الحوار مع الاخر ضرورة لتجاوز الخلاف
الحوار مع الاخر ضرورة لتجاوز الخلاف
حسن بحر العلوم
إن التقدم المطرد الذي نشهده في عصرنا هذا في وسائل الاتصالات خاصة عبر شاشات الفضائيات والانترنيت والهاتف المحمول قد جعل التعارف والتبادل فيما بين معظم شعوب العالم ودوله أكثر يسراً وأصبحنا نعرف الكثير عن بعضنا البعض ونطلع على أهم ما يدور في معظم أنحاء العالم. ومن ثم ازدادت العلاقات كثافة وتشابكاً وتداخلت القضايا المحورية التي تهم البشرية والانسانية جمعاء فيما بينها وأصبح الحوار مع الآخر غير كافٍ للتقارب بين الثقافات الانسانية وأصبحنا نواجه تحديات عديدة تعيق الحوار وتعرقله وتجعلنا في حاجة الى مزيد من التقارب والتفاهم للتوصل الى تحالف فكري وإنساني يجمع بين جميع الثقافات والحضارات ويرتكز على الثوابت الأساسية في كل حضارة ( 1).
إن الجهل، علّة سوء الفهم، وسبب لنشوء كثير من المشاكل وعلى مختلف الأصعدة والمستويات، مما تترتب عليه أحكام جائرة. وممارسات خاطئة، ومواقف معادية، وهذا ما ينطبق على موقف كثير من الناس من الإسلام. فالإسلام ذلك الدين القيّم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، أنزله الله رحمة للعالمين، لكي يحقّق لهم سعادة الدارين ولكي يجعل الإنسان منشدّاً إلى خالقه سبحانه، ولكي يحقّق مفهوم الخلافة عنه على هذه الأرض.
هذا الدين نجد من يعارضه ويحاربه ويكيل له التهم الباطلة، انطلاقاً من جهله بحقيقة هذا الدين، وبحقيقة مراميه، وكما قال علي (عليه السلام): (الناس أعداء ما جهلوا) (2 ). ومما زاد في الأمر سوءاً إن هذه الدعوات الهدّامة، والاعتراضات الباطلة، والاتهامات السوداء ـ التي تنطلق من حالة الجهل أساساً ـ اصطبغت بصبغة العلمية، أو تلوّنت بلون الحقيقة ـ وما هي من العلمية والحقيقة بشيء ـ وإنما هي جزء من حرب ضروس، تشنّ على الإسلام وأهله.غايتها طمس الحقيقة، وتحقيق مآرب دنيوية خسيسة قال تعالى: ((يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (3 ).
إن هؤلاء الذين يناصبون الإسلام العداء، ويكيدون له كيداً ـ في أغلبهم ـ ينطلقون من حالة الجهل، لا الكراهية، لكن هذا الجهل سرعان ما يقودهم إلى الأحكام الخاطئة، والمواقف العدائية، مما يجعل الكراهية تتسرّب إلى روحه، فتفسدها.
إذن.. علينا نحن ـ المسلمين ـ أن نعرّف بالإسلام، وحقائقه، ونعرض لهم صورة الإسلام كما هي، وكما وردت في كتابه الكريم، وسنة نبيه العظيم ومن تابعه ووالاه، نعرضه بمبادئه الحقة، وقيمه العظيمة، وأهدافه الكريمة، ودعوته إلى الحق والحرية والعدالة، والمساواة، والسلم، والتآخي مع الآخر، والتعايش معه في عقيدته وسلوكه، وأول ما يكون ذلك هو أن يفهم المسلم دينه، ويتمثل قيمه، ويسلك سبيله المستقيم لكي يكون صورة ناطقة صادقة للإسلام، فعند ذلك ينجذب إليه غير المسلم، وينفتح عليه وعلى اسلامه، فيتعرف على الإسلام من خلال سلوكي الواقعي، فتتعدل عنده الصورة، وتنكشف لديه الحقيقة، فيرى في الإسلام الخير كله كما قال (عليه السلام): (كونوا لنا دعاة بغير ألسنتكم) وزاد الإسلام على ذلك إذ حبّب للناس التواصل بالحوار، وحدّد أساليب الحوار، ورسم أهدافه، ووضع موازينه فقال تعالى: ((وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) ( 4)، وقال تعالى: ((وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) (5 ). فالإسلام خير كله، وهو لا يريد للناس إلاّ الخير، وعلينا اتّباع أساليب الحق والخير للوصول إلى عقول الآخرين، وضمائرهم وهذا لا يكن إلاّ بالحكمة والموعظة الحسنة، والتي هي أحسن.
إن الحوار مع الآخر ـ من المنظور الإسلامي ـ يخضع لثوابت وأصول حدّدها القرآن الكريم، وأولها احترام عقيدة الآخر، ودعوته إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وسلوك السبيل الأحسن في الجدال والحوار، لتوصيل المفاهيم الإسلامية إليه وعرضها على فهمه، لكي نصل معه ـ الآخر ـ إلى أرضية مشتركة ـ هي ارضية الأديان السماوية ـ لكي نقف عليه بثبات، وتوحّد موقفنا تجاه مسائل الحياة، وصولاً إلى التعايش السلمي بين الدول والشعوب والأفراد، وتجارب التاريخ ـ بالتعايش مع الديانات أخرى ـ تصرّح بذلك، فقد عاش المسلمون وغيرهم من اتباع الديانات الأخرى في إلفة وتواد وسلام واحترام، وذلك أن المسلمين سلكوا مسلك الإسلام السمح في حوارهم وتعاملهم مع غيرهم، إنسانياً واجتماعياً واندمجوا معهم لتحقيق هدف واحد هو إنسانية الإسلام، وإعلاء قيمة الإيمان.
إن الهدف من إشاعة الحوار بين المسلمين وغيرهم، ليس هو تغيير دينهم، وإدخالهم إلى الإسلام، والتشكيك بعقائدهم قال تعالى: ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) ( 6)، وإنما الهدف هو إيجاد قاعدة مشتركة للعيش السلمي يحققون من خلالها الحياة القائمة على المحبة والسلام والمصالح المشتركة وصولاً إلى رضا الله ونيل رضوانه في الدنيا والآخرة. فرسالات السماء متكاملة، ودين الله واحد، وهذا التتابع في انزال الرسالات السماوية ما هو إلاّ لحكمة بالغة والهدف الأساس لها هو إعلاء كلمة الله في الأرض، وإشاعة قيم التوحيد، وفضائل الإيمان، وإذا رأينا اختلافاً بين الأديان، فهو اختلاف في التفاصيل التي يقتضيه طبيعة المرحلة التي انزل فيها هذا الدين، أو ذاك، وإذا رأينا صراعات قامت هنا أو هناك بين هذا الدين أو ذاك فما هي إلاّ صراعات مفتعلة دافعها تحقيق مصلحة دنيوية لشخص أو فئة. أو أحجبتها دواعي السياسة، ومطامح حب التوسع وليس للدين الخالص فيها من نصيب أو نفع، أو هدف، فالأديان كلها منبعها واحد، وسبيلها واحد، وهدفها واحد. وما الاختلاف والخلاف بينها إلاّ لتحقيق مآرب دنيوية، يتأتى عنها الدين ويربأ بنفسه عنها.
إذن: ما العمل في مواجهات التحديات التي تواجه الإنسانية نتيجة تعدد الأديان؟
إن تعدد الأديان، ليس مشكلة ولا كابوساً، ولا مدعاة للصراع، والاقتتال، وإنما هو حالة طبيعية، وواقعية في حياة الناس على مر العصور، وتعاقب الأجيال، بل الاختلاف سنة الحياة التي برّأها الله فالابن يختلف مع أبيه، والاخ يختلف مع أخيه، والصديق مع صديقه والحبيب مع حبيبه، والفرد مع مجتمعه... ولكن هذا الاختلاف في الرأي يجب أن لا يفسد للود قضية. فتوافر النوايا الحسنة، والفهم المشتركة، والرغبة الصحيحة في العيش المشتركة كل ذلك يجعل الاختلاف أمراً طبيعياً، والحوار أمراً مشروعاً، والوصول إلى هدف مشترك أمراً مطلوب، وبذلك نستطيع أن نتجاوز الاختلاف إلى الالتقاء والاتفاق، وخاصة أن هناك قواسم مشتركة بين الأديان، وأن هناك أهدافاً موحدة، توحّد الطريق بينها فعليها أن تجعل رضا الله ـ سبحانه ـ في أوليات حساباتها الدنيوية والأخروية، وأن تجعل موقفها واحداً في مواجهة حملات الكفر والالحاد والتضليل، ومحاولة استبعاد الإنسان لأخيه الإنسان.
...................
( 1) لاحظ لذلك مفصلاً الدكتورة فوزية العشماوي: الحضارات والثقافات الإنسانية: من الحوار إلى التحالف/ وقائع الندوة الدولية التي عقدتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ بالتعاون مع وزارة الثقافة والمحافظة على التراث في الجمهورية التونسية ، تونس 30/1 ـ 1/2/2006م.
(2 ) نهج البلاغة: 4، 42، شرح الأستاذ الإمام محمد عبدة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان.
(3 ) سورة التبوة: الآية 32
(4 ) سورة النحل : الآية 125 .
(5 ) سورة العنكبوت : الآية 46 .
( 6) سورة البقرة : الآية 256 .