الحوار والمناظرات الدينية في الأندلس .. أسبانيا الإسلامية

الحوار والمناظرات الدينية في الأندلس .. أسبانيا الإسلامية

 

كان من نتائج التعايش الطبيعي والدائم بين معتنقي الأديان التوحيدية الثلاث في أرض الإسلام بعامة ، وفي الأندلس بخاصة ؛ أن المناظرات كانت وافرة جداً بين المسلمين من جهة ، واليهود والمسيحيين من جهة ثانية ؛ وقد طالت هذه المناظرات مجال العقدية بشكل خاص ([1]) .

وقد ظلت مساحة هذه المجادلات تتسع من قرن إلى قرن ؛ مع ازدهار الحضارة الإسلامية ـ من جانب ـ وخوف الأقليات اليهودية والمسيحية على خصوصيتها ؛ مع انتشار الإسلام من جانب آخر . 

لقد شهدت قصور الأمويين ، والعامريين (138 ـ 422هـ)، والطوائف (422 ـ 479هـ) ألواناً من هذه المساجلات قامت بين شعراء وأدباء كابن العريف ، وابن شهيد ، والزبيدي ، والقسطلي ، والطبني ، وأبي العلاء صاعد ([2])  ، وقد صارت قصصها ووقائعها مادة طيبة لحركة الفكر الأندلس .

وكانت هناك مساجلات أخرى هدفها الانتصار للرأي ، ومقارعة الخصوم ، سواء من خارج الدين الإسلامي أو من داخله ، من أصحاب المذاهب الفقهية والكلامية الأخرى . ومساجلات أبي محمد بن حزم ، وأبي الوليد الباجي من أشهر المساجلات التي تعكس هذا النوع من المبارزة الفكرية التي تعقد لها المجالس ويحضرها المثقفون من مؤيدين ومعارضين .

ولم يكن مجال هذه المناظرات التنافس والكسب فقط ، كما أنها لم تكن لمجرد التسلية ، وإنما كانت أسلوباً من أساليب امتحان القدرة الفكرية والفنية . والطريف من هذه الامتحانات هي تلك التي يقوم بها العلماء بعضهم لبعض في المجالس العلنية ، ويترك الأمر لنتائج هذه الامتحانات لمنح الألقاب العلمية ، وقد كان لبعض المناظرات أثر عظيم في تقرير مصير العلماء ([3]) .

وشأن هذه المناظرات في الحياة العلمية القرطبية والأندلسية عامة شأنها شأن الرسائل العلمية في عصرنا ، بل لقد كان أثرها أبعد أثراً ؛ لأنها شملت ذوي المكنة والتمرس في العلم ، ولم يسلم منها كبار الشيوخ ([4]) .

وكانت هذه المناظرات تقوم على أسس علمية رصينة ، في أغلب الأحييان ، يؤكد هذا ما قيل من أن متكلمين اجتمعا فقال أحدهما : هل لك في المناظرة؟  قال : على شرائط : ألا تغضب ، ولا تعجب ، ولا تشغب ، ولا تحكم ، ولا تـُقـْبل على غيري وأنا أكلمك ، ولا تجعل الدعوى دليلاً ، ولا تجوز لنفسك تأويل آية إلا جوزت لي تأويل مثلها ، وعلى أن تؤثر التصادق ، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلاً منا يبني مناظرته على أن الحق ضالته ، والرشد غايته ([5]) .

 

وكان القرن الخامس للهجرة في أسبانيا المسلمة ، والذي تألق فيه أبو محمد بن حزم القرطبي ؛ الجدلي الشهير (456هـ ـ 1063م) ؛ في مناظراته مع ابن النغريلة (ويدعى صموئيل) ، ثم ابنه يوسف ، وقد كان وزراء الزيريين (البربر) في غرناطة (حبوس ، ثما باديس) .

وقد أدان ـ ابن حزم ـ تدخلهما القوى إلى جانب الملوك الصغار في إدارة شؤون المملكة؛  لكن مع ذلك فإن الجدل الحزمي قد اقتصر فقط على ما يتعلق بمجال العقيدة ([6]) .

وقد توافرت لابن حزم في هذا السبيل أدوات البحث ، فقد ناظر كثيراً من اليهود والنصارى ، وكان له معهم مجالس محفوظة وأخبار مكتوبة ([7]) ، واطلع على كتبهم ، وعاشرهم عن كثب ، وقد شحذ همة ابن حزم لدراسة اليهودية ، ومناقشتها بصفة خاصة ، أنه عاصر ظروفاً بلغ فيها من اليهود وتطاولهم على المسلمين في الأندلس حداً لا يطيقه مسلم غيور كابن حزم  وكان ذلك في الربع الثاني من القرن الخامس للهجرة  ([8]) ـ كما ألمعنا ـ

ففي هذا الجو المشحون بالصراع ، والذي يأخذ فيه كل فريق عدته في البحث ناقش ابن حزم اليهودية وكتب فيها فصولاً في موسوعته "الفصل" ثم أفرد رسالة في الرد على اليهودي
"يوسف بن النغريلة" عرفت باسم "الرد على ابن النغريلة" ، وقد كتب يوسف المذكور رداً على ابن حزم لم يصل إلينا وأغلب الظن أنه كتب بعد وفاة ابن حزم وأثناء ارتفاعه إلى الوزارة .

وناقش ابن حزم في حديث عن اليهود جوانب أربعة هي :

أ ـ كشف التناقض في نسخ التوراة .

ب ـ كشف الأكاذيب في نصوص التوراة المعتمدة لدى اليهود ، والتناقض فيها .

جـ ـ والجانب الثالث من جوانب حديث ابن حزم عن اليهودية هو تفنيده لافتراءات بعض كتاب اليهود على الإسلام .

وقد لخص في صدر رسالته في الرد على ابن النغريلة شبهات اليهود على الإسلام .

د ـ ولا يكتفي ابن حزم بالرد على هذه الشبه وغيرها ، بعد أن يحصرها حصراً وافياً ؛ لكنه يتبع ذلك بذكر "قليل من كثير من قبائحهم التي يدبرونها وينسبونها إلى الباري تعالى في كتبهم التي طالعناها ووقفنا عليها" ([9]) .

ومن قبائحهم التي ذكرها ابن حزم : استباحتهم الكذب بغير العبرية ، وتصويرهم الله في صورة الخائف من يعقوب ، ونسبتهم الزنا لأنبيائهم ([10]) ، وزعمهم أن كل نكاح على غير حكم التوراة هو زنا ، ودعواهم أن السحرة يقدرون على إحالة الطبائع ، كإحالة الإنسان حماراً ، أو العكس ، وزعمهم أن الله حضهم على سرقة أموال المصريين حين خروجهم من مصر ([11]) ، وأن هارون هو الذي صنع لهم العجل ليعبدوه ([12]) ، وغير هذا كثير وكثير مما تحفل به التوراة ([13]) .

وإلى جانب ابن حزم كانت هناك شخصيات كثيرة على المستويات المختلفة أسهمت في هذا الحوار والجدل ، وحسبنا هذا النموذج للدلالة على الحركة الفكرية الحوارية في الأندلس. 

 
--------------------------------------------------------------------------------

([1])  عبد المجيد تركي : مشروعية سكنى المسلمين في أرض استعادها المسيحيون ، مجلة الاجتهاد، عدد 28، بيروت .   

([2])  د/ طه الحاجري : ابن حزم صورة أندلسية ، ص53، طبع ونشر : دار الفكر العربي ، القاهرة .  

([3])  د/ وديعة طه النجم : مقال/ العلاقات بين العلماء ، عالم الفكر عدد 1، مجلد إبريل سنة 1970م ، ص252، 257.  

([4])  المكان السابق .   

([5])  د/ وديعة طه النجم : مقال/ العلاقات بين العلماء (عالم الفكر) إبريل سنة 1970م ، ص258، وانظر د/ أحمد شلبي : تاريخ التربية الإسلامية ، ص85، دار النهضة المصرية .   

([6])  عبد المجيد تركي : المرجع السابق .   

([7])  ابن بسام : الذخيرة ، م1، جـ1، ص143، طبع القاهرة (1339هـ) ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ـ مصر .   

([8])  مقدمة الدكتور/ إحسان عباس : الرد على ابن النغريلة ، ص18، دار العروبة ، القاهرة 1960م .   

([9])  انظر المصدر السابق ، ص64، وانظر الفصل 1ـ 217.  

([10])  انظر الفصل : 1 ـ 218، وانظر الدكتور/ أحمد شلبي : اليهودية ، ص131 وما بعدها .  

([11])  انظر الدكتور/ أحمد شلبي : اليهودية ، ص166، 167.  

([12])  انظر المرجع السابق ، ص68، 167.  

([13])  انظر الرد على ابن النغريلة ، الصفحات من 65 إلى 81 .  

 

المصدر: http://www.el-wasat.com/portal/News-55524852.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك