الجدالُ … والمحاورات بين الإسلام ، والمسيحية في المرحلة المبكرة
الجدالُ … والمحاورات بين الإسلام ، والمسيحية في المرحلة المبكرة
منذ بداية ظهور الإسلام سنة 610م (13ق هـ) وهو يتعرض لحقد الحاقدين من أصحاب الوثنيات الوضعية والديانات الكتابية السابقة … وقد يكون هذا الأسلوب مقبولاً في حدود معنية ، فليس من السهل ترك الإنسان لدينه وعاداته وتقاليده مهما كان بطلانها واضحاً ، بَيْدَ أن الأمر يصبح غير مقبول ـ جملةً وتفصيلاً ـ حينَ يَتَعرَّف الإنسان على حقائق الدين الجديد ويرى سموها وتصويبها لما لَحِقَ الأديان السابقة من تشويهات لا تليق بالدين ولا بالعقل .
كما يرى ـ في الناحية الحياتية ـ تسامحاً وتكريماً ، بل وتعاوناً على شؤون الحياة من أصحاب الدين الجديد … ومع هذا كله يأبى الإنسان إلا تشويه الدين الجديد وتسفيه أصحابه والافتئات عليه؛ مستغلاً تسامحهم وصفحهم والفرصة الذهبية التي أتاحوها لهم ليعمل معهم في أعلى المستويات الوظيفية ، متجاوزين عن إساءته التي لا يعرفون إلا القليل منها ، بينما يعمد هو إلى إخفاء الكثير مما يسيء فيه إليهم …!!
ـ والحقّ أن هذه هي قصة يوحنا الدمشقي (670ـ 750م) مع الإسلام ، مع الكرم الكبير الذي أسبغه عليه خلفاء بني أمية ، وهم يعلمون أنه ـ وأباه من قبله ـ يتعصبون للأرثوذكسية .
ـ لقد عمد يوحنا الدمشقي إلى كتابة كتابين يشير فيهما إلى الإسلام على مستوى التاريخ والعقيدة والقرآن والأخلاق والممارسات .
ـ ولقد انتهج يوحنّا الدمشقي منهجاً مبتوراً متعسفاً في كتابته عن الإسلام ، ولذلك لم يُدخل في نهجه ، وهو يدرس الإسلام ، مسائل جدالية حول ما إذا كان مجيء محمد قد وَرَدَ في نبوءات أنبياء تقدموا عليه ، أو ما إذا كان قد أتى بمعجزات تفوق مثيلاتها لدى عيسى وموسى عدداً وأهمية ، أو ما إذا كان الأسلوب البلاغي في القرآن دليلاً على نبوّة الرسول .
بل من المؤسف أن نقول : إن يوحنّا رفض التعرف الموضوعي على الإسلام ، وأن المسيحية الأرثوذكسية هي التي استقطبت وحدها جلّ اهتمام يوحنا الدمشقي ، فهو يدرس الإسلام ـ ابتداءً ـ لتفضيل الأرثوذكسية عليه ، ولتشويهه وتفنيد حقائقه ، وهو تحيّز (غير علمي) ، ويكفي لبيان عنصريته الأرثوذكسية أن يوحنّا الدمشقي يعدّ الإسلام من جهة ، وحركة تحطيم الصور و(الأيقونات) والمعتقدات الشعبية من جهة ثانية ، اللذين كانا في نظره بدعتين معاصرتين ([1]) ، وكان جزاؤه على هذا التحيزّ من بني دينه أنفسهم ، فقد تمت إدانته في مجمع (هاييريا) سنة754م، وذكر باعتباره هالكاً لعدم رفضه لتقديس الأيقونات .
ومن أكبر أدلة تعمد يوحنا الدمشقي تشويه الإسلام ما اعترف به دانييل ساهاس من أن يوحنا كان يحاول التشكيك في كون الإسلام دين إبراهيم الحنيف من خلال وصفه المسلمين ، على نحو لا يخلو من الخبث .
ويبدو أن يوحنا الدمشقي هو أول كاتب بيزنطي استخدم هذا التشويه (الأثيمولوجي) ـ كما يقول ساهاس ـ لأغراض الجدل العنيف وتحفيز الذاكرة ([2]) ـ أي لمجرد الشغب الجدلي الباطل ـ كذلك يصف المسلمين بـ (المفسدين) ؛ وهي التسمية التي درج اليونانيون على إطلاقها على المسلمين، لنزعهم عن الله كلمته وروحه ، رداً على تهمة الشرك التي يوجهها المسلمون إلى المسيحيين بسبب عقيدة التثليث .
ومن خبثه وفساد منهجه أيضاً (وهو الذي يعيش مع المسلمين) أنه يصور الرسول واحداً من أتباع بدعة أديان ، لا يعرف من العهدين ، القديم والجديد ، إلا ما ضُحلت قيمته ([3]) ، فمن المعروف أن الرسول محمدً ـ عليه السلام ـ كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، يقول فيه كتاب الله القرآن:"وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ" ([4]) … فمن أين للنبي محمد ـ عليه السلام ـ العلم بالعهد القديم وهو أمي من أهل مكة التي لا يعيش فيها اليهود ، وأين هو تأثير العهد القديم ـ أو الجديد ـ في القرآن الكريم ، مع أن القرآن يرفض معظم ما يقوله العهدان القديم والجديد عن الله وعن عيسى والأنبياء جميعاً ، ويدافع عن (التوحيد) و (عصمة الأنبياء) و(بشرية عيسى ونبوته) !!
وأياً كان أمر المنهج الفاسد الذي استعمله ـ بخبث شديد (كما يقول ساهاس) ـ يوحنا الدمشقي ، فإنه قام بإيجاد مناخ جدلي صاخب مع المسلمين … كما أن عنصر الإثارة والجدَّة اللذين استخدمهما الدمشقي في مناقشاته العقدية ، ومراسه الفلسفيّ في تطويع مقولات الفلسفة اليونانية والمنطق ، شكلت ـ كما يقول ساهاس ـ أموراً كان من نتيجتها أن استرعت انتباه المسلمين ، وشدّت اهتمامهم إلى ما يتجاوز المضامين الفكرية (يقصد الباطلة) موضوع المناقشة ([5]) .
ـ كما أن يوحنا الدمشقي ، الذي عاش في فترة متقدمة خلال العصر الأموي ، كان واحداً من الذين ألهموا المسلمين ووجهوهم لدراسة الإسلام ، لأغراض ذاتية على وجه التحديد ، باستخدام نماذج وإنجازات مستقاة من حضارة أخرى ، (وهو تفاعل حضاري مقبول) .
وليس مستبعداً ـ كما يزعم ساهاس ـ أن يكون كتاب يوحنا الدمشقي (ينبوع المعرفة) قد زوّد كلاَّ من الأشعري وابن حزم والشهرستاني بخطة عمل ، أفاد منها هؤلاء في أعمالهم التي تناولت البدع : فئات وتأريخاً .
ومع أننا لا نسلم بهذا على إطلاقه ؛ فإن المرونة التي تميز بها المسلمون ـ كما يقول ساهاس ـ وقابليتهم لاستيعاب ذلك التنوّع من التيارات والاتجاهات الفكرية المتنافرة ، مكنتا الإسلام من إيجاد توازن بين العقائد والأيديولوجيات المتضاربة ؛ وصولاً إلى بلورة المذهب (الكلاسيكي) لأهل السنة ـ هكذا يرى ساهاس ـ وهذا أدّى أيضاً إلى البحث عن إيمان معتدل لا يميل يساراً ولا يميناً ، وقد أصبح هذا قضية رئيسية على الساحة المسيحية في خضم الإشكالات التي أثارتها الدعوة إلى تحطيم الصور والتماثيل .
ـ وفي أجواء ملبّدة بمحاولات حثيثة لتحديد المعتقد (التقويم) في زمن يوحنا الدمشقي ـ بعد اكتساح عقيدة التوحيد الإسلامية للعالم البيزنطي ـ كان يُقصد من توازن مماثل كهذا في المسيحية ، أن يُسفر عن منزلةٍ ما بين المعتقدات الشعبية الخرافية من جهة ، والتجريد الديني ، أو جعله على نحو أقل صرامة من جهة أخرى ، بين الإيمان المجرد وكيفية التعبير عنه ، بين العبادة والمهابة ، بين الحقيقة والألوهية في الوحي ([6]) ، حتى تستطيع المسيحية أن توجه عوامل هجم التثليث والصليب وتأليه المسيح عليه السلام .
ـ وبينما كان يوحنا الدمشقي كمسيحي ، يتبصر في العلاقة بين الله والإنسان ويدرّسها وفقاً لمبادئ التبنيّ الإلهي (الابن والأب والروح القدس) والمحاكاة والكشف الروحي ، كان المسلمون يرونها ويتصرفون حيالها وفقاً لمبدأ الطاعة (أي إسلام الوجه لله الواحد) ومن ثم أصبحت (القدرة) لدى الإنسان ، في نظر يوحنا الدمشقي والإسلام مسألة تدور حول نقطة مركزية يغلب عليها الطابع الأخلاقي أكثر منه العقلاني ، ذلك أن المسيحية الشرقية والإسلام المبكر يتقاسمان ميزة جوهرية ، تتمثل في أنهما ينظران إلى الدين من منطق كونه تجاذباً عميقاً بين الله والإنسان وطريقة حياة في آن معاً ، وإن اختلفت المرجعية العقدية ([7]) .
وتكملة لهذه المقاربة العامة للإسلام كمنهج في الإيمان والممارسة ، نذكر ليوحنا الدمشقي
ـ أيضا ـ كتابه المناظرة (Disputation) الذي يدور حول مجادلة بين شخصين ، أحدهما مسلم والآخر مسيحي تشتمل على مسائل فلسفية وكلامية ، حول مسائل كالإيمان والأعمال
(بين الخوارج والمرجئة) وقدرة الإنسان ، والجبر وحرية الإرادة (المناظرة بين الجبريّة والقدريّة والمعتزلة) ومرجعية القرآن وجوهره من حيث كونه كلمة الله (المناظرة بين أهل السنة والجهمية)، والصفات الإلهية ، وعلاقتها بذات الله تعبيراً موضوعياً عن حقيقة المواقف المسيحية إزاء المسائل المطروحة ، وقتئذ ، وفي كل الأحوال ينطوي على إستجابة مسيحية للمسائل الكلامية والفلسفية المتداولة في تلك الفترة ، في قالب من حوارات مفترضة أو حقيقية مع المسلمين، بل نحن ـ كمسلمين ـ لا نستبعد أن يكون للفكر اللاهوتي المسيحي المتصارع في كثير من أساسيات العقيدة خلال القرن السابع الميلادي وما قبله ، كان له تأثيره في نشوء هذه التيارات الكلامية التي ظهرت في تاريخ العقيدة البسيطة الفطرية الواضحة (التوحيد) ؛ التي لم تعرف هذا اللون من الصراع الجدلي الفلسفي الذي انتقل إلى الحضارة الإسلامية ربمابتأثير يوحنا الدمشقي وغيره ([8]) .
وأياً كان الأمير ، ففي مجال الكتاب المقدس ومدى صلته بالوحي فكراً ولغةً لا ينكر أن يوحنا الدمشقي اعتمد في كتابه (المناظرات) منهجاً يفرق فيه بين (كلمة) الله بمعنى (الخطاب) و(التفوّه) به بمعنى (الألفاظ) ، وكانت هذه المقاربة تحديداً بمثابة البذرة الفلسفية التي زرعها الدمشقي في تربة المساجلات التي دارت رحاها بين أهل السنة والجهمية ؛ وصولاً إلى المذهب الأشعري الذي وفّق بين طرفي هذا الجدال بالقول إن خطاب الله قديم ، بينما التلفظ بالقرآن مخلوق ([9]) .
وينتهي دانييل ساهاس إلى أنه وفقاً لاعتبارات الدمشقي نفسه يبدو ، واضحاً أن التباين الجوهري بين المسيحية والإسلام يتمثل في الطريقة التي تجلّى بها الوحي الإلهي : في المسيحية من خلال تجسّد كلمة الله في المسيح ، وفي الإسلام من خلال تنزل وحي الله والنطق به من قِبَل بشرهم الأنبياء ، ومن هاتين الصيغتين المختلفتين ، جوهرياً ، في تجلّي الوحي الإلهي ، يستمد المسلمون والمسيحيون عبادتهم وطقوسهم وطرائق سلوكهم وتعبيراتهم الدينية ، فيحدث التمايز بينهم (…) بينما يظل الوحي مسألة ضرورية ومركزية تجمع بين كلتا الديانتين .
وأياً كان أمر المنهج الفاسد الذي استعمله يوحنا الدمشقي ـ بخبث شديد كما يقول ساهاس ـ فإنه نجح في إيجاد مناخ جدلي صاخب مع المسلمين …
كما أنَّ عنصري الإثارة والجِدَّة اللذين استخدمهما الدمشقي في مناقشاته العقدية ، ودراسة الفلسفة في تطويع مقولات الفلسفة اليونانية والمنطق ، شكّلت ـ كما يقول ساهاس ـ أموراً كان من نتيجتها أن استرعت ابنتباه المسلمين وشدت اهتمامهم إلى ما يتجاوز المضامين الفكرية (يقصد الباطلة) موضوع المناقشة .
كما أنَّ يوحنّا الدمشقي ، الذي عاش في فترة متقدمة خلال العصر الأموي ؛ كان واحداً من الذين ألهموا المسلمين بدراسة الإسلام ، لأغراض ذاتية على وجه التحديد ، باستخدام نماذج وإنجازات مستقاة من حضارة أخرى ([10]) .
ـ وهكذا ـ وعبر تناظرات وتقاربات ومحاولات ، ووجود مساحات فكرية وعقيدية يلتقي فيها الإسلام مع أرثوذكسية يوحنا الدمشقي … عمد الدمشقي إلى توظيفها توظيفاً حضارياً ، ويخدم به مباشرة عقيدة الأرثوذكسية ، لكنه في النهاية يخدم قضية الحوار والجدل الديني المبكر في تلك المرحلة الأولى الخطيرة التي التقى فيها النظام الإسلام (العقدي والفكري) بالمنظومة المسيحية … ومن هذا الجانب نشير إلى إيجابيات لا يمكن إنكارها في جهود (يوحنا الدمشقي) وإن افتقد طرحه كثيراً من الموضوعية المرتقبة من مثله في مثل ظروفه الثقافية والمعاشية .
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) مجلة الاجتهاد : بيروت ، عدد28 ، دانييل ساهاس ص123ـ 124 بتصرف .
([2]) كتاب الفهرست لابن النديم : ترجمة باريارد دودج ـ نيويورك ، 1970م ص206 ـ 216، وكتاب الأصناع ، ص4، 28.
([3]) دانييل ساهاس : مجلة الاجتهاد ـ بيروت ، عدد 28، ص126بتصرف .
([4]) العنكبوت : 48.
([5]) مجلة الاجتهاد : مرجع سابق ص132 ـ 133بتصرف .
([6]) المكان السابق ص133 ـ 134.
([7]) دانييل ساهاس : الاجتهاد 28، بيروت ، ص135 بتصرف .
([8]) المرجع السابق ص129 بتصرف .
([9]) المرجع السابق ص131 بتصرف .
([10]) دانييل ساهاس : الاجتهاد 28 ، ص132 بتصرف .