منطلقات الحوار الحضاري بين الممنوع والممتنع
منطلقات الحوار الحضاري بين الممنوع والممتنع
مــروة كريـديـة[*]
إنَّ "المناضلين" السياسيين، في جماعات العنف وغير العنف، في العالم أجمع، منتمون إلى ديانات مختلفة، ومصادرهم الإيديولوجية والفكرية متنوعة هي الأخرى. وكل واحدة من هذه الجماعات تتكئ على منظومة إيديولوجية أو "لاهوتية" خاصة بها، تبني عليها خطاباتها الدينية والسياسية.
أما السبب الحقيقي لفشل السلام فيعود إلى الاختلاف في المنطلقات والمفاهيم والبُنى الإيديولوجية التأسيسية للأطراف المتنازعة؛ أي أن المعركة الدائرة هي، في واقع الأمر، معركة معنى. من هنا فإن الخوض في الفروع أو في السلوكيات المبنية على المعتقد والإيديولوجيا غير مُجْدٍ في حدِّ ذاته، لأنه عندما تتم المقاربات في ظلِّ غياب المصطلح المتفَق عليه فإن الحوار يفقد قيمته ويتحول إلى عسف متبادل.
ومن العسف، بالطبع، ربط العنف بالإسلام حصرًا، كما يحلو لبعضهم أن يفعل. إذ إنه لحلِّ الإشكاليات المتعلقة بالسلوكيات التي تظهر على شكل عداوات وصراعات ينبغي وعيُ أن حقيقة هذه الإشكاليات تقع في "إخراج" السيناريو الفكري الذي يتقن تمثيلَه الأفرادُ القادةُ ورجالُ الدين و... "المناضلون"!
الحوار الحقيقي يبدأ من تحليل الخطاب الإيديولوجي و"اللاهوتي" عند الفرقاء كافة، من تفكيكه ونقده. فنحن في أمسِّ الحاجة اليوم إلى تجديد فكري جذري للنهوض، من جهة، ولوضع أسُس واضحة للحوار، من جهة ثانية. وهذا التجديد يعني، أول ما يعني، نقد الموروث. وعملية النقد هذه يجب أن تطال الأديان كلَّها. ورسالة المثقفين، أيًّا كانوا وفي أيِّ وسط يعيشون في هذا العصر، يهودًا كانوا أم مسلمين، هندوسًا أم بوذيين، إلخ، هي الاضطلاع بهذا النقد، وذلك بهدف الخروج من دوامة العنف، بكلِّ أشكاله: العنف الصريح، والعنف المضاد، والعنف المقنَّع، والإرهاب بأنواعه – ولا أقصد "الإرهاب" بمفهوم الإدارة الأمريكية الحالية فقط، لأن العالم بأسره، ولاسيما العالم العربي والإسلامي، بات يتعرض هو الآخر لإرهاب مقنَّع لم يعد يخفى على أحد بعد إعلان "الحرب على الإرهاب".
كما أن عملية الحوار يديرها الآن الساسةُ أو عناصر "مؤدلجة"؛ في حين أن عملية الحوار هذه يجب أن يقودها أفرادٌ متخصصون، لا يتقنون فنَّ الحوار وحسب، بل يعرفون النصوص المؤسِّسة للأصول ويفهمون أبعادها وتطبيقاتها المختلفة، أي يمتلكون الأدوات التحليلية والاستنباطية للربط بين الأحكام والقوانين الوضعية وبين الأصول التي تتفرع عنها هذه الأحكام والقوانين، وللنظر كذلك في الأمور المستجدة، خصوصًا بعد القطيعة المعرفية والتاريخية بين المعتقد الديني الأصلي وبينه كما هو سائد ممارسةً في المجتمعات المعاصرة الخاضعة لعوامل العولمة.
الأجدى، إذن، أن يُحلَّل الخطابُ الإيديولوجي ويُفكَّك. ويجب على النخب الفكرية، أينما كانت، أن تنزع الغطاء عن الخطابات والكليشيهات العقائدية التي تمثَّل مضامينُها في المجتمع تمثيلاً يوميًّا، وأن تضع على المحك النقدي ما يستهلكه "المناضلون" السياسيون، بدءًا من الأصوليين وصولاً إلى اللبراليين، وأن تفكك ما يعتمدونه من خطاب بوصفه حقيقة يقينية مقدسة. فحتى العَلمانيون ومواقفهم المتشنجة حيال كلِّ ما هو "مسلم" ينم عن نقص معرفي، خصوصًا فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية والاجتماعية؛ والمواقف المتطرفة التي يتخذونها تمنعهم من فهم الحاجة الدينية المتجذِّرة في النفس البشرية أو دراستها دراسة صحيحة.
ولعل دراسة العوامل المحيطة بالمجتمعات البشرية من الأهمية بمكان في هذا الصدد. فالشعوب العربية والإسلامية عانت خلال الفترات السابقة من عمليات القمع، الفكري وغير الفكري: فما قامت به أجهزة الأمن في بعض الدول العربية وغيرها حيال أيِّ فكر مختلف أو مُعارِض غير مقبول إنسانيًّا، من جهة؛ كما أنه أدى إلى ردود فعل معاكسة، من جهة أخرى: فلقد أثبتت التجربة ذلك في وقت من الأوقات، لأن التأييد الشعبي للحركات الأصولية تفاقم على حساب الحوار.
إن عدم اتخاذ العديد من الحكومات موقفًا واضحًا وصريحًا حيال "البلطجة العنصرية" يدفع بالقاعدة الشعبية إلى الالتفاف حول الجماعات الأصولية التي تتبنَّى قضية "الجهاد" ضد إسرائيل – مع ضرورة التنبُّه إلى أمر معروف عند الجميع: فكرة قيام دولة إسرائيل هي أصلاً فكرة حركة أصولية دينية (على الرغم من لبوسها العَلماني) استخدمت الدين والأشواق الدينية لليهود في العالم لإقامة كيان سياسي في فلسطين. فأحد أهم أسباب تنامي الحركات الإسلامية الأصولية المتطرفة هو تحدي أصولية إسرائيل الدينية؛ وبذلك نكون أمام أصولية إسلامية تواجه أصولية يهودية! لذلك لا يمكن حل الإشكال مع الإسلاميين الأصوليين وفتح باب الحوار معهم والوضع حيال إسرائيل هو ما هو. وهذا الأمر يجب أن تعيه الحكومات العربية والإسلامية، كما يجب أن تعيه الإدارة الأمريكية بالدرجة الأولى.
المشكلة مع العالم اليوم لا تُحل بشنِّ "حرب على الإرهاب"، ولا بالانحياز أو بتقديم تنازلات. فمحاربة ما يُسمَّى بـ"الفكر الأصولي" يجب ألا تقتصر على ما هو إسلامي. إن دولة إسرائيل، مثلاً، قائمة على مشروعية إيديولوجية لاهوتية يهودية؛ وإن عملية الفحص النقدي عن هذه الإيديولوجيا يعني خلع المشروعية اللاهوتية عنها. إذ إن "التجديد اللاهوتي" يعني نقد اللاهوت نقدًا جذريًّا؛ وهذا أمر لا يقبله حكام إسرائيل الصهاينة لأنه يضعف من حماسة اليهود للمشروع السياسي الإسرائيلي، مثلما لا يقبله الإسلاميون الأصوليون لأنه يضعف من حماسة "المقاومة الإسلامية" ضد إسرائيل!
ولعل أحد أفدح الأخطاء في هذا العصر هو محاربة الإدارة الأمريكية وبعض دول المنطقة للمدارس والكلِّيات الشرعية الدينية، خصوصًا الإسلامية منها، على خلفية أن معظم أعضاء تنظيم "القاعدة" من طلاب العلم الشرعي ("طالبان" مثلاً، لا حصرًا). وهذا قطعًا تحليل سطحي للأمور ورد فعل متهور لا يؤدي إلا إلى تكريس العنف. فليس الحل في إغلاق هذه الكلِّيات وإدانتها، بل الحل في تأسيس معاهد حديثة لتدريس الأديان جميعًا تدريسًا جادًّا ومسئولاً في أنحاء العالم كافة وفي فتح كلِّيات متخصصة في أكبر جامعات العالم تهتم بتعليم التاريخ المقارن للاهوت الأديان كافة.
والدول الغربية تتحمل شطرًا من المسؤولية العلمية عن تنامي الجهل: فهي ترمي الأقسام التي تُعنى بدراسة الإسلام في أقسام الكلِّيات الاستشراقية في جامعاتها، حيث تدرَّس اللغاتُ والآداب؛ علاوة على أن هذه الكلِّيات لا تتناول الدراسات في العمق، بحيث يتحمل الباحثون مسؤوليتها فكريًّا. ولعل تأسيس معاهد ومراكز للحوار في الشرق والغرب ودعمها سيساعد الأفراد على الخروج من حالة الفقر الثقافي والجهل الفكري؛ كما أن مثل هذه المعاهد والمراكز تُعتبَر الأمكنة المثلى التي تؤمِّن البيئة الخصبة للحوارات المثمرة بين الأديان وسائر التيارات الفكرية. إن عملية الحوار هذه مهمة للغاية: فهي الأداة الفاعلة التي يجب أن تطال التيارات الفكرية كلَّها، ولا تقتصر على الأديان فقط.
بقيت هناك نقطة أساسية: هي ضرورة إزالة العوائق في المجتمعات وسائر أشكال الممارسات القمعية، الداخلية منها الخارجية، الصريحة منها والمقنَّعة، التي تظهر من خلال معاناة المثقف من ملاحقة السلطات السياسية، من جهة، ومن اضطهاد السلطات "الروحية"، من جهة أخرى. فالمثقف العربي الحالي يعاني من مشكلة قد تكون غير معلَنة، لكنها قائمة، مع السلطات السياسية التي تحاول الضغط على المفكرين لكي يصبحوا الأداة التأصيلية التي تضفي الشرعية على الأنظمة (والأمر قد يتطور ليصل المثقف إلى السجن!)؛ كما أن المثقف يعاني من مشكلة مع علماء الدين واللاهوتيين الذين يتربصون بالحركات الفكرية والآراء التنويرية ليسارعوا إلى إطلاق أحكام قيمية، تبدأ بـ"التفسيق" وتصل إلى "التكفير" وتنتهي أحيانًا بـ"إهدار الدم"!
وإذن، فلا بدَّ من السعي الجاد والمتواصل في فتح آفاق العقل واجتهاداته الناقدة و"التجديد" في الأمور التي يُدَّعى عادةً أن لا تجديد فيها، وذلك لكي لا يُستعبَد الإنسانُ لعنف الإنسان.
*** *** ***
[*] كاتبة ومراسلة صحافية لبنانية؛ بريدها الإلكتروني: marwa_kreidieh@yahoo.fr.
المصدر: http://maaber.50megs.com/issue_june08/non_violence1.htm