الخلل في ثقافة الحوار مع الآخرين
الخلل في ثقافة الحوار مع الآخرين
الحوار : «نوع من الحديث بين شخصين، يتم فيه تداول الكلام بينهما بطريقة ما، فلا يستأثر به أحدهما دون الآخر، ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتّعصب»
ويعد أسلوب الحوار الهادئ دليلا على ثقة المحاور، والتزامه بأخلاقيات الحوار وآدابه، لأنّه بمقدار ما يكون الدّاعية هادئاً في حواره، متمكّناً فيه محيطاً بآدابه وأساليبه، يكون أقدر على التأثير الفاعل، والنّجاح الباهر.
وعلى المحاور مداومة دراسة هذا الأسلوب، والعناية به، وتأصيله، ومن ثَمَّ الرّجوع إليه بين الحين والآخر، ليقَوّم طريقته في النّقاش وأسلوبه في عرض المسألة، فيُحسِّن أداءه ويصلح أخطاءه، ليتحقّق له الهدف والغاية من كلامه وحواره مع الآخرين.
كما أن على المحاور أيضا أن يعلم أنّ الكلمة رسالة وأمانة، رسالة يجب أن تقال وتؤدّى، وأمانة يجب أن يراعى فيها كلّ ما من شأنه أن يفي بوصولها للآخر، بكلمة طيّبة وأسلوب هادئ، فالكلمة الطيّبة والأسلوب الهادئ في الحوار سلاح المحاور في أداء رسالته النبيلة، سواء في ابتداء عرضها، أوفي الدّفاع عنها وتفنيد الشّبه المثارة حولها كما أنّها سبيل المحاور في التّعامل مع محاوريه، كلّ على قدر علمه وفهمه ومنزلته، خاصة إذا تباينت الآراء واختلفت وجهات النظر .
ومن تمام ثقافة الحوار الهادئ مع الآخرين مراعاة مستوى عقولهم وإدراكهم، فيبدأ معهم بالبسيط الواضح، ثمّ يتدرّج معهم في المحاورة الهادئة والمناقشة الهادفة، حتّى يصل إلى الغاية المنشودة من تلك المحاورة والمناقشة.
وليحذر المحاور أن يبدأ حواره مع الآخرين بمبدأ فرض الرأي عليهم، بل الأجدى أن يبين لهم بهدوء وروية أنّ الحقّ قد يكون معهم، كما قد يكون معه، وأنّ هدفه من هذا الحوار الوصول للحقّ لا غير، سيراً على منهج القرآن الكريم في ذلك كما في قول الحقّ عزوجل: " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ".
ويكمل منظومة الحوار الهادئ مع الآخرين مراعاة التّوازن في الصّوت فلا يرفع المحاور صوته أكثر ممّا ينبغي، إذ أن صاحب الصّوت المرتفع غالباً يكون قليل المضمون، ضعيف الحجّة، يستر عجزه بالصّوت المرتفع على عكس صاحب الصّوت الهادئ الّذي يعكس بهدوئه عقلاً متزناً وفكراً منظماً، وحجة وموضوعية.
ولينظر المحاور إلى البحر، فإنه سيجد الصّخب والضّجيج على الشّاطئ حيث الماء ضحل، لا جواهر فيه ولا درر، بينما يكون الهدوء لدى الماء الأعمق حيث نفائس البحر وكنوزه، وحقاً إن الماء العميق أهدأ.
ولا يعني ذلك أنّ يخفض المحاور صوته لدرجة يعجز معها ضعيف السّمع أو حتّى المستمع السّوي عن متابعة الكلام بل: خير الأمور الوسط.
ولكي تتمّ الفائدة من الحوار الهادئ مع الآخر فينبغي عدم سرد الكلام سرداً، بل يجزئه ويرتبه، ويتمهل فيه، ليفكر فيه سامعه تأسياً برسول الهدى صلى الله عليه وسلم الّذي كان كلامه فصلاً يفهمه من يسمه وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلّم بكلمة أعادها ثلاثاً لتفهم منه.
ولعل العلاج الناجع لمظاهر الانحراف في ثقافة الحوار مع الآخر يكون باتباع المحاورالقواعد والضّوابط والوسائل الّتالية:
1- أن يتّصف الحوار مع بالهدوء والصّفاء والتّوازن، وقبل الدّخول في الحوار يجب على المحاور أن يتأكّد من قدرته على قيادة نفسه وضبط أعصابه، إذ لا يمكن لمن لا يسيطر على نفسه أن يسيطر على الآخرين أو يخضعهم للحقّ الّذي معه، مهما كان واثقاً من صحّة وصدق أفكاره، فإنّه إن لم يخضع نفسه ويملكها، تعذر عليه أن ينقل أفكاره إلى الغير.
2- الهدوء المطلوب هو النّاجم عن قوّة وإرادة، والّذي يصحبه ترتيب الأفكار وحسن الاستماع للخصم، والفهم والاستيعاب لكلامه وتمييز بين ما يمكن إقراره وما يجب ردّه، ومراقبته لتصرفات الطرّف الآخر، وليس الهدوء المطلوب هو الذي يكون عن خمول وخور، وضعف وسوء فهم أو لا مبالاة، فإنّ هذا سلبية تعصف بالحوار، ووسيلة لفشل المحاور واندحاره وإن كان محقاً.
3- على المحاور ألاَّ يعرف الخوف والقلق، والذّعر والاضطراب، وإذا وجد عنده شيء من ذلك لا شعورياً، فعليه أن يتقن إخفاءه بمجرد الشّعور به، وأن يسارع إلى حالته الطبيعية، واستعادة توازنه، ليوحي إلى الآخر بالثبات والقوة -خاصة- في حالة إذا كان المحاور يملك الحقّ البيّن، والآخر لا يملكه، ومع ذلك يعاند ويكابر ويماطل، ويرفض الأدلة الواضحة والبراهين الثّابتة، ويلقي بالشّبه والأباطيل لزعزعة محاورة الحقّ.
4- حتى يحافظ المحاور على هدوئه، عليه أن يحسن الاستماع والصّمت والإنصات إذ الثّرثرة تفقده الاحترام والثّقة، وعليه أن يعتاد على مواجهة الشّبه والاعتراضات وكأنّها أمورٌ عادية.
5- على المحاور ألاّ يرفع صوته أكثر مما يحتاج إليه الآخر، ففي ذلك رعونة وإيذاء ورفع الصّوت لا يقوي حجة صاحبه