فضلاً عن أناس يحملون رسالة سامية، وسبب هذه العداوة أو هدفها تجيير الجهود أو طلب التفوق على الغير في ميدان الدعوة أو..؟!! الله تعالى عليم بذات الصدور.
لقد أصبح البعض للأسف يطبق قواعد ميكافيلية ذات أهداف ضبابية حتى وإن كان شعاره بالخط العريض نصرة الإسلام، ومن تلك القواعد:
- اضرب الراعي تتفرق الرعية.
- العب دور المغفل لتمسك بمغفل.
- اتخذ وضع الصديق واعمل كجاسوس.
- العب دور رجل الحاشية الأمثل.
- اخف أخطاءك واحتفظ بكبش فداء قريب ليتلقى اللوم.
يا سبحان الله! ماذا دهانا في هذا الزمان؟ وما هذه المناورات؟ لماذا هذه الأساليب؟ هل نحن أمام اليهود والنصارى؟ يا حملة المبادئ أفيقوا من غفلتكم قبل أن تدفعوا الجزية!!
(لقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن التشبه باليهود والنصارى في أمور كثيرة، ومنها التشبه بهم في الخلاف، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى ـ لما ذكر اليهود وما جرى لهم ـ {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَّقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ}( )، فأشار إلى أن الخلاف الذي يصل إلى هذا الحد لا يقع إلا من قوم ضعف عليهم الدين وضعف عليهم العقل أيضًا؛ لأن العقل يقتضي أن يكون بينهم نوع من التناصر والتلاحم والتقارب يستطيعون أن يتغلبوا به على مشكلاتهم وعلى ما يواجههم))( ).
وإني أقول أيها الإخوة إن أبسط مقومات التمكين في الأرض معدومة في واقعنا، فأين الذين يعقلون؟ أليس منا رجل رشيد؟!
لقد كانت بداية النبي ‘ في المدينة تهدف إلى إرساء مقومات المجتمع الإسلامي ويمثل ذلك:
(1) بناء المسجد:
وفيه إشارة إلى العبادة والمنهج النبوي الكريم؛ فهل طبقناه في واقعنا؟!
(2) المؤاخاة:
وفيه إشارة إلى صفاء القلوب والسرائر ((لتسوون بين صفوفكم أو ليباعدن الله بين وجوهكم))( )، إن الإيثار الذي حصل بين المهاجرين والأنصار وما فيه من تضحيات سيبقى شامة في جبين التاريخ ومرجعًا نقيس به صدق إخوتنا ومعيارًا دقيقًا للدعوات الصادقة، إنهم جيل اختارهم الله لنصرة دينه، جيل الفتوحات وجيل قصم الله به ظهور القياصرة والأكاسرة والملوك.
فأين نحن من منهج الرسول ‘ في العبادة؟ ومنهج السلف الصالح، ثم أين نحن من أبجديات الأخوة؟ وهل وصلنا إلى درجة الإيثار والتضحية؟! أترك الإجابة لمن يعرفون الواقع ويملكون الأدلة والشواهد، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام.. آمين.
ناصحوا ولاة الأمر وادعوا لهم بالصلاح:
أثر عن أحد السلف أنه قال: (لو كان لي دعوة صالحة لصرفتها للسلطان)، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
إننا أيها الإخوة نمر بمرحلة حرجة في تاريخ الأمة الإسلامية تحتاج منا إلى وقفة صادقة ومنهجية واضحة في التعامل مع هذه الأحداث التي تخرج الأمة من عنق الزجاجة، ومن هذه المحنة وهي أصلب عودًا وأشد تماسكًا، وإن أهم أركان هذا التماسك هم الحكام والعلماء والشعوب، وإن المنهج الشرعي مع الحكام حتى وإن جاروا: الصبر؛ (ما لم نرَ كفرًا بواحًا عندنا من الله فيه برهان)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنكُمْ}( )، وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال نبي الله ‘: ((من رأى منكم من أميره شيئًا فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتة جاهلية))( ).
ولنا في هذا وقفات:
1- لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق:
قال أبو بكر رضي الله عنه حين تولى الخلافة (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).
قال ابن عثيمين رحمه الله: (فإذا أمر ولي الأمر بمعصية من المعاصي فإنه لا يجوز لأحد أن يسمع له ويطيع؛ لأن ملك الملوك رب العالمين عز وجل، ولا يمكن أن يعصى رب العالمين لطاعة من هو مملوك مربوب)( ).
2- لا ننازع الأمر أهله:
يقول ابن عثيمين رحمه الله: (لا ننازع ولاة الأمور ما ولاَّهم الله علينا لنأخذ الإمرة منهم؛ فإن هذه المنازعة توجب شرًّا كثيرًا وفتنًا عظيمة وتفرقًا بين المسلمين، ولم يدم للأمة الإسلامية إلا منازعة الأمر أهله من عهد عثمان رضي الله عنه إلى يومنا هذا، ما أفسد الناس إلا منازعة الأمر أهله)( ).
3- نقول كلمة الحق ولا نخاف في الله لومة لائم:
نعم؛ نقول كلمة الحق أينما كنَّا ولا يتنافى ذلك مع النصح لولاة الأمر والدعاء لهم، فلقد كان هذا ديدن العلماء قديمًا وحديثًا كالإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن باز وغيرهم مع مراعاة القواعد الشرعية المعتبرة كالأخذ بأخف الضررين وغيرها.
4- نكف ألسنتنا عن أعراض الأمراء والعلماء في المجالس:
يقول ابن عثيمين رحمه الله: (تجد بعض الناس همُّه إذا جلس في المجلس ما يستأنس إلا إذا أمسك عالمًا من العلماء أو وزيرًا من الوزراء أو أميرًا من الأمراء أو من فوقه ليتكلم في عرضه، وهذا غير صحيح، ولو كان هذا الكلام يجدي لكنا أول من يشجع عليه...) إلى أن قال رحمه الله: (.. ولكنه لا يجدي، إنما يوغر الصدور ويكرِّه ولاة الأمور إلى الناس ويكرِّه العلماء إلى الناس ولا يحصل فائدة)( ).
قلت: والبعض عفا الله عنه يجرح الولاة في المجالس حتى إذا قابلهم فإذا به يقبل الأيادي ويظهر الولاء!! فلمَ هذه الازدواجية، أما العلماء المشهود لهم بالفضل فلحومهم مسمومة، ومن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.
ومع ذلك كلِّه فإن الأمة بحاجة إلى علماء يفتح الله عليهم في أيام المحن وانتشار الفتن، يقولون كلمة الحق ولا يخافون في الله لومة لائم حتى ولو جلدت ظهورهم وصارت منازلهم في غياهب السجون؛ فلهم أسوة حسنة بالإمام أحمد رحمه الله.
أيها الدعاة .. اتركوا الفنادق وانزلوا إلى الخنادق:
إنها الوجاهة المزيفة والبروج العاجية المختلقة التي ما أنزل الله بها من سلطان، إنها الغثائية في أبشع صورها حينما يستمتع البعض بالألقاب ويكتفي بالأسماء وينسى المنهج المحمدي الذي جاء من السماء.
أين نحن أيها الدعاة من الميدان.. في الميدان وبين الناس ومع الفقراء والمساكين والمحتاجين والمظلومين تتبخر الأسماء الرنَّانة وتذوب الألقاب المصطنعة، ويظهر الإنسان على حقيقته، داعية مجرد من كل النعوت، حيث تتوارى الأقوال لتحل محلها الأفعال.
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَّيَتِيمًا وَّأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَّلاَ شُكُورًا}( )، ((أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام))( )، (.. كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نواب الحق)( ).
يقول الشيخ عايض القرني: (تتوافد قبائل العرب لتنظر إلى هذا العظيم وهو في مكة لباسه عادي لا يساوي ثلاثة دنانير، خبزه الشعير، ينام في بيت متواضع، يقف مع العجوز الساعات الطوال، يحمل الأطفال، يحلب الشاة، لا يجد كسرة الخبز، ومع ذلك تتساقط تحته عروش الظالمين كسرى وقيصر، لماذا؟ لأنه كسَّر بسيف العدل ظهور الأكاسرة، وقصَّر برماح التضحية آمال القياصرة)( ).
فرسولكم ‘ كان يمشي بين الناس في الأسواق، ويقف مع الصغير يداعبه، ويسير مع الأمة تمسك بيده تسير به حيث شاءت، ويزور أم هانئ في بيتها، ومع ذلك كله وغيره الكثير؛ يدير شؤون الدولة الإسلامية.
وأبو بكر الخليفة يحلب شاة لامرأة عجوز ويتعهدها كل حين.
وعمر الفاروق الخليفة الثاني يحمل الكيس على ظهره ويتفقد الرعية في الليل البهيم.
إنني أتساءل أيها الأخيار؛ ما هو سبب عزوف الدعاة وطلبة العلم عن الميدان ومخالطة الناس كبيرهم وصغيرهم؟! هل سلبت العقول وجَمُد الفكر على دعوات لا تحقق إلا مصالح محدودة أو خاصة.
يقول سيد قطب: (وانتصر محمد بن عبد الله يوم صنع أصحابه رضوان الله عليهم صورًا حية من إيمانه، تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، يوم صاغ من كل فرد منهم قرآنًا حيًّا يدب على الأرض، يوم جعل كل فرد نموذجًا للإسلام، يراه الناس فيرون الإسلام)( ).
ويقول سيد قطب أيضًا: (ولقد انتصر محمد بن عبد الله يوم صاغ من فكرة الإسلام شخوصًا وحوَّل إيمانهم الإسلام عملاً وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوفًا، ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، إنما طبعها بالنور على صحائف من القلوب وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي وتقول بالفعل والعمل ما هو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله من عند الله)( ).
رحم الله سيدًا؛ ليته يرى واقع الدعاة اليوم!!
المرتزقة :
سمع الناس في عهد الرسول ‘ بمقدم أبي علاء الحضرمي من البحرين بأموال معه، فتجمعوا حول الرسول ‘ فقالوا: ((فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على الذين من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم))( ).
هكذا كان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام يحذر الناس والأخيار في عهده من انفتاح الدنيا عليهم والاغترار ببهرجها ومتاعها الزائل الحقير، ومن غلب عليه حب الدنيا فإن النتيجة الطبيعية الهلاك؛ هلاك المجتمع، وهلاك الأشخاص..
أحسب أن الدنيا قد فتحت على الناس عامة، وعلى الدعاة خاصة، حتى خرج من بيننا صنف عجيب ربما أضر كثيرًا في واقع الأمة الإسلامية، سواءً علم أم لم يعلم، هذا الصنف هم المرتزقة!!
جرت عادة المرتزقة على تحصيل مكاسب دنيوية من عملهم، لكنهم في وسط الدعاة يسعون للمكاسب باسم الدين والمصلحة، فهم لا يفتؤون يتحينون الفرصة لإغناء رصيدهم المادي والاجتماعي على حساب رصيدهم الفقير دعويًا.
لقد فتحت المناصب على بعض الدعاة حتى ألجمتهم عن قول كلمة الحق ونصرة المظلوم، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك مستغلاً القواعد الشرعية أو لاويًا أعناق النصوص لتحقيق مصلحة شخصية أو رؤية فكرية منهجية.
وها هو سلوك طريق الارتزاق يحقق لأصحابه ما يصبون إليه من مناصب دعوية أو واجهات اجتماعية فأصبحوا يشار إليهم بالبنان، والسؤال المطروح: ماذا قدم أولئك المرتزقة حتى وصلوا إلى تلك المواقع؟ لقد قدموا الكثير من التنازلات وانتهكوا تلك المبادئ التي ينادون بها بين المدعوين، كل ذلك تحت شعار المصلحة.
الاستغراب من حال أولئك المرتزقة، وكيف صاروا طلاب دنيا من بعد ما كانوا هداةً للناس وقدوة للشباب، يقل في عصر تخلف المسلمين الحضاري، فقد استغرب ابن مسعود رضي الله عنه من وجود أمثالهم في خير القرون، روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال بعد نزول قوله تعالى: {مِنكُم مَّن يُّرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُّرِيدُ الآخِرَةَ}: (ما ظننت أن أحدًا منا يريد الدنيا إلا بعد نزول هذه الآية).
ذلك في زمن خير القرون.. فماذا نقول نحن؟!
وقد أحسن عبد الكريم بكَّار في وصف حال أولئك المرتزقة بقوله: (مشكلة الدعاة مع الأجرة بدأت على مستوى الأمة حين انخفضت الوتيرة الإيمانية ووتيرة الرغبة في هداية الخلق وإنقاذهم على حين نشطت رغبات السيطرة على الآخرين وأخذ ما بأيديهم من مال ومتاع، وذلك حين قلَّ أو رحل النمط الرفيع الذين رباهم النبي ‘ على عينه، وخلفهم أقوام ذاقوا طعم الدنيا والرفاهية)( ).
فانبذوا المرتزقة، واسألوهم عن الدليل دائمًا، واعرضوا أقوالهم على طلبة العلم المعتبرين فإنه الدواء الناجع والحل الواضح، ولسوف تنحسر كثيرًا من المشاكل في واقع الأمة الإسلامية بإذن الله.
النخبة.. خطر يهدد الأجيال:
النخبة المعنية في هذا المقال ليست النخبة المجرمة المنحرفة، ولكنها النخبة الخيرة التي تبتغي ما عند الله عز وجل.
ودعونا نبدأ بقصة عمر مع الأعرابي حينما قال لعمر وهو على المنبر: (من أين لك هذا يا عمر؟!)، أعرابي يقف في المسجد أمام الجموع يخاطب أمير المؤمنين ويسأله عن بردة كان يلبسها، فيجيب عمر بكل تواضع ويبين له قصة البردة.
إنه لا حياة للأمة إلا حينما يتساوى الناس في حقوقهم، ودور النخبة في كل مجتمع يزداد خطورةً وسوءً كلما استأثروا لأنفسهم بالحظوظ الشخصية أو الدعوية وإن كانت مغلّفة بمصالح شرعية.
لقد ظهر في واقع الدعاة اليوم داء النخبة الخطير الذي يتناسب عكسيًا مع الفتوحات الربانية.
يبدو أن هذه النخبة قد انحرفت عن أهدافها شيئًا يسيرًا فضلت السبيل، ربما غرتها بيّنات الطريق فذهبت تتخبط وهي تريد أن تجمع بين الدنيا والآخرة بتوازن غير معقول حتى لو تخلت عن شيء من مبادئها وثوابتها، والضحية هم الأجيال.
يقول محمد الراشد حاسمًا هذا الخلط بين الأهداف: (فالاختيار إنما هو اختيار واحد، وقد تجنح النفس إلى اختيارات هابطة تزاحم هدفها السامي، إلا أن التقاء الهدفين محال، وسد الشاعر طريق التقائهما لما أخبر أن:
الهوى الدنيوي والهدف العلوي
في النفس ليس يلتقيان
وهذه الحقيقة تدعونا إلى تجديد السير وتمحيص الإخلاص في نفوس العاملين، وأن يتحرروا من كل الأطماع والشوائب، وأن يظل هذا التجرد يتعاظم فيه حتى يصل إلى التبتل في أداء العمل للدعوة الإسلامية المباركة، ويصيرون (كأن مادتهم من السحب، فيها لغيرهم الظل الماء والنسيم، وفيها لأنفسهم الطهارة، والعلو والجمال، يثبتون للضعفاء أن غير الممكن ممكن بالفعل، إذ لا يرى الناس في تركيبهم طباعهم إلا الإخلاص وإن كان حرمانًا، وإلا المروءة وإن كانت مشقة)، إن طريق الدعوة واحد لا يحتمل الشركة( ).
وإن من أبرز العيوب التي أفرزتها تلك الطبقة في واقعنا:
1- أصبح للدعاة امتيازات دنيوية وفرص دعوية ورحلات مجانية ودورات إدارية لا تتوفر إلا للنخبة وللنخبة فقط.
2- ادعاء الفرادة في توجيه المدعوين وتعليمهم كل ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، (إن من الأخطاء الفادحة أن نزرع في حس الناس أننا نمثل الإسلام تمثيلاً صادقًا، وأن تجربتنا الخاصة هي الأكثر نضجًا أو الأعم نفعًا، فالواحد من الدعاة مهما سما سيظل غير معصوم ولا مكتمل، ومهما نضجت خبرته فإن ما لا يعرفه أكثر مما عرفه( ).
3- التعالي عن ممارسة أي واجب دعوي عملي أو ميداني بحجة الانشغال بما هو أهم.
4- زيادة تحقير الدهماء وفائدتها.
وعليه؛ فإنه يتوجب علينا أن نصحح المسار، وأن نعود إلى سيرة سلفنا الصالح حتى نرى النخبة في ذلك الزمان، ثم نقارن فيتبين لنا الحق. إن النخبة في تاريخ سلفنا الصالح ومن سار على نهجهم هم إما:
أ- عالم نذر نفسه لله يعقد الدروس وينهل من العلم وينشر الخير بين الناس في يومه وليلته كما قال أحدهم: (من المحبرة إلى المقبرة).
ب- أو عابد قد تفطرت قدماه من طول القيام وظهر على وجنتيه خطان أسودان من كثرة البكاء حتى إذا أصبح كان وجهه نورًا يعقل به من يراه.
ج- أو مجاهد تكسرت في يده أسياف ودروع ليس في جسده موضع شبر إلا وفيه طعنة أو إصابة في سبيل الله (فلا نامت أعين الجبناء).
د- أو متصدق قد بذل ماله في سبيل الله فهو يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
ه- وإما داعية يجوب البلاد شرقًا وغربًا؛ فهو مبارك أينما حلَّ، يدعو الناس إلى الإسلام والإيمان، فكم هدى الله به من البشر.
ولنا في رسولنا الكريم وسلفنا الصالح أسوة حسنة، فلماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
يقول عبد الكريم بكَّار: (وإذا كنا ننهى أنفسنا عن التعصب للفكرة فإننا نرى أن الصفوة التي تتمتع بالحد الأدنى من الرجولة للدفاع عن الأفكار والمبادئ التي تؤمن بها ـ هي صفوة منحطَّة ـ وستظل جاهزة لخدمة مصالحها الخاصة، وتوظيف ثقافتها في بناء مجدها الذاتي، ولو كان الثمن هو عناء أمة بأكملها!! إن قيمة الصفوة بل طبيعة وجودها لا تنبع من القدر المعرفي الذي تحمله، وإنما من مقدار ما تحملها للهم العام ومشاركتها في إصلاح الشأن العام، أي على قدر تعدي نفعها للأمة، وعلى قدر تجاوزها لمصالحها الشخصية)( ).
وما أجمل ما قاله الراشد وهو يؤكد على أهم صفة من صفات النخبة وهو يصف أحدهم: (أن يكون صاحب فؤاد ملذوع يتحرق، بحيث تكون خطة تطوير النشاط وتربية الثقات شغلاً قلبيًا له، وليس هو ممن أعطيت له الصدارة تبركًا بورعه الذي لا يسنده حزم، ولا لشهادته العالية التي تجعله وجهًا اجتماعيًا، ولا لكتاباته التي جعلت اسمه ذائعًا، ولا لصرامته الزائدة الجافة التي لا يربطها طول عكوفه مع تفسير القرآن الكريم ومتون الحديث النبوي الشريف وتراث الفقه المبارك)( ).
أحبتي في الله؛ إذا كنا نعيب على النخب المجرمة سيرها الذميم وطريقتها البشعة وآثارها السيئة على الأمة فلنحذر من انتقال المرض إلى واقع الدعاة؛ فإن الثمن سيكون باهظًا؛ إنه ضعف الدين والوهن الذي دب في المسلمين.
لقد عانت الأمة الإسلامية منذ زمن طويل من ويلات النخبة؛ سواءً في السياسة أو في الاقتصاد أو غير ذلك، وفي كل مرة يتساقط الضحايا تحت أرجلهم، تسحق الشعوب لأجل مجموعة من البشر، وتدمر الديار لاسترضاء عصابة من الطغاة، والضحية هم الشعوب والأجيال.
هذا الكلام شواهده منقوشة في جبين التاريخ، وأدلته مسطَّرة بمداد من دماء الأبرياء والمساكين التي تعلن للملأ قديمًا وحديثًا أن التهمة ثابتة في حق المجرمين من هذه النخبة مع سبق الإصرار والترصد.
الاستلاب الفكري:
ليس أضر على الأمة الإسلامية من تأجير العقول وتجيير الأفهام، ولقد ذم الله سبحانه وتعالى قوم فرعون بقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}( ).
وهذا الاستخفاف نوع من أنواع الاستلاب الذي قاده إلى القول: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَىَ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}( ).
أيها الإخوة؛ لا غرابة في هذه المقدمة ـ وإن كانت قاسية ـ فالقرآن كلُّه فوائد وعبر، ولقد قال الرسول ‘ لصحابته الأخيار عند موته: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد الله ورسوله)) رواه البخاري، هذا هو خطاب الناصحين المشفقين حتى لو كان قاسيًا.
وإننا في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن وضلت فيه الأفهام، وزلت فيه الأقدام، بدأنا نشم رائحة الاستلاب تزكم الأنوف وترهق الأجيال في زمن قل فيه الرجال.
وإليكم بعض الممارسات الاستلابية:
- أصبح كثير من الشباب لا يفكر بعقله بل بعقل غيره، ويطبق ما يراه الغير لا ما يدين الله به.
- بعض المربين يمارس الاستلاب عن طريق توجيه الأوامر غير القابلة للنقاش.
- البعض ليس لـه حق الانتقاد ولا حتى المشاركة في تحقيق واقع أفضل فهذا محرم عليه.
- بعض طلبة العلم والمربين يلزم طلابه بالاطلاع على ما يغذي التوجه الخاص بهم دون الاطلاع على الرأي الآخر المختلف أو حتى المتنوع.
ثم إن هناك إفرازات سيئة في الواقع بسبب هذا الاستلاب، ومنها:
1- ظهور الولاء الخاص دون الولاء العام:
لا أحد ينكر أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله؛ إذ أن هذا الميزان الرباني هو الأمر الذي سار عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم اقتداءً بالنبي ‘ وخلفائه الراشدين، إن انتشار الولاء الخاص دون الولاء العام أصبح ظاهرة لا يمكن تجاهلها، وهي في ازدياد وتوسع، إلا أن يتداركها العقلاء والناصحون.
يقول الشيخ سلمان في مقاله (الأمة الواحدة):
(وقد رأيت بعض الإخوة من جراء انغماسهم في الولاء الخاص عن الولاء العام يضخمون ويبالغون في بعض الوارد، فليس من الفقه فيما يبدو لي الحرص على التميز عن جمهور المسلمين بمعنى معين لذات التميز؛ لأن هذا النوع من العلو أو التفوق عليهم أو طلب الرياسة فيهم، وإنما يتميز الإنسان بسنة أهملوها فيعمل بها أو بتقصير شاع عند الناس فيتخلى عنه، أو بعمل خير عمله وقصد أن يقتدي الناس به وهذا باب واسع وبين هذا وذاك فرق ليس يخفى).
وإليك بعض صور الولاء الخاص دون الولاء العام:
1- أن يحب أحدهم فلان من الناس لأنه يوافقه في المنهج والفكرة حتى وإن كان مقصرًا في جانب من جوانب الطاعة، ولا يحب الشخص الآخر وإن كان تقيًا لأنه يخالفه المنهج، فما هو معيار المحبة يا ترى؟!
2- أن يجد الراحة في الصلاة خلف إمام يعرفه ويتفق معه في المنهج بينما لا يصلي خلف إمام آخر ولا يرتاح لذلك حتى ولو كان حافظًا لكتاب الله.
3- أصبح حضور المحاضرات حسب الولاء الخاص وتكثير السواد عند البعض بغض النظر عن استصحاب النيَّة، أو طلب العلم، وهل هذا المحاضر مؤهل أم لا، المهم الحضور وتكثير السواد بسبب الولاء الخاص.
4- ظهور الخلاف والفرقة في بعض الأسر بين الأشقاء بسبب الولاءات الخاصة، ولا شك أن هذا الأمر خطير، فإن الدعوة المباركة لا تفرق بين الإخوة والأقارب بل تجمعهم.
2- الأجيال بين مطرقة التدجين وسندان الاستنساخ:
إن من أخطر آثار الاستلاب هو تدجين شرائح من المدعوين الذين لا يملكون شيئًا من مقومات الشخصية، بينما في الطرف الآخر يتم استنساخ نماذج من الأشخاص المؤثرين حتى يستمر ذلك الخط الدعوي المؤدلج على نفس الوتيرة.
إن خطورة هذه الأساليب تكمن في أن أجيال ستظل وقفًا لفكرة جامدة ترفض التغيير وتقاوم التجديد، بل وتخلق كثيرًا من المشاحنات والمشاكل التي لن تتوقف ما دام أن هذه الأساليب مستمرة.
ناهيك عن انتهاكات أخرى كسلب الحريات وقتل المواهب وظهور الإمعة، قال ‘: ((لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا))( ).
3- تقديس الأشخاص:
إن الإفراز الطبيعي للاستلاب الفكري هو ذلك التقديس الذي يلقاه من يمارس هذا الأسلوب، هذا الواقع بدأ ظاهرًا في ساحة كثير من الشباب وأصبح شعار البعض المقولة المشهورة: (إن كنت معي فأنت قديس، وإن كنت ضدي فأنت أبليس).
وهذا لا شك مخالف لمنهج محمد ‘ الذي قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم))، ولمسيرة خلفائه الراشدين؛ كما قال أبو بكر رضي الله عنه: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم)، إن مما يميز الأمة الإسلامية عن غيرها هو عدم وجود سلطة كهنوتية أو رجال دين، فالجميع سواسية ولا يكون تمايزهم إلا بالتقوى، فهذا الأعرابي يوقف عمر يسأله، وتلك خولة توقف عمر في الطريق تناصحه، وتقول: اتَّقِ اللهَ يا عمر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر)!!
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: (إن الواجب على الداعية الإسلامي أ ن يدعو إلى الإسلام كلِّه ولا يفرق بين الناس، وأن لا يكون لمذهب دون مذهب أو لقبيلة دون قبيلة أو لشيخه أو رئيسه أو غير ذلك؛ بل الواجب أن يكون هدفه إثبات الحق وإيضاحه واستقامة الناس عليه، وإن خالف رأي فلان أو فلان)( ).
ويقول الشيخ أحمد الصويان: (إن التحرر من تقديس الذوات والأبنية الحزبية والتخلص من آسارها، يفتح أمام الناس آفاقًا رحبة من العطاء الفكري والمعرفي، ويدفعه إلى الإبداع المتميز والإنجاز المستمر بعيدًا عن الصراعات الكلامية والمحاورات البيزنطية)( ).
وليس من نافلة القول الإشارة إلى منزلة أقل من التقديس ألا وهي مجاملة المربين.. إن هناك فرق بين تقدير المربين واحترامهم وبين مجاملتهم على حساب الحق والدين، وإن أسباب المجاملة ترجع إلى أمرين في ظني ـ والله تعالى أعلم ـ :
1- أن يكون هذا الداعية المربي ممن يوزع المناصب الدعوية في حيزه الضيق، فيسكت البعض حتى ينال حظوة دعوية وحتى لا يفقد المنزلة التي هو فيها التي ملكت عليه حياته، فهل نضحي بالمبادئ لأجل المناصب؟ وهل نسكت عن قول الحق لأجل مصالحنا الشخصية؟
2- أن يكون عند هذا الداعية المربي شيء يسير من مفاتيح الدنيا الفانية، عندها يفضل البعض السكوت عن الأخطاء ويجامله لكي يستفيد.. (وللبيت رب يحميه).
أما من قال كلمة الحق أو حاول أن يوضح بعض الممارسات الخاطئة فإن البعض ربما يهجره أو ربما يحذِّر منه أو يشكك فيه بحيث لا تستوعبه المجالس ويرمى بنظرات أشد من السهام وما ذنبه إلا أنه قال (لِمَ).
يذكر أحد المريدين رأى في المنام أنه يقول لشيخه الصوفي لِمَ، فلما أصبح ذكر هذا الحلم لشيخه، فغضب الشيخ فهجره شهرًا.
عافانا الله وإياكم من هذه الأساليب.
يقول الشيخ أحمد الصويان: (ولن نكون كذلك إلا حينما يكون ولاؤنا للمنهج الرباني الكريم مقدمًا على ولائنا للرجال والفئات، ومن أهم أسباب الفشل المتكرر الذي تعاني منه الأمة، وأن نضع رؤوسنا في الرمال ونتغافل عن أخطائنا، إننا لسنا في حاجة إلى الثناء والمديح وتعميق الغثائية ونشرها، والخضوع لسلطان الهوى والاستسلام لتبادل المجاملات التي تؤدي إلى الإنهاك الفكري! ولكننا في حاجة ماسة إلى كلمة صادقة ومكاشفة مخلصة تتجلى فيها علامات الرحمة وآيات المحبة والإخاء والرغبة الجادة لتسديد الخلل ودرء النقص للوصول بالعمل الإسلامي إلى مرحلة النضوج والتكامل)( ).
أيها الدعاة..
هلمَّ بنا إلى المنبع الصافي والمنهج القويم لنعد إلى سيرة المصطفى ‘ وجيله الفريد، لننهل من ذلك المعين لنتجاوز في طريقنا المناهج الجديدة والأسماء والأفكار التي أثقلت كواهل الأمة وفرقت شبابها..
لا أقول نتركها.. ولكن نأخذ ما وافق المنهج النبوي ونترك ما شذ عن السبيل المبين.
معالم في طريق الأمة الواحدة
وأختم هذه الأطروحة بأمنية تخالج قلب كل مؤمن، وتداعب خيال كل ناصح لهذا الدين؛ هذه الأمنية هي عودتنا للأمة الواحدة التي ستعيد أمجاد آبائنا وأجدادنا.
وإليك هذه المعالم :
{وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحِكُمْ}، يقول الشيخ ناصر العمر: (وحدة الكلمة واجتماع الصفوف على كتاب الله وسنة رسول الله ‘ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَّلاَ تَفَرَّقُوا}( )، ونبذ التفرق والاختلاف والتنازع {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحِكُمْ}( )، فالخلاف شر كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، مع سعة الأفق وعدم حضر المواجهة وتحمل أعباء المعركة بفئة من المسلمين دون غيرهم، فكل مسلم لـه حق المساهمة والمدافعة عن حقوق المسلمين، بعيدًا عن أي تعصب أو حزبية، والقاعدة هنا قوله ‘: ((ارجع فلن أستعين بمشرك))( )، فمن كان داخل دائرة الإسلام فله حق الولاء والنصرة ومن عداه فلا)( ).
((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا؛ كتاب الله وسنتي))( ).
((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ))( ).
أن تجتمع الأمة على التوحيد الذي خلص من الشوائب والذي جاء به محمد ‘، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}( )، وضح الشيخ عايض القرني أول أسباب الانتصار الكبير للرسول ‘ بقوله: ((التوحيد الخالص وصفاء العقيدة، إذًا أيها الدعاة، يا طلبة العلم، يا شباب محمد عليه الصلاة والسلام التوحيد أولاً.. العقيدة أولاً.. وإنما تميزت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله واكتسبت قوتها وعمقها وأصالتها حتى نفذت إلى القلوب وإلى أقطار التوحيد أنها صافية، وأنها على منهج السلف، وأنها ضاربة في أعماق الكتاب والسنة.. فلذلك بقيت إلى اليوم، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}( )، ويقول أيضًا: (يا دعاة، يا طلبة، هذه قضيتنا الكبرى.. تصحيح معتقد الناس.. أما التلفيق، أما المسامحة في هذا الجانب؛ فلا يصلح أبدًا، ولا تنجح الدعوة فيه أبدًا؛ لأن الدعوة أقيمت على التوحيد الخالص)( ).
الاقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم التهاون بها، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ}( ). يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (فسنة النبي عليه الصلاة والسلام هي سبيل النجاة لمن أراد نجاته من الخلاف والبدع)( ). ويقول الشيخ أحمد الصويان: (البداية القوية العملية الجادة لنهضة الأمة من كبوتها هي الاعتصام بحبل الله جميعًا والتعاون على البر والتقوى، وفق الأسس والضوابط الشرعية المقررة في كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين، ثم نبذ كل الشعارات التي تفرِّق الصفوف وتفسد القلوب، ولقد أثبتت العقود الأخيرة إفلاس الشعارات والأطروحات الجاهلية بمختلف اتجاهاتها الفكرية ونحلها السلوكية، ولم يبق إلا أن تفيء الأمة إلى روح الإسلام وريحانه، تستقيه من مصادره الأصيلة ومنابعه الكريمة، ولن نصل إلى هذه المنزلة الجليلة السامية إلا بفضل الله عز وجل وكرمه)( ). ومما هو معلوم أن الخلافة الراشدة التي ذكرت في الأحاديث تكون على منهاج النبوة، وحتى المهدي الذي يخرج آخر الزمان يحيي السنة ويميت البدعة.
فلا مجال للتهاون بالسنة لأنها أبرز علامات الأمة الواحدة التي يبارك الله في أعمالها وجهادها آخر الزمان.
يجب على الأمة إذا أرادت الخيرية أن تؤدي شرط الله تعالى فيها، قال قتادة: (بلغنا أن عمر بن الخطاب في حجة حجها رأى من الناس رعة (أي هيئة غير حسنة) فقرأ {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، ثم قال: من سرَّه أن يكون من تلك الأم فليؤدِّ شرط الله تعالى فيها)( ).
وشرط الله الذي أشار إليه عمر رضي الله عنه هو قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهِ}( ).
الأمة الواحدة لا تجتمع على الخصوصيات وإنما تجتمع على عواصم الدين ومحكمات الشريعة وقواعد الملة؛ يقول الشيخ سلمان العودة: (فاجتماع هذه الأحزاب ليس على عواصم الدين ومحكمات الشريعة وقواعد الملة، وإنما هو على خصوصية معينة اختزل الدين فيها، واختارها وغفل عما سواها، فهم اجتمعوا على الخصوصيات لا على الأعمال، وهؤلاء فهموا شيئًا وتحالفوا عليه ونابذوا من خالفهم فيه وأولئك تحالفوا على شيء آخر وهكذا وجد الخلاف في الأمة {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ})( ).
وإن أعظم عمل تجتمع عليه الأمة هو ما يحقق لها الخيرية بعد الإيمان وتعميقه في القلوب وترجمته في الواقع هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: (إذن لا يجمع الأمة إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أن الأمة أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر وتحاكمت إلى الكتاب والسنة ما تفرقت أبدًا، ويحصل لهم الأمن، ولكان لهم أمن أشد من كل أمن كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}( ))( ).
يجب أن يكون الرد والتحاكم إلى الكتاب والسنة ولا قدسية لأقوال البشر {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}( )، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَّلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَّكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}( )، يقول الطحاوي: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام)( ).
فليتقِ الله قومٌ قدموا أقوال المفكرين وبعض الدعاة على قول الصادق المصدوق.
ضيقوا على دعاة الانفتاح المهلك الذين يهرولون إلى ما يسمونه بالمعاصرة حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ والثوابت. لماذا؟ لكي يمتدحنا الغرب والعالم المنفتح، والواجب أن نحاكي العصر ونستفيد من الحضارة مع بقاء تميزنا ورسوخ ثوابتنا.
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
ليكن هدف المسلم الأول من الدعوة إنقاذ الناس من النار وابتغاء الأجر من الله (وفر من الحزبية فرارك من الأسد).
ينبغي لطلبة العلم والدعاة أن يكونوا شيوخ عامة ينشرون العلم ويعلمون الناس ويوجهونهم إلى الخير والدعوة ويقتدوا بأسلافهم كالإمام أحمد وشيخ الإسلام والشافعي ومالك وأبي حنيفة وابن باز وابن عثيمين وغيرهم رحمة الله عليهم، فإذا جد الجد كانوا هم الرجال.
لا تكن عبدًا لأحد.. كن عبدًا لله؛ فإنك ستسأل يوم القيامة وحدك {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}( ).
أيها الأخيار؛ إنه لا نصر للأمة في ظل هذا التفرق المذموم، وإذا كنا نريد قادة كأبي بكر وعمر فلنكن مثل سعد وأبي عبيدة.
ورحم الله الشيخ الألباني حين قال في كلام طويل عن المهدي وخروجه: (فماذا عسى أن يفعل المهدي لو خرج اليوم فوجد المسلمين شيعًا وأحزابًا وعلماؤهم إلا القليل منهم اتخذهم الناس رؤوسًا لما استطاع أن يقيم دولة الإسلام إلا بعد أن يوحد كلمتهم ويجمعهم في صف واحد وتحت راية واحدة، وهذا بلا شك يحتاج إلى زمن مديد الله أعلم به، فالشرع والعقل معًا يقتضيان أن يقوم بهذا الواجب المخلصون من المسلمين حتى إذا خرج المهدي لم يكن بحاجة إلا أن يقودهم إلى النصر وإن لم يخرج فقد قاموا بواجبهم، والله يقول: {وَقُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ})( ).
فهل نعي هذا الكلام وندرك خطورة المرحلة التي نمر بها؟ إنه يجب على كل مخلص يريد ما عند الله سبحانه أن يسعى جاهدًا لإنقاذ الأمة الإسلامية من شر التمزق والتحزب المذموم.
بيَّن الشيخ سلمان العودة ذلك بأنه (يكفي التوقف عن الخصام والشقاق والتشاحن بيننا وتحل محل ذلك أخوة الإسلام، وأن تبدأ أنماط معقولة من التعاون على البر والتقوى، وفي المشاريع المشتركة علمية كانت أو اقتصادية أو دعوية أو إعلامية أو غير ذلك، وأن نعمق وحدة العقيدة في الأمة ونجتهد في تصحيح مفاهيم الناس حول القضايا الضرورية ومجملات الدين التي لا بد من تعليمها لهم عن عقيدتهم، عن ربهم، عن قرآنهم، عن تاريخهم، ولو لم يتحقق وحدة الكيان الإسلامي بشكل عام في هذه المرحلة، يكفي أن نربي الشباب في محاضنهم على أصل الانتماء لهذه الأمة، وألا تكون انتماءاتهم الثانوية بديلاً عن هذا الانتساب)( ).
الخاتمة
إن ما طرح في هذا العمل يحتمل الخطأ والصواب، فما كان من صواب فمن الله، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي المقصرة والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، أما النقد والملاحظات المذكورة في ثنايا البحث فما أردت بها إلا الوصول إلى الخيرية، ولقد قال رسول الله ‘ لأبي ذر ـ معاتبًا وناصحًا ـ (إنك امرؤ فيك جاهلية).
وأعتذر إن كنت قد قسوت في العبارة أو شددت في النصيحة، فمداهمة الخطوب لا تدع وقتًا للمجاملة، وأملي قول الشاعر:
شهد الله ما انتقدتك إلا
طمعًا أن أراك فوق انتقاد
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقطع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه التخشين)( ).
ثم إني أذكِّر في الخاتمة بثلاث قضايا مهمة لعلها تبقى راسخة في الأذهان:
1- ينبغي أن ندرك أن الأمة الواحدة لن تقوم لها قائمة ما لم تنضوِ تحت الوصية المحمدية والراية المنجية: ((ما أنا عليه وأصحابي)).
2- لن تعود الأمة إلى سابق مجدها وعزها إلا بالجهاد، واليهود سيختبئون خلف الحجر والشجر هربًا من المجاهدين، ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم))( ).
3- على الدعوات المنتشرة في العالم أجمع أن تعيد ترتيب أهدافها من جديد، وليكن هدفها الأول تعبيد الناس لله وهدايتهم من الضلالة وإنقاذهم من النار.
وأظن أننا بحاجة في هذا الوقت بالذات إلى علماء ودعاة وشباب يحملون راية (الأمة الواحدة)، يصبرون على هذا الطريق مهما استحكمت الأزمات وترادفت الضوائق، قد وطنوا أنفسهم على احتمال المكاره ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، وقد أدركوا أن (النعيم لا يدرك بالنعيم، والنار تحرق وتنضج، وحيث يوجد النور يوجد الدخان، ولا ينال الخبز حتى يسيل العرق ويعظم الجهد والنصب والأرق، والسم أحيانًا يعمل عمل الترياق، ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر، ودون الشهد إبر النحل، ومن رام اللآلئ زج بنفسه البحر، واللآلئ تُحطّم لترفع في التاج والنحر، وما العز إلا تحت ثوب الكد، نعيم الأشواق بعد ذوق مر الأخطار في القفار، بقدر العنى تُنال المنى، ولا يُدرك الشرف إلا بالكلف، لن يدرك البطال منازل الأبطال، وعند تقلب الأحوال يُعرف الرجال، والسيل حرب للمكان العالي، لا تطلب السلعة الغالية بالثمن التافه.
والمجد لا يُشرى بقول كاذب
إن كنت تبغي المجد يومًا فانصب
ولذة الراحة لا تنال بالراحة، والجنة حفت بالمكاره، ولا يدرك السادة من لزم الوسادة، والموت في سبيل الله سعادة وشهادة.
جهاد المؤمنين لهم حياة
ألا إن الحياة هي الجهاد( )
إن على الأمة الإسلامية عامة ودعاة الخير خاصة أن يتحلوا بالصبر واليقين فبها تنال الإمامة والتمكين، {وَجَعَلْنَا مِنْهُم أَئِمَّةً يَّهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}( )، {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصَرَنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ}( ).
وأخيرًا مهما ادلهمت الخطوب وتكالب الأعداء وتخاذل المتخاذلون وأظلمت الدنيا في عيون المشككين؛ فإننا نجزم واثقين بأن النصر لهذا الدين، ولنعلم أن هذه المحن تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد، (وعلى وهج النار الملتهبة، نار الفتنة بأنواعها، تتميز معادن الناس، فينقسمون إلى مؤمنين صابرين وإلى مدَّعين أو منافقين، وينقسم المؤمنون إلى طبقات كثيرة بحسب شدة صبرهم وقوة احتمالهم)( ).
فاصبروا أيها الناس واعلموا أن تحت الرغوة اللبن الصريح، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}( ).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،