الحوار مع الآخر.. خدعة عصرية
الحوار مع الآخر.. خدعة عصرية
لا أتكلم عن الحوار داخل الصف الإسلامي -مع إنه غير موجود على أرض الواقع-، وإنما أتكلم عن الحوار مع (الآخر) الذي لا يدين دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب.
يتداعى لهذا الحوار ثلة من المفكرين، الذين يرفعون شعارات (العقلانية)، ويلبسون حُلَّة التفكير، وقد دارت منه جولات منذ بدأ في نهاية القرن التاسع عشر في لبنان على يد محمد عبده، بالتعاون مع عدد من القساوسة والأحبار، بعد قرن أو يزيد من الزمن على بدء هذا الحوار بين الثقافات أو الحضارات -كما يسمونه - يتبين لكل متدبر أنها خدعة عصرية وقع في شراكها كثير من العقلانيين، وأرى نفراً من الشرعيين ينزلقون.
ويتضح ذلك من أمور:
أولا: مادة الحوار:
مادة الحوار هي ثوابت الإسلام، مثل: الجهاد.. جهاد دفع أم جهاد طلب؟ والكافر الذي يعيش في بلاد المسلمين.. مواطن من الدرجة الأولى أم ذمي يتقيد بقيود؟ والمرأة في الإسلام.. ما بالها ترث النصف وتُؤمر بالجلوس في البيت ويُنكح عليها؟
ولم نسمع مرة أن نفراً بل أحداً ممن جلسوا أو كتبوا في هذه الحوارات طرح ثوابت النصرانية للنقاش، كالتثليث، والفداء، وعبادة (طاعة) الأحبار والرهبان من دون الله، والكفر بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، بل جملة الطرح دفاعي تسويغي، يُذكرك بجلسات التحقيق بين مجرم مذنب وبريء مجني عليه. ويحتجون علينا بأننا أمرنا بمحاورة أهل الكتاب ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وهو بترٌ للنص، وخروجٌ عن السياق القولي الفعلي للدعوة الإسلامية.
الآية تقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] فهنا حديث عن دعوة (الآخر) إلى الإيمان بالله ورسوله، وسياق الدعوة الفعلي والقولي يُبين أن طريقة الحوار التي أدارها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع (الآخر) كانت دعوة إلى الإسلام ليس إلا {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] ولم تكن يوما نَبْشاً عن نقاط الاتفاق للالتقاء عليها، من باب خدمة الإنسانية والحملة على الفساد، لم يفعل هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستضعف في مكة. فهو وإن استفاد من أعراف الجاهلية، إلا أنه ظل ينبذها ويصفها بما هي أهله.. يحافظ على الصورة الصحيحة للجاهلية في حس مريديه.
ثانياً: خصوصية الإسلام:
من المسلم به أن الإسلام له شمولية تطال كل الأشياء {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية 38]، وله خصوصية تامة في الحكم على الأشياء بالصحة أو الفساد. وله خصوصية في معالجة القضايا، فمن أين نأتي بتوصيف مشترك للفساد؟! وتدبر: "في الجاهلية الأولى كان المال دولة بين الأغنياء.. قِلَّة غنية وكَثرة بالكاد تجد قوت يومها، وفي الجاهلية الأولى كانت الحروب تأكل الرجال على ناقة أو لأن فرسا سبقت أختها، وفي الجاهلية الأولى كان الزنا وكانت الخمر وكان وأد البنات وبيع الأحرار. وكان الشرك الأكبر (شرك النسك وشرك الطاعة) ولم تخل الجاهلية من المصلحين، الذين يسعون في إصلاح ذات البين لحقن الدماء ورفع الظلم عن الضعفاء. وحين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يضع يده في يد أحد من هؤلاء".
بكلمات أخر:
رغم أن الدعوة الإسلامية كانت تدعوا لمثل ما كان يدعو إليه المصلحون من مكارم الأخلاق إلا أنها لم تضع يدها في يد أحد من هؤلاء. ذلك لأنه وإن اتحدت الأهداف فإن المنطلقات متغايرة. فهؤلاء دوافعهم شتى.. تدفعهم المروءة ويدفعهم الثناء الحسن ويدفعهم عرف الآباء، أما المسلمون فيدفعهم طاعة الله ورسوله - ولا ينبغي أن يكون لهم دافع غير ذلك-، وهؤلاء تقف أهدافهم عند إصلاح الدنيا والمسلمون يصلحون الدنيا للآخرة، وشتان!
ثالثاً: مَن يتحاورون:
الملاحظ أن الحوار يكون مع رجال الدين، ومع المنظّرين للكفر والإلحاد، وهؤلاء هم الملأ، وهؤلاء هم الذين يفتعلون الشبهات حول الإسلام ونبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، وهم الذي يقولون على الله الكذب وهم يعلمون، وهم الذين يعرفون الكتاب كما يعرفون أبناءهم، وغني عن الذكر أن كفر هذا الفصيل من الكافرين ليس جهلاً، وكيف وهم يدرسون الإسلام عشرات السنيين، وإنما عناداُ واستكباراُ.
والسؤال: لماذا لا يكون الحوار مع جميع النصارى.. عامتهم وخاصتهم، وهو الصحيح المفهوم من معنى الدعوة في الإسلام. يكون عوام الناس هم المستهدفون بالحوار. يفتحوا لنا قنوات للعرض الإسلام على عوامهم وخواصهم سواء. ومن يتدبر في تشريع الجهاد في الإسلام يجد أنه يستهدف إزالة الحواجز التي تحيل دون محاورة عوام الناس، أو بالأدق دعوتهم للإسلام، وهذه الحواجز ليست إلا الملأ الذين استكبروا في الأرض بغير الحق من أرباب السلطان والمفكرين، هم هم بأم أعينهم من نُدعى للحوار معهم اليوم!
ومن يتدبر يجد أن عامة الناس تبع لهؤلاء يُنصتون لهم ويسيرون خلفهم، ويصدقونهم في كذبهم، ولا ينفكون عنهم إلا حين يستأصلهم الجهاد. نعم هناك حالات خيِّرة منصفة تنطق بالحق وتريد الخير، ولكنها ليست فاعلة، لا تأثير لها على مجريات الأحداث في بلاد الكفر وتبقى الحالات الخيِّرة فردية لا تقدم ولا تأخر، وليست هي التي ندعى للحوار معها.
كما أن ثمرة الحوار التي يتذرع بها من يسيغ الحوار مع (الآخر) لا تأتي إلا من بث مفاهيم الإسلام وتصوراته داخل صفوف الكافرين الخلفية، أعني عوام الناس، ولا سبيل للوصول لهؤلاء وعلى رأسهم هؤلاء الذين يكتمون الحق وهم يعلمون، ومن له أدنى إطلاع على حال الناس في الغرب الكافر أو الشرق الملحد يعرف أن من يقرأ منهم عن الإسلام إنما يقرأ من كتابات قومه ومفكريه، ويَنظر إلينا من عل.
ولا سبيل للوصول لهؤلاء إلا في المناسبات أو الأحداث الجسام كحادث (سب النبي صلى الله عليه وسلم). وقد أهدرنا الفرصة ووأدناها قبل أن تمشي على قدميها. وجاءت أختها في إثرها فلم نلتفت إليها!
رابعا: استُخدم الحوار بهذه الطريقة في إعطاء شرعية للنصرانية:
فمن الملاحظ أن (الآخر) يحرص أشد الحرص على أن ينتزع من المسلمين اعترافا بالنصرانية، ويعترف المتحاور الإسلامي ويخلط بين الاعتراف بالوجود والاعتراف بالشرعية، ويضع هذا مكان ذلك، والقوم يسوِّقون هذا الاعتراف في المناطق التي يمارسون فيها التنصير، فيتكلمون إلى من ينصرونهم بأن الإسلام يعترف بنا ولا يتنكر لنا، وهذا فلان وفلان من (علماء) الإسلام يتكلم بهذا الكلام. واستشهاد النصارى بهذا الأمر كثير جداً، ومن يحاورهم في غرف (البالتوك) أو في الواقع أو ينصت لحواراتهم يجد من هذا الكثير.
خامساً: يُستخدم هذا الأمر في إقصاء بعض أفراد الصحوة الإسلامية:
ووصفهم بالتشدد والرجعية والجمود والتطرف...إلخ. وأنهم مفرطون خارجون على علمائهم. أليست المآلات معتبرة شرعاً؟! فلم يتغافل العقلانيون عن هذا؟! إن الحوار بهذه الطريقة في وقت التحمت فيه الصفوف في أكثر من مكان على أرض المسلمين، وانحاز فيه مفكرو الغرب إلى السلاطين وراحوا يدعمونهم ويَؤُذونهم بيانات ومقالات وأبحاث تفيد بحتمية صراع الحضارات وضرورة إنشاء (الإسلام المدني الديمقراطي... إلخ)، وفي وقت بدأت فيه رماح الكفر تتكسر أمر لم يعد يُقبل بحال، فآثاره تأتي على غير طرفيه، ويحرم أن يتعاقد رجلان على ما يضار به غيرهم.
أخيراً:
نحن بحاجة إلى حوار إسلامي يبحث عن تفعيل أكثر للصحوة الإسلامية، والاستفادة من طاقاتها، والخروج من حالة التأرجح في المكان، ويلقي (كلمة في وحدة الكلمة) بين أبناء الملة وأهل القبلة ممن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا كما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وامتثله أصحابه رضوان الله عليهم.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/9895/#ixzz1boUs77oG