أسباب الاستهداف الصحفي للعلماء

أسباب الاستهداف الصحفي للعلماء

تأليف / د. حمزة  آل فتحي

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله تعالى، ناصر دينه، ومعز أوليائه، ومذل أعدائه، رفَع العلماء الأتقياء وأذل الجهلاء الحقراء، وصلى وسلم على إمامهم المقدّم، وسيدهم المعظَّم، من جاهد وقاوم، ودافع وما أحجم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أولي النهج الأحكم، والبيان الأشمل، وسلم تسليما إلى يوم الجزاء المحتّم...

أما بعـــد...

فمنذ قرابة عشر سنين، والأحداث على العالم الإسلامي متلاحقة رهيبة، لا يكاد ينفك من  رزية وإلا تطلل علينا أختها، وما هي أشد منها، لا سيما المملكة، (بلاد الحرمين)، فقد اصطلت بنار الضغوط، والتهديد، والإرهاب، وباتت في مأزق، لكونها آخر معاقل الإسلام، ولتورط بعض شبابها في توجيه ضربة سبتمبر التاريخية، التي غيرت مسار الأحداث، وكان لها التداعيات الخطيرة والعجيبة....

وعلى إثر ذلك، أُتهم الإسلام السلفي وانتقدت المناهج، وضِّيق على المساجد والدعوة، وغُيِّرت مناهج التعليم والإعلام، ونيل من العلماء الكرام، الذين هم منابع شرح الشريعة، وجداولها الزاخرة، بالبلاغ والدعوة، والإفتاء والتفهم، وتجاوزت صحفنا المحلية (مسألة الخلاف الفقهي) مستعملة الضغط الدولي، والانفتاح الإعلامــي والظروف المحلية، فنسفت العلماء، ووسمتهم بأبشع العبارات، التي لا تُطرح في النقد العلمي، ولا الحوار الموضوعي، ولكن لحاجة في نفس صحفي، ضاق من الدين، وتبرم من الشريعة وأحكامها، واشتاق للانفتاح المطلق، وإحياء الصورة النمطية للغرب في المشرق الإسلامي !!.

وأدرك أن النيل من العلماء والأجلة، الذين هم حماة المنهج السلفي النقي، يثمر له ما يأتي :

أولاً : التشكيك في قيم الدين الإسلامي.

ثانياً : تنفير الناس عنهم، وإسقاطهم محلياً وعالمياً.

ثالثاً : تجرئة الجهال على الوقيعة والنقد بلا علم، والمشاركة بلا تفهم، بحيث تصبح القضايا الشرعية كالكلأ المباح، وكالسوق المختلط كأهوائهم...

رابعاً : رفع القداسة عن الدين وشعائره وأعلامه.

خامساً : زعزعة الثوابت والأصول، ليحصل التكيف العصري، والانسجام الواقعي بزعمهم !!

سادساً : تجريد التيار السلفي، ونبذه من بلاد الحرمين، بحيث يصبح الدين قضية ثانوية، ومرنة في حياة أرباب التغيير، والإصلاح الليبرالي والعلماني.

إلى غير ذلك من الثمرات المرجوه لأصحاب هذا الاتجاه، الذي يطمح للصدارة والتبديل والتحريف.

بحيث يطبق أجندة الأعداء، ولا يخدم الوطن وقيمه الإسلامية والعربية، فضلاً عن أن يخدم الإسلام، ومعالمه، ونيراته!!

ومع تزايد النقد والاستخفاف بالعلماء والأكابر في بلادنا، كان لا بد من وقفة تاريخية حاسمة، تصلى هؤلاء صلياً لاحد له، وتوقفهم عند حدهم، وتعيد للعلم اعتباره، ولأهله مكانتهم.

وقد حصل شئ من ذلك، ودافع علماء ودعاة، وكتاب أحرار، ولكنَّ البلاء مستطير، وفي كل يومٍ كاتبٌ وقضية، وناقد ومستخف، وكاتب ومستهزئ، تدعمهم صحف معروفة، وبرقيات مشبوهة وقد تكشفت، ونبأنا الله من أخبارهم وجرائرهم.

ولكن المجابهة والمدافعة، لم تكن بحجم العدوان المعرفي والصحفي من هؤلاء !! ولم أرَ من تصدى للجذور هذه الحملة الاخيرة وبواعثها، بحيث، إذا فُهم السبب، بطلَ العجب، وإذا عُرف الجذر، أمكن معالجته أو استئصاله من مكانه، أما مجاراتهم في الردود العلمية، وهم جهلة مفضوحون، فلا أرى الاكتفاء به، لئلا يحصل التضليل للعامة، ويتراخى هؤلاء العلماء، كما حصل في بعض المسائل، التي تنازل فيها بعض المشايخ، لأحداث الصحافة، الذين حازوا شهرة واسعة بمثل هذا التنازل!! وكان يكفي بعض غلمان الشيخ وخريجيه، أن يرد عليهم، ويكشف زيفهم وباطلهم....

ولكن قدر الله وماشاء فعل، والواجب الآن الاستيقاظ المستقبلي لهم، والنباهة الفكرية لمخططهم وأجندتهم، لأن الحدث جلَل، ولا يقبل الأناة الزائدة، أو التراخي المستغفل، الذي للأسف، قد تبناه بعض الشيوخ والدعاه كسلاً منهم، وعدم إدراك لأبعاد المشكلة، ووهَج النار المتصاعد..!!

حيث إن الوقيعة بعلماء البلاد، وتجريدهم من فضائلهم وعلومهم، أمر لا يجوز ولا يمكن قبوله في حس كل مسلم.

لا سيما بلادنا، وقد تعلمنا فيها تقدير العلماء، وتمكينهم بسبب حسن دينهم وخشيتهم، وبروزهم العلمي والفقهي.

وأما وقد وقع ذلك الشر العبوس، فإنني سأناقش في هذه الرسالة الصغيرة أسباب هذه الظاهرة، ودواعي ذلك الاستهداف الآثم، والاعتداء الأحمق، الذي سيجدون غبّه ولو بعد حين، حيث قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (الحج:38)

وقال (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة :11)

وصح قوله صلى الله عليه وسلم فيم يرويه عن ربه تعالى (من عادى لي وليا فقدت آذنته بالحرب).

وغير خافٍ على كل ذي لب ، أن العلماء البررة عماد الشريعة، وحماة الإسلام، وركائز الدعوة، ومحل التقدير والتوقير، وهم أولياء الله المجتبون كما قال ، أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله: (إذا لم يكن العلماء أولياء لله، فليس الله ولي)!

وحفظ هذه الولاية، الممنوحة لهم من الباري تعالى، يستوجب علينا حفظ كرامتهم، وتسويدهم، وعدم الرضا بإهانتهم.

وقد جاء عند أبي داود في سننه قوله صلى الله عليه وسلم :

(إنَّ من إجلال الله، إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحاملَ القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه...)

وأهل العلم أهل قرآن وذكر وحكمة، تستدعينا لتوقيرهم وإجلالهم، بل وحمايتهم من كل جهالة واستحماق أو اعتداء.

سائلاً المولى الكريم، أن يحفظ علماءنا، ويمكنهم في الأرض، لقول الحق، وحماية البيضة، وصون الملة، إنه على كل شئ قدير..

الإثنين 27/9/1431هـ

                                                       9/9/2010 م



 

المعالم المناخية للظاهرة

 

       لقد توافرت جملة من المعالم الملائمة لممارسة مثل هذا العدوان على شخوص العلماء الأفاضل، وتجاوز قداسة الدين والشريعة وأنها خط أحمر، لا يجوز مساسه فضلاً عن تجاوزه وتعديه !!.

لقد استغل الأذناب أحداث سبتمبر، والضغوطات الممارسة على المملكة حكومة وشعبا، وأن الإرهاب خرج من دياركم، ولابد من تفكيك البنية الثقافية للبلد.!!

لا سيما وأنها قائمة على إسلام عطِرٍ مصفّى، ينزع للكتاب والسنة، وفهم السلف الصالح الكرام، وطريقة الأئمة المهديين كالأئمة الأربعة، وأحمد بن حنبل على الخصوص، ثم تجديدات شيخ الإسلام ابن تيمية، والإحياء الباهر الذي صنعه الشيخ المجدِّد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتلامذته الكرام، والذي انتهجته الدولة السعودية وفقها الله في سائر أحقابها، إلى عصرنا الحالي.

وكل ذلك الجهد الفكري البهيج، المتجاوز لمائه سنه سالفة، لم يَرُق للغرب الصليبي بعد أحداث سبتمبر، واستبشر به العَلمانيون خيراً، وأحسوا بدنو ساعتهم الذهبية،  وأن الفرصة سانحة للتغيير السلبي المحبوب لديهم، فشنوا حملاتهم المتكررة على العلماء والدين، والشعائر أوالقيم الدينية الراسخة، اعتداء وتسفيهاً، حيناً، وحيناً آخر حواراً وجدلاً فقهيا ساقطاً !!

واستفادوا من اتساع الحركة الإعلامية، والثوره الفضائية والمعلوماتية، وبعض أخطاء المتطرفين الجهاديين.!!

حيث نقلوا المعركة للداخل الممنوع، فأفسدوا مشروعهم العالمي، باستهداف الأعداء في أماكن الصراع، فوقع ما وقع من الفجوة بين العلم والجهاد، وبات حملة الفقه في مأزق، وظفه كتّاب الصحافة، والاتجاه الليبرالي المحتقن لصالحه، بحيث تكشفت أهم المكاسب من هذه المعركة، التي بدأت من سنين، ولم تنته بعد، .....

ولا أظنها آئلة إلى الانتهاء !! بل في كل يوم يصطلي عودها، وتغذيها الجهلة والأعداء ، وسكوت العلماء والفضلاء !!.

وكان للزخم الفضائي الخلاعي منذ بضع عشرة سنة، دوره في صناعة جيل متغير متبدل نشأ على قيم  عَلمانية ، ومسارات غربية، تشتاق للحرية القاتلة، والانفتاح المطلق، والتمدن الآخر، ولا يبالي بالدين ابتداءً !! أو يريد الإبقاء عليه في المساجد، معزولاً عن السلوك والحياة العامة. وتزعمت ذلك قنوات لبنانية وخليجية معروفة، من أشهرها MBC، ثم الروتانا لاحقا وأشباهها...

ولقد طالب بعض هؤلاء بسن دين جديد، مستوحى من الأديان الثلاثة، أو بديلاً عنها أسماه (دين الإنسانية) ضارباً بقيم البلاد، والبيئة المتشددة التي نشأ بها عرض الحائط، ولا يوجد من يسائله، أو يحاسبه، أو يكفه عن الكتابة الصحفية !!.

وينشر بعضهم روايات الجنس والبهجة اللا أخلاقية، لقلب بلاد الحرمين وعاصمتهم، ولا يجد النكير أوالتثريب ، فضلاً عن المحاسبة والتعزير، وهي رواية (بنات الرياض) التافهة ويقدم لها أحد رجالات الدولة الرسميين، مشيداً بالاختراق المحدث، والتقدم المطلوب وهذا شئ خطير، وعجيب...يقول ( .. تقدم رجاء الصانع على مغامرة كبرى: تزيح الستار العميق الذي يختفي تحته عالم الفتيات المثير في الرياض..

وعندما يزاح الستار، ينجلي أمامنا المشهد بكل مافيه من أشياء كثيرة مضحكة ومبكية بكل التفاصيل التي لا يعرفها مخلوق خارج هذا العالم الساحر المسحور. هذا عمل يستحق أن يقرأ.. وهذه روائية أنتظر منها الكثير..)
 !!

ولكن التخاذل العلمي، والتراخي الاجتماعي، والفكري هيأ مثل هذه التجاوزات، بل أيضاً ظهور ما يسمى (بالتنويريين الإسلاميين)، الذين اشتغلوا بقضايا النهضة، والحضاره ومشكلات المدنية والازدهار، وبناء المدينة الفاضلة، والمنتجات الثقافية الغربية، -مع أهميتها- بحيث جعلوها كل شأنهم، ومحض تفاعلاتهم، وتغافلوا عن المأزق الفكري الجوهري، والثقافي الأساسي لبلاد الحرمين، وتركوا دعاة الليبرالية، يسخرون ويستهزئون، دون رد أو سؤال ومدافعة!!

 وبيئة هذه مناخها...! لا ريب أنها ستتيح المجال بقوة لهؤلاء وأجندتهم، ليبثوا سمومهم وينشروا غوائلهم، والله المعين على كبتهم، ودفع جماح نفوسهم المريضة، وقلوبهم المعتلة قال تعالى : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (النساء:27).

وقال سبحانه مطمئناً عباده الصابرين (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ  لاَ  يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (النمل: 50-51).

فلن يذهب هؤلاء الأوغاد، عن مكر الله ونقمته وانتصاره لأوليائه، بل سيعود مكرهم وتربصهم عليهم (وَمَا  يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا  يَشْعُرُونَ) (الانعام: 123).



 

(1) الحنَق الدولي :

قال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) (النساء :89).

وقال : (لَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة:120).

إن مسألة العداوة الدولية للمسلمين مسألة حتمية مفروغ منها، وتصاعدت مع الأحداث الملتهبة الأخيرة.

ومن غباء الغرب الصليبي، أن عزز هذه العداوة باحتلال العراق، ودعم اليهود في فلسطين، وممارسة الحيف الدولي، ضد المسلمين وكان بإمكانه، صناعة ميثاق للتعايش والسلام العادل، والاحترام المتبادل بين الأمم، ولكن  لخبثهم، وللحنق الغائر في أفئدتهم، المجلّى في القرآن، أشعلوا ضِرام الحرب بينهم وبين المسلمين، وقشعوا كل أدنى وسيلة، تفاهمية معهم ، وامتلأت مشاعر المسلمين كبارهم وصغارهم كرهاً لهم على ما يصنعون تجاه بلاد الإسلام، ثم يتحدثون بعد ذلك عن عملية سلام، وتعايش إنساني !!!

وللنيل من بلاد الحرمين، وتغيير هويتها، حيث إنها المركز الإسلامي الروحي، والمعقل الأخير للديانة، ضخوا أذنانهم، وبكل سرعة، مستثمرين (حدث سبتمبر)، ورغبة العلمانيين المنادين بالتغيير السلبي من أزمنة بعيدة، ولتحقيق المآرب، يسلكون مسلك استهداف العلماء الأكابر، الذين هم حجر أساس الدعوة السلفية الوهابية، وخريجو مدرسة ابن عبد الوهاب، وتلاميذ محمد بن ابراهيم آل الشيخ وزملاء ابن باز وابن عثيمين، رحم الله الجميع.

وعند البدء الهجومي، لم يضعوا في حسبانهم خطورة ذلك، وأن الأمة نابذة لهذا المسلك !! بل ضربوا بكل قوة، مستغلين الانفراط، والاضطراب الفكري والضغط الدولي.

وفائدة الطعون الموجهة لأهل العلم، أنها مكنتهم من انتقاد الدين، وفتح أبواب الحوار في المسلمات والثوابت، والتمسك بالآراء الشاذة، وظهور المميعين، وصغار الطلاب، واستفادة التنوريين من ذلك كله!!.

وإذا سقط العلماء، وامتُهنت علومهم، كان ذلك سقوطاً للاتجاه السلفي، وصار ذلك ملحاً لاستبداله بنهج جديد، يتناغم بزعمهم مع الحياة المعاصرة، والمطالب الأمريكية السريعة...

وكما قدمنا، أن مكانة العلماء علية، عظيمة في الذهنية الإسلامية، وفي الروح المتدينة، حيث إنهم ورثة الأنبياء، والحملة الأتقياء، ومن يتمنى الملوك والزعماء، مجدهم، وقبولهم الشريف في الخلائق.

ولم يبعد القائل:

 إنّ الأكابرَ يحكمون على الورى     وعلى الأكابرِ تحكم العلماءُ!!

وإذا تم إسقاطهم، هانوا في أعين الناس، وضعف الحس الديني لدى الأنام، ولم يجدوا مراجع الفتوى والدعوة والبلاغ والإنكار والشفاعة والمساعدة، وباتوا معزولين عن واقعهم!!!..

وهذا مقصد غربي، ليصبح الدين منزوياً في الكتب، ولا يوجد من يحمله ويدافع عنه، وتصبح مسألة التدين، مسألةً شخصية، تؤخد من الأسفار، وليس من الأعلام والأخيار !!

وبسبب خوفهم من العلماء، تعمد بعض الدول الأجنبية لمنع بعض العلماء من الدخول إلى أراضيها، أوتفرض إجراءات مشددة لتحول دون الزيارة،!! رغم تشدقهم بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنها لغير المسلمين!!

 



 

(2) التقصير الشرعي:

قال تعالى : (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) (المائدة : 63).

وقال تعالى : (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج : 41).

والعلماء من أرباب التمكين بالعلم الخارق، والفقه الفريد، والحجة الدامغة ، والقبول الجارف أحياناً، وهم محل هيبة الناس واحترامهم، وبيدهم الجهود والعمل والمساعي.

ولكن قد يقصر بعضهم شرعاً ، وصور تقصيرهم كالتالي :

(1) عدم أخذ العلم بقوة (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) (البقرة : 63).

(2) ترك الأمر والنهي، الذي هو من أساسيات التمكين الشرعي العلمي للآية السالفة.

(3) ضعف البلاغ والنصح، والاكتفاء بالدروس العامة، والمؤلفات المعزولة عن واقع المسلمين.

(4) ترك التصدي للأعداء والمنافقين، وجعلهم يسرحون ويمرحون بلا رد، وتتبع، ومواجهة.

(5) الانكفاء على التنسك أو التأليف ، وترك العمل الدعوي والإصلاحي!!.

فهذه بعض صور التقصير الشرعي، الذي يتحمله العلماء، ومتى بان تقصيرهم بانت غوائل التقصير والإهمال، من ضعف التدبير، واستشراء الشر، وارتفاع المنافقين، واستهداف الدين والشرائع، إلى درجة مشينة، من غياب العلماء، وفقدان دورهم، وتحركهم الشرعي المطلوب.

وهذا ما يرجوه الأذناب المنافقون ، أن يفقد العلماء دورهم الريادي والإنكاري، وينكفئوا على دروس خاوية، أو مؤلفات باهتة، لا تحسن أجندة التغريب والتنوير الغربي المراد!!.

لابد أن يراجع أهل العلم مسئوليتهم الشرعية، وكيف أداؤها، وتمامها ؟! وهل هم على جادة العمل والنضج والبلاغ كما قال الله (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)
(آل عمران:187).

ولم يقبل الله توبة الكاتمين إلا بشرط البيان والإيضاح.

وقال في موقف شريف عزيز لهم (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ) (القصص :80).

وليُدرك أنَّ كلامهم الحق، وبيانهم الصحيح سيملأ الفراغ، ويستولي على الساحة، وفي الضد، سكوتهم سيخلف أقلاماً جوفاء، ومتربصين يهاجمون، ويصيدون في الماء العكر، ويتلاعبون بآيات الله شرعه!!.



 

(3) التقاعس الإصلاحي:

قال تعالى : (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ) (هود : 116).

وقال شعيب عليه السلام : (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود:88).

من أعظم أدوار العلماء الدينية، الإصلاح، ورسم الصراط المستقيم، ومحاربة المفسدين، ومجاهدة المنافقين والعلمانيين والتحذير من شرهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر السنة، ونسف البدع، وإذا اختفى هذا الدور حل مكانه شىء آخر مضاد! لأن لديك قنوات فضائية، وثورة الكترونية تغذي الخط المناوئ، فإذا لم يكن ثمة جهد وتحرك، وسعي وإصلاح، كانت المعركة محسومة بالنسبة لهم، وأطلقوا أيديهم في السفه والنقد والتهكم، حتى يُسقطوا أحد أضلاع المثلث المقدس وهو الدين، والنيل من العلماء سينقل مباشرة للنيل من الشعائر والأحكام الدينية ويصبح التافهون، ينتقدون، ويحكمون ويشرعون، والله المستعان.

أما إذا مارس العلماء دورهم الإصلاحي بكل أمانة وصدق واحتساب، أحدث ذلك خشية عند هؤلاء، وأُرهبوا أيما إرهاب، واستشعروا الخطر العلمي، والميزان الفقهي، وأن منكر الفساد سينكر على أهله، وسيفضحهم في كتبه وأقواله!!.

ولذلك فإنّ الجهد العلمي الإصلاحي سيأتي بنتائج فاعلة منها:

1- ملء الساحة والفراغ بالمفيد، والمنتج، والمثمر.

2- إرهاب المستغربين والليبراليين، وحجزهم في دائرة مغلقة، لا يستطيعون التنفس إلا عبر الأسماء المجهولة في النت أو بعض القنوات المشبوهة.

3- إبراز عظمة الدين، وهيمنته على فكر البلاد، وتوجهاتها.

4- وبعث رسالة لكل مفسد عظم أو صغر، أن هذه بلاد الحرمين، وميراث محمد صلى الله عليه وسلم، وكل معتد فيها سيخزى خزياً لا مثيل له!!.

وعلى نفسها جنت براقش ، وفي الحديث ، قال صلى الله عليه وسلم : (ألا لايجني جان إلا على نفسه).

وفي المثل العربي الشهير (يداكَ أوكتا، وفوكَ نفخ)!!

وقد عاشت البلاد بحمد الله، استقراراً اجتماعياً وفكرياً، طيلة العقود الفائتة، بفضل حزم السلطة السلفي، الرافض، لكل تفريق وشنار وابتداع.

حتى (ظاهرة الحداثة الأدبية) لما ظهرت قُتلت من حينها، ولم تأخذ بعداً اجتماعياً وانزوى دعاتها مهزومين خاسرين !!.

ولذلك راجع إلى نباهة القيادة السياسية، والدينية، وفقها الله، والجهد العلمي المبذول من علماء وأساتذه جامعات، كبحوا به مسار الحداثة، ولم يعطوهم فرصة للتمدد والانتشار.

وأعتقد أن الجهد العلمي الاصلاحي، كان له قصب السبق في الردع والمحاصرة، بحيث أصبحوا مفلسين، وعيرهم الناس بالعلمنة والاستغراب، وتقليد الغرب والكافرين، وانهم أعداء للوطن، منابذون للقيم، وبرغم ما في تلك الجهود من شدة متناهية ! إلا أن من أحسن ثمارها، تخويف العلمانيين والمنافقين بالمد الإسلامي الكبير، فهذا بلد مسلم، وعلماؤه أيقاظ، ودعوته سلفية صافية، وأهله غَيارى أمناء ، ولا يمكن الضحك على ذقونهم، أو استغفالهم بأي شكل أدبي أو جمالي!!.

 

 

 

(4) الانعزال الذاتي:

قال تعالى : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ) (الأحزاب:39).

عزلة العالم للذكر، و التعلم والمحاسبة نافعة ومطلوبة، ولكن أن يغالي في ذلك، حتى لا يُرى في محفل، ولا يُسمع في حادث، ولا يعلق على موقف!! ! فهذا غير سائغ، ولا مقبول لا شرعاً ولا واقعاً!!.

أما شرعاً، فالله قد أمر بالصدع والبلاغ (فاصدع بما تؤمر) وأما واقعا، فإن الناس ينتظرون توقيع العلماء، ورد الشيوخ واستفرادهم بالتوجيه، لاسيما في بلاد كبلاد الحرمين، ومهبط الوحي، وروحانية كل مسلم، كما قال (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (إبراهيم :37).

فالمكان جاذب ساحر، لكل ناطق بالشهادتين، بل تجاوز حدود الدهشة إلى الأعداء!! هالهم الحرَمان الشريفان، وموسم الحج، وكظيظ المصلين هناك!!.

وبعضهم أسلم بسبب تلك المشاهد، وهذه مزية جعلها الله لأهل تلك البلاد!!، مما يعني بقاء الصادقين، والمشيخة الراسخين...

إذ يجب أن تكون الكلمة كلمتهم، والصوت العالي صوتهم، وليس صوت صحفي حدَث، أو مفكر مخلِّط، أو كاتب فارغ، لا يملك إلا كيل السخافات، ورشق الاتهامات، وإذا ما دُعى إلى حوار جاد، فر فرار الإنسان من المجذوم، والفريسة من الأسد، ولا حول ولا قوة إلا بالله !!.

إن انعزال بعض العلماء سبب لتسلط هؤلاء الصحفيين الليبراليين، حيث يغريهم بالنطق والكتابة، والفراغ المحلي، والهوان الشرعي، والسطحية الفكرية، فينبرون لتسطير أهوائهم المخبوءة منذ زمن، ليبدلوا عقيدة البلاد وهويتها، ويحييوا  مبادىء الفكر الغربي في بلاد طاهرة نزيهة!.

إذن المحصل، أن الانعزال غير مفيد في الساعة الراهنة، وسيعود بالضعف على العالم وأمته، والمشهد المصاحب له، ويمكن أن يسفر عنه سيئات، نوردها كما نتوقع كالتالي :

1- تضاعف الهوان العلمي والقيادي للمشيخة، بعد أن كانوا الساسة والقادة الموجهين !!.

(2) تسلط هؤلاء الليبراليين والمنافقين، وسعيهم بالسيطرة عبر وسائل الإعلام الرسمية.

(3) اشتداد السهام القاتلة على التيار السلفي، وعدم وجود الممانعة الراسخة، والجبال الصارمة ، تجاه كل ما يحدث من صور تغريبية، واتجاهات علمانية فاسدة !!.

(4) بروز المفكرين ذوي التوجهات الموبوءة، الذين سيزلزلون الهوية، ومبادئ الفكر السليم.

 



 

(5) الهوان الشخصي :

قال تعالى : (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ) (آل عمران :139).

وقال تعالى (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) (الحج:18).

إذ إن من طبائع البشر، تفاوت شخصياتهم، وتباينهم، من حيث القوة والضعف، أو الصرامة والحزم، والهدوء والملاينة، وهذه سنة الله في خلقه، كان أبوبكر رضي الله عنه رحيماً رفيقا، وكان عمر قوياً شديداً، وبكلاهما نُصِر الاسلام وعز، وقويت شوكته رضي الله عنهم.

وفي الحياة العلمية الإصلاحية، يبرز علماء مؤثرون، أشداء، وآخرون لينون رحماء، ولكن المشكل هنا أن لا يستشعر هؤلاء العلماء دورهم الريادي، فيركدون ركود الماء العتيق، ويبردون بردود الطير المبلول، إيثاراً للسلامة، أو استنادا للحكمة الهزيلة، أو اتقاء للأخطار المتعاظمة !!.

ونحن في تصورنا، أن هذا خطأ محض، لأن العلم قوة، والفقه عزة، ولكن الطروء من داخل ذلك العالم أو الشيخ والأستاذ، ولهذا يسري الضعف الشخصي في العالم لأسباب منها :

(1) عدم وعيه للرسالة العلمية والفقهية.

(2) خوفه من حملان الأمانة بقوة، أو خشية الخذلان الاجتماعي.

(3) انكفاؤه على ممارسات خاطئة، أو تصرفات غير مرضية، تهين من نفسه وتؤنب سلوكه.

(4) ترك المبادرة الدعوية والإصلاحية، التي تظهره للناس كرمز ديني ودعوي، مناوئ لكل المسالك المشينة، والتيارات المعادية.

(5) الشعور بالعزلة عند الإنكار، وانزواء المصلحين والأتباع عنه.

(6) الاتكاء على موائد المتنفذين وصدقاتهم، بحيث لا يستطيع المخالفة أو النصيحة، أو حتى إبداء الآراء السلمية الطبيعية.

(7) الجهل بواقع الدعوة الاسلامية، والاستناد كثيراً للرؤى القديمة، بدون دراية  بالواقع المحسوس.

فإذا هان العالم شخصياً وذاتيا،ً تسلط البغاة عليه، وصار الرويبضة ينازعه في المسائل، ومقامات الصدارة والشرف، ولقد أضحينا في زمان يُستضعف فيه سلطان العالم، ويُمكّن للجهلة والمغفلين، ليمارسوا أدوار التوجيه، وخطط الفكر، ورسم المناهج والتطلعات.

وليت أن بعض هؤلاء المنازعين، يحملون شهادات شرعية، وقد مهَروا العلم والدعوة... لعلهم يفقهون شيئاً !! ولكن للأسف شرذمة صحفية، يتأكلون على موائد الكبار، ويمارسون القص واللزق كثيراً ، وليس ثمة فكر متحضر، أو رؤية متعمقة...!! إلا ما نراه من التخريب الديني، والانزلاق الأخلاقي، والله المستعان.

(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ) (الأنفال : 30).

 

 



 

(6) التفكك الاجتماعي :

قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ)
(آل عمران : 105).

ونعني بالتفكك الاجتماعي، الفراغ المؤسسي والشعبي، لدعم العلماء، وتفرق العلماء، والنتيجة السلبية، للاختلاف الفقهي، وابتعاد التلامذة والجماهير عن خصوبة الدعم والتأييد والموآزرة.

وحينما يكون العالم في بيئة متفككة، كانت الفرصة سانحة، والغنيمة باردة على قلوب الأعداء ، للنقد والتهكم والاستهداف كما قيل:

 

خـلا لـكِ الجــوُ فبيضي واصْفري      ونقــّري ما شئــتِ أن تنقــري

 

وسيكثر تنقير المنافقين، الصاخب على العلماء والشيوخ، لأنهم لما يعدوا لهم درعاً واقياً، ولا حمايه صارمة، ولا مؤسسة قائمة، بل كل في اتجاه، وبعضهم مرتخٍ، وآخر يغرد على ليلاه ، وثالث، يقول : نفسي، !! نفسي!!

 ويسر بعض الفقهاء الجهلة، بانتقاد بعض زملاء المهنة، لخلاف فيتشفى بما يوجه من سهام، وتعداد للمثالب !! كما صنع مع الشيخ صالح اللحيدان رئيس مجلس القضاء العالي، في فتواه الأخيرة اللاهبة، تجاه ملاك الفضائيات السيئة، استثمرها بعض الخصوم الشرعيين، في التوظيف السلبي ليسقط الشيخ، ويُذهب قيمته في المجتمع، وقد انكشف المسلك وبانت الوسيلة !!، وأنها غير مجدية في زمن الوضوح والانبلاج، ولكنني أحببت التمثيل فقط على ذلك التفكك.. والواجب دعم العالم في موقفه الشرعي الرصين، ولوكنا مختلفين معه.

 وأذكر نموذجا نبيلاً وشفافاً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مع علماء عصره الذين استباحوا دمه، وأفتوا بسجنه، لما ظهرت حجته عليهم، ثم ذهب الأمير الذي كانوا يؤيدونه، وجاء خصمهم، فسأل ابن تيمية فتوى منهم، فحذره ابن تيمية، ونهاه قائلاً له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم من العلماء الأفاضل)

    فيرد عليه السلطان متعجبا متحيراً : لكنهم آذوك وأرادوا قتلك مرارا ؟!

    فقال ابن تيمية: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي !فلم يملك ابن مخلوف المالكي إلا أن يعترف بالإجلال لهذه النفسية الكبيرة   ( ما رأيت كريماً واسع الصدر، مثل ابن تيمية، فقد أثرنا الدولة ضده، ولكنه عفا عنا بعد المقدرة، حتى دافع عن أنفسنا وقام بحمايتنا، حرضنا عليه فلم نقدر عليه ، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا!! (

فاين هؤلاء المشيخة الجفاة ، من هذا (الطراز الفريد) في حفظ الوحدة العلمية، والتلاحم الفقهي، بحيث لا يستغلها الضعفة في التدمير والانتقام، وتبيتُ سنة متوارثة، ينتقم من الدين بالدين!!، والله المستعان.



 

(7) الاشتغال الدنيوي :

قال تعالى : (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ*  وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ) (القيامة :20-21)

وتكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التخويف من الدنيا، والحذر من زينتها، فقال ( إنما أخشى أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).

وهذه حقيقة جلية، بأن الدنيا إذا بُسطت على الإنسان، أذهبت عقله، وعكّرت خيره، وشغلته عن دوره المناط، وحمله المتأكد.. والعالم ليس يبعد عن هذه الفتنة!! وقد يسول له الشيطان بأنك تنصر الدعوة بهذه المفاتن الدنيوية فيغرق في مباحاتها   ويجالس أربابها، ويضاحك منافقيها فينسى كثيراً، ويغفل كثيراً، حتى يُصاب بالبرود والتبلد ، وينمو عنده حب المال والمنصب والجاه، فيقاتل لأجلها، وينسى دوره الإصلاحي والفقهي والدعوي...!!

ولما كانت الدنيا بمثابة الخطر المحدق على العالم الشرعي، والناسك الزاهد، كانت بريداً إلى المعاصي ، خشيها السالف، وقنعوا بما آتاهم الله تعالى.

قال تعالى : (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه : 131).

والانبساط الدنيوي، سيورث في العالم والداعية مايلي:

(1) خطوطاً دنيوية لاتنقضي، تملأ وقته، وتخفى جهده الماضي.

(2) الإغراق في المباحات.

(3) نسيان الوظيفة الفقهية والإصلاحية.

(4) قسوة القلب، وتبلد الفكر، الذي ينشأ عنه الإحساس برهق المسئولية العلمية والدينية.

(5) جمع المال الطاغي، والشهرة الطافحة، التي لا توظف للحق والخير، وإنما تصبح مقصودة لذاتها !.

وغير ذلك من النتائج السيئة على العالم والأمة، لأن (الدنيا معلونة ملعونة مافيها، إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً). كما صح بذلك الحديث .

فدارٌ قد بانت لعنتها، كيف يجعلها العالم وعاءً له تسيره، وتصرفه كيف شاءت؟! يجب عليه أن يمتطيها هو بالذكر والعلم والنور، ويسيرها وفق مرضاة الله تعالى كما صنع الأئمة الأكابر أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وأبو حنيفة وابن المبارك، وابن الجوزي، وابن حزم، وغيرهم رحم الله الجميع.

حيث مع انفتاح الدنيا عليهم لم تُعطل مشاريعهم العلمية ولا الدعوية والجهادية، بل سادوا غنىً وجاهاً، وعلماً ودعوة، رضي الله عنهم، أجزل مثوبتهم ..



 

(8) الفراغ الريادي :

قال تعالى : (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف:55).

المتأمل للساحة الحالية في البلاد، يجد أن ثمة فراغاً ريادياً، أسهم في تصدر هؤلاء، الصحافيين وغيرهم للعلماء بكل تطاول ووقاحة، لم تشهد قبل !!

وهذا الفراغ الريادي، هو بلا شك أضعف من سلطان أهل العلم، وأسهم في تقصيرهم الشرعي، وتفككهم الاجتماعي، وهوانهم الشخصي.

وهذا الفراغ له صور منها :

(1) الفراغ القيادي : حيث تكاد تنعدم القيادة العلمية، الموجهة للشباب والبلد، وتحمل صورة الشخصية الروحية الكاريزمية، التي تمتع بها الشيخ محمد بن إبراهيم وابن باز وابن عثيمين سابقا.

    بل لا قيادة لنا ! والهيئات الشرعية الآن تكاد تكون معزولة عن واقع الأمة، وتؤدي دورها الإداري الوظيفي الطبيعي ، كأداء مفتي مصر ولبنان وأدغال أفريقيا !!.

(2) الفراغ الدعوي : حيث ليست الدعوة بنشاطها السابق ، رغم تطور الوسائل وليست في حجم الغثاء المبثوث صحافيا، وفضائيا، والكترونيا ....!!

(3) الفراغ الروحي : حيث استولت الفضائيات على مشاعر الناس، وأورثتهم غفلة عن دينهم، فبعد أن كان الدين الركيزه الأولى والأساسية في حس الشباب السعودي، بدأت هذه الركيزة تتزحزح باسم التجديد والتنوير، وبناء التنمية، وغيرها من الألفاظ التي يلعب بها الليبراليون...

(4) الفراغ الفكري : فبرغم وجود مفكرين عمالقة أنجبتهم الصحوة الإسلامية، إلا أن دورهم الدفاعي والتوضيحي، ليس على المستوى المطلوب، ويحتاج إلى مزيد من الدعم والمؤازرة، لا سيما من إخوانهم الإسلاميين المسالمين والساكنين، والله المستعان.

ومثل هذه الصور كافية أن تجعل وجوهاً سوداء، تحاول الاستيلاء على الساحة، وسحب البساط من تحت أولي العلم الأخيار، وفي خضم ذلك تنقدهم، وتعنفهم، بأنهم منبع التخلف، وسبب الانحطاط، وفقهاء العصور الوسطى، والظلاميون، وأشباه تلك المقولات العدوانية، التي يدرك الشاب البسيط وهاءها وزيفها، ولكن هي المعركة الفكرية والمصيرية، ولن تخلو من ضحايا وتداعيات شديدة، كفانا الله وإياكم الفتن ماظهر منها وما بطن.قال تعالى ( وجاهدهم به جهاداً كبيرا) ووعي رسالة القرآن ، وحذق تفسيره  يحمل العامل به، للتصدي لهؤلاء الليبراليين وكشف مناهجهم ، لا الدفاع عنهم، والانضمام لحزبهم!! باسم التسامح ، والوحدة الوطنية المزعومة ،لأن هؤلاء أعداء الوطن ، وليسوا حماته !!

 

(9) الانشراخ الإسلامي :

قال تعالى : (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال:46).

لقد بات السلفيون في المملكة صنوفاً وأشكالاً، يمكن أن نجملهم فيما يلي:

(1) سلفية رسمية: تمثلها الهيئات الشرعية والإفتاء والقضاء، وهي بلا ريب معزولة عن الواقع الاجتماعي والفكري والإصلاحي، بحكم المسار الوظيفي لها.

(2) سلفية علمية : اختزلت دورها في سرد الدروس العلمية التراثية بلا مماسّة للواقع، وقامت على نشر الكتب والرسائل المفيدة، ذات الطعم العتيق، وهما توجهان، أحدهما علمي محض، ولا يكاد يعرف شيئا عن الواقع، أو لايحب ذلك!! وهجومي عدائي، اتخذ من المنهج السلفي ذريعة للتبديع والتفسيق والتصنيف! حتى إنهم وقعوا في أفاضل، نحو العلامة المحقق الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله، صاحب الخطاب الذهبي، وله أيضا رسالة( تصنيف الناس بين الظن واليقين) تشع صباحة ونفاسة، ودعاة مشاهير كالشيوخ العودة والحوالي والقرني، ولم يكد يسلم منهم أحد!! والبعض لا يعدهم سلفية، لتجنيهم على المنهج الحق!! ولكن نذكرهم لتورط أناس في ذلك، ولأنهم جزء من الانشطار والله الموفق.

(3) سلفية تنويرية : تصالحت مع المستغربين والعلمانيين، وصانعتهم، تحقيقاً للوحده الوطنية بزعمها ، ولا تحب أي إشكالات معهم في الظروف الحالية!!، وقد تلاينت في بعض المواقف الشرعية المحسومة، ولجّت في الخلاعة الفضائية بلا ضوابط!! متناسية قول الله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم :9).

وقوله تعالى : (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود: 113).

(4) سلفية جهادية : أفسدت مشروعها بعمليات تطرفية، ما كان ينبغي صدورها، وهي لم يعد لها أثر في البلاد، بسبب القبضة الأمنية الشديدة.

(5) سلفية دعوية : متمثلة في بعض الدعاه الجدد، ذوي الخطاب الشبابي والروحاني، القائم على المعالجة اللطيفة، والترقيق الرائع، كمحاولة لتجديد المجد الصحوي السالف.

(6) سلطة إصلاحية : تضم بعض المحتسبين على المناكر والأوضاع الداخلية، والإصلاح السياسي، عبر الخطب والمواقع الالكترونية، وبعضهم ممنوع من الدروس، وآخرون قد ضمتهم غيابة السجن، ينتظرون الفرج، وما ذلك على الله بعزيز.

 

وليس المشكل هنا تنوع الأطياف السلفية، إذا كانت جادة في نواياها الإصلاحية، لكن المشكلة تناحرهم، وتسفيه بعضهم لبعض ، واستفادة الليبراليين من ذلك الانشراخ والتناحر، لدرجة أن بعضهم يرى خذلان أخيه، فلا ينتفض له بدعوى الاختلاف والردود اللهيبة.. ولم آمر بها ولم تسؤني !!

وهذا بلا شك خلل فكري واستراتيجي، من شأنه تقزيم الدور السلفي، وفتح الأبواب لشياطين الفكر والشهوة، أن يسددوا ضرباتهم، ويستولوا على كل منافذ البناء والتغيير في البلد، والله المستعان.

 

(10) السيطرة التوجيهية:

قال تعالى : (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا  أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر:29).

باتت الكلمة مملوكة لقطعان الليبراليين حكماً، ورأياً، وتوجيهاً وإدارة، ووجد فيهم المغرضون فرصةً للانقضاض على التيار السلفي، وتحجيمه، ثم تقزيمه، إلى أن يصبح معزولاً لا علاقة له بالواقع.

والورقة التي يلعبون عليها بقوة هي خط الانفتاح والتنوير عبر (بوابة المرأة).

إذ إن مجتمعنا قد احتشى محافظةً وتديناً وأصالةً إلى درجة الوسوسة في قضية المرأه، ويخاف من كل تناول لها خارجي، أو تنويري أو تغريبي، وكان في السابق سرعان ما يُتهم المتنور الأنثوي، أو المحرر النسوي، بداعية الانحلال والسفور كحال (قاسم أمين) في الوضعية المصرية....

والوسوسة هنا، وإن بولغ فيها !! لكنها كانت محمودة، صانتنا من عتبة الانحراف، كما انحرفت مجتعات مثلنا، أشركوا المرأة في مناشط الرجال، وشرعنوا لها الاختلاط الآثم، فانتشرت الأرزاء، وكثرت حوادث الفتك والتباب والله المستعان.

والمقصود، أننا بتنا في زمان اختلت فيه معاقد الكلمة، سياسة وفكراً وإدارة وتوجيها، وبات (الرأي العام) مملوكاً لحثالة من الليبراليين يفتون في دين الله، ويسفهون من شاءوا من العلماء والفضلاء، وساعدهم على ذلك أمور:

(1) القبضة السلطوية الصحفية، المصونة تحت أيديهم.

(2) تجريد العلماء كثيرا من صلاحياتهم، وإضعاف كلمتهم.

(3) تسميم الوعي الاجتماعي بمصطلحات ظاهرها الرحمة، وباطنها اللعنة والخيبة والعذاب على أهالي البلاد.

(4) تقاعس الأخيار، وتفككهم، بحيث لا مؤسسة، ولا عمل منظم، ولا اتحاد فكري استراتيجي !!

(5) انشغال كثير من العلماء بالجانب العلمي، وتفضيله على الخط الإصلاحي الدعوي، والفكري، أو عدم الاكتراث بذلك كله!!

وقبل عقدين من الزمن، كانت السيطرة للأخيار، وأثمر ذلك توهج التيار السلفي المحافظ، والتضييق على هؤلاء المستغربين، وركلهم لمزابل التيه والضياع، وأن البلاد ليست محلاً لهم، ومن لديه أفكار نورانية شيطانية، فليذهب بها خارج المملكة...

ولذلك كانت كتب القصيبي والحمد وغيرهم لا تدخل المملكة، ولا يسمح لهم فيها للتجاوزات المنطوية عليها،  حيث لابد من ضمان أمني فكري للأجيال.

ومن يحاول تغيير القيم الوطنية والإسلامية السلفية يُعادى، ويهجر ويتهم بكل صفات العلمنة والمروق، والمنابذة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.



 

الواجب العملي الراهن

 

يتمثل في جملة من النقاط الضرورية، حتى يستعيد الاتجاه السلفي دوره وحيويته.

الأولى : تضامن العلماء والدعاة، واتحادهم إلى درجة التكتل المؤسسي الصارم المتين، للرد والمجابهة والريادة والتوجيه، وترك الاختلافات الجانبية.

الثانية: تكثيف الجهد العلمي والدعوي والتربوي للجيل.

الثالثة : تخصيص هيئات فكرية تأصيلية، ترد على شبهات الليبراليين، وتزييفاتهم.

الرابعة: تفعيل الاحتساب الخيري الإصلاحي، على الأمر والنهي، وتدعيم جذور الفضائل، وتحجيم قنوات الرذائل.

الخامسة: تاسيس القنوات الفضائية الإسلامية، والتحرك الالكتروني الفاعل، بصورة إعلاميه راقية.

السادسة: صياغة المشاريع الإسلامية الحضارية، للمسائل التي يطبل لها اليسار الليبرالي المنحرف، من نحو قضايا المرأة، وحقوق الإنسان، والحرية، وحرية التعبير والعلاقة بالكفار، والموقف من المبتدعة، والإصلاح السياسي وأشباهها، وإن كان جهادهم النسوي، أعظم بكثير من الإصلاح السياسي وقضايا الحريات!!

السابعة: التصدي بقوة رادعة لكل من يتطاول على الدين، أو الشعائر أو الأعلام الفضلاء، وفضحه بين الناس، ليكون عبرة لغيره من المنافقين والأذناب الغربية.

الثامنة : تجديد الاتجاه السلفي بعنصري التراث والمعاصرة ، ووعي المستجدات الجديدة ، وتنظيفه من كل الممارسات الزائفة ، والتي عكرت طريقه ، وأساءت لرموزه ، وهذا يعتبر مطلباً حيويا للخروج من المأزق التاريخي المعاش ، والله الموفق .

 

 

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك