الشعر في ظلال الحروب الصليبية
الشعر في ظلال الحروب الصليبية
بقلم: د. أحمد فوزي الهيب
تحدث البحث عن اسم الحروب الصليبية الذي أطلقه الغرب عليها، وفضّل الاسم الذي أطلقه أجدادنا عليها، وهو حروب الفرنج، لأن الدين الحق منها براء وإن تسترت به، إذ إنها ليست سوى حرب وحشية تحمل مشروعًا استعماريًا استيطانيًا، أساءت على حد سواء إلى المسيحيين البيزنطيين والمسيحيين العرب قبلما ومثلما أساءت إلى المسلمين من عرب وأتراك وأكراد.
ولقد ساعد على نجاحها غير المتوقع، والذي لم تكن هي تتوقعه حالةُ الضعف والتفكك والاختلاف والاقتتال التي كانت سائدة بين المسلمين، ولكن سرعان ما تنادى علماء المسلمين وأدباؤهم وشعراؤهم وبعض ملوكهم وقادتهم منبهين لبذل كل ما يستطاع من جهد لإيقاظ الأمة وتوعيتها وتنبيهها على الخطر الحقيقي للمشروع الاستعماري الاستيطاني الفرنجي بكل أبعاده، فصحتْ الأمة من غفوتها واستنفرت جميع طاقاتها، وقابلت هذا المشروع الفرنجي بمشروع معادل وموازٍ له استطاع أن يقف أمامه ويكون ندًّا له، وقد قاده بجدارة ونبل وشجاعة عماد الدين محمود زنكي وابنه نور الدين محمود ثم صلاح الدين الأيوبي الذي استطاع أن يحرر القدس مستفيدًا من جهود سابقيه، وقد ضرب هؤلاء القادة العظام ورجالاتهم وبعض سلاطين المماليك مثل بيبرس وقلاوون وابنه خليل أسمى أمثلة الإخلاص والنبل والبطولة، وجسّدوا القيم النبيلة في الحضارة العربية الإسلامية، ووضحوا في الحرب والسلم والانتصار والانكسار التباين الكبير بين حضارتنا المستمدة من السماء ومدنيتهم المستمدة من الوثنية اليونانية والرومانية.
ومن البديهي ألّا يكون الشعراء في منأى عن أحداث هذه الحروب، مذ دنس مجرموها أرضنا الطاهرة بجيوشهم ووحشيتهم واحتلالهم، حتى تمّ تطهير آخر مدينة عربية إسلامية من رجسهم، فقد جاؤوا من كثير من البلاد العربية والإسلامية ليلبوا دعوة الجهاد ويأخذوا مواقعهم المناسبة لهم في ساح الجهاد، وليواكبوا خطوات المشروع التحريري التوحيدي النهضوي الزنكي الصلاحي بكل ما أوتوا من بيان وقوة، فكانوا في كل حدث من أحداثها ومعه، وكأننا بهم قد أرادوا بذلك أن يجاهدوا باللسان كما جاهد الجند بالسنان، وأن يكونوا ضمير الأمة النقي وعاطفتها المتوقدة الأبية، وقد أدرك السلاطين والملوك والوزراء وغيرهم من المسؤولين قوة دور الشعراء، كما الأدباء، في معارك التحرير فقربوهم، وغالى بعضهم في ذلك فقدم بعضهم على الرؤساء والقادة، كما هيؤوا لهم الأجواء المناسبة وشجعوهم استماعًا واستنشادًا ورعاية وعناية وحفظًا لأشعارهم، وذلك لأنهم – أي الزنكيون والأيوبيون ثم المماليك - رغم جذورهم غير العربية، قد تعربوا واتخذوا العربية لسانًا ولغة لهم بعامة، ولدواوينهم ومراسلاتهم بخاصة، وحثوا أقاربهم على تعلمها والتأدب بآدابها، واستطاع كثير من الأيوبيين أن يقول الشعر وأن يكون له ديوان خاص به من نظمه، وكذلك كانوا قد استظلوا براية الخلافة العباسية ولو اسميًّا، وأبقوا عواصمهم في الشام أو مصر، الأمر الذي جعلهم يقفون من الآداب والشعر العربيين هذا الموقف الإيجابي الجميل المتميز الذي يذكّر بموقف كثير من خلفاء بني أمية وبني العباس من الشعر والشعراء، مما أثّر على الشعراء والأدباء ونتاجهم العربي تأثيرًا إيجابيًّا، وجعلهم يقومون بواجبهم خير قيام، شأنهم في ذلك شأن غالبية العرب والمسلمين من رجالات السياسة والسيف والقلم ومن العامة أيضًا، ولم يبغِ أكثرهم من وراء ذلك إلا مرضاة الله وتحرير القدس وغيرها من الأراضي السليبة.
وفي الحقيقة قال الشعراء زمن حروب الفرنج شعرًا كثيرًا جدًا في جميع أغراض الشعر، ولكن الذي يعنينا في هذا البحث هو الشعر الذي قيل في الأحداث المتصلة اتصالًا وثيقًا بتلك الحروب، وهو كثير أيضًا كثرة عجيبة لافتة للنظر، وكثيرٌ قائلوه وفئاتهم وانتماءاتهم، ونعتقد أن من الواجب اللازب، ومن المفيد أيضًا، أن يُجمَع رغم كثرته من بطون المصادر المتنوعة بصورة علمية دقيقة، لأنه وثيقة تاريخية مهمة، لا يمكن للمؤرخ الاستغناء عنها، إذ يؤكد ما جاء في كتب التاريخ ويوضحه ويكمله، وكذلك حتى يتمكن مؤرخو الأدب والنقاد من دراسته دراسة فنية كما فعلوا مع غيره، لأننا نعتقد أنه لم يُكتب له ولا لشعرائه الشيوع على الألسنة رغم أهميته وأهمية الأحداث التي ارتبط بها وارتبطت به من جهة، ولأنه بحاجة ماسة إلى المزيد من الدراسات العلمية الجادة من جهة أخرى، هذا مع تقديرنا لجميع الدراسات القيمة الرائدة السابقة التي قامت حوله.
وقد أدى هذا الشعر دوره على أكمل وجه في حروب الفرنجة، فنبّه على الأخطار، ودعا إلى الجهاد وتوحيد البلاد وتحريرها، ومدح القادة ورجالاتهم وجندهم في انتصاراتهم، وشدَّ من أزرهم عند تعثرهم، ورثاهم عند موتهم، وربط بينهم وبين كبار أعلام الإسلام مثل عمر بن الخطاب وغيره، ووصف المعارك وأسلحتها، وقارن بينها وبين معارك المسلمين الكبرى مثل بدر وعمورية وغيرهما، وكأنه أراد بذلك التذكير بالوشائج التي تربط بين حاضر الأمة المهدد بالأخطار وماضيها المجيد القوي، وأن يستثير العواطف في النفوس لتنطلق طاقاتها الكامنة من عقالها، كما وصف الشعر المدن والحصون ومناعتها وغيرها، وهجا المتقاعسين عن الجهاد والفرنجة ووصف مثالبهم، كما اتسم بالجدية والالتزام ووضوح الهدف ونبل الغاية وبالواقعية، وكان كثير منه صادقًا لا يبتغي إزاء ذلك جزاء ولا شكورًا، وإنما كان يقوم بواجبه خير قيام، لأنه لم يَعُدَّ نفسه طرفًا ثالثًا في هذه المعارك، بل غدا فيها أحد طرفيها الاثنين في الصراع على الحق وعلى الوجود، الأمر الذي خصّه بسمات خاصة تميزه عمّا سواه، وتجعله واسطة العقد في جيد الشعر العربي في تلك العصور، بل وفي جميع العصور.
ومع ذلك، هل استطاع هذا الشعر- على ما فيه من إجادة وعظمة - أن يؤدي حق نور عماد الدين أو نور الدين أو صلاح الدين كاملًا كما أدّاه شعر أبي تمام في المعتصم وشعر المتنبي في سيف الدولة وغيرهما؟ إنه لم يستطع، وأنّى له أجنحة قوية طويلة محلقة كجناحي الطائي وأبي الطيب وأمثالهما ! كما أنّى له أيضًا أن يستطيع التحليق للوصول إلى سماوات تلك القمم الشامخة التي تربع على عرشها عماد الدين أو نور الدين أو صلاح الدين! ولكنه مع ذلك يكفيه فخرًا وشرفًا أنه حاول ذلك باذلًا قصارى جهده، واستطاع أن يعي واجبه في المشروع التحريري التوحيدي النهضوي وأن يؤديه خير أداء، وبخاصة إذا نظرنا إليه وقوّمناه في ضوء قيم عصره الفنية. وليست مجاراته في كثير من الأحيان لبعض قصائد أبي تمام أو المتنبي أو غيرهما شكلًا من أشكال التقليد فحسب، وإنما هي نوع من أنواع العود إلى عصور القوة في التاريخ العربي الإسلامي ليستمد منها ما يزيد به الحماسة الإسلامية اتقادًا، وليرفع الروح المعنوية التي لا بد منها لاستنهاض الهمم حتى تستطيع التصدي لتلك الهجمة الفرنجية الشرسة غير المبررة، وقد استعان لذلك بالإكثار من الألفاظ والتراكيب القوية الرنانة الفخمة والقوافي المتمكنة والبحور الطويلة كالطويل والبسيط والكامل بعامة والقصائد الكثيرة الأبيات التي تجاوز بعضها المائتين، وذلك ليحاكي ما في المعارك من قعقعة السلاح وصياح المقاتلين وتحمحم الخيل وليؤدي حقَّ ذلك كاملًا من وجهة نظره، ولا تضيره في ذلك عنايته بالصنعة التي كانت سائدة آنذاك، وغلبة النزعة الاتباعية عليه، وذلك لأن الشاعر – كما قال طه حسين - ليس شاعرًا لأنه يقول فيحسن، وإنما هو شاعر لأن قوله الحسن هذا يمثل عواطف الذين يسمعونه ويقرؤونه، ويرضيهم ويقع من نفوسهم موقع الإعجاب، فلم يُرْضِ البيتُ من الشعر الإنسانَ إلا لأنه يوافق هوى في نفسه، ويلائم عاطفة من عواطفه، ويرضي حاجة من حاجاته إلى الجمال.
د. أحمد فوزي الهيب ـ أستاذ جامعي وباحث عربي سوري
* ملخص البحث الذي قدمه الباحث في ملتقى "الشعر من أجل التعايش السلمي" الذي نظمته مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في دبي 16 ـ 18 أكتوبر/تشرين الأول 2011.
المصدر: http://www.albabtainprize.org/default.aspx?pageId=153&nid=4688