الحوار الحضاري في الحروب الصليبية
الحوار الحضاري في الحروب الصليبية
لم تكن الحروب الصليبية ـ كما هو المتوقع ـ حرباً كلها ، على امتداد كل الأيام أو الشهور ؛ بل كانت تتخللها فترات سلم كثيرة ، تمليها ضرورة الحياة والطبيعة الإنسانية ؛ لحرب استمرت قرنين ونصف قرن من الزمان …
وفي ضوء هذا ، لا يبدو من المستغرب أن تزدهر العلاقات التجارية والثقافية بين الصليبيين الذين احتلوا الرها ، وأنطاكية ، وطرابلس ، وبيت المقدس ، واستوطنوها ، وبين المسلمين في هذه الأيام الصليبية التي يتقاتل الناس فيها حيناً ، ويتبادلون التجارة والثقافة حيناً آخر ؛ في عملية حوارية من أطرف العلاقات الجدلية في التاريخ .
وإذا كان (التتار)؛ الذين دمروا بغداد ، وقضوا على الخلافة العباسية في العراق، قد خرجوا
ـ وهم المنتصرون ـ مسلمين ؛ بعد أن عمدوا ـ بفطرة غير مركبة ـ على التعرف الموضوعي على الإسلام .. فإن الأوربيين الذين يحملون تراثاً مركباً ، وفطرة دنيوية مصلحية بحتة (براجماتزم) قد خرجوا ـ وهم المنتصرون أولاً والمنهزمون أخيراً ـ بإدراك حقيقة الإسلام ؛ مع اتخاذ قرارهم بعدم الاقتراب الموضوعي منه ، والعمد إلى تشويهه ، والاكتفاء بنقل علومه وثقافته العامة ، ونظمه ، ونواحي تقدمه ؛ وذلك خشية على أوربا من الإسلام .. وزادوا الطين بلـّة فكونوا كتائب من المستشرقين ثم المستغربين للحفاظ على هذا التشويه ، ولذلك ؛ فقد ظل الجهل والتحيز قروناً يحيطان بمعرفة بيزنطة , والغرب بالإسلام وبالعالم الإسلامي ؛ فالبيزنطيون الذين تصارعوا مع المسلمين لثلاثة قرون ؛ كان لديهم أدبهم الشعبي الذي يصور المسلمين يعبدون ثلاثين إلهاًَ أكبرهم (مهومد) ، كما يذكر ذلك (ريتشارد سوذرن) ؛ مستغرباً فظاعة الأساطير المنتشرة عن الإسلام في الغرب خلال القرن التاسع إلى الثاني عشر. وعلى الرغم من التعايش عن قرب مع المسلمين لعدة قرون في أسبانيا ، والحروب الصليبية ، مما يفترض معرفة أفضل ؛ إلا أن واقع الحال يذهب باتجاه مغاير ([1]) .
ومن أدلة (الجهل المطبق) الذي كان عليه الصليبيون قبل أن يتعرفوا على المسلمين في الحروب الصليبية ، ما هو معروف من الطبيعة الغوغائية لسلوكيات الحملات الصليبية الأولى ؛ ليس ضد المسلمين وحدهم ، بل ضد البيزنطيين أيضاً ، ويضاف إلى ذلك أنهم عندما احتلوا مدينة (طرابلس ـ الشام) ـ التي أصبحت إحدى مستعمراتهم ـ لم يترددوا في إتلاف مكتبتها العامرة بمائة ألف كتاب . ومع هذا فالزمن وما يحمله من احتكاك مباشر، وغير مباشر، والرغبة في معرفة العدو … كل هذه الأمور ستدفع الصليبيين باتجاه التعرف أكثر على معالم المسلمين ، والاقتباس من المظاهر المختلفة للحضارة العربية الإسلامية ؛ التي ستفرض نفسها كحضارة أرقى على رجال الغرب ([2]) .
وعندما يتقدم الزمن تنداح ـ بالاحتكاك الحضاري ـ غشاوات الجهل تدريجياً ، ولهذا فليس من المستغرب أن تزدهر التجارة الداخلية في عصر الحروب الصليبية ، لحرص كل من المسلمين والصليبين على المواد التي توفرها لهم عائدات التجارة .
وسوف يندهش الرحالة (ابن جبير) في رحلته الشامية (1183م) لرؤيته القوافل تذهب وتجيء بيسر بين مصر ، ودمشق ؛ عبر بلاد الفرنج .. وأن للنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم .. وتجار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم .. وأهل الحرب مشتغلون بحربهم ؟
وكذلك على المحور الآخر ؛ كانت في المدن الصليبية علاقات طيبة بين التجار المسلمين والمسيحيين . ونقل التجار الطليان ـ عبر المدن الصليبية ـ تجارة الشرق الأقصى .
بل إن المصالح الاقتصادية وعمليات التبادل التجاري نجحت في أن تنافس في حيويتها وأهميتها النواحي العسكرية ، ومثال ذلك أن الجانب الإيطالي عرف كيف يطوع تشدّده الديني لمصالحه الاقتصادية ؛ ففي نهاية القرن الثاني عشر قدمت البندقية يد العون للصليبين ضد صلاح الدين ، ونقلت السلع ـ حتى الأسلحة ـ إلى المسلمين في مصر والشام . وبيزا التي قدمت للفاطميين، والفرنجة المساعدة ضد صلاح الدين ، لن تجد حرجاً في تقديم اليد نفسها للأيوبيين بعد انتصارهم، مثلما جرى مع البندقية ([3]) .
ومع هذا التطور الذي أملته الضرورات في النواحي الاقتصادية ؛ كان لابد من وجود تطور
ـ ولو بدرجة متفاوتة ـ في النواحي الثقافية ، وقد وقع هذا التطور ـ فعلاً ـ على النحو المصلحي الذي أشرنا إليه ؛ فقد كيَّـفت أوربا (الثقافة والعلوم) تكييفاً مصلحياً ؛ لا علاقة له بالحق ولا بالموضوعية ، ولا بإنصاف الآخر ، بل حسبها أن تأخذ منه ما يفيدها ـ من جانب ـ وما يحميها من الإسلام والمسلمين (الأعداء الثابتين) من جانب آخر . وكما رأينا الجانب الإيطالي يخضع النواحي العسكرية للنواحي المصلحية والاقتصادية ؛ كما تدلنا الوقائع التي أشرنا إليها ؛ والتي ذكرها كثيرون مثل (ميخائيل زابوروف) صاحب كتاب : (الصليبيون في الشرق) ، و(قاسم عبده قاسم) في كتابه :(ماهية الحروب الصليبية) و(ستيفن رنسيمان) في تاريخه للحروب الصليبية (الجزء الثالث)…
كما فعل الصليبيون هذا ، في النظرة التكييفية، على النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية.. وبالتالي الدينية الخاصة بهم … كذلك فعلوا في نقلهم ـ وتعلمهم ـ من المعارف الإسلامية ؛ خضوعاً للعنصرية ، وحفاظاً على حاجز نفسيّ ، وفكريّ بينهم وبين المسلمين
ـ على حساب الحقائق ـ ولا ندري ما الفائدة منه .. بل إن عواقبه كانت ضارة ووخيمة …
أجل : لقد حفزت الحروب الصليبية (الفرنجة) الهمج على التعلـّم من المسلمين ، وقد اتسعت معرفتهم بما في العالم العربي من جغرافية بشرية ، وتاريخ ، وعلوم ؛ مما خلق عندهم نهضة في دراسة القانون ، والطب ، والمنطق ، وبدأوا بتكوين نقابات من المدرسين أسسوا عليها فكرة الجامعة . وهكذا نشأت الجامعات من جامعة باريس إلى أكسفورد ، وكمبردج بدءاً من القرن الثاني عشر الميلادي .
كما اتسعت خبرة الصليبين وثروتهم ، ووقفوا على فنون الشرق وصناعته ، وما فيها من رونق وفن ودقة . والراجح أن المستوى العام للمعيشة في الغرب ـ كما يشير إلى ذلك رنسيمان ـ لم يرتفع إلا بفضل رغبة العساكر والحجاج العاندين في أن يلجأوا في أوطانهم إلى محاكاة ما اشتهر به الشرق من مظاهر الحياة ([4]) .
وأيضا ـ كما يعترف (رنسيمان) ـ سيصبح الأوربيون ـ بفضل ما يأخذونه من المسلمين في الحروب الصليبية ـ قادرين على أن يميزوا بين السلوك ، وأساليب الحياة الحضارية الإسلامية : (العلوم ، والتقنيات ، والذهنيات ، والتفلسف العربي والإسلامي …) (وهذه يأخذونها وقد يعترفون أحياناً بفضلها وقد لا يعترفون في أحيان أخرى كثيرة !!) … لكنهم ـ كما يؤكد (رنسيمان) يظلون محافظين على جهلهم وعدائهم للإسلام وعقيدته (عقيدة التوحيد) … وهو ما يمثل ظلماً تاريخياً وأخلاقياً كبيراً .
ومع ذلك كله ـ يؤكد رنسيمان ـ على القيمة الحضارية للحوار أثناء فترة الحروب الصليبية ، مشيراً إلى أن هذه الفترة التي امتدت قرنين ونصف :
"من أهم مراحل التاريخ المؤثرة في المدنية الغربية ؛ إذ أن أوربا لم تكد تخرج من مرحلة غارات المتبربرين الطويلة الأمد ؛ التي يطلق عليها العصور المظلمة (العصور الوسطى) ؛ حتى كانت ـ بفضل المسلمين ـ براعم ما نطلق عليه النهضة الأوربية تأخذ في الظهور ([5]) .
ونختم بالإشارة هنا إلى أن هذا التسامح والانفتاح من المسلمين جزء من دينهم ؛ فهم دائماً يفتحون ذراعيهم للحوار ، وتجاهل آلام الماضي ؛ متغاضين عن الظلم الذي يعاملون به ؛ تاركين الأمر لمحكمة الله العادلة .
----------------------------------------------------
([1]) شمس الدين الكيلاني : حقبة الحروب الصليبية ، والوضع على طرفي المجابهة التاريخية ـ مجلة الاجتهاد ، عدد 18، بيروت.
([2]) شمس الدين الكيلاني : المرجع السابق .
([3]) الكيلاني : المرجع السابق .
([4]) المرجع السابق .
([5]) نقلاً عن المرجع السابق بتصرف .