النفـائس في أدلـة هـدم الكنائس

النفـائس
في
أدلـة هـدم الكنائس

تأليف
ابن الرفعة
أبو العباس أحمد بن محمد بن علي
الأنصاري الشافعي
ت710هـ

تحقيق
الدكتور
جميل عبد الله عويضة
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر
قال سيدنا ومولانا الشيخ لإمام ، حجّة الإسلام ، علم الأئمة ، أقضى القضاة ، شمس الشريعة ، فريد دهره ، ونسيج وحده ، نجم الدين ، شيخ المصنفين ، ولي أمير المؤمنين ، أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة الأنصاري الشافعي ، أفاض الله عليه ملابس لا تسمل ، ولا تبلى ، وأبقاه بقاء ذكره الجميل ، ليملأ الأرض علما وعدلا .
الحمد لله العلي الكبير ، اللطيف الخبير ، القائل في كتابه المبين [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ] ، وصلى الله على سيدنا محمد البشير النذير ، وعلى آله وأصحابه / أولِي 2 ب العلم العزيز ، والفضل الأثير ،
أمَّـا بعد ،،،
فإنّ قوام الدين ، وشِعار المتقين اتّباع سنن الأنبياء المقربين ، صلوات الله عليهم أجمعين ، واقتفاء آثار العلماء المنتجبين ، ومجانبة الأعداء والجاحدين ، أهل الشقاق المعاندين ، قال الله تعالى ، وهو أصدق القائلين لسيد المرسلين : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ] ، وقال له بعد ذكر جماعة من السادة الأنبياء ؛ تنبيها وتحريضا لنا على الاقتداء : [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ] ، وخاطب عباده الأصفياء الأتقياء ، فقال : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ] ، وقال لهم في معرض الإرشاد والتبيين : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ/3أ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ] . وإذ ورد هذا التخصيص والتحذير ، تعيّن اتّباع كلٍّ من الأمرين ، وبيانه على ذي اللب الخبير ، العالم بأنه يُسأل عن الفتيل والنقير والقطمير ، ويُجازى بما عمل من خير جليل أو حقير ، كيف ومن المعلوم عند ذوي البصائر فيما يقرؤونه: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ] ، وقد أعان بفضل الله ورحمته على ذلك في هذا الأوان ، مَن أعزّ الله به الدين ، ورفع به عنه الهوان ، وأحلّ بمعانديه لباس الذل والصَّغار في كل مكان ، ورفع / لِمَن أعان على ذلك بسببه أعلى الغُرف في الجنات ، وكتب له برحمته 3 ب على ما أولى من نعمته توقيع الأمان ، فتأكَّد على المنصوب لإظهار المعروف ، وإنكار المُنكر إطلاق العنان ، والمجاهدة لأعداء الله بالحجة والبرهان ، لقوله تعالى في مُحكم القرآن : [يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ] ، ومن أهمِّ ما يُبدأ به من الإنكار على أهل الملتين : اليهود والنصارى الفجَّـار ، فيما يُنسب إليهم من البِيَع والكنائس بهذه الديار ، خصوصا بالقاهرة ، التي اتّفق القاصي والداني على أنها بلدة إسلامية ، أنشأها المُعز في القرن الرابع من الهجرة النبوية ، قيل : وكان ذلك في سنة اثنين وستين وثلاثمائة / وزعم المعاندون والفجار4 أ أنّ ما بها من ذلك كان قبل الفتح ، ووقع عليه الصلح ، فلا يجوز أنْ يُتعرَّض له بإنكار ، فعند ذلك استخار اللهُ العظيم الحليم الكريم العلي العظيم العبدَ الفقير إلى رحمة ربه الرحيم ، الراجي هدايته ونفعه ، أحمد بن محمد بن على بن الرفعة في استخراج ما تقتضيه قواعد مذهبه ، وفروع مهذبه ، وهو مذهب الإمام الشافعي المطلبي محمد بن إدريس ، القائم في الله حق القيام في التصنيف والفتوى والتدريس ، فقال بفضل الله العميم :
بسـم الله الرحمن الرحيم
الدليل على ردّ ما ذكر في القاهرة المُعزِّيَّة من الدعوى التي لا يظهر إنْ شاء الله بعونه وقوته لها جدوى من كلام الشافعي ـ رحمه اله ـ وأصحابه النصّ والفحوى / وذلك من خمسة أوجه ، نُبيِّنُها إنْ شاءالله مُعتصمين 4 ب بحبله الأقوى ، عاملين بقوله تعالى : [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ] ، وذلك بعد الافتتاح بما يُحتاج إلى ذكره في الجملة من آي الكتاب ، ومأثور السُّنَّة ، فمن ذلك قوله تعالى : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لو أُعطِي الناسُ بدعاويهِم لادَّعى ناسٌ دِماءَ ناسٍ وأموالِهم ، لكنْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ) أخرجه البخاري ومسلم بمعناه .
قال إمام الحرمين في النهاية : وما تضمنه الخبر قاعدة متفق عليها بين الأمة ، فإنْ وقع نزاع ، فهو يؤول إلى تعيين المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه ، ومن هنا نخرج إلى ذكر الوجه الأول من الأدلة ، فنقول :
قد اختلفت / نصوص الشافعي ـ رحمه الله ـ في حدِّ المُدَّعي الذي 5 أ قال صلى الله عليه وسلم إنه يحتاج إلى البينة ، والمُدَّعى عليه الذ لا يحتاج إليها ، فنقل عنه أصحابه ، ومنهم صاحب الإبانة أنه قال مرة المُدَّعِي : هو الذي يدَّعي خلاف الأصل ، والمُدَّعَى عليه : مَن يكون قوله على وِفق الأصل ، وقال مرة : هو الذي يدّعي خلاف الظاهر، والمُدَّعى عليه : مَن يوافق قوله الظاهر ، وقال مرة : مَن يُخلّى وسكوته ، والمدَّعى عليه مَن لا يُخلّى وسكوته ، وقد حكى ذلك كله الغزالي في كتاب النكاح ، وكتاب الدعاوي ، وخرَّج هو وغيره من الأصحاب عليه فروعا ، منها ما إذا اختلف الراهن والمرتهِن في أن العصير المشروط رهنه في البيع ، هل قبض بعد انقلابه خمرا أم لا ، كما هو مبين في الوسيط / والنهاية ، ثم ومنها إذا أسلم الزوجان المُشركان قبل 5ب الدخول فقال الزوج : أسلمنا معا ، فالنكاح بحاله ، وقالت المرأة : بل أسلم أحدنا قبل الآخر ، فزال النكاح بإسلامه ، فقالوا : إنْ قلنا إنّ المُدَّعي مَن يدعي خلاف الظاهر فهو الزوج ، لأنّ الظاهر عدم اتفاق الإسلامَيْن في وقت واحد ، فيكون القول قول المرأة ، لأنّ الظاهر معها ، فتكون هي المُدَّعَى عليه ، وإنْ قلنا إنّ الذي يُخلَّى وسكوته فالمرأة مُدّعِية ، لأنها لو سكتت لدام النكاح ، والزوج مُدَّعىً عليه ، فيكون القول قوله من غير بيّنة ، وكذا إنْ قلنا : إنَّ المُدّعي من يدّعي خلاف الأصل، فهو المرأة أيضا، لأنّ الأصل عدم تقدم إسلام أحدهما على الآخر ، وإذا كانت مُدَّعية كان الزوج مُدّعىً عليه ، فيكون 6 أ القول قوله / من غير بيّنة ، ولأجل تظافر القولين على كونه مُدعىً عليه 6 ب كان هو الراجح في المذهب ، وإذ عُرِفت قاعدة الشافعي ـ رحمه الله ـ في حدِّ المُدّعي الذي دلّت السُّنَّة النبوية على أنه لا تُقبل دعواه إلاّ ببينة، والمُدَّعى عليه الذي لا يفتقر إلى بينة ، قلت : وجب على المُتَّبِع له والمقلد لمذهبه أنْ يُخرّج ما يقع من الفروع غير المنقوصة عليها ، كما خرّج أصحابه الفرع الذي أسلفناه وغيره عليها ، بل بعضهم يقول : إنّ القولين في ملة الإسلام منصوصان ، ومنهما خرج الخلاف في الأصل المذكور ، وعند ذلك نقول : إنْ قلنا إنّ المُدَّعي من يَدَّعي خلاف الأصل ، فأهل العناد ، المُظهرون في الأرض الفساد ، هم المُدَّعون ، لأنهم يدّعون أنّ الكنائس التي بالقاهرة أُحدثت قبل الفتح ، والأصل عدم حدوثها فيما مضى من الزمان إلى الوقت / الذي وقع الاتفاق على 7أ الحدوث فيه ، وكذا هوفي جميع الحادثات ، ولذلك قال الشافعي ـ رحمه الله ـ وجُلّ أصحابه : إنّ الرجل إذا طلق امرأته ، واتفقا على وجود صورة ما تنقضي به العِدة في وقت بعينه ، وقال الزوج : كنتُ راجعتُ قبل ذلك ، أنّ القول قول المرأة في عدم الرجعة ، لأنّ الأصل عدمها في ذلك الزمان ، فلو أنهما اتفقا على وجود صور ما تحصُل به الرجعة في وقت معين ، وقالت المرأة : كانت عدتي قد انقضت قبل ذلك ، وأمكن أنْ يكون ذلك ، أنّ القول قول الزوج ، مع أنّ الشرع جعل قولها مقبولا في انقضاء عدتها ، وما ذاك أيضا كما قالوا ، إلاّ أنّ الأصل عدم الانقضاء في الزمان الماضي ، فيُبنى الحكم عليه ، وقالوا أيضا : إذا غَصَبَ إنسانٌ عبداً ، وتلف في يده ، واختلفا في قيمته / فقال مالكه : كان كامل7أ الأعضاء حين الغصب ، وقال الغاصب : بل كان بعض أطرافه قد زال ، أنّ القول قول المالك على الأصح ، وما ذاك إلاّ نظرا للأصل ، وإذا لاحظت ذلك ، وجدت اعتماد الأصول عندنا في الفروع أمرا بيّنا ، وإنْ قلنا : إنّ المُدَّعِي مَن يَدَّعي خلاف الظاهر ، فأهل العناد هم المدَّعون أيضا ، لأنّ الظاهر من حال ملكٍ مَغربي مالكي ، نشأ في بلاد ليس فيها بَيعة ، ولا كنيسة ، ولا ما يُشاكل ذلك ، وقد تملك مملكة جديدة ، وأراد أن يُنشيء بها بلدةً يستوطنها ، وتُعرفُ به ، وتُنسب إليه ، إنْ لا يفعل ذلك في محل يكون به شىء من ذلك ، كيف ، وما رُبِّي عليه وألفه يأباه ، وطبعه ينفر منه ويقلاه ، والبُعد من الكفار مندوب إليه ، ومحثوث عليه / والمغاربة إلى اتّباع السنن مائلون ، وعن خلافها حائدون ، 7 ب ولمجاهرة الكفَّـار بالمعاداة مُظهرون ، وهذا دأب كل ذي طبع سليم ، وحَبْر عليم ، وقد حُكي عن الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ أَنه قوِيَ عنده اتباع الظهور ، فقال : لا تُسمع دعوى الخسيس على الشريف ، إذا لم يكن بينهما سبب في الظاهر يكذبه في دعواه ، وحُكي عن أبي سعيد الاصطخري من أصحابنا ما يقرُب من ذلك ، إذ قال فيما حكاه الإمام عنه : إنّ الرَّجُل من السفلة إذا ادّعى معاملة رجل عظيم القدر في أمر يبعد وقوعه ، فدعواه مردودة ، ومثل ذلك بما إذا ادّعى الرجل الخسيس أنه أقرض مَلِكا مالا ، أو نكح ابنته ، أو استأجره لسياسة دوابه ، أو ما جرى هذا المجرى ، وهذا منه غلوٌّ / في 8 أ اتِّباع الظّهور ، لم يوافقه عليه غيره من الأصحاب ، لأجل إطلاق الخبر ، وإنما ذكرته ليُعلم .
وإنْ قلتَ إنّ المدعي مَن يُخلى وسكوته ، فيجوز أنْ يقال : إنّ أهل الشقاق هم المدَّعون أيضا ، ويجوز أنْ يقال بخلافه ، وحينئذ فيكون قد توافق على أنهم مدّعون قولان ، وقضية ترجيح قبول قول المرأة في المسألة السالفة، ليوافق قولين من أقوال الشافعي على أنّ المُدعي هو الزوج أنْ يكون ذلك هو المرجَّح في المعاندين أيضا ، بل أوْلى ، لأنه لم يظهر القطع بأنَّـا إذا قلنا إنّ المدعي هو الذي يخلى وسكوته ، لا يكون كذلك بالجملة ، فمن ذلك يُخرّج أنّ للشافعي ـ رحمه الله ـ بمقتضى أصله هذا قولين في أنهم مُدَّعون ، أو مُدعىً عليهم ، فإنْ قلنا : هم المدعون ، وجـب عليهم إقامـة الحجة على ما يذكرونه / عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لكنْ البيّنَةُ عًلَى المُدَّعِي )وإن قلنا : 8ب إنهم مُدَّعى عليهم ، كانت الحجة علينا ، وسنذكرها إنْ شاء الله تعالى .
فإنْ قيل : القولان للشافعي في حدّ المُدعِي والمدعَى عليه إنما هما إذا كان الكلام في شيء ليس في يد واحد منهما ، أمَّـا إذا كان في يد أحد المتكالمين فهو المُدعَى عليه جزما .
قلت : لا أُسلِّم ذلك ، بل كلامه مطلق ، وتخريج أصحابه الخلاف في مسألة إسلام الزوجين على الخلاف المذكور ، يؤيد ذلك ، فإنّ الزوجة بالنسبة إلى النكح في حكم مَن هي في يد الزوج، بل قد بالغ ابن الحداد المصري فقال : لو كان في يد إنسان صغيرة ، فادّعى زوجيتها ، جُعل القول قوله ، كما لو ادعى رِقّها ، وهي مجهولة الحُريَّة ، لكن هذا القول منه مستبعد / وأيضا فقد قال 9 أ الأصحاب : إنّ قبول قول المُودع في التلف ونحوه على خلاف القياس ، لأنه مدعٍ ، وقولهم ذلك يدل على أنّ الدعوى تكون ممن العين في يده ، وإنْ قيل المراد باليد اليد الشرعية ، وهي على الوديعة للمالك ، قلت : حينئذ تخرجُ المسألة من أيديكم ، لأنّ النزاع بيننا وبين أهل العناد في أنّ اليد الشرعية ، هل وجدت أم لا ؟
فإنْ قيل : اليد الشرعية إنما ينظر إليها إذا عُرف الحال ، أمَّـا إذا جُهل فالنظر في اليد الصورية ؛ حملا لها على الوضع بالحق ، وذلك موجود في محل النزاع .
قلت : سأذكر إنْ شاء الله هذا السؤال مقرراً ، والجواب مبيناً مُفسَّرا بعد نجاز الأدلة ، كما هو دأب السادة الأئمة ، على أني أقول : لو صحّ السؤال المذكور ، واقتضى اندفاعه أنْ لا يكون فيما نحن فيه / عرف أنّ للشافعي 9 ب في ذلك قولين ، لزم القائل بمذهبه ، المُقلد له أنْ يقول بطرد مثل ذلك في كل ما تعارض فيه أصلان ، أو أصل وظاهر ، إلاّ أنْ يوجد لصاحب المذهب نصّ لا يقبل التأويل في بعض الصور ، فتوقف فيها ، ولا جرَم ، قال الأصحاب فيما إذا حلف على زوجته بالطلاق أنْ لا تخرج إلاّ بإذنه، فخرجت ، وادَّعى أنه أذِن لها ؛ ليدوم النكاح ، وأنكرت الإذن ، ففيمَن القول قوله منهما ؟ فيه وجهان مخرجان من تقابل الأصلين ، فإنّ الأصل عدم الإذن ، والأصل بقاء الزوجية ، والأول هو الذي أورده الجمهور ، وكذا ذكروا الوجهين ، فيما إذا قال : أنت طالق إنْ لم يدخل زيدٌ الدارَ ، أو إنْ لا يدخل زيد الدار ، فمات زيد ، وأشكل الحال هل دخل أم لا ، وكذا ذكروهما فيما إذا قال : لا أدخل / الدار إلاّ أنْ يشاء زيد ، ثم 10 أ دخل ، ومات زيد ، ولم يدرِ ، هل شاء زيد ذلك أم لا ، والذي نصّ عليه الشافعي في هذه ، كما قال الغزالي في كتاب الإيمان ، عند الكلام فيما إذا حلف ليضربنَّ عبده مائة خشبة الحنث ؛ نظرا إلى أنّ الأصل عدم المشيئة ، ولا سبب يظهر به وجودها ، قال : وهذا إذا حلف على ضرب مائة خشبة ، فضربه بها دفعة واحدة ، وشكّ هل وصل إليه ألَمُها أم لا ، فإنه نصّ على البرِّ ، وإنْ كان الأصل عدم الإصابة والألم ، لأنّ الضرب هاهنا سبب ظاهر في ذلك ، وإلى الحنث عند الجهل بمشيئة زيد ، ذهب الجمهور من الأصحاب ، وإذا صاروا إليه حيث لا قرينة ، ولا ظاهر يعتضد به الأصل المذكور ، وهو عدم المشيئة فلا يعارضه ، فمصيرهم إلى مثله عند وجود ظاهر يعضده من طريق الأًولى/ 10 ب وذلك موجود في مسألتنا ، لأنَّـا نقول : الأصل عدم وجود البِيَع والكنائس الموجودة الآن بالقاهرة ، حال فتح البلاد ، والظاهر الذي قررناه يعضده ، فكان مقتضى قول الجمهور أن يُناط الحكم به، إلاّ أن يأتي المعاندون بحجة تدفـع ذلك ، بل نقول : إنّ ذلك يجب القطع به ، مع ملاحظة أصل الشافعي المذكور ، من إجراء الخلاف عند تقابل أصلين ، أو أصل وظاهر ، وهذا هو الوجه الثالث في الاستدلال ، وإنما قلت ذلك لأنّ محل القولين إذا لم يكن مع أحد الأصلين ، أو الظاهر ما يعتضد به ، أمَّـا إذا كان ، فالعمل بالمرجوح متعيّن ، يدل على ذلك من كلام الغزالي أمران :
ـ أحدهما قوله في كتاب العتق : ضمن فرع أوله : إذا اختلفا في قيمة العبد ، ومات العبد ، إذا ادّعى أي المُعتق / نقصان القيمة بسبب نقيصة 11أ طارئة ، فالأصل عدم النقص ، والأصل براءة الذمة ، فيُخرَّج على تقابل الأصلين ، وليس معنى تقابل الأصلين استحالة الترجيح ، بل يطلب الترجيح من مُدرَك آخر ، سوى استصحاب الأصول ، فإنْ تعذر ، فليس إلاّ التوقف ، أمَّـا تخيير المفتى من مناقضين ، فلا وجه له ، وقد رأيت في الحاوي حكاية التخيير وجها عن بعض الأصحاب ، وهو يحكي عن القاضي أبي بكر ، وأبي علي ، وأبي هاشم ، لكنه مستبعد عند الأصحاب ، وما قاله الغزالي قد حكاه الرافعي مُلخصا عن الإمام .
ـ والأمر الثاني قوله في كتاب الرهن : إذا أّذِن الراهن للمرتهِن في بيع الرهن ، وباع الراهن ، ورجع المرتهن فادّعى أنه رجع قبل بيعه فالأظهر أّنّ القول بأنّ الأصل عدم الرجوع ، ويعارضه أنّ الأصل عدم البيع ، فيبقى أنّ الأصل استمرار الرهن / وبسط ذلك أنّ أحد الأصلين عارضه الأصل الآخر 11ب معللا ، وبقي أصل آخر خاليا عن المعارضة ، فعمل به ، والأَوْلى أن يقال : إذا اجتمع في جانب أصلان متوافقان ، أو أصل وظاهر في جانب آخر ، تعارض ذلك أصل وظاهر فقط أن لا تعارض ، لأنّ شرط التساوي ، ولا تساوي ، ولكن يعمل بالراجح ، إذ العمل به متعين شرعا وعقلا ، وبالجملة : فكل من الأمرين يوافق قولا للشافعي ، فإنه ذكر فيما إذا تارضت بيّنة الداخل والخارج ، أنه يُقضى للداخل ، لكن هل قضي له لترجيح بيِّنة بيده ، أو لأجل أنّ بينته عارضت بيّنة الخارج فتساقطتا ، وبقيت اليد خالية عن المعارضة ، فعمل بها ، كما لو لم تكن بينة أصلا ، فيه قولان ، يظهر أثرهما في احتياج الداخل إلى اليمين ، فعلى الأوَّل لا يحتـاج ، وعلى الثاني يحتاج ، فإذا تقرر / ذلك قلنا ما نحن فيه 12 أ كذلك ، إنْ سلم ما يدعيه المنازع من كون الظاهر من الأيدي أنها موضوعة بحق ، كما وعدنا بذكره ، بعد نجاز الأدلة ، وثم يتم تقرير هذا الوجه من الدليل، إنْ شاء الله تعالى .
والوجه الرابع من الأدلة وهو الذي يظنه أكثر فقهاء الملة أنه لاينكر أنّ احتمال إحداث البيَع والكنائس بالقاهرة المحروسة بعد بنائها ممكن ، كما أنه يمكن أنْ تكون موجودة قبل ذلك ، وحينئذ فإمَّـا أن يدَّعوا أنَّ إيجادها في أمكنتها كان قبل الفتح ، أو بعده ، فإنْ كان بعده ، فذاك منقوض باتفاق من أصحابنا ، وإنْ كان قبله ، فالصحيح كما حكاه النقلة ، الذين يُرجع إلى قولهم في نقل المذاهب ، التي يجب على المقلدين العمل بها والفتوى أنّ البلاد فتحت عنوة / وحكاه شيخ الأنام ، قاضي القضاة، تقي الدين أبوالفتح محمد القشيري 12ب عن نص مالك رضي الله عنه في المدونة : وما فتح عنوة ، وكان فيه حين الفتح بيّع وكنائس ونحوهما ، لا يجوز مصالحة أهل الذمة على إقرارها بالجزية على الصحيح من الوجهين في الوجيز ، والوسيط ، والنهاية ، والمنهاج ، والمحرر ، وأنه يجب هدمها ، لأنّ المسلمين قد ملكوها بالاستيلاء ، فيمتنع جعلها كنيسة ، وعليه ينطبق نص الشافعي ـ رحمه الله ـ في الأم ، في سير الواقدي ، في الجزء الخامس عشر : فَكُلُّ بَلَدٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَأَرْضُهَا وَدَارُهَا كَدَنَانِيرِهَا وَدَرَاهِمِهَا وَهَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خَيْبَرَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ .
وباتفاق لا يجوز للإمام أنْ يترك لهم الدنانير والدراهم في معاملة عقد الذمة ، فكذا لا يجوز / أن يترك لهم الكنائس ، وقد ملكها المسلمون لأجل13 أ عقد الذمة ، ثم تركها لهم لا يجوز أنْ يكون على وجه الهبة لِما لا يخفى ، ولا على وجه المعاوضة ، لأجل عقد الذمة ، لأنّ البذل يكون منهم لا منَّـا ، فلم يبق إلاّ جعلها مرصدة لهم لأجل المصلحة ، وملك الغانمين لا يجوز أن يُعطّل عليهم ؛ لأجل وجه المصلحة ، ولهذا لمَّـا اختلف قول الشافعي في كون أراضي الفيء تكون موقوفة ن لم يختلف في أنّ ما فُتح عنوة لا يكون موقوفا ، وعمر رضي الله عنه إنما وقف أرض السواد إن قيل إنها وقف ن بعد استطابة قلوب الغانمين ، أو لاجتهاد رآه ، وهو قوله : لولا آخر المسلمين لقسمت الأراضي كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأجل ذلك ، والله أعلم .
وحكى الإمام عن طائفة من الأصحاب القطع / به ، وعلى هذا لو13ب سلم لهم وجودها قبل الفتح لوجب نزعها منهم ، إلاّ أن يتصل بالصلح المذكور حكم ممن لا يجوز نقض حكمه ، فعليهم إثباته إنْ ادّعوه وأرادوا الإبقاء .
والوجه الخامس في الاستدلال على الخصوم ، وهو عندي أظهرها وأحلاها وأعلاها وأسناها ، مع تسليم احتمال الوجود قبل الفتح وبعده ، وإنما قلت ذلك لأنه لا ينكر أنّ إمكان الحدوث لذلك بعد الفتح وقبله موجود ، وإذا كان كذلك فالموجود الآن من أهل الملتين في هذه الديار اليهود ، وأهل الزّنار لم يعقد لهم ذمة على طريق الانفراد ، كما يبتدر ذلك ذهن الحاضر والباد ، ومن لقيناه منهم يعترف بذلك ولا ينكره ، بل يدّعي لجهله أنْ ذلك يعذره ، في أنّ أوائل / أسلافهم قد عقدت لهم الذمة ممن له عقدها في الجملة .
ولنا خلاف في أنّ أولاد مَن عقدت لهم الذمة إذا بلغوا ، وصاروا 14أ من أهل أنْ تُعقد لهم ، فهل يجري عليهم حكم العقد مع آبائهم ، أم يحتاجون إلى عقد جديد ، كما احتاج إليه آباؤهم ؟ والأخير هو الذي قال الشيخ العلامة الورع الزاهد أبو إسحاق ، صاحب التنبيه أنه ظاهر نص الشافعي ـ رحمه الله ـ على خلاف ما قاله بعض المراوزة ، ومَن تبعه ، وهو من العراقيين الذين هم أقعد بنقل نصوص الشافعي من المراوزة، وقد جرى على الأخذ بظاهر النص المذكور ، منهم القاضي أبو الطيب ، والشيخ أبو حامد ، وهما شيخا العراقيين ـ رحمهم الله تعالى ـ ولا جرم ، قال البندنيجي في التعليق : وسلَّم في المجرد أنه المذهب ، وعزاه ابن الصباغ إلى نصه في الأم ، وصححه واختاره /14ب الشيخ العلامة ابن أبي عصرون ، شيخ الشام في زمانه في كتابه المسى بالمرشد ، وإذا كان كذلك فلا بدّ من عقد الذمة لهم ، حتى لو أبَوْا ذلك ، كانوا في حكم الناقضين للعهد ، كما هو مبيّن في بابه ، ولا يجوز أن تعقد لهم الذمة ، ويدخل فيها ما هو موجود من البيَع والكنائس ، التي وقع الشك والاحتمال في حدوثها قبل الفتح أو بعده ، وإذا حصل الشكّ في التّقدم على الفتح ، أو التأخّر عنه ، أو في أنّ الفتح كان بالصلح أو غيره ، لم يوجد ذلك ، فلا يجوز بسببه الإقدام على ذلك ، وهذه قاعدة مستقرة في الشرع ، أنه متى وُجِد الشكّ في شرط الشيء، لا يجوز فعله، ولا يثبت ، وقد وُجد هاهنا ، وإنْ قيل : لا نسلم أنّ القِدَم شرط ، بل الحدوث بعد الفتح هو المانع ، وقد وقع الشك / فيه 15 أ ومن القواعد المستقرة أنه إذا وقع الشك في المانع ، رتب الحكم ، فوجب أنْ يجوز العقد لهم لأجل ذلك .
قلت : عن ذلك جوابان :
أحدهما : أنّ الشيخ سيف الدين الآمدي قال : ما كان وجوده مانعا ، كان عدمه شرطا ، وحينئذ يعود ما سلف ، ويصح أن تمنع القاعدة المذكورة في أنَّـا إذا شككنا في المانع ، رتّبنا الحكم ، لأنّ الأصل عدمه .
الثاني : وهو أولاهما في ظني أنْ نقول : إنما تتم القاعدة المذكورة إذا كان المانع وجوديا ، أمَّـا إذا كان عدميا ، فالأصل العدم ، فلا يمكن أن يُنفى ، ويُقال: الأصل عدم المانع، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ الحدوث كيف قُدِّر ، قبل الفتح ، أو بعده ، طارئ على العدم ، والأصل عدم التقدم إلى الزمان الذي وقع الاتفاق على الحدوث / فيه ، فإذا امتنع جواز عقد الذمة لهم على هذه15ب البيَع والكنائس لأجل ذلك ، وهي في ديارنا لم تقرر ، لأنّ بقاءها كان لأجل حقهم ، ولا حقّ لهم فيها على هذا التقرير ، وخالف هذا ما إذا وجد عقد معهم ، وشككنا بعده في تقدم الحدوث على الفتح أو تأخره ، فإنها لا تنقض لأجل أنّ الأصل دوام العقد واستمراره ، فلا يُزال بالشك ، وهذا على رأي لبعض الأصحاب ، بناء على ما إذا اختلف المتبايعان في شرط يُفسد العقد بعد وجوده ، أنّ القول قول مَن يدّعي الصحة ، وهو أحد القولين في المسألة ، والقول الآخر أنّ القول قول مَن يدّعي الفساد ، وعلى هذا لا يختلف الحال فيما نحن فيه بين ما قبل العقد وبعده ، ومما يتأيّد به الأول ، أنّ التي انقضت عدّتها في الظاهر إذا وجِدت رِيبة بالحمل قبل التزويج، هل يجب / لها النكاح أم لا ؟ فيه قولان16أ ، ولو حصلت الريبة في ابتداء العدة لم يحل النكاح قولا واحدا ، وكذا يؤيده قول الغزالي في كتاب النكاح : إنّ مَن بلغ رشيدا ، ثم سَفِه في الدِّين فقط ، لا يعود الحَجر عليه بنفسه اتفاقا ، ولو سفه بعده في المال فقط ، ففي عوده بنفسه خلاف ، ولو قارب واحد منهما البلوغ ، لم يرتفع الحجر ، ودام ، وفرق بأنه في هذه الحالة ثبت الحَجر بيقين ، فلا يرتفع بالشك في الرشد ، فإنّ اتصال الفسق بالبلوغ يوجب الشك فيه، وإذا ارتفع بيقين، لم يعد أيضا بالشك ، بسبب الفسق ، والله أعلم .
هذا تمام ذِكر ما حضرني من الأدلة على ما يخالف دعوى أهل المسكنة والذِّلة ، والأخير منها والذي يليه ، يقتضي تعميم الحكم في كل كنيسة وبيعة ، ونحو ذلك من مُتعبَّدات أهل التابين ، مما وقع الشك فيه، هل /كان موجودا16ب في الديار المصرية قبل الفح أو بعده ، فليُتأمَّل ذلك مَن سدَّد الله قصده ، وألهمه رشده ، ولا يجري ذلك فيما تحقق وجوده قبل الفتح ، أو اشتهر لأجل تقريره ممن سلف من الخلفاء الراشدين .
وقد آن لنا ذكر ما تقدم الوعد به من سؤال ، هو عمدة مَن قام في نُصرتهم من أهل الإسلام ، وفاء بما التزم لهم من الأمان ، فنقول : فإنْ قيل : احتمال الحدوث بعد الفتح أو قبله لا ينكر ، وكذا احتمال كون البلاد فُتحت صلحا أو عنوة لا ينكر ، وعى تقدير أن تكون قد فُتحت صلحا ، وكانت البيَع والكنائس إذ ذاك بهذا المكان موجودة ، ووقع الصلح عليها ، فلا يجوز هدمها ، وعلى تقدير خلافه ، ينعكس الحكم ، فقد دار الأمر بين احتمالين : أحدهما يقتضي الهدم ، واخر يقتضي الإبقاء ، وجهل الحال ، والظاهر فيما دار بين احتمال الجواز / وهو كونه وضع بحق ، واحتمال عدم الجواز، وهو كونه وضع 17 أ عدوانا ، أنه يُحمل على أنه وضع بحق ، وشاهد ذلك من قول الأصحاب دعواهم أنه إذا أُضيفت جذوع على حائط ، وجُهل الحال في وضعها ، لا يزال حملا لها على أنها وضعت بحق ، ويؤيد ذلك أيضا أنه إذا قال صاحب الدَّابة لشخص: غصبتها ، وقال منازعه : لا إنك أعرتنيها ، كان القول قوله في عدم الغصب ، لأنّ الظاهر من البدء أنها بحق ، ومُدَّعي الغصب يدّعي خلاف الظاهر ، وقد نقل المزني ذلك عن نص الشافعي ـ رحمه الله ـ وهو في الأم ، وكيف يقال بأنّ ذلك يهدم، وبلدة البصرة بلدة إسلامية، خُطّت في زمان عمرـ رضي الله عنه ـ سنة سبع عشرة من الهجرة، على يد عُتبة بن غزوان ، وقد ذكر في الحاوي أنّ ما يوجد فيها من كنائس لا يُنقض ، لاحتمال أنها / كانت في قرية أو 17 ب برِّيَّة ، فاتّصلت بها عِمارات المسلمين ، فإنْ عُرِف إحداث شيء منها بعد بناءالمسلمين وعماراتهم نُقِض .
وطريق الجواب عن ذلك أن نقول : ما ذكرناه من الدليل الرابع والخامس يدفع السؤال من أصله ، أمَّـا الرابع فلأجل أنه مفرع على أنّ الديار المصرية فتحت عنوة، والبصرة كما قال الماوردي للشيخ أبي حامد حين سأله : هل هي من سواد العراق : أُنشئت في موات أحياه المسلمون، وحينئذ فما كان به البيَع والكنائس ، التي قُدِّر اتصالها بها لا يخلو إمَّـا أن يكون فُتح صلحا ، أو عنوة ، فإنْ كان صلحا ، ظهر الفرق بينه وبين ما نحن فيه ، لأنّ ما قدر أنه كان يجاورها حين أُنشئت كان يجوز تقريره ؛ بناء على أنّ ما فُتح صلحا ، يجوز تقرير ما به من الكنائس ، فأمكن / احتمال تقريره ، ولا كذلك ما 18أ نحن فيه ، فإنّ ما به من الكنائس الآن ، على تقدير أن يكون موجودا حين الفتح ، لا يجوز تقريره على الأصح ؛ بناء على أنّ ما فُتح عنوة ، وبه كنائس ، لا يجوز تقريرها ، فإنّ المسلمين ملكوها بالفتح ، وإنْ كان الموضع المضاف إلى البصرة فُتح أيضا عنوة ، فلعل ما ذكره الماوردي من التأويل بناه على ما ادّعى أنه الصحيح من أنّ البلاد إذا فتحت عنوة ، وبها كنائس ، يجوز تقريرها ، فإنه إذا كان كذلك ، تمَّ له ذلك ، وقد رأيتُ ذلك مُصرحا به في تعليق البندنيجي ، حيث قال : إذا كان في البلاد التي أنشأها المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد بيعة أو كنيسة ، نظر الإمام في ذلك ، فإنْ كان مُحدثا قلعه وأبطله ، وما لم يُعرف سببه أقرّه ؛ لجواز أنْ يكون رسْمه قبل / إحداث هذه البلاد ، فإن18 ب قيل : فهذه المواضع كلها فُتحت عنوة ، ومَلَكها المسلمون ، فكيف شاع إقرارهم في كنائهم فيما فتحه المسلمون عنوة ؟!
قلنا : يجوز ذلك على أحد الوجهين ، فإنّ ما فتحه المسلمون عنوة ، وكان فيه بيَع عامرة ، وكنائس موجودة قائمة ، فيها وجهان :
أحدهما : يجوز أنْ يُصالحهم على إقرارها لهم ، وعلى هذا تُحمل بيَع العراق .
والثاني : لا يجوز ؛ لأنه ملكه المسلمون فلا يُصالحهم على أنْ يجعلوا أملاك المسلمين بيعا وكنائس، هذا آخر كلامه ، وهو صريح فيما ذكرناه ، وإذا بان الصحيح في المذهب ، كما ذكره الرافعي ومَن تبعه ، والغزالي في الوجيز ، وغيره أيضا ، أنه لا يجوز تقرير كنيسة فيما فُتح عنوة ، ظهر منه أن تقرير الكنائس في العراق على خلاف الصحيح عندهم ، وكذلك في البصرة ، فلا يُحتجُّ به علينا .
/ على أنّي أقول من نفس كلام الماوردي في البصرة : يمكن أنْ 19أ يوجد فرق بينها ، و بين ما نحن فيه ، وذلك أنه جعل احتمال اتصال العمارة الحادثة ، بما كان خارجا عنها ، هو المسوغ للتقرير ، واحتمال الاتصال هاهنا غير ممكن ، لأنّ السور الذي بناه المعز مانع من ذلك ، فلم يبق إلاّ احتمال الوجود في حالة الإنشاء ، وأنه دام كما يدعيه بعض المعاندين ، وقد ذكرنا أنّ ظاهر الحال يرده ويأباه ، ولا كذلك احتمال اتصال العمارة في البصرة بما كان فيه البيَع ونحوها ، فإنه لا ظاهر يخالفه ، فجاز أنْ يوفر على احتمال مقتضاه ، وبسْط ذلك أنَّـا نقول : المستدل يزعم أنّ الأمر إذا جُهل كان الظاهر أنه بحق كما سلف تقريره ، ونحن نُسلِّم له ذاك ، ونقول : لكن تقدير إنشاء القاهرة والكنائس والبيَع حالة فيها خلاف الظاهر / كما أسلفناه أيضا ، وحينئذ فقد19 ب تعارض في التقرير وعدمه فيها ظاهران على التقابل ، والأصل عدم الوجود في الزمن الماضي ، فاعتضد به أحد الظاهرين ، وهو الذي يقتضي عدم التقرير ، فقدم، ومثل هذا لا يجوز أنْ يقال في البصرة، بل الموجود فيها أصل من جانب ، وظاهر من آخر ، فعمل بالظاهر ، ما هو أحد الرأيين كما تقدم ، وهذا ما قدمت الوعد به عند ذكر الدليل الثالث .
فإن قلت لا نسلِّم أنّ الموجود فيما نحن فيه ظاهر مجرد ، بل نقول معه أصل أيضا ، وهو كون الأصل بقاء ما كان من غير تجدد ، وحينئذ يكون قد وُجد في كل جانب أصل وظاهر ، فلا ترجيح .
قلت : الأصل الذي يتسك به المعترض طارئٍ باتفاق على الأصل الذي تمسكنا به ، فإنّ الإنشاء طارئ على العدم ، وإذا كان كذلك ، عـاد الأمـر إلى / ما قلناه ، والله أعلم . 20أ
وأمَّـا دفع الدليل الخامس للسؤال فجليّ ، فإنْ قلتَ : قضيته تطرد في البصرة ونحوها .
قلتُ : يجوز أنْ يقال لا ، لأجل أنَّ عبد الرحمن بن غنم نقل ما يفهم أنّ عهْدَ عمر رضي الله عنه شمل أولادهم ، ومثل ذلك لم يرد في بلادنا ، والأصل عدم ذلك ، فبني الأمر عليه ، وعلى تقدير أن يقال : لا نُسلِّم أنّ عهد عمر رضي الله عنه شمل أولادهم ، فالتخريج الأصح فيما جُهل حاله من أماكن البصرة التي وجد فيها البيَع والكنائس ، هل كان مما أحياه المسلمون حين أنشأوا البصرة أم لا ؟ وحيث لم يقل بذلك صاحب الحاوي ، ولم ينقله ، فلعله لم يخطر له إذ ذاك المأخذ المذكور ، أو خطر له ، لكنه لم يفرِّع عليه ، لأنه يرى أنّ إيجاب تجديد العقد للأولاد خطأ ، كما صرح به، فلذلك لم يفرِّع عليه، ومادة ما ذكرناه /20 ب من التخريج إنما هي إيجاب تجديد العقد ، كما أسلفناه ، فإن قيل : ما قال الماوردي أنه خطأ كلام المراوزة ، قد تقتضي موافقته ، إذ قالوا : إنّ الصحيح أنه لا يحتاج إلى استئناف عقد مع الأولاد ، بل يجري عليهم حكم أبيهم ، وادّعوا أنه ظاهر النص ، كما أشرتُ إليه من قبل ، وإنْ كان الإمام قد قال : إنّ خلافه القياس ، وإذا كان كذلك ، فمذهب المراوزة ، يمنع ما استحسنه من الأدلة .
قلتُ حينئذ أقول : يترتب من هذا ، ومما سلف ، اتّفاق أهل العراق والمرازة على عدم التقرير ، وإنْ اختلفوا في المأخذ ، وإنما قلت ذلك ، لأنّ الصحيح عند العراقيين كما حكوه عن صريح نص الشافعي في الأم ، على أنه لا بدّ من تجديد عقد الأولاد ، وهو كما قررناه ، يقتضي عدم تقرير الكنائس /21أ وإن خالفهم المراوزة في التقرير بهذا السبب ، لكن المراوزة يقولون : الصحيح أنّ البلاد إذا فتحت عنوة ، لا يجوز أنْ يقرر ما بها من الكنائس ونحوها ، وقضية ذلك أن لا يجوز التقرير لذلك بهذه الديار ، وبذلك يصح ما قلناه ، والله أعلم .
وأمَّـا الجواب عن السؤال المعتضد بمسألة الجذوع والدّابة ، على تقدير فقد كل من الدليلين ، أعني الرابع والخامس ، فهو بإبداء الفرق بين ما نحن فيه وذلك ، فنقول إنما أقرّ بالجذوع لأمرين :
أحدهما : كون الظاهر أنها وضعت بحق ولا يستلزم ذلك مخالفة أصل آخر، وهو اثبات استحقاق الوضع، أو وجوده في زمن متقدم ، وقع النزاع فيه ، ولا كذلك ما نحن فيه ، فإنَّـا لو حملنا ذلك على أنه لو وضع بحق ، لاستلزم مخـالفة الأصل المـذكو، وشرط / العلة في الفرع أن لا تنقص عن العلة21 ب في الأصل ، وقد نقصت ، لأنَّ استلزام ذلك إلى وجود في الماضي ، والأصل عدمه ، لضعف الظهور المذكور .
والأمر الثاني أنّ الجذوع إذا حملت على أنها وُضعت بحق ، فالأمر فيها سهل ، لأنها لم تفوَّت عى صاحب الجدار انتفاعا به أحفاد ، ولهذا أُجبر على وضعها على القول القديم ، وجازت المصالحة عليها من غير تقدير مدة ، مع قولنا إنها إجارة ، وجازت على غير عين ، مع قولنا إنها بَيع ، ولا كذلك ما نحن فيه ، فإنّ المفوّت بالتقرير أمكنه مقصوده لعينها ، فجاز أنْ لا يكتفي في استحقاقها بمجرد الظهور .
وأيضا فمسألة الجذوع مفروضة فيما إذا لم يدعِ صاحبها أن صاحب الجدار أذن له في وضعها بل ادّعى استحقاق الوضع ، وجُهل / الحال 22 أ حتى لو قال صاحب الحائط : أنتَ أذِنْتَ لي ، أو صالحتني عليها ، وقال له : بل غصبتني ، فتشبه أن تكون كمثل دعوى غصب الدابة ، ومَن هي في يده يدّعي إعارتها ، وإذا كان كذلك ، فارقت مسألة الجذوع ما نحن فيه ، لأنّ المعاندين يزعمون أنَّـا صالحناهم على إبقاء الكنائس المذكورة ، وبذلك يقال ومسألة الجذوع ، حيث يقال إنّ الظاهر فيها أنها وضعت بحق .
فإنْ قيل : هذا لايقطع الإلحاق ، لأنّ ما نحن فيه يصير كما قلت شبيها بما إذا قال صاحب الجذوع : أعرتني أو صالحتني ، وقال صاحب الجدار : بل غصبتني ، وإنّ ذلك يُشبه أنْ يكون كدعوى غصب الدَّابة ، وقد سلف في تقرير السؤال أنّ نص الشافعي في دعوى غصب الدابّة: إنَّ القول قول مُدَّعي العارية ، وقضية ذلك أنْ يكون القول قول المعاندين .
قلتُ : الإلزام صحيح ، لكنّ النصّ في مسألة / الدابَّة قد قال 22 ب بعض الأصحاب إنّ المزني غلط فيه ، وقطع بأنّ القول قول المالك ، وهذا ما صححه ابن الصباغ ، وكذا القاضي أبو الطيب في آخر باب الإجارة ، لكنه حكى إنّ الربيع قال، حيث حكى ما نقله المزني إنه مرجوع عنه لأجل ذلك،والله أعلم.
قال الغزالي إنّ هذا الطريق هو الذي عليه أكثر الأصحاب ، وإنه الأولى وبذلك يتم الجواب ، والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، والمرجو إذ ذاك لخفيف الحساب ، وإعطاء جزيل الثواب ، والمسامحة في موقف العتاب ، عند نشر الكتاب ثمَّة ، ورحمته ، إنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وكان الفراغ من تأليف ذلك وتبييضه في النسخة التي بخط المصنف ، أمتع الله ببقائه ، وأفاض عليه/ سوابغ نعمائه ، في اليوم المبارك ، يوم23 الأحد ، بعد صلاة الظهر، السادس والعشرين من شعبان المبارك سنة سبعمائة .
الحمد لله وحده ، وصلواته على سيدنا
ونبينا محمد النبي ، وعلى آله ،
ورضوانه على أصحابه
الطـاهـرين
والتابعين

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك