التعصب والتطرف

التعصب والتطرف

الشيخ/ محمد رشيد رضا 

 

هذا المقال نشر في مجلة المنار – العدد 26 – سبتمبر 1898م

قد علمت أن التعصب هو عبارة عن القيام بالعصبية ، وأن مناط العصبية في اصطلاح هذا العصر هو : الجنس أو الدين ، وأن الإفرنج ومن احتذى مثالهم من أبناء المشرق حذو القذة للقذة يغرقون في مدح التعصب للجنس على إطلاقه ، ويعدونه المشكِّل للدول ، والمقوِّم للأمم ، ويفتخرون بالتغالي به والاستبسال في سبيله ويرون أن الشرف الأعلى والكمال الأرفع في بذل النفس والنفيس في تقوية الجنسية ونصب الأشراك والأحابيل لإيقاع سائر الشعوب فيها.

   ويخصون التعصب للدين بالإزراء والازدراء والثلب والسب والطعن والقدح ، ويعدونه منبع الشرور ، ومولد الفتن ، وعدو المدنية ، ومنار الحروب ، ومقطع الصلات بين الأمم ، ويتقذرون الاتصاف به ، ويتنصلون من الانتساب إليه ، بل استعملوا لفظه للسباب والشتيمة ، ويزعمون أن صاحبه خابط في ظلمات الجهالة ، والتعصب غشاوة على عينه ، أو حجاب كثيف يحول بينه وبين نور المعرفة ، بل هو أكمه ، لا قابلية فيه لإدراك نور المدنية الصحيحة !  فليت شعري ، هل يرى هؤلاء الدين المطلق هو منبع الشرور ومصدر الرذائل ، والعقبة الكؤود في طريق المعارف !

 وأن اللغة من حيث هي لغة مجمع أزِمّة الفضائل ، ومنبعث أشعة العلوم والعرفان ! كيف وجلهم أو كلهم ينتسب للدين تشرفًا به ، ولو رمي بلقب الكفر تقوم قيامته ويتبرأ من هذا اللقب الشائن الذي رماه به الشانئ ، بل إن عقلاء الكفار من هؤلاء المتمدنين يعترفون بفضل الدين ، وإن كانوا لا يدينون به ، ويشهدون أنه المهذب للنفوس ، الرادع لها عن الشرور ، وأنه يَزَعُ ما لا يزع السلطان ؛ لأنه مهيمن على النفوس لا يفارقها في حنادس الليالي ، ولا يزايلها وراء الحجب والأستار ، حيث تنام أعين القضاة ، ولا تصل أيدي الشرطة والأعوان

 
 لا ترجع الأنفس عن غيها ما لم يكن منها لها زاجر  فلم يبق من شبهة لمن يخص التعصب الديني بالمقت والذم ، والجنسي بالشرف والإطراء - إلا الغرض ، وأنا أقص عليك غرض الأوروبيين منه ، فاستمع لما يتلى.   أنت تعلم أن المنفعة مدار كل عمل عند هؤلاء القوم.  فأما انتفاعهم من التعصب للجنس وتربية الأمة على حب جنسهم مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم ، فهو أنهم تمكنوا به من توحيد أممهم ، وأمنوا من عواصف الثورات التي كانت تهب في بلادهم كالريح العقيم ، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، وهو الذي نقاسي اليوم عناءه ونساور بلاءه ، في أرمينيا وكريت وغيرهما من البلاد العثمانية ، التي فقد منها هذا التوحيد ؛ لإهمال التربية على التحاب والتواد والاعتصاب بالجنسية العثمانية الجامعة

   وأما انتفاعهم من التعصب الديني فهو أنهم شكلوا الجمعيات الدينية ، وجعلوها من آلات الفتوح ، وأرسلوها إلى آسيا وإفريقيا أوزاعًا أوزاعًا ( جماعات متفرقة ) تحت حماية دولهم ، فعملت ما لا يعمل السيف ، بل كانت تسير على أثرها الجواري المنشآت في البحر كالأعلام ، تحمل المدافع الفوهاء التي تدمر كل قطر ينظر فيه لأحد المرسلين شزرًا ، أو تستعمره استعمارًا.  

 انظر تاريخ أوروبا مع المشرق كله ، وبين يديك الآن شاهد قريب وهو اندفاع دول أوروبا الكبار على الصين ، ومبدؤه احتلال ألمانيا لكياوتشاو بسبب قتل بعض المرسلين ، ولم يكتفوا بهذه المنافع والمغانم ، بل هم ينفخون هذا الروح ( التعصب) في نصارى الشرق بواسطة جمعياتهم السرية والجهرية ، ويربونهم عليه في المدارس السياسية الدينية التي ينشئونها في بلادهم ، يمثلون لهم لدى تعليم التاريخ صورة ماضيهم مع بني وطنهم مشوهة ، تنفر منها النفوس وتقشعر الجلود ، ليوقعوا بينهم العداوة والبغضاء ، ثم يعدونهم بالحماية والنصر ، ويمنونهم بالاستقلال إذا هم شقوا عصا الطاعة ، وخلعوا رداء السلطة.  ذلك وعد غير مكذوب ، يجتهدون في الوفاء ما وجدوا للوفاء سبيلاً.

واعتبر ذلك في الفتن الأخيرة في بلاد الدولة العلية من عهد مقدمات الحرب الروسية إلى عهد المسألة الأرمنية ، والمسألة الكريدية ، تَلْقَه واضحًا جليًّا. ومما يقضي على العاقل بالعجب أن هذه الدول لا تتحاشى المجاهرة بالانتصار للنصارى بعنوان حماية الديانة النصرانية. ولو أن دولة أو إمارة إسلامية سألت عن حال المسلمين في مستعمرات تلك الدول من حيث زراعتهم أو تجارتهم ، فضلاً عن الانتصار لهم ، لقامت عليها قيامة أوروبا، وأجمع دولها على وجوب تأديبها ؛ لأنها حركت سواكن التعصب الديني الذي يقوض أساس العمران ، بل لو انفجرت براكين العدوان في بلادهم ، فأحرقت جميع أرباب المذاهب لا تتحرك لهم عاطفة رحمة ، ولا تجيش في صدورهم حمية ، سواء كان المحترقون بتلك النيران نصارى أم غير نصارى ، اللهم إلا إن كانوا من جنسهم ، فالفرنساوي لا يحن في أوروبا إلا للفرنساوي ، والإنكليزي لا ينظر إلا للإنكليزي ، وهلم جرا. 

  فالتعصب الديني عندهم محرم في الغرب واجب الشرق ، اللهم أنه واجب كونه مذمومًا لفظه لا فعله ، وعلى اجتناء المنافع المدار ، وهو المبدأ وإليه المآل.   وأما ما يثرثر به هذا النشء الجديد في الشرق من لفظ التعصب والمتعصب في معرض الذم ، فهو لفظ عن غير عقل ولا بصيرة ، بل ليس إلا صدى ما يقوله أولئك المختلِبون[1] ، يرجّعه هؤلاء المختلَبون ، أو هو حكاية أصواتهم من غير ملاحظة ما ترمي إليه ، ألا تراهم يرددون كثيرًا لفظ ( فناتيك فناتيك ) أي تعصب ديني. 

يقول ما قالا له كما تقول الببغا  إلا من انفصل من جنسيته الشرقية واتصل بهؤلاء الإفرنج ، كما تنفصل النيازك من كوكب فيجذبها إليه كوكب آخر تتصل به ، وتكون جزءًا داخلاً في بنيته.   ومن تجرد من جلابيب الحظوظ والأغراض ، وترفع عن التحزب للأديان والأجناس ، ونظر في الشؤون بعين الإنصاف ، جاعلاً مطمح نظره الحقيقة - تجلى له أنه لا فرق بين التعصب للجنس والتعصب للدين ، إلا بما يكون به الأول أشرف رابطة وأقدس مناطًا ، وأن كلاًّ منهما فضيلة ، إذا وقف عند حد الاعتدال ، وأن الغلو في كل منهما رذيلة تدعو إلى ايذاء المتعصب لمخالفه فيما قامت به العصبية ، وتحمله على التعدي وهضم الحقوق واختلاس المنافع 

والعقل المجرد عن الشوائب يحكم بقبح ومذمة التعدي والإيذاء لذاتهما ، من غير نظر إلى سببهما ، ومن نظر في التاريخ يرى أن كلاًّ من هذين النوعين للتعصب قد نشأ من الإفراط فيه منازعات وحروب أهريقت فيها الدماء ، ويتمت الأطفال ، وأيمت النساء.   نعم إن للحروب وجهًا يرجع إلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين ، وليس هنا مجال للبحث فيه. 

محمد رشيد رضا

المصدر: http://www.el-wasat.com/portal/Artical-2225.html

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك