أهمية الحوار الحضاري
أهمية الحوار الحضاري
الحوار بين الناس والحضارات والأفراد (هو ما سماه القرآن التعارف) ؛ في قوله تعالى :
"وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" ([1]) ، بما يقتضيه التعارف من تبادل الخبرات والمعارف، وتحقيق التفاهم والود والتعاون … هذا الحوار ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية وبقاء الحضارات .. ولهذا كانت فترات السلام هي الأصل في بناء الحضارات واستمرارها ؛ أما الحرب فشذوذ يؤدي إلى إزهاق الأرواح وتبديد الإمكانات ؛ وما ينفق عليها قد يسعد الجنس البشري كله قروناً ـ كما نرى في حجم الإنفاق العسكري في العصر الحديث ـ ومن هنا يكتسب الحوار أهميته البالغة من كون الوجود الاجتماعي الإنساني لا يتحقق إلا بوجود (الآخر المختلف) ؛ الذي يمكن أن تتعرف عليه ، وتتبادل معه الخبرات وصور التعاون .. وبالتالي تستطيعان معاً ـ بالالتقاء والحوار ـ إنتاج المعرفة ، وتوليد الأفكار الجديدة ؛ حتى تتضح المعاني، وتغني المفاهيم ؛ لأن الحوار في مستوياته العليا إنما هو نوع من إنتاج المعرفة الراقية؛ التي تتحاور مع كافة ضروب المعرفة الإنسانية .
وبالتزام الحوار ، وتواصله بين الأطراف المختلفة ؛ تتقلص شقة الخلاف شيئاً فشيئاً ، وبفضله تتسع قدرات العقل ، وتتعمق مداركه ، وفي أجواء الحوار ينمو العقل ، ويقوى بما يتهيأ له من تنوع في الفكر ، واختلاف في المنهج ([2]) .
فإذا أغلق الإنسان باب الحوار ؛ فقد أغلق على عقله الأوردة التي تحمل إليه المعرفة الناضجة التي قبلتها العقول ، ومحصتها النظرات الثاقبة ، والآراء السديدة .
ويؤكد أحد الباحثين النابهين على أن الحوار ـ في حقيقة أمره ـ انعكاس لمستوى تطور وعي الفرد والجماعة ؛ بينما يمثل الانطواء على الذات ، والتقوقع داخلها مرحلة الطفولة والبدائية .
فكلما سما الإنسان ، وترفع عن أنانيته ؛ أوجد في ذاته مكاناً أرحب للآخر ، وأدرك أن الحقيقية ليست في الأنا وحدها ؛ بل هي تتكامل مع الآخر . والحوار معه فرصة ثمينة لاكتشاف الأنا ، وإضاءة ساطعة على الثغرات ، والنواقص التي لا تخلو منها شخصية إنسانية ([3]) .
وقد سجل التاريخ الإنساني للحضارة الإسلامية أنها كانت هي المبادرة باقتحام فضاء الآخر ، والدخول معه مبكراً في حوار صريح وجريء ؛ تناول المقدس والممنوع ، وطرحت على بساط البحث ، والتحليل ، والنقاش العلمي الجاد ؛ كل المنظومات المعرفية التي طالتها أيدي علمائها ؛ دون خوف أو وجل ([4]) .
لكن موقف أوربا كان على العكس من ذلك …
فمع تشويهها الدائم للإسلام ؛ أضافت ـ إلى هذا التشويه الظالم ـ عنصر الاستعلاء القومي والحضاري ؛ لاسيما عقب اكتشافها لأمريكا ، ورأس الرجال الصالح (مستفيدة من خبرة المسلمين البحرية) ، وازدهارها الاقتصادي ، واكتشافاتها العلمية ؛ ومن ثم اعتبرت أوربا نفسها صاحبة مشروع كوني ؛ تمثل فيه أوروبا (المركز) ، وباقي العالم لا يعدو أن يكون مجموعة أطراف ؛ مكونة من أنماط حياتية ، واقتصادية ؛ غير واعية ، ومتعثرة ، وساكنة ، ومفتقرة لقوة الاستكشاف، والتحليل ، والاستنتاج ([5]) ؛ وكأنها ـ في رأيها ـ لا تستحق الحياة ، أو كأنها لم يكن لها رصيد حضاري ؛ ربما يفوق الحضارة الأوربية في بعض معطياته المعنوية والفنية بخاصة.. والمادية بالنسبة لعصرها ثانية .
وبهذه الروح الاستعلائية العنصرية ؛ عامل الغرب كل الحضارات القديمة ؛ التي سيطر على شعوبها ، وجند كل قواه لتحطيمها ، وتشويهها ، وإحلال النموذج الغربي محلها ؛ منطلقاً من رؤية تدميرية استعمارية تقوم على أن كل الحضارات الأخرى لا تستطيع أن تلتحق بالغرب وحدها في ميدان التقدم ؛ وبما أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك لوحدها ؛ فإنه ينبغي على الغرب أن يساعدها ، أي أن يستعمرها ([6]) .
وهو منطق عجيب !!
ونظن أنه ـ بهذا الفكر الاستعلائي العنصري ـ لا يمكن أن يكون هناك مكان للحوار ؛ من وجهة نظر ساسة أوروبا وقادتها ، ونخبها المثقفة المؤمنة بهذا الفكر العنصري الماسوني .. اللهم إلا حوار السادة مع العبيد ...!!
------------------------------------------------------------------------
([1]) الحجرات : 13.
([2]) محمد زرمان : ثقافة الحوار ودورها في التأسيس للتواصل بين الأنا والآخر ، مؤتمر الإسلام والمسلمون في القرن الحادي والعشرين ، عمان ، إربد ، الأردن ، جامعة اليرموك ، نوفمبر 2004م.
([3]) محمد زرمان : البحث السابق .
([4]) المرجع السابق (بتصرف) .
([5]) المرجع السابق .
([6]) المكان السابق.