الوظيفة الكونية والحضارية للعقل في الإسلام
الوظيفة الكونية والحضارية للعقل في الإسلام
د. محمود حسن محمد
لم يخلق الله الإنسان ليعيش فى الكون بدون تفكير أو تدبير أو تخطيط؛ بل منحَه العقل الذي يستغلُّه، ويوظِّفه كقيمة حقيقية، تساعد في الحركة والسير والنَّشاط والفعل، وتفتح له آفاق البحث والمعرفة والتعلم، فلا تضيع مواهبُه الإنسانيَّة، أو تضعف قوَّته الإدراكيَّة، فيقع في الهلاك والخسران.
وعندما تُريد الحضارات أن تتقدم وتعلو وتثبت مكانتها في التاريخ الإنساني، فإنَّها تجعل من عقول أبنائِها طريقًا للإبْداع وصناعة الحياة وبناء النهوض، فالعقْل المفكِّر هو أداة التَّميُّز الإنساني.
يطلق العقل في اللغة على عدَّة معانٍ، منها: الحجْر والنَّهي، وهو ضدّ الحمق، ومنها الفهم والتمييز وغيرها، وهذه المعاني كلُّها مجتمعة تدلُّ على أنَّ العقل، في مفهوم العرب، هو العاصم الذي يعصم الإنسان - بعد توفيق الله وهدايته - من الطَّيش والحمق والتسرُّع في الأمور دون رويَّة وأناة، وذلك بِما يُضيفُه عليه ذلك العقْل من الوعي والإدراك، الأمر الذي يقيه مَخاطر الزَّلل، قال الراغب: "العقل: يقال للقوَّة المتهيِّئة لقبول العلم، ويقال للذي يَستنبِطه الإنسان بتلك القوَّة: عقل"[1].
وقد ذكر الماوردي عدَّة تعريفات للعقل، ورجَّح من بينها ما يلي، فقال: "إنَّ العَقْلَ هُوَ العِلْمُ بِالمُدْرَكَاتِ الضَّرُوريَّة، وذلك نوعان، أحدُهما: ما وقع عن دَرَكِ الحَوَاس، والثاني: ما كان مُبْتَدأ في النُّفُوسِ، فأمَّا ما كان واقعًا عن درك الحواس فمثل المرئيَّات المُدْركةِ بالنَّظر، والأصوات المُدْركةِ بالسَّمع ... فإذا كان الإنسان ممَّن لو أدرك بحواسِّه هذه الأشياء لعلم، ثبت له هذا النوع من العلم؛ لأنَّ خروجه في حال تغميض عينيْه من أن يدْرِك بهما ويعلم، لا يُخرجه من أن يكون كامل العقل، من حيث عُلِمَ من حاله أنَّه لو أدرك لعَلِم، وأمَّا ما كان مبتدأً في النفوس، فكالعِلم بأنَّ الشيء لا يخلو من وجود أو عدم، وأنَّ الموجود لا يخلو من حدوث أو قِدَم، وأنَّ من المحال اجتماع الضِّدَّين، وأنَّ الواحد أقلُّ من الاثنين، وهذا النَّوع من العلم لا يَجوز أن ينتفي عن العاقِل مع سلامة حالِه وكمال عقله، فإذا صار عالمًا بالمُدْركات الضروريَّة من هذين النَّوعين فهو كامل العقل، وسُمِّي بذلك تشبيهًا بعقل الناقة؛ لأن العقل يمنع الإنسان من الإقدام على شهواتِه إذا قبحت، كما يمنع العقْل النَّاقة من الشُّرود إذا نفرت"[2].
العقل في مدْلول لفظِه العام مَلَكة يُناط بها الوازِع الأخلاقي، أو المنْع عن المحظور والمُنْكر، ومن هنا كان اشتِقاقه من مادَّة "عقل" التي يؤخذ منْها العقْل، وتكاد شهرة العقال بهذه التَّسمية أن تتوارد في اللغات الإنسانيَّة الكبرى التي يتكلَّم بها مئات الملايين من البشر، فإن كلمة "مايند" وما خرج من مادَّتها في اللغات الجرمانيَّة تُفيد معنى الاحتراس والمبالاة، وينادَى بها على الغافل الذي يحتاج إلى التَّنبيه، ونحسب أنَّ اللغات في فروعها الأخرى لا تخلو من كلمة في معنى العقل لها دلالة على الوازع أو على التَّنبيه والاحتراس[3].
نعمة العقل:
لقد كرَّم الله - تعالى - الإنسان بالعقل، وفضَّله على سائر خلْقِه؛ فبِه يُميِّز بين الخير والشَّرِّ، والهدى والضَّلال، وهو مناط العقل والتكليف، ومستوى العطاءات، وخزان الإبداعات، وبتعطُّله يتعطَّل كل شيء[4]، كما أنَّ تفعيل وظيفتِه في صياغة الحياة يؤدِّي إلى إدْراك مواطن الجمال والإبداع فيها، وحصول الفاعليَّة الكونيَّة، وزيادة الإيمان والإرادة والنَّجاح.
والقرآن الكريم وصف الذين لا يعقلون، والذين لا يُعمِلون عقولَهم فيما يَجري لهم وحولَهم بأنَّهم كالأنعام؛ حيثُ قال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}[5].
من هنا كان العقل نعمةً من أجلِّ نِعَم الله - تعالى - على الإنسان، وأحد أهمِّ خصائص الفِطْرة التي فطَرَ الله الناس عليْها، والتي دعا إلى المحافظة عليْها؛ ضمانًا لسلامة واستِقامة، ونَجاح وفلاح الإنسان؛ فعَنْ عَليٍّ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((رُفعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَة: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وعَن الصَّبِيِّ حتَّى يَشِبَّ، وعَن المَعْتُوه حَتَّى يعقل))[6].
يبيِّن "ليون" أنَّ من روائع دعوة محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّها تحترم العقْل، وأنَّ الإسلام "لا يطالب أتباعه أبدًا بإلْغاء هذه الملكة الربَّانيَّة الحيويَّة، فهو على النَّقيض من الأدْيان الأُخْرى التي تصرُّ على أتباعها أن يتقبَّلوا مبادئَ معيَّنة دون تفكير ولا تساؤل حرٍّ، وإنَّما تفرض هذه المبادئ فرضًا بسلطان الكنيسة، أمَّا الإسلام فإنه يعشق البحث والاستِفْسار، ويدْعو أتباعه إلى الدراسة والتنقيب، وليس هذا غريبًا؛ إذ إنَّ الحكمة ضالَّة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحقُّ الناس بها، فالإسلام دين العقْل والمنطق ... فالإسلام هو الحق، وسلاحه العلم، وعدوُّه اللَّدود هو الجهل"[7].
العقل والعلم
لقد حرَص الإسلام على تربية العقْل العلمي عند الإنسان، ليقوم بدوره فى الحياة، وينهض بمكانته الكونيَّة اللاَّئقة بأهْداف وجودِه، ويختار الاتِّجاهات الموافقة للفِطْرة الإنسانيَّة السويَّة.
كما أنَّ استِعْمال العقل في التَّفكير يؤدي إلى اليقين بأنَّ الله - تعالى - واحدٌ لا شريكَ له في ألوهيَّته وربوبيَّته وأسمائه وصفاتِه، وهذا الاعتِقاد بدوْرِه يؤدي إلى صيانة العقْل من الزَّيغ والضَّلال، ويحثُّ المرء على صيانة حرُمات الله أمام النَّاس ومن ورائهم، والتَّضحية في سبيل الله تعالى.
كما أكَّد الإسلام إلغاء الخرافات، التي تعطِّل وسائل المعرِفة، ولا تقوم بوظيفتِها البشريَّة والكونيَّة؛ {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ}[8].
العقليَّة العلميَّة التي توظِّف السمع والبصر والفؤاد فى القيام بالمسؤوليَّة الإعماريَّة وصولاً إلى حقيقة الشُّكر؛ امتثالاً لقولِه - تعالى -: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[9].
فالإسلام يدعو إلى التفكُّر وتدبُّر الكون، واكتِشاف أسْراره بدقَّة للوصول إلى النَّافع والمتطوِّر الذي يخدم المجالاتِ الإنسانيَّة كلَّها، وعمارة الأرض مادِّيًّا ومعنويًّا، وليس في الإسلام شيء يناقض العقل، أو يصادم الفكر السليم، أو يتعارض مع حقائق العلم.
صيانة الإسلام للعقل:
لقد حرص الإسلام على صيانة العقل كقيمةٍ كونيَّة وحضارية، وحمايته من كلِّ ما يؤدِّي إلى إضْعافه وتعطيله، وحرَّضه بكلِّ الأسباب والوسائل التي تُساعد على تنشيطِه وتقويته، كالتَّعلُّم، والتفقُّه، والبحث، والتفكُّر، والسياحة في أرض الله الواسعة، واستكشاف آيات الله في خلقه؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[10].
ومن الأمور التي أكَّدها الإسلام لحفظ العقل ما يلي:
1- حذَّر القرآن الكريم من اتِّباع الظَّنِّ والأوْهام، فالظَّنُّ لا يُغني من الحق شيئا، فالقضايا الكبرى لا يكفي فيها الظَّنُّ، ولا ينفع فيها اتباع الأوْهام؛ {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[11].
ومن هنا أنكر القرآن الكريم على المشركين اتِّباعَهم للظَّنِّ؛ فقال سبحانه: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}[12]، وقال سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَناًّ إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}[13].
ولذا جعل الله تعالى اليقين به وبآياتِه ولقائِه سبيلاً إلى بلوغ مراتب العِلم، والرسوخ فيه الذى يطرد الجهْلَ، والشَّكَّ، والظَّنَّ، ويوصِّل إلى درجة الإمامة فى الدِّين؛ {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[14].
2- عدم اتِّباع الأهواء التي تعمي وتصم، وتضلُّ الإنسان عن الحق وقبوله والعمل به وله؛ فقد قال الله - سبحانه وتعالى - لداود - عليه السلام -: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[15].
وقال سبحانه لمحمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}[16]، وقال سبحانه في اتباع الهوى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}[17].
فالعقليَّة العلميَّة - كما يقول عبدالحليم أبو شقَّة في نقْد العقل المسلم -: هي العقلية التي يتطلبها العصر الذي نعيش فيه، ولا سبيل إلى الحياة على مستوى العصر دون أن نلتبس بهذه العقلية. وأوَّل ما تفرضه هذه العقليَّة يقع في صميم شخصيَّة الفرد، وجوهره الإيمان الصَّادق بالحقيقة والعزْم على احترامها، والعمل على رفْع لوائها وتغليبها على سواها، وليس هذا الأمر السَّهل، فسبيل الوهم أوسع وأيْسر من سبيل الفهْم والإدْراك، وتتبع الحقيقة يقتضي من الجهد أكثر مما يقتضيه اتِّباع العادة، واتِّخاذ التَّنازُل عن مصلحة، أو الإعراض عن هوًى، أو التخلِّي عن تقليد متبع، وهو يتطلَّب فوق ذلك نقدًا صريحًا للذَّات، ومحاسبة مستمرَّة للنفس[18].
3- تحريم كلِّ ما يؤدِّي إلى إفساد العقل وتعطيله وتحويله عن مسار الحق والهدى؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[19]، ورُوي مرفوعًا: النهي عن كُلِّ مُسْكر ومُفتِّر[20].
4- دعوة الإنسان لاجتناب المحرَّمات التي تهلك منِ ارتكبها، وتشيع الفساد فى الأرض بما كسبت أيدى الناس، فلا يفسح للشيطان مجالاً لإغْوائه، فيخسر في الدنيا والآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[21]، ولذا يقول الله - عزَّ وجلَّ - عن الكفَّار يوم القيامة: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[22].
العقل والإبداع:
إنَّ العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضَّمير، ويدرك الحقائق، ويميِّز بين الأمور، ويُوازن بين الأضداد، ويتبصَّر ويتدبَّر، وإنَّه هو العقل الذي يُقابله الجمود والعنت والضَّلال، وليس بالعقل الذي قُصاراه من الإدْراك أنَّه يقابل الجنون، فإنَّ الجنون يسقط التكليف في جَميع الأدْيان والشَّرائع، وفي كلِّ عرف وسنة، ولكنَّ الجمود والعنت والضلال غير مسقطة للتكليف في الإسلام، وليس لأحدٍ أن يعتذِر بها كما يُعْتذر للمجنون بجنونه، فإنها لا تدفع الملامة ولا تمنع المؤاخذة بالتقصير[23].
ولا شكَّ أنَّ ثمرات التَّفكير السليم على الفرد والمجتمع كثيرة، منها حلُّ المشكلات بالطُّرق الصحيحة، واتِّخاذ القرارات الصائبة، والتَّخطيط للمستقبل، واختِراع الأدوات النَّافعة للبشريَّة، وحفظ الإنسان من الهفوات والزلل، ما لا يجعله عرضة لأن يُخدع أو ينخدع، فتعود ثمرة عقله وحسن سلامة تفكيره عليه وعلى مجتمعه بالخير والمنفعة، ويسير وَفْقَ المنهج الذي رسمه له الله - عزَّ وجلَّ - وتتعدَّد مهارات التَّفكير الإنساني، فهناك على سبيل المثال: التَّفكير الإبداعي، والتفكير الحدْسي، والتَّفكير التحليلي، والتَّفكير الاستِنْتاجي.
ولعلَّ أهمَّ تلك المهارات العقليَّة الفعَّالة، والتي لها دَوْرٌ في الوقاية من المشكلات النفسيَّة والعقليَّة - هي مهارة التفكير الناقد، وهي من المهارات والمقاييس المهمة التي تُستخدم في الحكم على درجة نضج الأشخاص، وفي هذه المهارة يتوصَّل الفرد إلى الأحكام والخيارات والقرارات بنفسه، بدلاً من أن يدَع الآخرين يقومون بذلك نيابةً عنه، وعندما يُمارس الأفراد التَّفكير النَّاقد، فإنَّهم سوف يستطيعون التَّفريق بين الأفكار المتعدِّدة التي يتبنَّاها ويعرضها الأفراد، ويختبِرون بهذا التَّفكير السليم مدى دقَّة وصلاحية ما تَحمله العقول من أفكار منطقيَّة، ورؤى عقلانيَّة، أو مغالطات خاطئة، أو حقائق مبتورة، وتنمو لديهم كذلك القدرة على التخلص من "السُّموم الإعلاميَّة"، التي يبثُّها أصحاب الغايات الشريرة في كلِّ وسيلة لتأكيد انحِيازها للقضايا والمسائل الاجتماعيَّة والسياسيَّة والدينيَّة[24].
ومن المؤكَّد أنَّه إذا تغيَّر التَّفكير، فإنَّ السلوك سيتغيَّر معه، وسيبدأ الإنسان في استِخْدام تفكيره في عملِ كلِّ ما ينفعه، ويبعد عنه الخطر والضرر؛ لذلك فإنَّ تغْيير الأفكار والآراء والاتِّجاهات يزداد معه دائمًا احتِمال تغْيير السلوك، وهذا ما يعتمد عليه المروِّجون في بحوث التسويق، وفي الدعاية السياسيَّة للمرشَّحين للانتخابات وغير ذلك من أوجه النشاط.
العقل والمستقبل:
لا يمكن لأي حضارة أو مجتمع يتطلَّع للارتِقاء والنهضة أن يهمل دور العقل، أو يلغيَه كلِّيًّا أو جزئيًّا، لا ينبغي أن يستهين الإنسان بقدراته العقليَّة، فإبداع العقل لا ينتهي، وليست عجائب تفكيره محدودة، بل تتَّسع لكلِّ إبداع ينتج عن حركة عقل واعية متجدِّدة العطاء للسَّاحة الإنسانيَّة، فإذا سار الإنسان بعقْلِه على قوانين التَّفكير السَّليم، فإنَّ إبداعاته الحضاريَّة تتَّسع، وإعماراته تزيد.
لقد أراد الله - عزَّ وجلَّ - للعقل المسلم أن يأخُذ مكانةً لائقة في عالم الإبداع، قيادةً وتعليمًا للبشريَّة، ويوم أنِ انبهر هذا العقل بحضارةِ العصر لدرجةِ الغشاوة، فقَدَ طواعيته لنداءات الفطرة، واحترامه لخصوصيَّته وذاتيَّته الكونيَّة والحضاريَّة.
ولكي يعود للعقْل المسلم دورُه في الحياة، ويبني المسلمون مستقبلاً واعدًا؛ فلا بدَّ أن يؤسِّسوا لهذا المستقبل من خلال المنْهج الإسلامي، الذي يوظف العقول في ما يصلح النَّاس، ويتعامل مع المنجزات والمستجدَّات بطريقة عقلانيَّة متحرِّرة من قيود التخلُّف والجمود والمصلحيَّة والشَّكليَّة.
ــــــــــــــــــــ
[2] علي بن محمد بن حبيب الماوردي، أدب الدنيا والدين، ص 19، دار مكتبة الحياة.
[3] د/ أحمد عبدالرحيم السايح، فريضة التفكير في الإسلام، مجلة الجامعة الإسلامية، العدد 13.
[4] فتحي يكن، الإسلام دين الفطرة، شبكة الدعوة، الأربعاء 26 جمادى الثانية 1423هـ.
[5] الأنفال :22.
[6] سنن الترمذي، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، حديث رقم 1488.
[7] عرفات كامل العشى، رجال ونساء أسلموا 7/ 6-7.
[8] الأعراف: 179.
[9] النحل: 78.
[10] البقرة: 164.
[11] الإسراء: 36
[12] الأنعام: 116.
[13] يونس: 36
[14] السجدة :24.
[15] ص: 26.
[16] القصص : 50.
[17] الجاثية :23.
[18] عبدالحليم أبو شقة: نقد العقل المسلم 3/5، ط1، 2001م، دار القلم.
[19] المائدة: 90.
[20] سنن أبي داود، باب النهي عن المسكر، حديث رقم (3688)، سنن أحمد بن حنبل (6/ 309).
[21] الأعراف: 201
[22] الملك: 10
[23] د/ أحمد عبدالرحيم السايح، السابق.
[24] د/ محمد غنيم، العقل والعمل والأمل، صحيفة أوان، الأربعاء 31 ديسمبر 2008م.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/5512/#ixzz1boSZaQvo