لـماذا الحوار بالرصاص؟

لـماذا الحوار بالرصاص؟
 

 

بقلـم : هاني عوكل

 

 
 

الاشتباكات التي وقعت فجر الاثنين الـماضي في مدينة خانيونس، وبعدها مرةً أخرى في حي الدرج بمدينة غزة، لـم تكن سوى إنذار ونشاط بركاني متقدم، لحالة الاحتقان الـموجودة في الساحة الفلسطينية بين الحركتين الكبيرتين "فتح" و"حماس"، والتي لـم تسقط سهواً أو تأتي هكذا لولا تعثر الوضع الداخلي، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وانفجار التعبئة التحريضية الخاطئة وإلقاء القنابل الـموقوتة بينهما، وشدة الاستقطاب والسجال السلبي الـموسع، الذي عقّد الأمور وجعلها تخرج عن النص الفلسطيني الـمألوف، وعن كل ما يمس حرمة الدم الفلسطيني والأمر بالـمعروف والنهي عن الـمنكر، ووقف الاقتتال والنزيف الداخلي.
قد لا يعلـم أحد منا ما هي الأسباب الفعلية والحقيقية التي دعت العناصر من "فتح" و"حماس" للاستنفار في عبسان الخانيونسية، وانتقالها بسرعة الضوء إلى غزة، سوى أن أحاديث خجولة قالت إن أسباب الـمشكلة جاءت على خلفية اختطاف عناصر من الطرفين، جعلت من الصعب الضبط والربط في العناصر الـمستنفرة، التي أدت الصدامات بينها إلى مقتل عنصرين فتحاويين وثالث حمساوي، فيما أصيب عشرات آخرون خلال مجمل تلك الـمواجهات.
ولكن فإن على من يرغب في فهم مستوى خطورة تلك الأحداث الـمؤسفة، أن ينتقل أولاً وأخيراً إلى الـمستوى السياسي بين الفصيلين الـمذكورين. هذا الـمستوى الذي يعاني من أزمة مرور خانقة، سواء على الجانب الـمحلي أو على الجانب الدولي.
بالتأكيد يمكن القول إن أسباب هذا الصراع يرجع لعدم تخليص الـمستوى السياسي نفسه من أزمة البرنامجين الـمختلفين، وما بينهما من أزمة صلاحيات وسؤال الحال عن مصدر الشرعية. كان مفروضاً ومطلوباً على الجميع، أن يحدد الـمرجعية الرئيسية والبوصلة الـموجهة للعمل السياسي الفلسطيني، بتحقيق اندماج فيدرالي برنامجي موحد، اختلف ولا يزال يختلف عليه الـمختلفون.
من هنا تعود الأسباب الكامنة للأزمة، لأن رأسين سلطويين مختلفين في الشكل والجوهر، لا ينجحان في قيادة السفينة الفلسطينية، ولعل الخطابات والتهم السجالية السياسية والإعلامية الـموجهة بين الفصيلين "فتح" و"حماس" قبيل تفجر الـمواجهات في خانيونس، كانت هي الوقود الـمحفز لانتقال الخلاف السياسي إلى فعل عنفي وعنفي مضاد. ثم إنه لا ينفع الحديث عن ترقيعات جزئية للخلاف الحاصل، من خلال تشكيل لجنة تقصي حقائق على مستوى لجنة الـمتابعة العليا للقوى الوطنية والإسلامية، أو حتى على مستوى الاجتماع الفصائلي الثنائي بين "حماس" و"فتح" والذي جاء بدعوة من رئيس الوزراء إسماعيل هنية الأربعاء الـماضي، دون النظر في طبيعة الـمشكلة الفلسطينية ككل، والتي هي بحاجة إلى حوار كامل وشامل، يستهدف تطويق الأزمة ويخرج ببرنامج إجماع وطني يعكس الثقافة الفلسطينية النضالية وليس الخلافية الدموية.
إزاء ذلك، ينبغي إدراك أننا نعيش وضعاً خاصاً مستجداً، لـم يحدث أن مررنا بمثله من قبل. وعلى ذلك ينبغي التصرف، والاقتراحات كثيرة للخروج من الأزمة، منها على سبيل الـمثال لا الحصر، أن تتشكل حكومة طوارئ، تعمل على تفتيت الخلافات الداخلية وتنهي حالة الانشداد التنظيمي، ثم تدخل في مرحلة الإعداد لحكومة متنوعة وناضجة، قادرة على إدارة الأزمات. طبعاً لا يغني ذلك، عن ضرورة استدعاء الحوار الوطني ليس كإطفائية لترييح خلاف يقع هنا أو هناك، بل حوار وطني جاد، ينادي بالوحدة الوطنية ويلغي التناقضات الفصائلية البينية، ويرفع من حدة الزخم الوطني على حساب التعصب الحزبي الضيق.
لقد أثرت أحداث خانيونس واستفزت كل إنسان شريف حريص على أرضه وغيور على وطنه، وفي الـمقابل "أبسطت" إسرائيل وسهلت عليها القول للـمجتمع الدولي، إن "الشعب الفلسطيني غير قادر على قيادة نفسه وما زال في سن الـمراهقة، فكيف له أن يقود الدولة الـمستقلة". وبالفعل، يكفي الحديث عن اجتماع اللجنة الرباعية الذي عقد الثلاثاء الـماضي، وتطرق فيه إلى الوضع الـمالي للسلطة الوطنية ووضع آلية مؤقتة لتقديم الـمساعدات للشعب الفلسطيني، مع مراقبة هذه الآلية، بعيداً عن حل الأزمة السياسية التي تشكل الأموال الدولية الداعمة إحدى أدواتها.
لـم تناقش الرباعية موضوع تفعيل خارطة الطريق، أو حتى استخراج خطة جديدة تتناسب مع الوضع السياسي في الـمنطقة، وتعترض على خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولـمرت، خطة "التجميع"، التي لا تلتقي أساساً مع خارطة الطريق ولا تعترف بها. بالإضافة إلى ذلك، فإن الرباعية الدولية لـم تحاسب أولـمرت إزاء خطته التي تنسف قيام الدولة الفلسطينية الـمستقلة، فكيف لوزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس أن تطلب من الفلسطينيين الاعتراف بخارطة ميتة على الجانب الإسرائيلي؟
لابد من الاعتراف بصعوبة الأزمة التي يعيشها الشعب الفلسطيني على كافة الـمستويات. لكن للحكمة عقلا مدبرا، ومن تفنن في تقديم نموذج فلسطيني ديمقراطي فريد من نوعه على مستوى العالـم وليس الأنظمة العربية فقط، بالتأكيد سيكون قادراً على رأب الصدع الذي يعاني من تشوهاته مجموع الشعب الفلسطيني.
ثمة من لديه مسؤولية عالية إزاء الوضع الفلسطيني الـمتفاقم. وهنا علينا أن نثمن مبادرة الحركة الأسيرة التي أطلقها الأربعاء الـماضي، قادة مختلف الفصائل والقوى في الـمعتقلات الإسرائيلية، حينما طرحوا وثيقة الوفاق الوطني، للخروج من خطورة الوضع، عبر دعوة الشعب الفلسطيني للوحدة والتلاحم ورص الصفوف، ودعم ومساندة "م.ت.ف" والسلطة الوطنية الفلسطينية رئيساً وحكومةً، وتعزيز الصمود والـمقاومة في وجه العدوان والحصار الإسرائيلي، وصولاً لقيام الدولة الفلسطينية الـمستقلة وعاصمتها القدس الشريف على جميع الأراضي الـمحتلة العام 1967، وضمان حق العودة للاجئين، والإفراج عن الأسرى والـمعتقلين.
لقد طرحت الوثيقة حلاً جريئاً يتناسب مع تعقيدات الـمرحلة، وينبغي ملاحظة أن كافة قادة الفصائل في الـمعتقلات تبنتها، في حين جاء الرد سريعاً بالترحيب من قبل كل من الجبهة الشعبية والديمقراطية، وهذا يعني مرور الوثيقة نحو الحصول على الشرعية والتبني الرسمي، اللهم إلا إذا صادفها العثرات من قبل بعض الفصائل في الداخل والخارج. حتى أن الرئيس عباس أعلن قبوله السريع وتبنيه للوثيقة واعتبرها مهمة جداً، كونها تطرح أسس برنامج مشترك للخروج من الأزمة. طوبى لقادة الحركة الأسيرة الذين ساهموا بعقلهم الجماعي والـمنفتح نحو إيجاد مخارج للأزمة، وطوبى لكل الأسرى الذين طالـما أفردوا مساحات واسعة من الاهتمام بالوضع الفلسطيني، في وقت يعانون فيه من ظروف اعتقال سيئة ومقيتة.
نأمل كما يأمل الرئيس عباس، بإدراج وثيقة الوفاق الوطني هذه، على جدول أعمال الحوار الفلسطيني القادم، الذي قد ينطلق بعد حوالي عشرة أيام. الحوار قادم ويجب التأكيد والـمراهنة عليه وعلى نتائجه، وعلينا أن نتذكر هذه الـمرة، أن تضييع الوقت ليس من صالحنا، كما ليس من صالحنا الاستخفاف بالوضع الفلسطيني الصعب والتسليم أو حتى انتظار النتائج والفرج من "الأغيار". لابد من تقديم الحوار الجدي على حوار الرصاص، لأن الأخير قاتل، وقد يقتل الـمشروع الوطني الفلسطيني برمته، وحيث تسعى إسرائيل إلى قتله وقتلنا جميعاً.

المصدر:  http://www.al-ayyam.com/article.aspx?did=37242&Date=5/13/2006

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك