العدل مع غير المسلمين فرض التسامح في الإسلام

العدل مع غير المسلمين فرض التسامح في الإسلام

 

لقد بات ضرورياً في هذا الوقت أكثر من أي أوان آخر أن نبين ما في إسلامنا العظيم من التسامح الفريد الذي تميز به المنهج الرباني وهو يرتب الأحكام والحكم والنصائح والنظريات التي طبقت على أساسه عبر تاريخنا المديد، وحتى لا يتغرر الجهال وضعاف الثقافة بما يكال للإسلام من اتهامات باطلة، بأنه دين السيف والإرهاب والتطرف ومحاربة السلام والإخاء بين الناس، وإننا لنؤكد بادئ ذي بدء أن دستور المسلمين يؤكد بخطاب الله تعالى أن نتعامل مع البشر كل البشر بالطريق الحسن القويم (وقولوا للناس حسناً)، "البقرة: 83".
أي كل الناس بلا تمييز لأن شعار الإسلام السلام والوئام والسماحة والتفاهم وإن هذه الحالة هي الحالة الثابتة للعلاقة الإسلامية مع العالمين بشرط أن يكونوا هم المسالمين لا المحاربين المعتدين المتعطشين للدماء المنتهكين للأرض والعرض على غرار ما وجدنا ونجد من موقف المحتلين لفلسطين نهباً واغتصاباً، فإن هؤلاء لا يدخلون في المسالمة ولا يقبل منا أن نقرهم على ظلمهم وسرقة المقدسات منا ولا يقبل أن نقابلهم بالسلم إذا جنحوا إليه ما داموا محتلين فإن آية (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)، "الأنفال: 61".
يخرج فهمها عن هذا السياق لأن فحواها هنا المهادنة مع كفار العرب الذين حاربوا رسول الله في غزوة بدر مع أنهم لم يحتلوا المدينة المنورة لا كمثل حالنا مع اليهود المغتصبين، وحتى مع وضع كفار قريش فقد ذكر ابن جزئ المالكي في التسهيل "2/28" أن هذه الآية منسوخة بآية القتال في سورة براءة أي التوبة، وإن مقاصد القرآن لا يمكن أن تسمح بمجرد المسالمة اللفظية والعدو ما يزال جاثماً في بلاد المسلمين، فالقياس مع الفارق وقس على ذلك الاحتلالات الأخرى للعراق وأفغانستان وغيرها، فلابد فيها من الجهاد لأن العدوان مستمر.
لقد شرحنا في المقال السابق خطاب الله تعالى للمسلمين أن يبروا ويقسطوا مع من هم خارج العدوان، ونحن نقف مع ختام هذه الآية في سورة الممتحنة (إن الله يحب المقسطين)، أي العادلين وعلينا أن نفهم كما يؤكد سيد قطب في الظلال "6/3544" أنه حين ينتهي العداء على المسلمين، فلابد من القسط في المعاملة والعدل، بل التحري لهذا العدل لدرجة ألا نبخس المسالمين شيئاً من حقوقهم (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى...)، "المائدة: 8".
وبالتالي فإن منهج القسط هذا هو الذي يرشح ممارسيه لمحبة الله التي يظفرون بها في تعاملهم مع غير المسلمين، وكيف لا وقد نفذوا أمره تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، "النحل: 90".
لأن العدل كما يقول أبو النصر مبشر الطرازي في كتابه (الإسلام الدين الفطري الأبدي) "2/92" إنه يريح الضمير الإنساني لأنه لا يميز بين صاحب دين ودين وعنصر وآخر، وجنس وضده، وطبقة وأخرى، إنه لا يعرف التفريق بين الناس مهما علوا أو سفلوا، ولذلك استحق أهله المقام الأعلى، روى مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن" وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل..." ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام العادلين قولاً وفعلاً وهو القائل كما في صحيح البخاري "2/240" (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون الشريف والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) ويقول عمر واصفاً رسول الله (أنه كان يقص من نفسه) كما ذكر ابن الجوزي في مناقب عمر "ص 95"، وقد أكد الإسلام طلب المزيد من العدل مع المخالفين لأن هذا أقرب للتقوى يقول القرطبي في تفسيره "6/110" إن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وفي الحديث الشريف عنه صلى الله عليه وسلم في أهل الذمة، كما روى أبو داود في سننه برقم "3052" (من ظلم معاهداً أو انتقض حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه أي خصمه يوم القيامة) أما لو وصل الحد إلى قتل الذمي عمداً فقد أقام الرسول الوعيد على فاعله فقال (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً) كما روى البخاري وورد في فتح الباري "2/259"، بل إن الإسلام حرم غيبة الذمي كالمسلم ومن فعل ذلك فقد ضيع ذمة الله كما أشار المحقق الفقيه ابن عابدين في حاشيته "6/410"، والقرافي في كتابه الفروق "3/20"، ولعل بعض الشواهد في تاريخنا المجيد تعطي إضاءات مشرقة في هذا العدل والتسامح في خصومات مع الخلفاء والأمراء وذوي الشأن وقد أورد ابن كثير في البداية والنهاية "8/4" خصومة الخليفة علي بن أبي طالب مع يهودي في درعه التي فقدها ثم وجدها عند يهودي فاحتكما إلى شريح القاضي فحكم بها لليهودي فأسلم اليهودي وقال: أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه فيقضي لي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين فخرجت من بعيرك الأورق فقال علي أما إذا أسلمت فهي لك، ومنها ما نقله أبو النصر مبشر الطرازي في كتابه الذي أشرنا إليه ص "93" أن يهوديا شكا علياً إلى عمر في عهد خلافته فلما حضر علي قال له: يا أبا الحسن اجلس فظهرت آثار الغضب على وجه علي، فقال عمر: أكرهت أن يكون خصمك يهوديا وتمثل معه أمام القضاء، فقال علي: لا، ولكني غضبت لأنك لم تسو بيني وبينه فقد ناديتني بكنيتي يا أبا الحسن وهذا تعظيم وناديته باسمه وهذا يخالف العدالة، الله أكبر ما هذه الشفافية التي تشع من نور الإسلام العادل، ومنها ما ذكره العلامة علاء الدين الحصني في كتابه الدرر المختار "4/313" في كتاب القضاء ونقلها شيخنا العلامة عبدالفتاح أبو غدة في رسالة المسترشدين ص "186" وعارف النكدي في كتابه القضاء في الإسلام ص "25" أن الإمام أبا يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة وقاضي القضاة في العراق زمن هارون الرشيد كان قد تقاضى عنده الخليفة هارون ورجل نصراني في خصومة فقضى أبو يوسف للنصراني على الرشيد وهو الخليفة، ومنها الحادثة المشهورة التي فيها قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر وابنه وكيف اقتص الخليفة عمر بن الخطاب للقبطي النصراني في مظلمته التي ضرب فيها من ابن عمرو كما ضرب وقال مقولته التي أضحت مثلا: (يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، هذه العبارة التي ذكرها الأوروبيون مادة أولى في ميثاق حقوق الإنسان في العصر الحديث.
وقد نقل الدكتور منقذ محمود الصقار في كتابه حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم أن من عجيب الأخبار في عدل الخلفاء والولاة ما ذكره الطبراني في معجمه الكبير "17/52"، أن عمير بن سعد ترك ولاية حمص لإساءته إلى ذمي فقد قال للخليفة عمر وهو يطلب إقالته من الإمارة: لا عملت لك ولا لأحد بعدك قلت لنصراني: أخزاك الله فهذا ما عرضتني به يا عمر.
وفي رواية ابن عساكر في تاريخ دمشق "46/493"، يا عمر ما يؤمنني أن يكون الرسول خصمي يوم القيامة ومن خاصمه خصمه، فما كان من عمر إلا أن قبل استقالته، ولا شك أن الإسلام ضمن حقوق أهل الذمة بحمايتهم وعدم أذيتهم ماديا أو معنويا، وضمان الوفاء بحقوقهم ومواثيقهم.
يذكر الدكتور عمر بن عبدالعزيز قريشي في كتابه سماحة الإسلام ص "167" أن جوستاف لوبون المفكر الفرنسي قد أشار إلى معاملة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لأهل حمص فقد رد عليهم ما جباه منهم باسم الجزية عندما بلغته حشود الروم في اليرموك قائلا: سكتنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم وغادر مدينتهم منسحبا بجيشه مما دعا أهل حمص للقول: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم ولندفع جند هرقل عن المدينة مع عاملكم!
وهكذا امتزج المسيحيون مع المسلمين اندماجا سلميا، وما المسيحيون الذين يعيشون في عصرنا الحاضر مع المسلمين بالتفاهم والتسامح إلا امتداد لسابقيهم، ومن الشواهد ما ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة ص "2/115" أنه لما ولي أمير العدل الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز أمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها فقام ذمي يشكو الأمير العباس بن الوليد بن عبدالملك في ضيعة له أقطعها الوليد لحفيده العباس فحكم له الخليفة بالضيعة فردها إليه.
كما أنه قد جرى العفو والتجاوز عن أهل الذمة وهذا فوق العدل فقد روى البلاذري في فتوح البلدان "217" أنه في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حين نقض أهل بعلبك عهدهم مع المسلمين وفي أيدي المسلمين رهائن من الروم امتنع المسلمون عن قتلهم ورأوا تخلية سبيلهم وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر! ولقد كانت هذه الشفافية سائدة بين ولاة المسلمين تجاه أهل الذمة حتى في الأمور الذوقية والوجدانية والاحترام والتقدير مع وجود المسالمة، فقد نقل ابن عساكر في تاريخه "20/28" أنه لما فتح المسلمون دمشق تولى قسمة منازلها بين المسلمين سبرة بن فاتك الأسدي فكان ينزل الرومي في العلو وينزل المسلم في السفل لأن لا يضر المسلم الذمي، إن هذا غيض من فيض من تلك الشواهد والصور والأمثلة التي تبرز عدل المسلمين وتسامحهم مع غيرهم، خاصة أهل الذمة وهو ما دفع المستشرقة الألمانية زيفريد هونكة في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب.. ص 364"، أن تنقل شهادة من بطريك بيت المقدس الذي كتب في القرن التاسع لأخيه بطريك القسطنطينية عن العرب: إنهم يمتازون بالعدل ولا يظلموننا البتة وهم لا يستخدمون معنا أي عنف، أقول وكأنه يشير بمفهوم المخالفة إلى ظلم غير المسلمين وجورهم وهو ما عناه الشاعر:
حكمنا فكان الصفح منا سجية
ولما حكمتم سال بالدم أبطح
أولئك آبائي مخبئي بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع

د. خالد هنداوي

المصدر:  http://www.al-sharq.com/articles/more.php?id=191396

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك