إسهامات المسلمين في الفلسفة ومقارنة الأديان
إسهامات المسلمين في الفلسفة ومقارنة الأديان
المبحث الأول أثر المسلمين في الفلسفة
يرى المهتمون بالفلسفة أن كلمة (الفسلفة) مشتقة من كلمة يونانية هي (فيلا سوفيا) ومعناها (محب الحكمة)، ومعنى الفلسفة العلم بحقائق الأشياء والعمل بما هو أصلح، وقد نقل ابن أبي أصيبعة عن الفارابي أنه قال: اسم الفلسفة يوناني دخيل على اللغة العربية، وهو في لسانهم مركب من فيلا أو فيلو و(سوفيا)، (ففيلا) تعني الإيثار، و(سوفيا) تعني الحكمة.
والفيلسوف مشتق من الفلسفة، ومعناه (المؤثر للحكمة)، وقد استعمل العرب كلمة الحكمة مرادفة للفلسفة في كثير من الأحيان، ولم تكن الفلسفة على الرغم من بداوة الحياة العربية، بعيدة عن العرب، على الرغم من أستاذية اليونانيين لها على يد سقراط، وأرسطو وأفلاطون .
فقد كانت مدينة حران والرها ونصيبين ورأس العين من مراكز الثقافة اليونانية في الشرق العربي؛ وذلك عندما استولى العرب على العراق وبلاد الشام، ومع أن اللغة السريانية كانت لغة الثقافة الرومانية بقسميها الغربي والشرقي؛ فإن اللغة اليونانية كانت تدرس إلى جانبها في مدارس الكنائس والأديرة في المدن المذكورة؛ مقدمة بعض الموضوعات الفلسفية والطبية، مما ساعد على التعرف على كتب حكماء اليونان القدامى أمثال أبقراط وجالينوس وسقراط، وبذلك انتشرت الآراء والأفكار الفلسفية بينهم، وظهرت بوادر حركة علمية فلسفية استمرت بعد الفتح الإسلامي، وهذا ما جعل السريان من أبناء المدن المذكورة من أوائل الذين نقلوا إلى اللغة العربية كثيرا من معارف اليونان وفلسفتهم، وقد اهتم علماء العرب بدراسة الكتب المترجمة، في موضوعات المنطق والفلسفة وشرح ما كان غامضا مبهما منها، ومناقشة ما جاء فيها من آراء وأفكار حول العديد من المسائل، مما أوجد حركة فكرية جعلت بعض المفكرين يتوفرون على الإحاطة بها والإدمان في إدراك معانيها وفهم أسرارها، وهؤلاء هم الذين عرفوا بالفلاسفة .
وقد جاءت الفلسفة العربية مزيجا من الأرسطوطالية. والأفلاطونية الجديدة بفضل الجمع في الترجمة بين الإلهيات والإشراقات الروحية والحكمة الفلسفية، ولعل هذا ما يفسر اهتمام دارسي الفلسفة العرب بالمسائل الروحية والنفسية، فقد أخذت تراجم مؤلفات أرسطو وأفلاطون تلقي اهتماما وقبولا عندهم، وكانت كتبهما تلقى اهتماما وقبولا عندهم، وكانت كتب أرسطو في المنطق والنفس والطبيعة هي أول ما نال من اهتمامهم، ويظهر أن أفلاطون كان أقرب الفلاسفة إلى العقلية العربية الإسلامية، لقوله: إن العالم محدث، وإن النفس جوهر روحي، وإن في العالم نفسا كلية واحدة، وإن نفوس البشر جزء منها؛ وهي آراء لا تتنافى مع العقيدة الإسلامية، إلا أنه بعد أن اطلع العرب على المزيد من فلسفته، وأدركوا رأيه في النفس الإنسانية بأنها أجزاء متناهية؛ اتجهوا نحو أرسطو وأقبلوا على كتبه التي أخذت تؤثر فيهم بشروح رجال المذهب الأفلاطوني الجديد.
وقد ظهر من فلاسفة المسلمين من عمدوا إلى الجمع بين فلسفتي أفلاطون وأرسطو والعقيدة الإسلامية، وحاولوا في سبيل ذلك أن يظهروا نظريات وآراء الفيلسوفين المذكورين وغيرهما بما لا يناقض العقيدة الإسلامية صراحة؛ يقول جوزيف هل: من حسن حظ المسلمين أنهم جعلوا نقطة بدايتهم الفلسفة الأرسطالية أو فروعها الحديثة، ذلك أن هذه الفلسفة اتصفت بدقة الملاحظة والتعلق الشديد بالمثل العليا التي من شأنها صرف الإنسان عما عداها من أمور، ولذلك كان أرسطو معلم العرب الأول، وقد نقلوا تعاليمه دون نـزاع، ونقلت إلى العربية إذ ذاك جميع كتبه المعروفة .
على أن العرب وإن كانوا قد درسوا الفلسفة على فلاسفة اليونان، وتأثروا بالنواحي الإيجابية منها مما لا يتعارض وأحكام الدين الإسلامي، فإنهم استطاعوا بعد حين أن يقيموا فلسفة عربية إسلامية لها طابعها وطرقها في معالجة المسائل الفكرية المختلفة.
وكان الكندي والفارابي هما اللذين مهدا السبيل لاستقلال الفلسفة العربية الإسلامية.
بل لعله إذا ذكرت (الفلسفة الإسلامية) تبادر إلى الذهن بعض الأسماء؛ على رأسها الكندي والفارابي بالإضافة إلى (ابن رشد)... وذلك مع وجود فلاسفة مسلمين كثيرين... إلا أن تخصص هؤلاء تقريبا، ونبوغهم في المجال الفلسفي، وهضمهم لفلسفة اليونان، جعلهم يتصدرون قائمة فلاسفة الإسلام.
ويعد أبو يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بالكندي من أبرز الفلاسفة المسلمين ومن أوائلهم، وقد لقب الكندي بفيلسوف العرب، وبدأ متكلما معتزليا ثم انتهى سنيا، وكان من أشد معارضى إخوان الصفا (الإشراقيين الغنوصيين) وقد بذل كل جهوده للتوفيق بين الفلسفة اليونانية والإسلام، كما راح يستأنس بالفلسفات المختلفة؛ نظرا لاعتزازه بالإسلام وشغفه بالفلسفة؛ ولهذا كان من أبرز وأقدم الفلاسفة المسلمين الذين قاموا بالتوفيق بين الوحي والعقل.
وقد ألف الكندي كتبا كثيرة منها أكثر من عشرين كتابا في الفلسفة.
ومن فلاسفة الإسلام المعروفين أيضا أبو نصر الفارابي أبو محمد بن محمد بن طرفان (259- 339هـ) (872- 950م) نسبة إلى ولاية (فاراب) من بلاد الترك في بلاد ما وراء النهر، وهو من مؤسسى الفلسفة الإسلامية، ولم يكن له من أمور الدنيا أغراض، ويقول فيه ابن خلكان: لم يكن في فلاسفة الإسلام من بلغ رتبته في فنونه، وقد تخرج الرئيس ابن سينا على كتبه، وانتفع بكلامه في تصانيفه، وقال عنه بعض المستشرقين:
"وليس شيء مما يوجد في فلسفة ابن سيناء وابن رشد إلا وبذوره موجودة عند الفارابي، وقد عُدَّ الفارابي أكبر العلماء بعد أرسطو لذا أطلق عليه اسم (المعلم الثاني".
ويعد الإمام أبو محمد علي بن حزم الأندلسي (ت 456هـ) ممن اشتغلوا بالفلسفة والمنطق، وله في ذلك كتاب التقريب لحد المنطق، وضع فيه أمثلة شرعية في القضايا المنطقية المختلفة، ودافع عن هذا العلم ضد الذين يرفضونه ابتداء.
كما أن كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) حافل بمناقشات كثيرة للفلاسفة والمتكلمين؛ انطلاقا من رؤية ابن حزم الظاهرية، التي ناقش فيها أيضا الأديان والنحل؛ فالمنهج عنده واحد في كل المجالات.
ويدخل في إطار جهود ابن حزم في الفلسفة أيضا ما قدمه حول (نظرية المعرفة) التي حدد فيها طريق الوصول إلى الحقيقة، مبينا أنه يعتمد على أصول أربعة:
1- النصوص الدينية، كما هي في القرآن والسنة.
2- اللغة من حيث دلالتها الظاهرة المتعارف عليها عند أصحابها.
3- الحس السليم وبديهة العقل.
4- الاكتساب بالاختبار والنقل بالتواتر .
وعندما نصل إلى الإمام الغزالي (محمد بن محمد بن أحمد، أبو حامد الطوسي، 450- 505 هـ) نجد أنفسنا أمام أشهر شخصية في الحضارة الإسلامية جمعت بين الدين والتصوف الصحيح والفلسفة، واستطاعت دحض تهافت بعض الفلاسفة اليونانيين.
لقد كان الغزالي (دائرة معارف عصره) رجلا متعطشا إلى معرفة كل شيء منها في جميع فروع المعرفة، كما يقول بعض المعاصرين.
ومما لا شك فيه أن الغزالي نظر إلى أحوال العلماء في عصره، الذي انتشرت فيه الحركات الباطنية والتأويلية، نظرة مليئة بالنقد البناء، والتفكير الجاد في وضع منهاج يقوى فيه الأثر التهذيبي للشريعة التي تعامى الناس عن مقاصدها وغاياتها، ولهذا فالغزالي لم يتكلم عن الفلسفة إلا ليبطل باطلها ويرد عليها بمنطقها العقلي تحت ضوء الدين.
وقد كتب الغزالي في المسائل الفلسفية كثيرا من الكتب، منها الذي يعالج فيه موضوعات الشك، وينقد الفرق، ويجلي قضية النبوة، والاصطلاح الديني، ويرد على أهل السفسطة وجحد العلوم، ويبين حقيقة علم الكلام ومقصوده، والفلسفة وأصنافها، والمنحرفين باسمها.
ومنها كتاب فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية (ويسمى المستظهري) وكتاب تهافت الفلاسفة، وكتاب معيار العلم في المنطق.
ومنها كذلك كتاب: إلجام العوام عن علم الكلام ، وكتاب فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، وكتاب مقاصد الفلاسفة.
وقد أحدثت تصانيف أبي حامد الغزالي في الفلسفة والمنطق وما وراء الطبيعة أثرا عظيما بعيدا في المشرق والمغرب، وقد قام بترجمة الكثير منها نصارى طيلطلة في الأندلس خلال القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي).
ولعل أبا حامد الغزالي وابن حزم من أقرب الفلاسفة المسلمين في التعبير عن منطق الإسلام وفلسفته، بعيدا عن هيمنة أو مرجعية الفلسفة اليونانية.
أبو الوليد بن رشد (ت 494هـ - 1197م):
أما ابن رشد فهو أبعد فلاسفة العرب صيتاً، وهو الشارح لفلسفة أرسطو، لكنه - كما يقول غوستاف ليبون - سبق أستاذه في بعض الأحيان سبقا يثير العجب، وفلسفته مقبولة في كثير من الأمور أكثر من أرسطو.
وقد عالجت فلسفة ابن رشد عدة مسائل: تتدرج من أصل الكائنات إلى اتصال الكون بالخالق، وعلاقة الإنسان به، ثم المادة وخلق العالم، وقد أثرت فلسفة ابن رشد في الفلسفة الأوربية في العصور الوسطى، وترجمت كتبه إلى اللاتينية، وتغلغلت أفكاره في أوربا، وعنها أخذ كثير من الفلاسفة الإيطاليين في أواخر العصر الوسيط .
ومن المعروف أن ابن رشد كان له تأثيره الحاسم في تاريخ الفكر الأوربي لدرجة أنه لم يكد ينتصف القرن السابع الهجري حتى كانت كتبه كلها قد ترجمت إلى اللغة اللاتينية، ولقيت مقاومة رجال أوكليروس وخاصة توماس الأكويني... ولم تلبث فلسفة ابن رشد حتى أصبحت ذات سيادة مطلقة في كلية بادو بإيطاليا، وأصبح ابن رشد المعلم الأكبر، أو المعلم الثاني.