الفتوى وأثرها في حماية المعتقد وتحقيق الوسطية

بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة
الحمد لله الذي هدانا للدين القويم، ومنّ علينا بأن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس.
وأصلي وأسلم على خير مبعوث بعث لخير أمة؛ نبي الهدى والرحمة، حبيب الله أبي القاسم، سيد بني هاشم، الذي تركنا على البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين؛ وبعد:
فإن حياة الناس لا تستقيم إلا بشريعة تبين للناس المصالح والمفاسد، وتخرجهم من دواعي الهوى والضلال إلى دواعي الحق والفلاح، ليحققوا معنى الدينونة الحقة لله رب العالمين، حتى يكونوا عبادًا لله اختيارًا كما هم عباد له اضطرارًا ( ).
ولا يكون ذلك إلا بالدخول تحت أمره ونهيه، والأصل في ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
وقال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3، 4]، فقد حصر الأمر في سبيلين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، ولا ثالث لهما، والعلاقة بينهما علاقة تضاد، فاتباع الهوى مضاد لاتباع الحق.
من أجل ذلك أنزل الله شريعته وابتلى الخلق بطاعته، فلا تستقيم الحياة كما ذكرت آنفًا إلا بهذه الشريعة، التي جاءت ممثلة في نصوص الوحيين العظيمين: الكتاب والسنة.
إلا أن الاهتداء بهذا الدين (الشريعة) والانتفاع به مشروط بالفقه فيه الذي هو الفهم الصحيح لمراد الله عز وجل. والفقه في الدين – كما هو معلوم – مفتاح الخير، وآية السعادة، فقد صح الخبر عن رسول الله  في ذلك حيث قال: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»( )، ومفهوم المخالفة من الحديث يقتضي: أن الذي لا يفقه في الدين لم يرد به خيرًا.
وبذلك يتقرر أن الفقه في الدين له مكانة مهمة وخطيرة، بيد أن الفقه في أحكام الله وتنزيلها على واقع المكلفين وأحوالهم، ليس بالأمر الهين، وليس مرتعًا لكل من شاء أن يقول ما شاء!
والفقيه الذي قصر علمه على حفظ الأقوال في المذهب من غير معرفة الأدلة صحيحها من سقيمها فهو مقلد، فلعله بني حكمًا على نص ضعيف لا تقوم به الحجة، أو قاعدة غير صحيحة، أو قول غير معصوم؛ منقوض بقول المعصوم( ).
إذًا لابد من أصول وقواعد تبين مصادر الاستدلال ومظان الدليل، وتوضح قواعد الاستنباط وطرقه، وهو ما قام به علماء الأمة رحمهم الله الذين رسموا للأمة المناهج الصحيحة القويمة التي تضبط عملية الاجتهاد في دين الله، وتبين سبيله وضوابطه وشروطه، وتبين ثبات هذه الشريعة بثبات مصادرها، وتبين كذلك شمول الشريعة واستيعابها لحوادث الزمان والمكان، وذلك تحقيقًا لقول الحق سبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89].
ومع كثرة الغبش في هذه العصور المتأخرة، وولوج من ليس من العلم في صدر ولا ورد إلى ميدان التأصيل والتفريع، فإن المَفزع لمعرفة الحق، ومن ثم التمسك به هو العودة الصحيحة لكتاب الله وسنة رسوله ، وبذل الوسع في فهمها الفهم الصحيح مستنيرين بما قعده وأصله علماء الأمة الراسخون.
لذلك فإن الفتوى في دين الله من أعظم الأمور التي يجب العناية بها، ومقامها مقام عظيم، وأثرها في الناس أثر خطير؛ لذا لابد من توافر الكتابات واستنهاض الهمم المؤهلة والقادرة على ضبط هذا الباب، وحماية هذا الجناب من التلاعب أو التوهين.
ومن أجل ذلك حاولت – مستعينًا بالله – وبرغبة كريمة من مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة حرسها الله أن أبين – بقدر المستطاع – مدى أثر الفتوى في جانبين مهمين، وهما: (حماية المعتقد، وتحقيق الوسطية)، وأسأل الله تعالى الإعانة، ومنه أستمد التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا به.
وقد تضمن هذا البحث ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في الفتوى وما يتعلق بها من أحكام، وفيه مطالب:
المطلب الأول: تعريف الفتوى.
المطلب الثاني: بيان خطورة مقام المفتي وأهميته.
المطلب الثالث: الشروط العلمية الواجب توفرها في العالم ليتأهل للإفتاء، وآداب المفتي.
المطلب الرابع: حكم الفتوى التكليفي.
المبحث الثاني: أهمية الفتوى في حماية العقيدة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: وسائل حفظ الدين، وعلاقة ذلك بالفتوى.
المطلب الثاني: الالتفاف حول «المحكمات» وأثره في الفتوى.
المبحث الثالث: أثر الفتوى في تحقيق وسطية الأمة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تحرير معنى الوسطية.
المطلب الثاني: أثر الفتوى في بيان المنهج الوسط
الخاتمة: وهي في نتائج البحث.
* * *

المبحث الأول
الفتوى وما يتعلق بها من أحكام
* المطلب الأول *
تعريف الفتوى
أولاً: التعريف اللغوي:
الإفتاء: مصدر الفعل (أفتى)، والفتيا مأخوذ من فتى وفتو، وهي بمعنى (الإبانة)، يقال: أفتاه في الأمر إذا أبانه له.
وأصل (الفتوى) من الفتى، وهو الشاب القوي الحدث، فكأنه – أي المفتي – يقوي ما أبهم ببيانه وقوته العلمية ( ).
وقد وردت هذه الكلمة بتصاريف مختلفة في كتاب الله، تدور حول معنى الإبانة والتوضيح، ومنه قوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ... [النساء: 127]، قال ابن عطية في تفسيره: «أي يبين لكم ما سألتم عنه»( ).
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
عرفت الفتوى أو الإفتاء بتعريفات عدة يجدها الباحث مبسوطة في مظانها، وحسبنا من التعاريف ما يقرب المعنى ويخدم موضوع البحث.
وبالنظر إلى التعاريف المتعددة نجد أنها تجتمع حول تعريف واحد تقريبًا؛ وهو أنها: الإخبار عن حكم الشرع لا على وجه الإلزام ( ).
وهذا القيد (لا على وجه الإلزام) للتفريق بين الفتوى والقضاء، أو بين المفتي والقاضي، فالمفتي يبين الحق للسائل ولا يلزمه، أما حكم القاضي فهو ملزم واجب التنفيذ.
وقد ذكر العلماء فروقًا أخرى بين الإفتاء والقضاء، من أهمها:
1- من حيث عموم الأثر: أن الفتوى أعظم أثرًا وأعم تعلقًا من القضاء، حيث إن فتوى المفتي إذا صدرت تعد تشريعًا عامًّا يتعلق بالسائل وغيره، في حين أن حكم القاضي لا يتجاوز – في الغالب – غير المتحاكمين ( ).
2- من حيث الاختصاص: فالقضاء خاص بالمعاملات، أما الفتوى فهي داخلة في أحكام الشرع كلها.
3- ما ذكره الإمام القرافي من أن القضاء يعتمد الحجاج، والفتيا تعتمد الأدلة( ).
ومن هنا فإن المفتي هو: المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله( ).
* المطلب الثاني *
خطورة مقام المفتي وأهميته
يصور الإمام الشاطبي رحمه الله مكانة المفتي أدق تصوير بقوله: «المفتي هو القائم في الأمة مقام النبي »( ).
ووجه القيام مقام النبي يكون بجملة أمور، منها: الوراثة في علم الشريعة بوجه عام، ومنها: إبلاغها للناس، وتعليمها للجاهل، والإنذار بها كذلك، ومنها: بذل الوسع في استنباط أحكام في مواطن الاستنباط المعروفة ( ).
ولا أبلغ في بيان مكانة المفتين في هذه الأمة من أن رب العالمين؛ أوجب على عموم المؤمنين طاعتهم بنص كتابه العزيز، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59].
واستنباطًا من هذا المعنى القرآني عبر ابن القيم وغيره من العلماء رحم الله الجميع: أن المفتي موقع عن رب العالمين! فطبيعة عمل المفتي عند تحليلها بدقة نجد أنها: قول على الله وإخبار عنه، بما سيعد فيما بعد تشريعًا داخلاً في دين الله، يتعبد المكلف به ربه تعالى، فإذا صدرت الفتوى من أهلها المعتبرين بشروطها المعتبرة كانت أقرب إلى الحق بإذن الله؛ وبالتالي ستكون دلالة على الخير والرشاد، وإذا كانت خلاف ذلك فقد ضل صاحبها وأضل!
وكم من فتوى طارت بها الركبان وطبقت الآفاق؛ وقد جانبت الحق والصواب، عمل بها أقوام ورثها من بعدهم آخرون حتى أضحت من دين الله، وهي ليست منه، فكانت مثل السنة السيئة التي على صاحبها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فخطر المفتي عظيم، فإنه موقع عن الله ورسوله، زاعم أن الله أمر بكذا، وحرم كذا، أو أوجب كذا!
وهذا كله عند التفريط في إعطاء المسألة حقها من النظر، أو إذا كان المخبر بالحكم مفتئت متقول على الله ليس من أهل الاجتهاد، أما إذا كان من أهله، وبذل وسعه فلم يوافق اجتهاده الحق؛ فهو مأجور على اجتهاده غير مأزور بإذن الله؛ كما دلت على ذلك النصوص، ولكن: الفتوى إذا جانبت الصواب وخالفت الحق لاسيما في المسائل العامة أو الخطيرة الأثر والتي تعم بها البلوى؛ فإن الوزر لا ينفي عدم الأثر!
خطأ المفتي وما يترتب عليه:
إن خطأ المفتي في فتواه، ليس بالأمر الهين، وكلما كان تعلقها عامًّا وموضوعها دقيقًا؛ كان أثر الخطأ عظيمًا!
وما يترتب على هذا الخطأ أمور، منها:
1- تأثيم المفتي إذا لم يكن من أهل الاجتهاد، أو أفتى فيما لا يحسنه من أبواب العلم، أو قصر في البحث وتلمس الحق؛ أو أفتى اتباعًا للهوى، أو ابتغاء عرض من الدنيا!
لذلك كان الصحابة  وتبعهم سلف الأمة؛ من أهل القرون المفضلة، كانوا يقدرون هذا الأمر حق قدره، وهذا ما يفسر تجنبهم وتدافعهم الفتوى قدر الإمكان! وينبني على هذا أن من أفتى ولم يكن من أهل الفتوى فهو آثم عاص، ومن ولاه ذلك وأقره فهو آثم كذلك.
وقد حمى رب العالمين سبحانه جناب الفتوى، ورفع من شأنها، فقد نص كتاب الله على تحريم القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل في المرتبة العليا منها، قال تعالى اسمه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33].
قال ابن القيم: «فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريمًا منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريمًا منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريمًا من ذلك كله وهو: القول عليه بلا علم»( ).
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: «ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بن أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب، وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم! وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟»( ).
ومن هنا نجد أن العلماء الكبار الربانيين تصدر عنهم إشراقات تدل على شدة ورعهم وخوفهم من الله، وتقديرهم للإفتاء حق قدره، فقد صح عن إمام دار الهجرة مالك رحمه الله قوله: «إن المسألة إذا سئل عنها العالم فلم يجب، فاندفعت عنه، فإنما هي بلية صرفها الله عنه»( ).
ومن هنا فقد كان الإمام الشافعي رحمه الله دقيقًا صادقًا عندما وصل – بثاقب بصره ودقيق فهمه لموارد الشرع وأسراره – إلى أن الحكمة من شرع الاجتهاد هي «الابتلاء»، قال رحمه الله في «الرسالة»: «ومنه ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم»( ).
ولو وعى هذا كله أو بعضه أولئك الذين يتجرءون على الفتوى ويتطلعون لها؛ لكفوا عن كثير مما شغبوا على الناس به، ولأوكلوا الأمر إلى أهله، وحمدوا الله على بلية صرفت عنهم!
قال الإمام القرافي: «وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا فحرام إجماعًا»( ).
2- أن الفتوى غير الصحيحة كما سبق ذكره، ينسحب أثرها على تصرفات المكلفين أو معتقداتهم وتصوراتهم.
3- ذكر بعض العلماء مسألة «ضمان المفتي» بمعنى: من أفتى شخصًا وانبنى على الفتوى إتلاف مال، أو تفويت مصلحة، ففرق بعضهم – كالإمام اللقاني المالكي في منار أصول الفتوى – بين من كان مجتهدًا فلا يضمن، ومن كان غير مجتهد فيضمن( ).
وجاء في «صفة الفتوى» لابن حمدان الحنبلي قوله: «وقيل: يضمن – أي من ليس أهلاً للفتوى – لأنه تصدى لما ليس له بأهل، وغر من استفتاه بتصديه لذلك»( ).
وقد فصل ابن القيم في هذه المسألة، وقارن بين خطأ المفتي وخطأ الحاكم ( ).
والذي يتوجه والله أعلم عدم ضمانه؛ تفريعًا على أنه مخبر، وليس منشئ، وأن الفتوى غير ملزمة.
ويستأنس لهذا الرأي بالحديث الذي فيه: أن رجلًا من الصحابة كان في سرية فأصابه جرح ثم أجنب، فسأل من معه عما يفعل؟ هل يغتسل أم لا؟ فأفتوه بوجوب الغسل، فاغتسل فمات، فلما علم ذلك رسول الله  لم يزد على أن قال: «قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال...»( ).
ونخلص من ذلك: أن مقام المفتي مقام كبير القدر، عظيم الأثر، وأن أي مجتمع مسلم لا ينبغي أن يخلو من أهل الفتوى والاجتهاد، وإلا أدى ذلك إلى تخبط الناس في دينهم، وابتعادهم عن السنة، واختلاط الحلال بالحرام! فيضلون على الصراط السوي وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا!
بل ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا لم يوجد مفت في بلد ما، حرم السكن فيه! ووجب الرحيل منه إلى حيث من يفتيه في أحكام الدين؛ وما يستجد من نوازل!( ).
قلت: ولا ينبغي أن يكون في حياة المسلم أعظم من دين الله ليهتم به ويسأل عنه، وهذا من صدق الديانة وأمارات الإيمان. وكما قال ابن القيم، فإن «حاجة الناس إليهم – يعني المفتين – أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم عليهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب العزيز»( ).
فإذا كان مقام المفتي بهذه الدرجة من الأهمية، وبهذه الخطورة؛ فلابد إذًا من بيان المؤهلات والشروط التي بتحصيلها يتأهل العالم لهذه المرتبة الرفيعة في الدين.
*المطلب الثالث *
الشروط العلمية الواجب توفرها في العالم
ليتأهل للإفتاء، وآداب المفتي
شروط المفتي هي ذاتها شروط المجتهد، قال د. عبد الله التركي في كتابه «أصول الإمام أحمد»: «تقدم أن المفتي هو المجتهد، ومن لم يبلغ درجة الاجتهاد هو: المقلد، وعند الكلام على المجتهد؛ وما يلزم له ذكرنا طرفًا مما يشترط له، وهي شروط المفتي في الواقع»( ).
وفي اصطلاح المتقدمين لا فرق بين الفقيه والمجتهد والمفتي، فهي أسماء لمسمى واحد، فالفقيه الذي لا يملك أدوات الاجتهاد، ويكتفي بحفظ الفروع؛ لا يسمى فقيهًا على الحقيقة! فالفقه أساسه الفهم، وقد أشار إلى ذلك الزركشي رحمه الله نقلاً عن غيره من الأصوليين، جاء في «البحر المحيط»:
«تنبيه: علم من تعريفهم الفقه (باستنباط الأحكام): أن المسائل المدونة في كتب الفقه ليست بفقه اصطلاحًا، وأن حافظها ليس بفقيه، وبه صرح العبدري في باب الإجماع من شرح «المستصفى» قال: وإنما هي نتائج الفقه، والعارف بها «فروعي»، وإنما الفقيه هو المجتهد الذي ينتج تلك الفروع عن أدلة صحيحة، فيتلقاها منه الفروعي تقليدًا ويدونها ويحفظها، ونحوه قال ابن عبد السلام: هم نقلة فقه لا فقهاء، وذكر الشافعي في «الرسالة»: صفة المفتي وهو الفقيه...»( ).
والشروط التي يذكرها الأصوليون في باب الاجتهاد واللازمة للتأهيل لرتبة الاجتهاد أو الإفتاء، هي في حقيقتها شروط الاجتهاد العامة والتي تشترط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع مسائل الفقه ونوازله، يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله بعد عرضه العلوم التي لابد للمجتهد منها: «اجتماع هذه العلوم الثمانية؛ إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع»( ).
وقد تنوعت أساليب الأصوليين في طريقة عرض الشروط والمعارف المطلوب توفرها للوصول لهذه الرتبة (الاجتهاد/ الإفتاء).
ومن أول وأحسن من كتب في شروط الاجتهاد الإمام الكبير الشافعي رحمه الله، فقد سطر جملاً رائعةً ودقيقةً في هذا المقام، حيث يقول: «ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله؛ فرضه، وأدبه، وناسخه، ومنسوخه، وعامه، وخاصه، وإرشاده، ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله ، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإذا لم يكن إجماع فبالقياس، ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب»( ).
ومن الأصوليين من جمع الشروط في شرطين كالغزالي حيث قال: «المجتهد: له شرطان:
أحدهما: أن يكون محيطًا بمدارك الشرع، متمكنًا من استثارة الظن، بالنظر فيها، وتقديم ما يجب تقديمه، وتأخير ما يجب تأخيره.
الثاني: أن يكون عدلاً، مجتنبًا للمعاصي القادحة في العدالة»( ).
وكذلك الإمام الشاطبي رحمه الله في «الموافقات»، إذ قال: «إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني: التمكن من الاستنباط، بناءً على فهمه فيها»( ).
وقد جمع تقي الدين السبكي رحمه الله ما يجب على العالم تحصيله، والعلم به من المعارف في أمور ثلاثة، وهي:
1- التآليف في العلوم التي يتهذب بها الذهن: كالعربية، وأصول الفقه، وما يحتاج إليه من العلوم العقلية في صيانة الذهن عن الخطأ، بحيث تصير هذه العلوم ملكة للشخص، فإذ ذاك يثق بفهمه لدلالات الألفاظ من حيث هي، وتحريره، وتصحيح الأدلة من فاسدها.
2- الإحاطة بمعظم قواعد الشريعة، حتى يعرف أن الدليل الذي ينظر فيه مخالف لها أو موافق.
3- أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشارع من ذلك، وما يناسب أن يكون حكمًا له في ذلك المحل، وإن لم يصرح به( ).
إلا أن من أبزر العلوم التي تتعلق تعلقًا مباشرًا بعملية الاجتهاد هو «علم أصول الفقه»، فهو العلم الذي يبين منهجية الاستنباط وآلية التعامل مع النصوص، وهو كما اصطلح على تعريفه عند كثيرين (القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة)( ).
وهو علم مستمد في كثير من مباحثه من «علم اللغة العربية»، فلابد للمشتغل به من العلم باللسان؛ بالقدر الذي يمكن صاحبه من الفهم الدقيق للنصوص الشرعية بأساليبها اللغوية المتنوعة ( ).
وقد ذكر الإمام الرازي رحمه الله: «أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه»( ).
وقبله إمام الحرمين الجويني رحمه الله إذ يقول: «ولا يرقى المرء إلى منصب الاستقلال دون الإحاطة بهذا الفن»( ).
ويقول الإمام الشوكاني رحمه الله عن أصول الفقه أنه «عماد فسطاط الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه»( ).
والعلم بقواعد هذا «الفن» علم بمقاصد التشريع التي هي نتاج من نتائجه، وثمرة من ثماره، والدراية بمقاصد الشريعة وأصولها الكلية من الأمور المهمة جدًّا في تكوين ملكة الاجتهاد عند الفقيه، حتى يصبح مع كثرة المطالعة والتدقيق فيها؛ على بصيرة بما يصلح أن يكون مناسبًا للتشريع وما لا يكون كذلك.
يقول إمام الحرمين: «ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي، فليس على بصيرة في وضع الشريعة»( ).
فالشريعة مبناها على مقاصد وأصول لا بد للمفتي من مراعاتها واعتبارها حالاً ومآلاً قبل أن يصدر فتواه.
وقد ذهب الإمام الشاطبي وهو يناقش القدر الذي يجب على المجتهد تحصيله من هذه العلوم والمعارف، ويقرر بعد بحث علمي شائق، أنه ليس من الواجب على العالم أن يتعمق في كل علم من العلوم المذكورة في شروط الاجتهاد حتى يصل لدرجة الاجتهاد فيها! بل يكفيه أن يمتلك القدرة العلمية على الاستفادة من كل فن ما يساعده في بناء الفتوى بناءً صحيحًا، سواء أكان في الحديث أو اللغة أو غيرها من العلوم.
قال رحمه الله: «ولو كان مشترطًا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم، لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدًا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب، وليس الأمر كذلك بالإجماع»( ).
تنبيه:
عند التأمل في شرط الاجتهاد من لدن أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله إلى عصور متأخرة، يلمس الباحث تطورًا وتوسعًا في تلك الشروط، وبما يتناسب مع تغير العصور والجو العلمي السائد، فالأدوات العلمية المتقدمة هي الأصل المستصحب في كل عصر؛ إلا أنه قد يزاد عليها بالقدر الذي تقتضيه ظروف ذلك العصر، فما قرره الشافعي في القرن الثاني من شروط «لا يمكن أن تكون كافية للنظر الاجتهادي في القرن الثالث الهجري؛ الذي تبدل فيه الواقع الفكري والسياسي؛ إذ إنه بينما كان الصراع في القرن الثاني الهجري صراعًا فقهيًّا بين المدارس الفقهية، فإن الصراع غدًا من منتصف القرن الثالث الهجري صراعًا كلاميًّا بين المدارس الكلامية – أشاعرة، ومعتزلة، وماتريدية – وامتزج بشيء من الفكر الأصولي، مما يبرر القول في هذا القرن بضرورة أن يتوفر في الراغب في التصدي للنظر الاجتهادي على زاد معرفي غير مغشوش من الفكر الأصولي والكلامي..»( ).
وقد تناقل العلماء في كتبهم قديمًا وحديثًا أن مرتبة المجتهد المطلق لم تعد موجودة من قديم الزمان، وذهب آخرون إلى انعدام أنواع أخرى من المجتهدين؛ كمجتهد التخريج مثلاً، وقد تكررت دعوى انعدام المجتهدين في عصور متعددة، وممن ذكر ذلك ابن أبي الدم الشافعي المتوفى سنة 624هـ إذ يقول: «واعلم أن هذه الشروط – يقصد شروط الاجتهاد المطلق – يعز وجودها في زماننا هذا في شخص من العلماء، بل لا يوجد في البسيطة اليوم مجتهد مطلق»( ).
ولعل السؤال المهم لاسيما مع تكرر هذه الدعوى من قرون طويلة، ما هي الأسباب المؤدية إلى انتشار هذه الدعوى، وندرة المجتهدين، وانتشار التقليد حتى أصبح هو الأصل؟
وقبل ذكر شيء من ذلك بحسب ما نلمسه من واقع موجود، أنقل تفسيرين لعالمين من العلماء الذين اجتهدوا في تلمس هذا الأمر، ومن قرنين مختلفين.
أولهما: أبو المعالي الجويني رحمه الله حيث قال في كتابه «الغياثي» وهو يتألم من انتشار التقليد وانحسار الاجتهاد!: «وإنما بلائي كله من ناشئة في الزمان شدوا طرفًا من مقالات الأولين، وركنوا إلى التقليد المحض، ولم يتشوفوا إلى انتحاء درك اليقين، وابتغاء ثلج الصدور، فضلاً على أن يشمروا للطلب...»( ).
وثانيهما: العالم الحنبلي (أحمد بن حمدان الحراني) المتوفى سنة 695هـ، حيث اجتهد في ذلك قائلاً: «لكن الهمم قاصرة، والرغبات فاترة، ونار الجد والحذر خامدة، اكتفاءً بالتقليد، واستعفاءً من التعب الوطيد، وهربًا من الأثقال، وأربًا في تمشية الحال، وبلوغ الآمال، ولو بأقل الأعمال»( ). وقد أصاب الداء أو كاد رحمه الله!
فخلاصة النقلين: فتور الهمم، والركون إلى الأسهل، وهما سببان لا يزالان موجودين في واقعنا المعاصر.
ويضيف بعض الباحثين أسبابًا أخرى، منها:
1- الشعور بعدم الحاجة للاجتهاد عند طلبة العلم الناتج عن الثروة الفقهية الكبيرة المدونة، فلا تكاد تجد مسألة إلا وفيها رواية عن صحابي أو تابعي أو إمام.
2- تركز الاهتمام بكتب المذاهب الفقهية.
3- الهالة الكبيرة التي أحاطها تلاميذ الأئمة حول آراء شيوخهم، مما منعهم ومنع غيرهم من تنازل بعضها بشيء من النقد والتمحيص.
4- سبب آخر ومهم – وهو في نظري – من الأسباب التي حان الوقت للوقوف عندها طويلاً؛ والاجتهاد العاجل في محاولة حلها، وهو: طريقة التعليم أو التفقيه الشرعي، التي باتت تعتمد بصورة غالبة على التفقيه المذهبي وتكتفي به، بل وبمجرد النظر والدراسة في كتب المذاهب، وهذا جيد ومطلوب، ولكن الواجب أن يقترن به تفتيح ذهن الطالب للتأمل في مدارك الأئمة وطرق الاستدلال والنظر في القواعد والضوابط الفقهية والأشباه والنظائر، لتعويد الطالب على التخريج ومعرفة الحكم بدليله.
وقديمًا أشار العلامة ابن خلدون رحمه الله لمثل هذا، حيث قال: «اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم، والوقوف على غاياته؛ كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعاليم، وتعدد طرقها، ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها، ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، فيقع في القصور»( ).
لذا أقول – وبالله التوفيق -: إن طريقة التعليم أو التفقيه الشرعي الموجودة حاليًا في الكليات والأقسام الشرعية ليس من ثمارها، بل ولا حتى من شأنها؛ أن تهيئ طالب علم فقيه بالمعنى الصحيح لهذا الوصف، ففي الغالب يتخرج الطالب المتميز منها، وقد حصل كمًّا منوعًا من العلوم والمعارف، ولكنك قلما تجده متعمقًا متبحرًا في نوع منها، ومن وفق لمواصلة دراساته العليا تجده قد تخصص في جزئية يسيرة من علم ما؛ هي عنوان بحثه!
أما الاهتمام بأدوات الاجتهاد، والسعي لتكوين العقلية الفقهية، التي تمكن صاحبها من النظر والقياس والتخريج والتنزيل الصحيح، فيندر وجود مثل هذا في أجوائنا العلمية، فيتخرج الطالب لو كان حاصلاً على الدرجات العلمية العليا، منْبَتًّا عن نوازل العصر بمسائله الشائكة المعقدة، من اقتصادية وطبية واجتماعية وسياسية ونحوها.
لذا بات من المتعين على أصحاب القرار والمسئولين عن هذه الكليات الشرعية أن يتنبهوا لهذا الخلل، حفاظًا على جناب الاجتهاد وسعيًا في إحيائه واستمراريته، حتى لا نصل لجيل لا تجد فيه من يستطيع الاجتهاد والاستنباط! فيقع الناس في عماية وتنتزعهم الأهواء؛ لأنهم لم يجدوا أهل الذكر الذين أوجب الله عليهم سؤالهم!
صفات وآداب في المجتهد أو المفتي:
من أهم هذه الصفات والآداب التي لا يتصور من عالم مسلم إلا أن يتخلق بها أمور منها:
1- النية الصالحة الصادقة، فهي رأس الأمر وأسه، وهي الجالبة بإذن الله للتوفيق والقبول، وبعدمها يحصل الخذلان ويكثر التخبط، «فكم من مريد بالفتوى وجه الله ورضاه والقرب منه وما عنده، ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته! فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما بين المشرق والمغرب.
وقد جرت عادة الله التي لا تتبدل وسنته التي لا تتحول أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو لائق به؛ فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء»( ).
2- كما تقرر من قبل فإن مكانة المفتي في الدين وفي نفوس أهل هذا الدين عظيمة، وحتى يكون صادقًا مع ربه ومع الناس، وحتى يحقق معنى القدوة المنتظر من أمثاله، لا بد أن يوافق قوله عمله، ولا يكون من الذين قال الله فيهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة: 44].
3- أن يتجرد من كل هوى وحظ نفس، ولا يتطلع في فتواه إلى إرضاء أحد من الناس أو إسخاطه، ويكون رائده ومقصده هو «إصابة الحق» تحقيقًا لرضوان الله ونفعًا للأمة، وكما نص القرآن وحكم الرحمن؛ فإن حكم الحاكم لا يخلو من حالين لا ثالث لهما: إما اتباع الحق أو الهوى، قال الله: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 26].
4- شعوره أنه مفتقر إلى الله دائمًا، ولا يغتر بعلمه، ويلح دائمًا على ربه بأن يلهمه الصواب، وأن يثبته على الحق دائمًا، وكان شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله كثيرًا ما يخر ساجدًا لله معفرًا وجهه بالتراب؛ يلح على ربه ومولاه أن يفتح عليه في مسألة أشكلت عليه وهو يقول: «يا معلم إبراهيم علمني»( ).
ومن وصايا الإمام الكبير الشافعي رحمه الله للعلماء وطلبة العلم قوله: «فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه (أي القرآن)، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه؛ نصًّا واستنباطًا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه»( ).
* المطلب الرابع *
حكم الفتوى التكليفي
ذكر الأصوليون أن «الفتوى» تعتريها الأحكام الخمسة التكليفية وهي: الوجوب، والندب، والإباحة، والتحريم، والكراهة.
وفي ما أحسب -والله أعلم- أن الفتوى لها حكم أصلي؛ والأحكام الأخرى عوارض تعتري الحكم بحسب ما يتعلق به أو بالنظر إلى آثاره، وهكذا.
فالإفتاء من فروض الكفايات من حيث الأصل، وذلك بالنظر إلى مكانته وخطورته، وأنه يتعلق به بيان هذا الدين وحفظه في نفوس المكلفين، وحفظ الدين مقصد ضروري، وهو في أعلى درجات الوجوب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال الإمام النووي رحمه الله في مقدمته العلمية العظيمة لسفره الكبير «المجموع»: «الإفتاء فرض كفاية، فإذا استفتي، وليس في الناحية غيره؛ يتعين عليه الجواب»( ).
وفي «روضة الطالبين» له أيضًا قال ما نصه: «ومتى لم يكن في الموضع إلا واحد يصلح للفتوى، تعين عليه أن يفتي، وإن كان هناك غيره، فهو من فروض الكفايات، ومع هذا فلا يحل التسارع إليه»( ).
ويستدل على هذا بعدد من النصوص الدالة على وجوب البيان وتحريم الكتمان، ومنه قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران: 187].
وحديث النبي  نص في تحريم كتمان العلم: «من كتم علمًا يعلمه؛ جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار»( ).
وترتب هذا الوعيد الشديد على هذا الوصف (الكتمان) يدل على شدة الحرمة، وبالتالي على وجوب ضدها وهو (البيان). والله أعلم.
إلا أن هذا الواجب الكفائي، قد يتحول إلى:
1- واجب عيني؛ إذا لم يكن في البلد أو المجتمع المسلم غيره، أو إذا ضاق وقت الحادثة وخشي فواتها.
وفي «منتهى الإرادات» من كتب الحنابلة: «ولمفتٍ رد الفتيا؛ إذا كان في البلد عالم قائم مقامه، وإلا لم يجز له ردها؛ لتعينها عليه»( ).
2- وقد يكون مندوبًا؛ إذا سئل عن قضايا متوقعة الحدوث، ولما تحدث بعد، فليس بملزم بالجواب؛ لعدم وجود وقت الحاجة.
3- وقد يكون الإفتاء حرامًا في حق البعض؛ وهم الذين لم تتوفر فيهم شروط الاجتهاد، أو لم يكن على علم دقيق في المسألة مدار السؤال، أو إذا ترتب على قوله –وإن كان وجيهًا– مفسدة أعظم من مفسدة السكوت، فدرء المفسدة الأعظم متعين.
4- وقد يكون مكروهًا بالنظر إلى الموضوع ذاته؛ فبعض السائلين قد يسأل عن مسائل بعيدة أو مستحيلة الوقوع، فلا يُجارَى في تكلفه هذا.
5- ويكون مباحًا فيما عدا هذه الحالات الأربع( ).
* * *

المبحث الثاني
أهمية الفتوى في حماية العقيدة
إن قضايا ومسائل المعتقد من أهم المسائل التي يخوض فيها أهل الاجتهاد والفتوى؛ لأن أثرها ينسحب إلى علاقة الإنسان مع ربه وإيمانه بعدد من القضايا الخطيرة، وكل كلمة تخرج من فم فقيه، وكل حكم يصدره مفتٍ؛ يصبح منهجًا ينتهجه المقلدون، وسلوكًا يسلكه السائرون، ليس تقديسًا لهذا العالم أو ذاك – فهو في نظرهم غير معصوم – وإنما للعلم الذي يحمله؛ ولما جبل عليه عامة المسلمين من توقير العلماء وتقدير أقوالهم، وطاعةً لأمر الحكيم الخبير في قوله المبين: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43].
فهؤلاء العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الذين بسببهم يهتدي الناس للحق والنور؛ إذ ادلهمت الخطوب، وتنازعتهم الأهواء، وتفرقت بهم السبل، فما أعظم أمانتهم، وما أخطر تأثيرهم!
ومن هنا يتكرر الوعيد في القرآن مشددًا على هؤلاء النفر أن يتقوا الله في الناس، وأن يجتهدوا في قيادتهم ودلالتهم للحق: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ... [البقرة: 174].
قال الإمام الشوكاني في «تفسيره»: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ قيل: المراد بهذه الآية علماء اليهود؛ لأنهم كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد . والاشتراء هنا: الاستبدال، وقد تقدم تحقيقه، وسماه قليلاً؛ لانقطاع مدته، وسوء عاقبته، وهذا السبب وإن كان خاصًّا فالاعتبار بعموم اللفظ، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله، وأخذ عليه الرشا...»( ).
وتتضح أهمية (الفتوى) في هذا الجانب العظيم من خلال هذين المطلبين:
* المطلب الأول *
وسائل حفظ الدين، وعلاقة ذلك بالفتوى
إن أعظم ما يجب حفظه وبيانه والذب عنه؛ هو دين الله الخاتم الذي أنزله على نبيه محمد ، والذي لن يقبل الله من أحد دينًا سواه.
وحماية جناب التوحيد وصحة المعتقد من أولى الواجبات، بل هو أهم الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع بحفظها، والضروريات كما عرفها الإمام الشاطبي رحمه الله هي: «ما لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين»( ).
وهذه الضروريات خمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب.
وأعظمها شأنًا والتي من أجلها خلق الله الخلق (حفظ الدين)!
«وحين نتكلم عن الدين وكونه ضروريًّا للحياة فإنا نعني بذلك الدين الحق الصحيح المنزل من رب العالمين، الخالص من التحريف، لا مطلق الدين، وإنما نخصه بالدين المنزل على محمد ، وهو الدين الإسلامي الحنيف لكون ما عداه منسوخًا لا يجوز العمل به: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85]»( ).
بعد تقرير أن حفظ الدين أهم مقاصد الشريعة، فلا يمكن أن تترك الشريعة هذا المقصد عرضة للضياع أو التحريف، ففي ضياعه ضياع للمقاصد الأخرى، وخرابًا لنظام الحياة بأسرها.
ومن خلال استقراء أدلة الشرع من كتاب وسنة، وجد العلماء أن «مقصد الدين» يحفظ من جانبين: جانب الوجود، وجانب العدم.
فجانب الوجود بمعنى: المحافظة عليه بما يقيم أركانه ويثبت قواعد.
ومن جانب العدم بمعنى: درء الفساد عنه الواقع أو المتوقع.
ومن الجانب الأول تأتي الوسائل الآتية: العمل به، والحكم به، والدعوة إليه، والجهاد من أجله.
ومن الجانب الثاني: بالرد على كل ما يخالفه من البدع والأهواء.
وسأتحدث بما يتناسب وطبيعة البحث، وهو عن دور «الفتوى والمفتين» في حماية المعتقد.
فقد جاء الأمر في كتاب الله بالدعوة إلى هذا الدين وبيان حقيقته، وأعظم قضية تناولها القرآن وجاهد من أجلها محمد  قضية (التوحيد): قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108].
وفي هذا المقام يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا يتغير الدين بالتبديل تارة، وبالنسخ أخرى، وهذا الدين لا ينسخ أبدًا، لكن يكون فيه من يدخل من التحريف، والتبديل، والكذب، والكتمان ما يلبس به الحق من الباطل، ولابد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفًا عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فيحق الله الحق، ويبطل الباطل ولو كره المشركون»( ).
ويقول الشيخ د. بكر أبو زيد وفقه الله في سياق بيانه لوجوب الذب عن حياض الحق بالفتوى الصحيحة والكلمة المقنعة: «ويزداد الأمر شدة حينما يكون مع صاحب الهوى: حق يلبس به بدعته وهكذا! حتى إذا طفحت الكأس: هب من شاء الله من حملة الشريعة ينزعون من أنوارها بذنوب وافرة، يطفئون بها جذوة الهوى والبدعة، فهم مثل العافية في الناس لدينهم وأبدانهم، بما يقيمونه من حجج الله وبيناته القاهرة، فتهب بذلك ريح الإيمان، وتقوم سوق الانتصار للكتاب والسنة»( ).
وللنظر في تأثير «الفتوى» في مثل المسائل الإيمانية والعقدية المهمة، فإن ذلك الأثر لا يبدو ظاهرًا واقعًا إلا من خلال ذكر نماذج لمواقف عدد من العلماء من أهل الفتوى والاجتهاد، الذين كان لفتاواهم واجتهاداتهم في مواقف معينة في أثرها البالغ والظاهر في حفظ الدين وحماية العقيدة الصحيحة في نفوس وعقول المكلفين من الذين يدخلون بإذن الله في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24] وهم كثير ولله الحمد، ومنهم:
إمام دار الهجرة العالم المجتهد صاحب المذهب مالك بن أنس؛ المتوفى سنة 179هـ رحمه الله، الذي أثرت عنه الأقوال المتواترة في تقدير الفتوى وبيان عظيم شأنها! ومنها: ما نقله ابن خلكان عن الحميدي في كتابه «جذوة المقتبس» قال: «وحدث القعنبي، قال: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه؛ فسلمت عليه، فجلست، فرأيته يبكي! فقلت: يا أبا عبد الله وما يبكيك؟ فقال لي: يا بن قعنب، وما لي لا أبكي؟ ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت فيها برأيي بسوط، وقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي!!»( ).
ولقد سئل هذا الإمام العلم عن مسألة عقدية تتعلق بصفات الله تعالى، فأفتى فيها عن علم وفقه، فكانت فتواه شافية كافية في المسألة ذاتها، إلا أن أثرها تعدى خصوص المسألة لتكون منهجًا علميًّا ينسحب على هذه المسألة ومثيلاتها من مسائل الصفات أو الأمور الغيبية التي يعجز العقل عن إدراكها.
ساق الإمام الذهبي رحمه الله بسنده هذه المسألة؛ إلى جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك، فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله! الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده، حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم رفع رأسه، ورمى بالعود، وقال: «الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج»( ).
ولقد فتح الله على الإمام مالك رحمه الله بهذه الفتوى العظيمة؛ التي هي المذهب الحق والمنهج القويم عند الحديث في صفات الله تعالى، نؤمن بها ونمرها على ظاهرها اللائق بجلال الله من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف تحت قاعدة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. فهو سبحانه أعلم بنفسه، ورسوله  أعلم الخلق به سبحانه، فمتى جاءنا نص من كتاب أو سنة صحيحة بإثبات صفة أو نفيها فلا يجوز العدول إلى رأي أو قياس مهما كان قائله.
وهو ما قرره مالك وعلماء السلف في فتاواهم للخلق، رحم الله الجميع.
ومن هذه الكوكبة أيضًا: الإمام الرباني والفقيه المجتهد الإمام أحمد بن حنبل الشيباني؛ المتوفى سنة 241هـ رحمه الله، الذي ظهر في أيامه بدعة خلق القرآن وهي من البذور الأولى لبدعة الجهمية في تقديم المعقولات على الوحي، وامتحن الناس بها، وفتحت السجون من أجلها، فتصدى الإمام أحمد لهذه الفتنة التي كادت أن تفسد على الناس دينهم لولا أن ثبته الله لبيان الحق.
وفي ذلك يقول الإمام الناقد الذهبي رحمه الله: «فإن الأمة ما زالت على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأن كلام الله مخلوق مجعول.. فأنكر ذلك العلماء»( ).
فكانت فتوى الإمام متطابقة مع نصوص الوحيين؛ الكتاب والسنة، ومنهج السلف في فهم هذه النصوص؛ ولم يحد عنهما قيد أنملة! ولم تأخذه في الله لومة لائم، بل صبر لمدة أربعة عشر عامًا كاملة توالى على سجنه وتعذيبه ثلاثة خلفاء من كبار خلفاء بني العباس على التوالي! إلا أنه رحمه الله حسم القضية من بدايتها، وشعر بعظم الأمانة التي تحملها، وهو من علماء هذه الأمة، وعلم أن كل فتوى تصدر منه سيكون لها بالغ الأثر في هداية الناس أو تضليلهم والعياذ بالله، وبالتالي حماية العقيدة أو الانتقاص منها!
لذلك لما جاءه تلميذه المروذي وهو بين الهُنبازين؛ قال: «يا أستاذ! قال الله: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] قال: يا مروذي؛ اخرج وانظر، فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقًا لا يحصيهم إلا الله، والصحف في أيديهم؛ والأقلام والمحابر، فقال لهم المروذي: ماذا تعملون؟ قالوا: ننظر ما يقول أحمد؛ فنكتبه، فدخل فأخبره؛ فقال: يا مروذي! أضل هؤلاء كلهم؟»( ).
وفي هذا السياق سياق «الفتوى» المؤثرة في باب الاعتقاد لاسيما إذا صدرت من عالم مجتهد، ما كان يصل للإمام أحمد من سؤالات واستفتاءات في قضايا أشكلت على بعض طلبة العلم، فيفتي فيها الإمام بما يصحح المعتقد ويهدي سواء السبيل.
ومن ذلك: ما جاء في «طبقات الحنابلة»: أنه لما أشكل على مسدد بن مسرهد أمر الفتنة وما وقع الناس فيه من اختلاف في القدر والرفض والاعتزال، وخلق القرآن والإرجاء؛ كتب إلى أحمد بن حنبل: اكتب إلى بسنة رسول الله ، فلما ورد كتابه على أحمد بن حنبل، بكى، وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون! يزعم هذا البصري أنه قد أنفق على العلم مالاً عظيمًا، وهو لا يهتدي إلى سنة رسول الله ، فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، وينهونه عن الردى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى وبسنة رسول الله أهل الجهالة والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن آثارهم على الناس ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وأطلقوا عنان الفتنة، يقولون عن الله وفي الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا – وفي كتابه بغير علم، فنعوذ بالله من كل فتنة مضلة.. وصلى الله على محمد... أما بعد: ... ثم شرع رحمه الله في الإفتاء والبيان»( ).
ومات الإمام أحمد، ومات معذبوه، ومات أهل الفتن والأهواء؛ وبقيت فتاواه والحق الذي جاهد من أجله راسخًا في قلوب المسلمين، وظل كتاب الله محفوظ الجناب من الزيغ والضلال، فلله الحمد من قبل ومن بعد، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
ومع صورة مشرفة أخرى لعالم رباني مجتهد آخر، كان لفتاواه واجتهاداته أثرها البالغ في تصحيح المفاهيم وحماية المعتقد، وهو الإمام الأصولي المالكي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة 790هـ رحمه الله.
فقد عاش هذا الإمام المجتهد عصرًا – كما يذكر – انتشرت فيه البدع، وكادت أن تندثر معالم السنة في كثير من أحكامها لا سيما في جانب الأمور التعبدية، وفي منهج التلقي عمومًا، ويصف تلك الفترة فيقول: «وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها، فلما أردت الاستقامة على الطريق؛ وجدت نفسي غريبًا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم غلبت عليها العوائد، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد»( ).
ومع ضغط الواقع الذي كان يعيشه الشاطبي رحمه الله وإحساسه بالغربة فيه وما حصل له من تردد كما يقول هو نفسه؛ إلا أن ذلك لم يثنه عن قوله الحق وموقف الصدق، فقد استشعر عظم الأمانة وخطورة الفتوى والقول في دين الله، ووجوب حماية المعتقد وسلامة المنهج حتى وصل إلى القناعة الواجبة، يصورها قوله: «فرأيت أن الهلاك في اتباع البدعة واتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئًا، فأخذت في ذلك في حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت على القيامة!»( ).
فتوكل على ربه، وألف، وأفتى، وجاهد، وكان كما قال عن نفسه: «ولم أزل أتتبع البدع التي نبه عليها رسول الله ، وحذر منها، ويبين أنها ضلالة وخروج عن الجادة، لعلي أجتنبها فيما استطعت، وأبحث عن السنن التي كادت أن تطفئ نورها تلك المحدثات لعلي أجلو بالعمل سناها، وأعد يوم القيامة فيمن أحياها»( ).
فألف رحمه الله كتابه العظيم الفريد في بابه المرسوم بـ (الاعتصام) الذي حرر فيه معنى البدعة وقواعد التفريق بينها وبين السنة، وعرض فيه الكثير من الشبه التي قد تفسد على المكلفين صحة المنهج وسلامة المعتقد، ثم كر عليها بالبيان والنقض.
وكذلك كانت له فتاوى مشهورة( )، ومن تلك الفتاوى أذكر هذا النموذج الذي يتعلق ببيان البدعة من السنة:
فقد سئل رحمه الله عن تكبير العيدين بصوت واحد، وأنه كما جاء في السؤال: (من بدع الخير التي شهد الشرع باعتبار حسنها..).
فأجاب: الحمد لله؛ أما من لم يكبر في مواضع التكبير فقد فاتته سنة النبي  والاقتداء بالسلف الصالح، وكفى بذلك خسرانًا، وأما قول القائل: إن التكبير على صوت واحد فيه الأجر؛ فإن أثبت ذلك نقلاً صريحًا لا احتمال فيه عن السلف صح الأجر، وإلا فلا أجر فيه ألبتة، وأما قوله: إنه من بدع الخير التي شهد الشرع بحسنها فغلط؛ إذ لا بدعة في الدنيا يشهد الشرع باعتبار حسنها، بل الأمر بضد ذلك لقوله : «كل بدعة ضلالة»، وأشباهه»( ).
والمسألة وإن كانت في فرع فقهي، إلا أن الذي يعنينا هو بيان المنهج السليم في التلقي، وأن الأصل فيه هو التوقيف، وبيان ذلك وتمييز السنة من البدعة من أهم مسائل الاعتقاد ولا ريب.
وهذا الفئة من الناس – العلماء والمفتون الربانيون – مضت سنة الله – ولأمر خير أراده الله في هذه الطائفة الذابة عن دين الله وشرعه – أن يصيبهم بسبب صدعهم بالحق؛ الأذى والمحاربة، زيادة في مضاعفة الأجر، وخلود الذكر، ومن أسوأ ذلك: نفثات المخذلين المقصرين! فترى المثخن بجراح التقصير، الكاتم للحق، البخيل ببذل العلم؛ إذا قام إخوانه بنصرة السنة يضيف إلى تقصيره؛ مرض التخذيل، ومن وراء هذا ليوجد لنفسه عند المناشدة والمطالبة العذر في التولي يوم الزحف على معتقده( ).
قلت: إذا أظهر أهل الباطل باطلهم، وتقول في دين الله كل دعي أفاك متعالم، وأهل العلم والحق ما بين ساكت أو مخذل أو متشاغل أو لا يدري عن الواقع! فمتى بربك يتبين الناس الحق، وكيف يحفظ الدين ويسلم المعتقد؟!
ولنا في رسول الله  أولاً وأخيرًا أسوة حسنة، وفي سلف هذه الأمة كذلك، وكل من سار على هذا النهج القويم.
وممن ينتظم في سلك هذه الكوكبة المضيئة من العلماء العاملين المجتهدين المؤثرين، عَلَمٌ كبير القدر، جليل الأثر؛ هو الشيخ العالم الفقيه صاحب الفتاوى المشهورة أبو العباس تقي الدين شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، المتوفى سنة 728هـ.
ٌفقد برز هذا العالم المجتهد في أمور كثيرة، من أهمها وأظهرها: جهاده العظيم في الذب عن حياض المعتقد الصحيح؛ وحمله لواء البيان عن الله ورسوله؛ فقد كرس حياته ووظف علمه في بيان الحق ومناظرة أهل الأهواء والبدع، ولقد «تميزت حياة ابن تيمية بهذه الميزة العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، فلم يكن العالم القابع في بيته، المتفرغ للإفتاء والتدريس والتأليف؛ وإنما كان رحمه الله رابطًا العلم بالعمل؛ فعلمه يدفعه إلى تحمل مسئوليته فيبادر إلى القيام بالحق والجهاد في سبيل الله وردع أهل الباطل»( ).
والحديث عن سيرته العلمية والعملية يطول، وقد ألفت فيها الكتب، وعني بها العلماء قديمًا وحديثًا؛ إلا أني أشير إلى القدر الذي يقتضيه السياق، وبالقدر الذي يتحمله المقام، فالمتأمل لحياته رحمه الله يجد أنه عني كثيرًا بإرسال الفتاوى المحققة والمؤصلة المبنية على القواعد المنهجية والشرعية لمن يسأله ويراسله مستفتيًا وطالبًا للحق، فرسائله العلمية المشهورة المسماة بالعقيدة الحموية أو التدمرية أو الواسطية؛ إنما هي في أصلها فتاوى عقدية صدرت منه رحمه الله بناءً على أسئلة وردت إليه من أهل حماة أو تدمر أو واسط تتعلق بمسائل عقدية عظيمة.
فالواسطية: فتوى تتعلق بسؤال موضوعه: أسماء الله وصفاته الواردة في القرآن والسنة والمنهج الشرعي الصحيح في فهمها، وقد جاءت هذه الفتوى الكبرى بأسلوب تقريري متقن؛ حيث إنها مليئة بالقواعد الأصولية والمنهجية التي تقرر مذهب السلف.
وكذلك فتواه المسماة بالتدمرية، فهي من الفتاوى المهمة والنافعة في بابها، واحتوت على قواعد عظيمة منهجية في مسائل عقدية مهمة؛ كان لها كبير الأثر في فهم منهج السلف؛ وفي مناقشة المخالف بمنهج وأسلوب علميين رصينين.
ومن المسائل العقدية المهمة والخطيرة التي أفتى بها شيخ الإسلام وأكد عليها في كثير من فتاواه مسألة (التكفير) فقد كان لفتاواه أثرها الكبير في ضبط هذه المسألة ووضعها في إطارها العلمي الصحيح، وتحقيق مبدأ الوسطية التي جاءت به الشريعة لتكون أحكامها وسطًا بين الطرفين الغالي في الحق أو الجافي عنه.
ومما قرره في تلك الفتاوى: أن للتكفير شروطًا وضوابط علمية لابد من توفرها، وأنه لا يجوز تكفير إلا من قامت الأدلة الشرعية الصحيحة على تكفيره، ومن شروط التكفير التي ذكرها: قصد المعنى المكفر، وقيام الحجة من حيث إخبار القائل أو الكاتب بما أخبر به النبي ، وتوضيح هذه الحجة وإزالة الشبهة إن وجدت، والتفريق بين تكفير المعين والتكفير المطلق.
ومن جملة قوله في هذا رحمه الله: «والأصل الثاني: أن التكفير العام كالوعيد العام، يجب القول به بإطلاقه وعمومه، وإطلاق حكم التكفير على الفعل شيء، وإطلاقه على الأشخاص المعينين شيء آخر، فقد يكون الفعل كفرًا، ولا يكون فاعله كافرًا؛ لانتفاء أحد الشروط، كقيام الحجة مثلاً، أو لوجود شيء من موانع التكفير، كالجهل مثلاً»( ).
وجملة القول: أن فتاوى هذا الإمام العلم كان لها أكبر الأثر في بيان مسائل الاعتقاد، وفق المنهج الوسط المستمد من الأدلة الشرعية والمنهج الشرعي. ولعل من أظهر سمات منهجه رحمه الله هي: العناية الشديدة بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة والإجماع وتعظيم الآثار؛ وتقديمها على غيرها من الأدلة، وتأكيده وإثباته لمسألة مهمة – كانت مزلة أقدام وأقلام لكثيرين – وهي دفع التعارض بين النقل والعقل، وإنزال كل منهما منزلته الصحيحة التي تليق به.
* المطلب الثاني *
الالتفاف حول «المحكمات»
وأثره في الفتوى وحماية المعتقد
إن الانفتاح العلمي والفكري والإعلامي الذي يعيشه المسلمون اليوم حالة فريدة لم يسبق لها مثيل، ولم يعد – كما كان سابقًا منذ عقد أو عقدين من الزمان – بالإمكان تحديد وضبط قنوات التلقي والتوجيه والفتوى!
بل وبسبب تنوع وسائل الإعلام المشاهد منه والمقروء، ولسهولة التعاطي معه ولكل أحد؛ بات المسلم يسمع الفتوى والتوجيه من أكثر من مكان، ومن مشارب مختلفة ومذاهب شتى واتجاهات متباينة؛ وفي كل: الغث والسمين، والقريب والبعيد، والجيد والرديء!
لذلك أرى لزامًا أنه لابد من الاتفاق على قدر مشترك من العلم والفتوى لا ينبغي بل لا يجوز التساهل فيه والإفتاء بغيره! وإلا لوقع المكلفون في خلط عظيم، وارتكبت جناية على الدين! وهذا القدر الذي يجب الالتفاف حوله والانطلاق من خلاله واستحضاره جيدًا عند كل فتوى أو اجتهاد هو (المحكمات في الدين).
والمحكمات التي نقصدها في هذا السياق – وبعد استعراض لتعريف المفسرين والأصوليين لهذا المصطلح – هي ما لوحظ في تعريفها الأوصاف التالية، وهي:
1- الحفظ وعدم التغيير والتبديل.
2- الوضوح والبيان.
3- كونها أصلاً ومرجعًا.
وهذه الصفات تتوفر في الأحكام الداخلة في قواعد الدين وأصوله حال التشريع ووقت الرسالة، التي لا يتصور ورود النسخ عليها ولا تخصيصها، وهي واضحة الدلالة على معانيها، بحيث أنها لا تحتاج إلى تأويل، وهي أصول ترد إليها المتشابهات والجزئيات.
وهي ذلك كما وصفها القرآن أم الكتاب وعمدته وأساسه، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ... [آل عمران: 7].
قال الإمام محمد بن إسحاق رحمه الله في تفسير الآية: «المحكمات: هن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه»( ).
وقال الإمام المفسر القرطبي رحمه الله: «فالمحكم أبدًا أصل ترد إليه الفروع»( ).
ومن أمثلة المحكمات: المقاصد الخمس الكلية التي جاءت الشريعة برعايتها، أو ما يعرف بالضروريات الخمس، وهي: (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال).
وهذه الضروريات تمثل في الحقيقة قاعدة المحكمات، فالنصوص الدالة عليها محفوظة لا تقبل تغييرًا أو نسخًا، وواضحة لا تحتاج لتأويل، وهي أصول ترد إليها ما يشتبه على أفهام المكلفين.
ومن خلال هذه الصفات المهمة والخطيرة لهذا النوع من الأحكام (المحكمات) تأتي أهميتها ووجوب رعايتها من قبل المفتين وعامة المكلفين، فالفتوى عند صدورها من المفتي مهما كان مذهبه أو زمانه أو مكانه يجب أن تنسجم وتتوافق مع حفظ هذه الضروريات ولا يجوز أن تعارضها أو تعود عليها بشيء من الإبطال أو النقص.
ومن أمثلة رد ما يشتبه على المكلفين لهذه المحكمات والأصول:
(حفظ الدين) مثلاً: هو الضروري الأول، ويحفظ من جانبين – كما قرر العلماء – من جانب الوجود؛ وذلك: بالأمر بالتوحيد والإيمان وإظهار أحكام الشريعة، ومن جانب العدم، وذلك: بمنع الارتداد عن الدين والسخرية منه، من خلال إقامة حكم الردة، والذب عنه بكشف شبهات أهل الزيغ والضلال والأهواء والبدع.
واستحضارًا لهذا الأصل العظيم، فإن الفقهاء والمفتين يردون فروعًا كثيرًا لا تحصى، تجتمع كلها على حفظ هذا المقصد.
فإذا دخل على بعض المكلفين إشكال في فهم (حرية المعتقد أو الرأي) بحسب مبلغ فهمه من قوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] وفهم أن حرية الدين مطلقة، بحيث يسوغ للمكلف أن ينحل من أي دين أو معتقد متى ما شاء!
فإنه يفتى ويبين له من خلال الرد لهذا المقصد المحكم (حفظ الدين)، وبيان ذلك: أن الشريعة كفلت لأهل الأديان الأخرى؛ إذا كانوا تحت ولاية المسلمين (أهل ذمة) حرية البقاء على ما هم عليه، أو اتباع الإسلام، وهذا الحق مشروط بشروط ذكرها الفقهاء في كتبهم، ومنها: أن لا تؤدي هذه الحرية للإخلال بحفظ الدين، فيمنع الإلحاد، وتسد جميع الوسائل المفضية إليه، وكذلك منع الإباحية ووسائلها، ونشر الخرافة والضلالات.
وكذلك فإن في منع المسلم من الانتقال من الإسلام للكفر حفظ لهذا الدين من الانتقاص من قدره وتهوين شأنه في نفوس أهله وغيرهم.
وبذلك يرد كل ما أشكل فهمه في هذه المسألة إلى هذه المحكمات، فتكون الفتوى بحول الله من وسائل حماية المعتقد وبيان الشريعة ( ).
آثار الالتفاف حول المحكمات على الفتوى والمكلفين:
بما أن المحكمات هن أصل هذا الدين وقاعدته المتينة، فإن الحفاظ على القاعدة فوق أنه واجب ضروري شرعًا وعقلاً، فإن آثار هذا الحفظ محمودة الغب ظاهرة الأثر، ومن آثار ذلك في مقام الفتوى وانعكاسه بالتالي على المكلفين:
1- ضبط الفتوى، وذلك بردها إلى أصول محكمة هي محل إجماع بين أهل العلم، فلا يستطيع المفتي تجاوز هذه الحدود؛ وإلا تكون فتواه بعيدةً عن الصواب بقدر ابتعاده عن هذه الحدود.
2- تقليل دائرة الاضطراب في الفتوى قدر الإمكان، ومرد ذلك إلى توحيد جهة الرد (إلى المحكمات)، فإذا استحضرت هذه المقاصد الضرورية عند تحرير الفتوى، ورعاها المفتي حق رعايتها، فإن كثيرًا من المسائل المتعلقة بالاعتقاد والقضايا الكلية التي تهم مجموع الأمة ستكون محل اتفاق؛ أو على الأقل فإن دائرة الخلاف ستكون ضيقة إلى حد كبير، مما سيؤدي إلى جمع الأمة على رأي واحد – قدر الإمكان – في القضايا والمسائل الكلية لاسيما المتعلقة بباب الاعتقاد.
3- من آثار هذا الحفظ على المكلفين - (المجتمع الإسلامي) منع الفساد في الأرض، وإبراز المنهج الرباني الذي يقدم التصور الصحيح لقضايا الدين والدنيا؛ ومنه: تحريم الشرك والأهواء المضلة لمعارضتها لأصل التوحيد، وكذلك تحريم الاعتداء على النفوس، والأعراض ماديًّا أو معنويًّا، وتحريم ومنع كل الوسائل المفضية إلى الانحلال الخلقي والإباحية، واستحلال المحرمات، وتحريم كل ما يضر بالعقل من أفكار ضالة وأهواء منحرفة وخرافات ساقطة.
* * *

المبحث الثالث
أثر الفتوى في تحقيق وسطية الأمة
* المطلب الأول *
تحرير معنى الوسطية
إن الحديث عن أي مصطلح أو معنى من المعاني يستوجب الوقوف والبحث للوصول إلى مفهوم دقيق لهذا المصطلح؛ وفق منهج علمي سليم.
والوسطية من المعاني الشرعية المهمة، وقد بات هذا المصطلح لاسيما في السنوات الأخيرة مثار جدل ومحط استعمال في كثير من الأطروحات الفكرية، وكثر المنادون به، وكل يدعي وصله، والأولوية به!
ومبدأ الوسطية محل إجماع على صحته؛ ووجوب الانطلاق منه، باعتباره سمة من سمات هذه الشريعة الغراء، إلا أن ذلك لا يعني الخلاص من إشكالية تحديد المراد من هذا المفهوم تحديدًا يرفع الخلاف القائم في اختيار الصيغة النهائية لهذا المفهوم، أو يرفع الجدل القائم حول تطبيقه! والمنهج العلمي الصحيح لتحديد المراد من هذه المعاني الشرعية هو ردها للمعاني اللغوية والاستعمال الشرعي لها؛ بحسب ورودها في النصوص والسباقات التي جاءت فيها، والنظر في كلام أئمة التفسير وشراح الأحاديث عند بيانهم للمراد من هذه المعاني.
المعنى اللغوي:
مادة (وسط) في اللغة تدل على معان متقاربة كما يقول ابن فارس: «الواو والسين والطاء بناء صحيح يدل على: العدل والنصف، وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه»( ).
وتأتي هذه الكلمة لمعانٍ متقاربة أشهرها معنيان: (العدل والخيار)، قال في القاموس: «الوسط في كل شيء: أعدله»( ).
وقال في النهاية: «يقال: هو من أوسط قومه: أي من خيارهم»( ).
ومنه قول الصديق  يوم السقيفة عن قريش: «هم أوسط العرب نسبًا ودارًا»( ).
الاستعمال الشرعي:
ينبغي أن تستحضر هذه المعاني اللغوية السابقة للوسطية عند محاولة تحديد المراد من المصطلح، ونجد أن الوسطية أو الوسط كما جاء في الكتاب والسنة يدور حول المعنيين اللغويين السابقين: (العدل والخيار)، ففي القرآن: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ... [البقرة: 143].
وفي السنة: ما جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري  قال: قال رسول الله : «يجيء نوح وأمته، فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي. فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد  وأمته، فنشهد أنه قد بلغ، وهو قوله جل ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، والوسط العدل»( ).
والشاهد؛ قوله : «والوسط العدل»، وقد بين الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح أن هذا الجزء من الحديث من كلام النبي ، وليس مدرجًا كما توهم البعض( ).
إضافة إلى أنه هو التفسير المتفق مع تفسير الآية السابقة.
وتفسير الوسطية بالعدالة والخيرية هو المنسجم كذلك مع مرتبة الشهادة التي نالتها الأمة، فالشاهد من شروطه العدالة، قال الحافظ في الفتح: «وشرط قبول الشهادة العدالة، وقد ثبت لهم هذه الصفة بقوله: وسطًا؛ والوسط: العدل»( ).
وهذا التفسير مروي عن جمع غفير من أئمة السلف في التفسير والفقه، ومنهم: ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد، وقتادة، وعطاء، وغيرهم، رحم الله الجميع ( ).
معنى العدالة والخيرية:
العدالة والخيرية هما أظهر صفات هذه الأمة الوسط، والعدالة من العدل الذي هو خلاف الظلم.
أما الخيرية، فقد جاء ذكر ملامحها وصفاتها في كتاب الله عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110]؛ فقد ذكر الله بعد حكمه على هذه الأمة بالخيرية؛ وصفين مناسبين هما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله.
وقد تقرر في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونًا بوصف مناسب يشعر بعلية هذا الوصف لذلك الحكم، فكأن علة (الخيرية) هما هذا الوصفان العظيمان.
فهذه الأمة أمة خير؛ لأنها كذلك فهي أمة خير للناس؛ لأنها أنفع الأمم للخلق جميعًا، وأي خير وأي نفع أعظم وأمضى أثرًا من هداية الخلق للحق.
وفي الأثر عن أبي هريرة  في المعنى نفسه: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قال: خير الناس للناس؛ تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام»( ).
فهذه الأمة المحمدية المباركة – بما وهبها الله من نعم – تحمل الخير لكل الناس، وتكره لهم أن ينتهوا إلى المصير البائس الذي توعد الله به كل منحرف وضال عن معرفة ربه ودينه الحق، وتجهد نفسها – من غير من ولا أذى - في سبيل أن تحول بين البشرية وبين الضلال والشقاء؛ بأمرهم بالإيمان بالله ونهيهم عن الشرك به سبحانه.
الوسطية ليست بين رذيلتين مطلقًا:
المقصود من ذلك بيان أم المنهج الوسط ليس منهجًا توفيقيًا أو تلفيقيًا بين طرفين متضادين، نضطر للتقريب بينهما حتى نصل لمرتبة وسط!
فإنه وإن كان في الغالب أنه يوجد في كل قضية طرفان مذمومان بينهما وسط ممدوح، إلا أن ذلك ليس بحتم لازم، فالصدق مثلاً يقابله الكذب، ومثله العدل يقابله الظلم، وليس أيًا منهما وسطًا بين رذيلتين!
والوسط بحسب اجتهاد البشر ليس بالضرورة أن يكون حقًّا أو خيرًا، بل قد يرى الناظر – في بادي الرأي – قولاً أو موقفًا وسطًا بين باطلين، ومع ذلك لا يكون خيرًا؛ بل قد يكون باطلاً مثلهما، ومثاله: أن المعتزلة قد توسطوا – بحسب اجتهادهم – بين طرفين؛ في باب الأسماء؛ بين الخوارج القائلين بتكفير مرتكب الكبيرة، وبين المرجئة القائلين بأن أهل الكبائر كاملي الإيمان، فذهبت المعنزلة إلى مرتبة بين المرتبتين فقالت: إن مرتكب الكبيرة فاسق خرج من الإيمان ولم يدخل الكفر، فوسطية هذا المذهب هنا، ليست هي الحق في هذا الباب؛ لأنها تخالف القول الوسط نفسه الذي بمعنى (الخيرية والعدل) الذي دلت عليه النصوص، والتي لا تدل دائمًا إلا على الوسط قولاً واعتقادًا وتوجهًا.
خلاصة القول: إن الدعوة للوسطية هي الدعوة للدين الحق والقول الحق والمنهج الحق، الذي دلت عليه النصوص الشرعية الصحيحة، الذي هو في حقيقته عدل كله وخير كله، لا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط؛ لأنه من لدن لطيف خبير.
* المطلب الثاني *
أثر الفتوى في بيان المنهج الوسط
من الأمور المقررة أهمية الفتوى وخطورة أثرها على المستفتين، ومن أجل ذلك لابد من أن يتحرى المفتي في اجتهاده إصابة الحق ما وسعه ذلك.
ومن مقاصد الشارع من المكلفين: حملهم على التوسط في شأنهم كله من أمور الدنيا والدين؛ من غير إفراط ولا تفريط( ). وأي خروج عن هذا المنهج الوسط هو في حقيقته خروج عن قصد الشارع.
والوسطية في (الفتوى) نستطيع أن ننظر لها من خلال أمرين مهمين غاية الأهمية، وهما:
أولاً: الوسطية من جهة المنهج العلمي في الإفتاء الذي يسلكه المفتي.
ثانيًا: الوسطية فيما يصدر عن هذا المفتي.
ووسطية الفتوى نتاج طبيعية لوسطية منهج الإفتاء، وهذه الوسطية لا تعني – وكما قررناه سابقًا – التوفيق والتلفيق، وإحداث منهج جديد يلائم أهواء المكلفين ومتطلبات العصر كما يقال! بل إن هذا المنهج وإن زعم أصحابه أنه منهج وسط إلا أنه أبعد ما يكون عن الوسطية! وإذا لم يكن ليس ثمة خلاف بين المسلمين في أن (الكتاب والسنة) هما المرجعان الرئيسان لمعرفة أحكام الله عقيدة وشريعةً، إلا أنهم اختلفوا في مناهج الاستثمار أو الاستنباط؛ بمعنى كيفية استنباط الأحكام من هذين المصدرين، ولهذا الاختلاف في المناهج أسبابه وخلفياته التي ليس هذا آوان ذكرها.
والذي يهمنا هو معرفة كيف يكون منهج التوسط في كيفية الاستنباط والاجتهاد، ولا يظهر ذلك جليًّا إلا بعد تصور المناهج المطروقة والسبل المسلوكة في هذا الباب.
فمن العلماء قديمًا وحديثًا من اختار الاقتصار على ما تفيده ظواهر الألفاظ الواردة في النصوص الشرعية، ويعد الاقتصار على ذلك أمرًا متعينًا؛ لأن فيه الأمن من البعد عن مرادات النصوص قدر الإمكان، وعن تحكيم العقل فيما لا سلطة له فيه.
ومنهم من غلب جانب التعليل وإعمال العقل في النصوص؛ بحجة أن الشريعة أحكامها معقولة المعنى، فلا بد من إظهار هذه المعاني والعلل، وبناء الأحكام عليها، ومنهم لا سيما من المتأخرين من يغلو في هذا الجانب وينادي بأنه يكفي أن تكون الأحكام الفقهية منطوية تحت معاني عامة تدل عليها النصوص إجمالاً.
وقد أدى التمادي في هذا الاتجاه إلى بعد كثير من الفتاوى والاجتهادات عن مقتضيات النصوص.
ومن العلماء من اختار سبيل الاقتصاد والتوسط، فمنهج مسلك الأخذ بظواهر النصوص؛ مع اعتبار المعاني بما لا يؤدي إلى تعطيل مدلولات النصوص أو نقضها، بل بالقدر الذي يوسع دلالات النص بحسب القواعد العلمية المرسومة، وهم في ذلك لم يجمدوا على ظواهر الألفاظ؛ فيعطلوا المعاني، ولم يغرقوا في إعمال المعاني ويطرحوا النصوص!
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: «وإن كانت المذاهب كلها طرقًا إلى الله، ولكن الترجيح فيها لابد منه؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد؛ فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقًا: إنه بدعة حدثت بعد المائتين، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي: لا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة، فإذا كان ثمة رأي بين هذين؛ فهو أولى بالاتباع، والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله، والله أعلم»( ).
فالوسطية إذًا في باب الفتوى: «موقف بين موقفين في فهم النصوص والتعامل معها، وهي اتجاه بين اتجاهين، بين ظاهرية مفرطة وباطنية مفرطة»( ).
فإذا ثبت وتقرر المنهج الصحيح للفتوى المنضبط بقواعد أهل العلم في هذا الفن، وبانت ملامحه، والذي هو في نهايته المنهج الوسط، أقول: إذا تقرر هذا المنهج؛ فإن العالم الذي بلغ درجة الاجتهاد وصار مؤهلاً للاجتهاد والفتوى، فعليه واجب كبير، ومن خلال ذلك المنهج العلمي الوسط أن يجتهد – قدر وسعه – في تحقيق مقصد الشارع من المكلفين المشار إليه سابقًا وهو: (حمل المكلفين على الوسط).
وذلك يتأتى من جهة حمل المكلفين على موارد الشرع وأدلته، دون إفراط ولا تفريط؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال والتفلت.
وهذا كله من نتاج المقدمة الأولى المشار إليها وهي (وسطية منهج الإفتاء).
وهو من واجبات المفتي، ومن الأمانة الملقاة على عاتقه.
وقد نبه إلى ذلك عدد من المحققين من أهل العلم، ومنهم الإمام الشاطبي حيث قال: «المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال... فإذا خرج عن ذلك في المستفتين؛ خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذمومًا عند العلماء الراسخين»( ).
والذي يليق بجمهور المكلفين هو الذي دلت عليه القواعد الشرعية الكلية المستنبطة من مجمل النصوص من كتاب وسنة، من مثل: رفع الحرج، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يزول بالشك، إلا أن ذلك كله لابد وأن يكون بعيدًا كل البعد عن اتباع الهوى؛ المضاد لأهل التكليف.
وهذا الحمل على التوسط هو المنهج الذي طبقه النبي ؛ والمفهوم من شأنه عليه الصلاة والسلام، فقد رد التبتل، وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: «يا معاذ أفتان أنت»( )، وقال: «عليكم من الأعمال ما تطيقون»( ).
ولكن: ما الذي سيحدث لو حاد المكلفون عن هذا المنهج الوسط سواء أفي الاعتقاد أم في الفقه؟
الذي سيحدث والله تعالى أعلم هو جنوح المكلف لأحد الطرفين المذمومين الخارجين عن الجادة، وهما: الجفاء أو الغلو.
والغلو هو: مجاوزة الحد الذي رسمه الشرع، سواء في الاعتقاد، أو الفقه، أو التصورات ( ).
والجفاء: خلاف البر، والجفاء في اللغة: ما نفاه السيل( ). وفي الحديث: «اقرءوا القرآن، واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به»( ).
فهذا الحديث نهي عن اتباع الطرفين المجانبين للمنهج الشرعي الوسط وهما: (الغلو والجفاء)، بمعنى: الابتعاد عنه وهجرانه.
فالجفاء في الجملة هو: الابتعاد عن الهدي الشرعي في السلوك أو الاعتقاد، وهو نوع من التفريط كذلك.
فدين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له أيضًا، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بمجاورته الحد ( ).
وتحرير الأعمال والأقوال التي يسوغ وصفها بالغلو، أمر غاية في الأهمية، لكيلا يدخل تحت وصف الغلو أعمال وأقوال هي من دين المسلمين وتكاليف الشرع القويم، وهل الغلو في العمل نفسه أم في الوسيلة المؤدية إليه؟
وعدم تحرير هذه المصطلحات والمعاني بشكل دقيق؛ يوقع في كثير من الخلط والنزاع، ويؤدي إلى فساد التصور الذي ينبني عليه – في الغالب – عدم صحة الأحكام.
وإلى هذا نبه المحققون من أهل العلم؛ ومنهم الإمام الغزالي رحمه الله كما في «شفاء الغليل»؛ حيث قال: «معظم الأغاليط والاشتباهات ثارت من الشغف بإطلاق ألفاظ دون الوقوف على مداركها ومآخذها»( ). وبتعبيره بكلمة (الشغف) فإنه يصور الواقع أبلغ تصوير!
ومثله قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: «إن كثيرًا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة، ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان؛ ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره، فضلاً عن أن يعرف دليله»( ).
ومن صور الغلو؛ والجفاء كذلك، التي قد يمارسها أو يعتقدها بعض المسلمين – هدى الله الجميع – إذا لم يجدوا البيان الشافي والفتوى المنضبطة بالمنهج العلمي، المحققة لمقاصد الشرع، من صور ذلك:
1- الغلو في فهم النصوص على غير مرادها الصحيح، وهذا يأتي من الخلل في معرفة المنهج العلمي في التفسير والاستنباط، ومرده إلى (الجهل بالعلم الشرعي)، و (فقد التوجيه).
2- الغلو المتعلق بالأحكام؛ إما بإلزام النفس أو الآخرين بمسائل وأفعال لم يوجبها الشرع، أو تحريم شيء من الطيبات المباحة على وجه التعبد.
3- الغلو في الموقف من الموافق أو المخالف؛ فالأول قد يمدح حتى يوصل به إلى مرتبة التقديس أو العصمة! والثاني قد يذم حتى قد يحكم عليه بالكفر أو الفسق والمروق من الدين؛ دون بينة أو دليل! وكلا الموقفين خلاف المنهج الوسط، وآثاره على المجتمع المسلم وخيمة جدًّا.
4- ومن صور (الجفاء): التفريط في كثير من العبادات من فرائض وسنن ونوافل، كالجفاء في محبة النبي ؛ من حيث عدم الاهتمام الواجب بهديه وسمته، وتأدية الواجب واللائق في مكانته الشريفة من الإكثار من الصلاة والسلام عليه، وزيارة مسجده الشريف، ونحو ذلك من السنن المشروعة، ومنه: الإقلال من ذكر الله تعالى، وعقوق الوالدين، وهجران المساجد وقراءة القرآن... إلخ.
وحاصل القول: إن هذه الأمة أمة الوسط، الوسط في القول والعمل، الوسط في التصورات والمواقف، والوسط - وتأكيدًا لما سلف – ليس معناه الأخذ من كل قول أو مذهب بطرف، والتجميع لنصل لقول أو موقف متوسط بين طرفين، فهذا يعني أن يكون القول الوسط ردة فعل جاءت للتوفيق بين قولين أو رأيين على طرفين متقابلين، بل القول والمنهج الوسط - بحسب ما أفهمه - هو: القول الحق الذي دلت عليه النصوص الشرعية، وبينه علماء الأمة؛ فهو الحق الموجود أصلاً - علمه من علمه وجهله من جهله!!( ).
وهذا (الحق) تجده دائمًا وسطًا عدلاً، لا إفراط فيه ولا تفريط، لا تمييع ولا غلو، والناس فيه ما بين مصيب له أو متجانف عنه، وهذا يدفعني إلى القول هنا بلزوم التوازن في معالجة قضايا الغلو.
فالغلو له جانبان أو صورتان: غلو في التمسك والتشدد في التطبيق؛ لم يأذن به الله، ولم تأت بها شريعته؛ التي من أصولها (رفع الحرج، والتيسير) ونبيها صلوات الله وسلامه عليه من خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
والصورة الأخرى للغلو: غلو في الانحلال والتميع، والتفلت من نصوص الشرع وقواعده؛ يؤدي إلى التطاول على محكماته، وهو أيضًا مما يأباه الله ورسوله والمسلمون، وقد أمرنا جميعًا بالذب عن دينه وحماية حدوده ومعالمه، والضرب على يد المتطاول المتهاون والقائل على الله بغير علم ولا هدى!
فلا ننسى في غمرة الانشغال بالأول: الإنكار على الثاني؛ وبالدرجة نفسها، فإن الصورة الثانية من الغلو (في جانب التفريط) تكون غالبًا من أسباب الغلو في صورته الأولى، والواقع خير دليل.
وإن من أهم أسباب حمل المكلفين على المنهج الوسط؛ هو (التحصن بالعلم الشرعي) إذ لابد من اتخاذ كافة الوسائل المتاحة لبث العلم الشرعي المؤصل، وتوفير سبله لكل راغب فيه، وتسهيل اتصال عامة الناس بدور الفتوى ومجالس العلماء، وأن يحتسب العلماء والمفتون الأجر في الصبر على تعليم الناس وتفقيههم بأمور دينهم، ومن المتفق على صحته: أن الإنسان كلما ازداد علمًا صحيحًا ازداد بصيرة وقربًا من المنهج الذي ارتضاه الله لعباده، وهي قاعدة مطردة؛ الأصل فيها قول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»( ).
وأختم بنقل شذرات مهمة من قرارات مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة، حيث أوصى المجتمعون من فقهاء الأمة بتوصيات مهمة؛ تصب في السياق الذي نتحد فيه؛ من حيث ضبط الفتوى، ودور المفتين والفقهاء في التوجيه وضبط المصطلحات.
ومن تلك التوصيات:
1- الاتفاق على ميثاق بشأن الإفتاء، ومعالجة الفتاوى الفردية في قضايا الأمة.
2- تحديد المصطلحات والتعريفات الشرعية ودلالاتها؛ لإزالة اللبس الحاصل بشأنها لدى بعض الناس، في مثل (جماعة المسلمين، الطائفة المنصورة، دار الإسلام، دار الحرب، الولاء والبراء، الجهاد، الحوار، حقوق ولي الأمر وواجباتها)، وطباعة ذلك في كتاب، وتعميمه بين المسلمين.
3- دعوة علماء الأمة لتقوية الصلة مع الشباب والناشئة من أبناء المسلمين، وتفقيههم بما يلزمهم من أمور الدين، دونما إفراط أو تفريط.
4- دعوة مجامع الفقه والكليات الشرعية للتعاون في تيسير ما يحتاج إليه أبناء المسلمين من كتب الفقه الإسلامية؛ بغية تحصينهم من الشذوذ الفكري والانحراف السلوكي والثقافي.
5- مطالبة علماء الأمة بإعداد البحوث والدراسات التي تعالج الفكر المنحرف والغلو في الدين، ودعوة الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي للإسهام في تكليف عدد من الباحثين المتخصصين لإنجاز البحوث المطلوبة( ).
أسأل الله تعالى رب العرش العظيم أن يوفق علماء المسلمين للهدى والحق؛ وأن يثبتهم عليه، ويعينهم على نشره ودلالة الخلق إليه، وأن يرد المسلمين للحق ردًّا جميلاً.
وأقول – في نهاية هذا المبحث – بقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود : «من كان مستنًّا فليستن بمن مات! فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد ؛ كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم»( ).

الخاتمة ونتائج البحث
الحمد لله على إعانته وتوفيقه، ثم إنه وبعد هذه الجولة في كلام أهل العلم، خلصت للنتائج التالية:
أولاً: عظم شأن الفتوى، وخطورة أثرها إيجابًا وسلبًا على حد سواء، لذا جاءت النصوص الشرعية بتحريم القول على الله بغير علم ولا هدى.
ثانيًا: أن المفتي إذا أخطأ في فتواه، فإنه قد يضمن ما تسببه في بعض الحالات؛ كما فصل ذلك أهل العلم.
ثالثًا: من أهم آداب المفتي وخصاله النبيلة: النية الصادقة، والتجرد من كل هوى، والشعور الدائم بالافتقار إلى الله تعالى، وأن يكون نصح الخَلْق وبيان الحق هو هدفه وهمه.
رابعًا: الإفتاء الأصل في حكمه أنه: من فروض الكفايات على القادرين المؤهلين، وقد تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة باختلاف الأحوال.
خامسًا: الفتوى المؤصلة الصادرة من أهلها معتبرين؛ من وسائل حفظ الدين والمعتقد الصحيح؛ من جانبي الوجود والعدم.
سادسًا: في تاريخ المسلمين وفي مختلف القرون، نماذج مضيئة لأئمة أعلام؛ كان لفتاواهم الأثر الكبير والممتد والمتعدي في حفظ الشريعة وصيانة المعتقد الصحيح.
سابعًا: العناية بالمحكمات وعدم الاختلاف حولها لا سيما عند (الإفتاء) من أهم أسباب الحفاظ على جناب الشريعة وتضييق هوة الخلاف بين المسلمين.
ثامنًا: وجوب العناية بتحرير المصطلحات ومعرفة المراد من الألفاظ، لا سيما في كثير من الكتابات المعاصرة، فكثير من النزاعات بين الكاتبين والمتحدثين؛ سببه ألفاظ مجملة ومعانٍ متشابهة.
تاسعًا: الوسطية هي الدين الحق (دين الإسلام) الذي أنزله الله على نبيه محمد ، فهي: الحق الموجود أصلاً بجعل الله لهذه الشريعة كذلك (منهجًا وسطًا)، وليست الوسطية التجميع بين مذهبين أو التلفيق بين رأيين، بل هي الحق الموجود أصلاً علمه من علمه وجهله من جهله!!
عاشرًا: فتاوى العلماء المعتبرين؛ لها أثرها الكبير في حمل الناس على المنهج الوسط؛ في السلوك والاعتقاد والتصورات، وفي إبعادهم عن الجفاء والغلو.
الحادي عشر: حتى يكون للفتوى القبول والأثر على المكلفين، لابد من مواكبتها للأحداث وعدم تأخيرها عن وقت الحاجة والبيان.
والله الموفق والمعين، والحمد لله في البدء والختم.
بقلم الدكتور فهد بن سعد الجهني

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك