الأسرة المثلى مشكلات وحلول
الأسرة المثلى مشكلات وحلول
هشام عبد الرزاق الحمصي
الحمدُ لله وكفى، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمد النبيِّ المصطفى، وعلى آله وصحبه الشُّرفَا، وعلى كل مَن تبعهم بخيرٍ وإحسانٍ، ووفّى ووفى. وبعد؛
فإنَّ الفردَ نواةُ الأسرة، والأسرة خليّةٌ اجتماعية، تُهيِّئ للمجتمع الأفرادَ الصالحين، الجديرين بحمل أعباء الرسالة، وتكاليف الحياة، على هُدى من الله، واستقامة على طريق الخير والفضيلة.
وعندما تكون علاقاتُ الأفراد في الأسرة الواحدة قائمةً على الاحترام المتبادل، والكلمة الطيبة، والقدوة الحسنة، ويكون الإسلامُ هو الرائد والموجِّه، تكون النتائج طيبة، والثمار يانعة، والخيرُ حاصلاً إن شاء الله تعالى.
وهذا الكتابُ مجموعةً مقالاتٍ تعليمية توجيهية، تنتظم كالعقد لبناء الأسرة المثلى، مُتحدِّثة عن:
- ضرورة الحفاظ على الأخلاق الإسلامية بين الأفراد، وفي الأُسَر.
- شروط الخِطبة، ونصائح تربوية واجتماعية حولها.
- أسباب الطلاق، ووسائل التقليل منه.
- الوصية واجبة، وهي تكافل وإنصاف للجميع.
- كتابة الدَّين ضرورة دينية، تحفظ حقوق الأفراد، وتصون الأموال.
- حق الحياة لكل إنسان، وحرمة سفك الدماء، وإزهاق النفوس.
- حماية الشباب والأمة من أخطار الفرقة المشتِّتة، والغزو الفكري الزاحف.
- ضرورة الترابط والانسجام بين السيرة الحسنة وجمال الخِلْقة والصورة البشرية.
- الوسطية والاعتدال منهج إسلامي، ومنه العدل بين الأولاد والزوجات.
- كيفية تربية الأبناء على حبِّ اللغة العربية، وضرورة تعلُّمها؛ لفهم القرآن والسُّنَّة.
وكلُّ هذا مُؤَيَّدٌ بنصوص القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، والحِكَم المفيدة، والشِّعر العربي الأصيل، مع توجيهات ونصائح وعظية، تُغني الموضوع، وتقدِّم الحديث على طبقٍ شهيّ، سهل التناول، لكل قارئ؛ بحيث يغتنى الكتاب، ويستفيد المطالِع.
والأملُ معقود أن يجدَ هذا الكتابُ مكانةً أثيرةً لدى الناس، فيفيدوا منه، ويُحقِّقوا مضمونه في أُسَرِهم، وصولاً بالفرد إلى المستوى اللائق، وارتقاءً بالأسرة إلى التضامن والتكافل؛ لترفرف السعادة بأجنحتها في سماء المجتمع.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا لما علَّمتنا، وزدنا عِلْماً يا أرحم الرَّاحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
دمشق في 1 رمضان 1414ﻫ
11 شباط 1994م
وكتبه
هشام عبد الرزاق الحمصي
(أبو هاني)
(1)
الأخلاق في الإسلام
إنَّ الأخلاق في الإسلام:
1- فطرية: لها ضابط حسَّاس في ميزان المؤمن الدقيق، ونفسه الطَّيِّبة المحبَّة للفضيلة، الكارهة للرذيلة: «البرُّ حسنُ الخلق، والإثم ما حاكَ في نفسكَ، وتلجلجَ في صَدْرِكَ، وكرهتَ أن يطلعَ عليه الناس، استفتِ قلبكَ ولو أفتاك الناسُ وأفتوك»( ) والمعروف ما قال عنه الشرع والعقل السليم: إنه حق وحلال وحسن، والمنكر ما قال عنه الشرع والعقل السليم: إنه باطل وحرام وقبيح.
ولدى الإحصاءات العالمية تبين أن 75٪ من الملتزمين للفضائل المجتنبين للرذائل: إنما فعلوا ذلك لإيمانهم بالله، وخوفهم من عقابه يوم الحساب، وأملهم برضوانه وثوابه ونعيمه. وأن 10٪ فعلوا ذلك رغبةً منهم بالقيم والمثل والفضيلة، وهؤلاء يُضافون إلى من قبلهم، لأن هذه الرغبة في نظري هي أثر من آثار الفطرة الإلهية في الإنسان:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30]
وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7]
وأن 15٪ فعلوا ذلك خوفاً من عقاب القانون والسلطة في الدنيا، وهذا ما يؤكد ضرورة العناية بالتربية الدينية في جميع مراحل الدراسة الابتدائية حتى الجامعية، وفي أجهزة الإعلام كلها كماً وكيفاً؛ لتأصيل مكارم الأخلاق ورفيع الأذواق في نفوس الناشئة والخاصة والعامة، مما ينشر الأمن والأمان، والإيمان والإسلام، والسلم والسلام، في ربوع المجتمعات؛ ليحقق المدينة الفاضلة التي ينشدها الحكماء والعلماء والفلاسفة، والتي وضع قواعدَها الرسلُ والأنبياء الكرام.
2- شاملة للفكر: «لا يكن أحدكم إمَّعة: إن أحسن الناس أحسن وإن أساؤوا أساء، ولكن ليوطدْ نفسَه إن أحسنوا أن يحسنَ وإن أساؤوا أن لا يسيء»( ). ولقد ذكر القرآن الكريم أن من أسباب دخول جهنم مسايرة أهل الفساد، والانجراف معهم في تيار الانحراف، والخوض معهم فيما لا يجوز ولا يليق:
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 42-47]
أي: الموت. فما العاقبة؟:
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48]
3- شاملة للسلوك: من لم تنهه صَلاتُه عن الفحشاء والمنكر لم يزددْ بها من الله إلا بُعْدًا»( ).
4- شاملة للقلب:
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88-89]
وقال من شهد له الرسول بالجنة: «أبيتُ وليس في قلبي غشٌّ لأحدٍ ولا حقدٌ على أحد»( ).
5- واقعية: لا تطلب من الإنسان الكمال التام، ولكنها تطالبه بالسعي في طريق الكمال ما استطاع:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]
وعلى الرغم من خطورة الكذب، وأنه من علامات النفاق، فقد أباحته في ثلاثة مواضع:
أ- على العدو في الحرب، لأن الحرب خُدْعة، ومن شأن العدو الكذب والمخادعة، فلا بد من مقابلته بمثل سلاحه وأشد للتغلب عليه، ومنع غدره ومكره وظلمه.
ب- للإصلاح بين الزوجين، أو بين أفراد الأسرة ولتجنب الشقاق والطلاق.
ج- بين متخاصمين، ليحلَّ بينهما الوئام مكانَ الخصام، وفي الحديث الشريف: «ليس الكذَّاب الذي يُصلح بينَ الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً»( ) شريطة أن لا يفتري، ولا يتهم، ولا يشهد زوراً، ولا يضيع حقاً.
6- تراعي الجانب العاطفي: فالنفس جُبلت على حب الأفضل والأجمل والأحسن والأنظف والأكمل والأبَرِّ، فالوالدُ لا يملك إلا أن يُفَضِّلَ في قلبه ولدَه البار به على من سواه ممن يعقُّه أو يعصيه، وكذلك الزوج مع زوجاته، ولكن على الأب والزوج أن يعدلَ في العطاء والنفقة والحقوق المادية بين الجميع وإلا كان ظالماً، والإنسان يملك أن يعدلَ في الأمور المادية، ولكنه لا يملك قلبه أن يعدل فيه بينَ من يُحسن ومن يُسيء. وفي الحديث الشريف: «اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك وتملك»( ).
وعلى الزوج أن يتئدَ في عواطفه نحو إحدى زوجاته؛ لئلا يَحيف على غيرها:
فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء: 129]
ومن طريف ما روت كتب الأدب أن أباً زوَّجَ ولدَه الكبير، ودفعَ له مؤنة الزواج كاملةً، ولم يزوج ولده الأصغر، وأرجأ ذلك، واعتذر بأعذار واهية، فكتب الولد الثاني لأبيه يقول:
ليس لي بعد إلهي
مُشتكًى إلا إليك
وأخي في الفضل مِثلي
وكلانا في يَديْك
لا تفضِّلْه عليَّ
بالحَبا في ناظريْك
إن منحتَ العينَ كُحْلاً
هَاجَتِ الأُخرى عَلَيْك
إِنَّما ابناكَ كعينيْك
فكَحِّلْ مُقلتيْكَ
فتبسَّم من قوله، وزوَّجه كأخيه.
7- تجمع بين مصالح الدنيا والدين والآخرة على نسق واحد، وصراط مستقيم:
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77]
وما من أمر حرَّمه الله إلا لأنه مفسد وضار، ولكنه تعالى أباح ما هو خير وأبقى في ساحة الفضائل والصيانة والبناء، وفي الحديث الشريف: «وفي بضعِ أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته – أي مع زوجته – ويكتب له بذلك أجر؟ قالَ: أرأيتُم لو وضعَها في حَرام أليس عليه في ذلك وزرٌ؟ قالوا: بلى. قال: كذلك إن وضعَها في حلال فله بذلك أجر»( ).
8- تفرِّق بين الصغائر والكبائر: فالصغائر تُكفِّرهَا العبادات والحسنات:
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114]
أما الكبائر فلا بد لتفكيرها من الإقلاع التام عنها، مع الندم وعقد العزم على عدم العودة إليها، ولا بد من أداء الحقوق لأصحابها في ساحة التوبة النصوح الطهور، على أنه ينبغي تجنّب الصغائر أيضاً، والحذر من تكاثرها وكثرتها، فإنها تقضي عندئذ على صاحبها، كما يقضي ثقبُ السفينة الصغير – إن أهمل – على ركابها جميعاً.
9- تفرّق بين المجاهرة والمساترة في الذنب: فكلُّ ذنب حرام، والمذنب مؤاخذ به، معاقبٌ عليه إن لم يتب ويصلح من حاله، ولكنَّ المجاهرة بالذنوب والافتخار بها دليل انعدام الحياء، والانطواء على نفس خبيثة تتحدى الحقَّ والقيم، ولذا كان عِقَاب المجاهرة بالذنب أشد من عقال المساترة فيه. وفي الحديث: «كل أمتي مُعافى إلا المجاهرينَ، وإن المجاهرةِ أنْ يعملَ الرجلُ بالليل عملاً فيصبح وقد ستَرهُ الله، فيكشف سترَ الله عليه»( ). وفي الحديث دعوة خفية إلى أن يكونَ ما يجري بين الزوجين مستوراً قولاً وعملاً، وأن يبقى في طي الكتمان، وراء ستار مسبل من الصيانة والحياء، لا يطَّلع عليه أحد، فإنَّ من الكبائر أن يكشف أحد الزوجين سترَ وسرَّ الآخرِ.
10- تفرِّق بين مكان ومكان: فالمعصيةُ كشرب الخمرة مثلاً كبيرة من الكبائر في أي مكان، لكن عقوبتها تُضاعف أضعافاً كثيرة حين تكونُ في أماكن العبادات، أو مواسمها، أو في الدِّيار المقدسة كمكة المكرمة، أو شهر رمضان:
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25]
أي: من يعص الله أو يقم بذنب – متعمداً – في المسجد الحرام فله عذاب أليم.
11- عالمية الأخلاق: فالمسلم المؤمن مطالب أن يكون أديباً وأسوة وقدوة مع المسلم وغيره، فهو سفير يُمثِّل دينَه أينما ذهب. فإن سافرَ للتجارة فهو تاجر أمين، أو للعلم فهو طالب أديب، أو للنّزهة فهو سائح شريف. يرى فيه الغرباءُ خيرَ قدوة وأحسنَ أسوة، فيتقدون ويصلحون، وإن أقامَ في بلده فهو المواطنُ المستقيم. والنصوصُ واضحة الدلالة على دعوة المسلم والمسلمين لإصلاح العمل والقول مع الناس جميعاً، مسلمين كانوا أو غير مسلمين.
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: 83]
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: 60]
وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ [القصص: 77]
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الشعراء: 183]
وفي الحديث الشريف: «اتقِ الله حيثما كنتَ، وأتبعِ السَّيئةَ الحسنةَ تمْحُهَا، وخالق النَّاسَ بخلقٍ حَسَنٍ»( ).
ولعل خير ما نختم به هذا الموضوعَ أن نشير إلى قول ابن القيم رحمه الله: «مدارُ حُسن الخُلُق مع الخَالق والخَلْق: كنْ مع الخالق بلا خَلْق، ومع الخَلْق بلا نَفْس» ففساد العقيدة ينشأ من توسط الخَلْق بين العبد وخالقه، وفساد الخُلق ينشأ من توسط النفس وشهواتها وأطماعها بين الإنسان وبقية الناس، فإذا عزلت الخلقَ وأنت تعبد ربك، أخلصت له العبادة والتوحيد فنجوت. وإذا عزلتَ النفسَ وأنت تعاملُ الناسَ عطفتَ ورحمتَ وأنصفتَ، فنجوتَ:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 9-10]
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام: 91]
وأختم بقول طاغور، وقد أضفت إلى القصيدة البيتَ الأخير من عندي:
لاقيتُ من بعد اغترابٍ أسرتي
بفؤادِ صَبٍّ عامِرِ الأشواقِ
نظرَ الشقيقُ فقالَ أين هديَّتي
فمنحتُه بُشرى وطيبَ تَلاقِ
وإذا بوالدتي تُسَائلُ ما الذي
أُهدي لها مِن بعدِ طُول فِرَاقِ
فمنحتُ في برِّ الودادِ يمينَها
قُبَلَ النسيم العَذْبِ للأوْرَاقِ
ورنتْ إليَّ الزوجُ قلتُ هديَّتي
أَنِّي حفظتُ على النَّوى مِيثاقِي
وإذا السَّماء تقولُ أينَ هَديَّتي
سأقولُ إنَّ هَديَّتي أخلاقي
وإذا الجِنَانُ تقولُ أين هديَّتي
سَأَقولُ إِخْلاَصِي إلى الخَلاَّقِ
(2)
الخُلُق بين الطبع والتصنّع
هناك فرق كبير بين صاحب الخلق الكريم تربيةً وأصالةً وقناعةً وطبعاً وثباتاً، والمتصنّع للخلق الكريم مداهنةً ونفاقاً، كالفرق بين الصدق والكذب، أو بين الإخلاص والرياء.
ومن السلف من اعتبرَ الدين هو الخلق الكريم، فقال ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى:
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]
أي: لعلى دين عظيم.
وقال ابن القيم رحمه الله: الدِّينُ كلُّه خلق كريم، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين. وسُئل عن الدِّين فأجاب: «حسن الخلق»( ).
وسُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول ، فقالت: «كان خلقه القرآن»( ).
والخلق الحسن الكريم أن يسيطرَ المسلمُ بروحه على بدنه، ويسمو بنفسه فوقَ حِسّه، ويُحسن الوفاقَ بين عقله وقلبه، فإذا هو سليم الفؤاد، حكيم المقال، رشيد الفعال، لديه من الحصانة الإيمانية والخُلُقية ما يجعلُه يتأبَّى على كل خطيئة أو إثم، ويدفع كل شبهة أو تشكيك.
ولديه من نور البصيرة والهداية ما يجعله أهلاً لرحمة الله في دنياه وأخراه.
وفي القرآن الكريم تفصيل للأخلاق الكريمة، كسورة الحجرات والنساء والنور، وإجمال في كثير من سوره، وبينَ شتَّى الأحكام والموضوعات، وإيجاز معجز في بعض الآيات، كما في قوله تعالى:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]
وأبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى فصَّل الأخلاق في كتابه «إحياء علوم الدين» فاختصرَ ذلكَ الشيخُ جمال الدين القاسمي رحمه الله في كتابه «موعظة المؤمنين» وأوجزَ ابنُ القيم في كتابه «مدارج السالكين» فردَّ الأخلاق إلى أربعة أنواع هي: الصبر، والعفة، والعدل والشجاعة. وكل نوع منها في نظره يشتمل على مزايا وأصناف في الأخلاق، مما ينتظم الأخلاق كلها.
وللأخلاق الفاضلة مرتبة عالية سامية في الإسلام، وعناية بالغة، فهي:
1- من أهم أهداف البعثة «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»( ) ولذا فقد كان يدعو في افتتاح الصَّلاة «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يَهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني أسوأها فإنه لا يصرف عنِّي أسوأها إلا أنت»( ).
2- من أحسن ما يُمدح به المرء، ولذا فقد اصطفاها الله تعالى لمدح رسوله:
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]
وقوّاها بـ: إن واللام المزحلقة للتوكيد، وعلى التي تُفيد الاستعلاء، والوصف: عظيم، ليُبيِّن أن أحسن قدوة وأفضل أسوة يرجع إليه في الفضائل والمكرمات والخلق القويم هو سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]
وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159]
3- من أسباب دخول الجنة، ففي الحديث الشريف: «أنا زعيمٌ ببيت في أعلى الجنَّة لمن حَسُنَ خلقُه»( ). «أكثر ما يُدخلُ النَّاسَ الجنَّة حسنُ الخلق»( ). «مَنْ يضمنْ لي ما بينَ فكَّيْهِ – لسانه – وما بينَ فخذَيْه – فرجه – عن الحرامِ أضمنْ له الجنَّة»( ).
4- مرتبطة بالعبادة، فهي ثمرةُ العبادات التي شُرعت كمظهر من مظاهر شكر العبد لخالقه، وإقراره بالعبودية له، وهي بالإضافة إلى ذلك شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تُؤتي أكلها وثمراتها من العمل الصالح، والسلوك المستقيم، بإذن وفضل ربها.
فالصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصيام سبيلٌ للتقوى والحفظ المادي والمعنوي.وفي الحج منافعُ كثيرة، والزكاة طهارة، وتزكية، ونماء للغني والفقير والمال.
5- مرتبطة بالعقيدة. ففي الحديث الشريف: «الإيمانُ بضع وسبعون شُعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان»( ). «لا يَزني الزَّاني حينَ يَزني وهو مؤمنٌ، ولا يسرقُ حين يسرقُ وهو مؤمن، ولا يشربُ الخمرةَ حين يشربُها وهو مؤمن»( ).
ولذا فأنت تقرأ في سورة المائدة:
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 5]
فالآية من أولها بيَّنت ما يحلُّ للمؤمن من الطيبات طعاماً، ومن النساء زواجاً حلالاً.
ثم بينت أن العلاقة المشروعة بين المؤمن وأية امرأة تحلُّ له،إنما تقومُ على عقد شرعي بشروطه المعروفة، المؤدية إلى الإحصان والزواج المشروع الشريف.
وما عدا ذلك من صلة عشق أو غرام أو فساد، أو باسم صداقة أو زمالة، فهي محرمة، وهي مزلق من مزالق الهوى والشيطان:
إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53]
وامتثال أخلاق وأحكام الإسلام في ذلك من صُلب الإيمان والعقيدة السليمة، فمن رفضها وانسلخ منها وانطلقَ من قيودها يفعل ما يُريد، فقد طغى وبغى، وآثر طريق الكفر على الإيمان، فحبطَ عمله وخابَ وخسِر، ولذا فقد انتهت الآية بقوله تعالى:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 5]
معتبراً مكارم الأخلاق جزءاً وعضواً أساساً في جسم الإيمان وكيانه، من تخلَّى عنها فقد ضلَّ وأضلَّ.
وفي سورة الحجرات قال الله تعالى:
وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7]
6- مرتبطة بالتشريع: فالحدودُ التي شرعَها الله تعالى كحدِّ القتل والزنا والقذف وبيَّنها رسوله ، والتعزيراتُ التي وكلَ أمرها للقاضي، وهي فيما لم يرد فيه حدٌّ، فيقدر القاضي في كل عصر ومصر خطورة ذلك الذنب أو العمل الضار، ويفرض على فاعله عقوبة زاجرة رادعة يراها عادلة مناسبة مؤدِّبة.
وإنما شُرعت الحدود والتعزيرات لحماية الضرورات الخمس: الدين والعقل والعرض والنفس والمال في كل مجتمع ولكل فرد، ولا يمنع المجرم عن جريمته مثل أن يعرف أن سهمه سيرتد إلى صدره فيقتله.
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 179]
(3)
الخُطْبَةُ والخِطْبَة
الخُطبة بضم الخاء، هي ما يقولُه خَطيبٌ ما للناس، وغالباً ما تُلقى من مكان عالٍ يُشرف منه الخطيبُ على السامعين، والخِطبة بكسر الخاء، هي ما يقال لدى طلب فتاة ما من وليها لتكون زوجة لرجل ما.
والشرع والعقل يدعوان إلى قصر المدة فيهما، ولنبدأ بالخُطبة بضم الخاء.
فالخطيبُ حين يُحسن تحضيرَ خطبته وتلخيصَها، ويختارُهَا ذات موضوع واحد، يعرض أفكاره المهمة وشواهده المقنعة ودلائله الساطعة، فإن ثلث ساعة تكفيه، ولا بأس أن تصل إلى نصف ساعة، فإن زادت تململت الخاصة وضاعتِ العامَّة، والقرآن الكريم من وجوه إعجازه إيجازه، وكل آية فيه دليل على ذلك، وأضرب لذلك مثلاً واحداً من سورة القصص:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]
فهذه آيةٌ واحدة لخَّصت حياة سيدنا موسى عليه السلام من ولادته إلى رسالته، فيها خبران وأمران ونهيان وبشارتان.
ولقد أفاد الرسول من ذلك، وأوتي جوامعَ الكَلِم، وكان يُعطي المعنى الكثير في اللفظ القصير، وحسبك حديثان هما: «إنما الأعمالُ بالنيات»( ) و«لا ضررَ ولا ضِرار»( ). فإنهما يشتملان على معان كثيرة، يُكتب فيها صفحات لمن تدبَّر وعقلَ.
وقال : «مَنْ أَمَّ في الناس فليخفف، فإن فيهم المريضَ والضعيفَ وذا الحاجة»( ).
وكان إذا خطب استطاع السامعُ أن يُحصيَ المعاني ويعدَّ الكلمات؛ لأنه يخطب بهدوء، ويُوجز الخطاب. والصَّحابةُ الكرام سَلكوا هذا السبيلَ، فقد قال أحدهم: الكلامُ كالدواء، إن أقْللت منه نفعَ، وإنْ أكثرتَ منه صَرَعَ.
وقال بعضُهم: البلاغةُ في قِلَّةِ الكَلامِ مع الإصابة، لأنَّ الكلامَ إذا كَثُرَ اختلَّ، وإذا اختلَّ اعتلَّ، وخيرُ الكلام ما قلَّ ودلَّ، ولم يُطِلْ فيُمِلَّ.
وأبلغُ الكلام ما حسن إيجازه وكثر إعجازه، وتساوت صدوره وأعجازه، ترضاه الخاصة وتفهمه العامة.
ورأس الخطابة الطبع، وعمودُها الدربة (التمرين والممارسة)، وجناحَاها الشواهدُ الصحيحة المنتقاة، وزينتها الإعراب والإفصاح، وبهاؤها تخيُّر الألفاظ الجميلة للمعاني الجليلة، ومحبتها وقبولها مقرونان بالإيجاز والتخفيف.
والمسلمون قديماً وحديثاً يرغبون بذلك، فقد روتْ كتبُ الأدب والتراجم: أن الحجَّاجَ خطبَ في الناس يومَ الجمعة مرة فأطالَ، فقالَ له أحد الحاضرين: إن الله لا يعذرك، وإن الوقتَ لا ينتظرك. فأمرَ بحبسه وعقوبته، فادَّعى أهلُه أنه مجنون، فقال الحجَّاج: إن أقرَّ بجنونه عفوتُ عنه، فلمَّا طلبَ منه أهلُه ذلك أجابَ: والله لا أزعم أنَّ اللهَ ابتلاني وقد وهبني العقلَ السليمَ وعافاني.
فلمَّا علمَ الحجَّاجُ بذلك أُعجبَ بجرأته وشجاعته وفصاحته، فعفا عنه وأكرمه.
كما كان الأمراء يتبارون في إيجاز واختصار ما يكتبونه في رسائلهم لعمّالهم أو أعدائهم، وهو ما يُسمَّى: «التوقيعات». من ذلك أنَّ أميراً شكوا له أحد عمَّاله، فكتبَ إليه يقول: «كَثُرَ شاكُوك، وقلَّ شاكروك، فإما عدلتَ، وإما اعتزلتَ».
ولقمانُ الحكيم ينصحُ ولدَه فيقولُ: «يا بني! إن من الكلام ما هو أقسى من الحجر، وأنفذ من الإبر، وأمرّ من الصبر، وأحرّ من الجمر، وإن القلوبَ مزارع، فازرع فيها الكلمة الطيبة، فإن لم تنبتْ كلها نبتَ بعضُها».
وفي هذه النصيحة درسٌ لكلّ خطيب أو معلم أو موجِّه أو مربّ.
أما الخِطبة بكسر الخاء، فتدعونا إلى تقسيم الأمر إلى فترتين: ما قبل العقد، وما بعدَ العقد.
والخاطبُ قبل عقد الزواج لا يجوزُ له أن يرى منها إلا وجههَا وكفَّيْهَا بنيّة خطبتها، وهو نموذج كاف عنها. فجمالُ الوجه ينبئُ عن جمال الجسم، وصِحَّة اليدين تنبئُ عن صحة الجسم، وأمُّه أو مَنْ تبحثُ له عن زوجة تَرى منها أكثر من ذلك، فتنصحه بالإقدام أو الإحجام.
وقد قال : «انظرْ إليها لعلَّه أن يُؤدَم بينَكُمَا»( ).
وقوله: «إليها» مجاز، أطلقَ الكلَّ وأراد البعضَ، أي: انظر إلى وجهها وكفيها، فإن حصلَ بين الخاطب والمخطوبة مودة وتآلف وقبول، أقدما على عقد الزواج، وإلا أحجمَا.
ولا أنصحُ بإطالة هذه الفترة إن حصلَ القَبول من الطرفين، لأن الخلوة بينَ الخاطب ومخطوبته غير جائزة.
وكثيراً ما يُفرط أهلُ الفتاة في هذا الأمر فيندمون، إذ قد يحصل شيء من النفور، أوْ يُغيِّرُ أحدُ الزوجين رأيه أو كلاهما فلا يتم العقد، فيسيء هذا إلى سمعتها أكثر مما يُسيء إلى سمعته:
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229]
فإذا تمَّ الاتفاقُ وعُقدَ زواجُهما فلا أنصحُ بإطالة الفترة أيضاً، والأولى الإسراع بالزفاف، وإلا كثرت المشكلات والأقاويل والافتراءات والنقد والتجريح، ولاسيما على لسان النساء اللواتي لا يخفنَ اللهَ تعالى، فيجدنَ في إطالة هذه الفترة مرتعاً خصباً للإفساد بين الزوجين لئلا يتمَّ الأمرُ، وكثيراً ما يُسبِّبْنَ فسخَ العقد، فيحدث الإضرار بالزوجين أو بأحدهما، وربما أدَّى ذلك إلا ما لا تُحمدُ عقباه مما قد يصل إلى حدِّ الجريمة، ولو سألتَ القضاةَ والمحامين لحدَّثوك عن ذلك بالعجب العُجاب.
وما أصعب أن ينهارَ عشُّ الزوجية بعد أن تألَّفت القلوبُ، وعظمت الآمال، وطالَ الانتظار.
ويُؤسفني كما يُؤلمني أن أقول: إن للمرأة التي لم تستقم على أوامر الشرع دوراً خطيراً، وشراً مُستطيراً في تدمير كيان الأسر، نكاية أو حسداً أو كيداً:
ولا تحسبن هنداً لها المكرُ وحدَها
سجيّة نفس كلُّ غانية هندُ
وإن تعجب فعجبٌ أن يتخلَّى الرجالُ عن القوامة والرأي الفيصل في قضايا الأسرة الخطيرة، كالمهر والصلح والنفقة، والرجال قوَّامُون على النساء، وأن تُترك هذه الأمور للنساء اللواتي يتأثرن بالعاطفة، ويحببن التقليد، ويعشقن الظواهر ومُوجبات المدح والثناء، ويفضلن المبالغةَ في كل الأمور، فكثيراً ما يقع الفِراق بين الأزواج لأسباب سخيفة هي أثر من آثار ذلك.
وإذا تدخلتَ لتصلحَ بين الزوجين الشابين، رأيتَ المرجعَ في القضية أم الشاب الزوج وأم الشابة الزوجة، وليس لوالديْهما رأي يُطاع، ويحسنُ أن نشيرَ هنا إلى أن الله تعالى ذكرَ في سورة القَصَص على لسان سيدنا شُعيب عليهما السلام، واتّفقا على المهر، قال لعمه:
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [القصص: 28]
أي: أريد أن يبقى الأمر بيد الرجال، وأن لا تتدخل في تحديد المهر النساء خشية أن يطالبن بأكثر مما يُرهقه، فيعدل عن الزواج.
ولقد استبشرَ موسى عليه السلام حينَ سمعَ من عمه:
وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص: 27]
فاحرصوا أيها الرجال على القِوامة والقول الفيصل في أسرتِكم، ولاسيما في هذه الأمور، فهو خير لكم ولأزواجكم وأولادكم.
ولا تسمحوا أن تطولَ فترة الخِطبة بعد عقد الزواج أكثر من أربعة أشهر، وهي المدة التي تصبرُ فيها الزوجة على غياب زوجها، منعاً للفتنة والمشكلات والافتراءات، وحفاظاً على بقاء الزوجية، فَدرهمُ وقايةٍ خيرٌ من قنطار علاج.
وأنصحُ أن يسكنَ الشابُّ الزوجُ في بيتٍ وحده مع زوجه ولو صغرَ، لا في بيت أهله ولو كبر إن أمكنه ذلك، على أن يبرَّ أهله، ويزورَهم، ويتفقَّد أحوالَهم، ويقضي حاجاتهم، ويحرصَ على رضاهم في الحق والمعروف، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «مُروا الأقاربَ أن يتزاوروا وأن لا يتجاوروا».
فطوبى لمن ادَّكَر واعتبرَ.
(4)
أسبابُ الطَّلاق
كم يُؤلم المسلمَ الغيورَ على المجتمع والأسر كثرةُ الطلاق المُشتِّت للشمل، والمفرِّق للجمع، المفسد للأسر، والمسيء لمستقبل الزوجين والأولاد. ولو ذهبَ كلُّ منا يستقصي أسبابَ الطلاق لرأى أهمها ينحصرُ فيما يأتي:
1- سوء اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر، وإذا كانت النظريات التربوية ترى أن تربيةَ الطفل تبدأ منذ يُولد أو يدرجُ على الأرض، فالإسلام يرى ذلك يبدأ منذ أن يختارَ كلٌّ من الزوجين الآخر، فإذا كانَ اختياراً سليماً مدروساً على أساس الدين والخُلُق، ومصلحة الأسرة، سلمَ الزواجُ من الخصام والشقاق، واتَّسم بالوئام والوفاق، وإلا آل إلى الخلاف والطلاق «فاظفر بذات الدين تربت يداك»( ) أي: إن لم تظفر بذات الدين والخُلُق افترقتَ، وخسرتً، وندمت.
والله تعالى الذي قال:
مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك: 3]
يطالبنا أن نتوخى التناسق والتناسب والتوازن والانسجام بين الزوجين، كما هو في خلق الرحمن في هذا الكون، فقال:
هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187]
والآية في عبارة النص تبيين أن كلاً من الزوجين حصنٌ للآخر، وسبيلُ ستر وعفة، وصيانة.
والآية في إشارة النص تُبيِّن أن التناسبَ والتناسقَ وعدم التفاوت مطلوب بين الزوجين، فاللباس لا يحلو ولا يَليق إلا حينَ يكون مناسباً للجسم متناسقاً معه حجماً وطولاً ولوناً.. فلا بدّ إذاً أن يكونَ بين الزوجين – إن أرادا السعادة ودوامَ الوفاق – انسجامٌ وتناسبٌ وتناسقٌ في السن والجمال، والثقافة والفكر، والحال الاجتماعية والعادات والتقاليد، وهذا في نظري مما يجبُ أن يضاف إلى الكفاءة التي اشترطها كثيرٌ من الفقهاء لاستمرار العقد، فإن لم يراعِ كلٌّ من الزوجين ذلك عند الاختيار فقد يُؤدي إلى الندامة والتراجع، وفسخ العقد قبل الزواج، أو هدمه بالطلاق.
2- الاختلاط بين الجنسين، ولاسيما حين يكون بلا قيود ولا حياء، ولا التزام، أو في أماكن الشبهات والمنكرات في ساحة الفتن والإغراء، وكم من رجل أفسد امرأةً على زوجها، وكم من امرأةٍ أفسدتْ زوجاً على زوجته. لذا فقد أنذرَ الرسول من يفعل مثل هذا في قوله: «إيما امرأة طلبتْ طلاقَها من زوجها دون بأس (سبب مشروع) فحرامٌ عليها رائحة الجنة»( ). كما هدَّد من تفسد زوجاً وتسبب طلاقه لزوجته ليتزوجها بدلاً من زوجته، وتكفأ إلى صَحْفَتِها ما عندَه من خير، وتحرم من ذلك زوجته وأولاده، هدَّدها بأنها ستُحرم من رائحة الجنة كذلك.
ولذا فقد دعا الله تعالى، وأمر عبادَه رجالاً ونساءً بغض البصر، فهو طريق لحفظ الجسد والنفس من المزالق والهوى، وعلَّلَ ذلك بقوله:
ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور: 30]
وهي صفة مشبّهة وليست أفعل تفضيل، أي ذلك طهر لهم ونقاء وصيانة وحماية ورعاية، والنفس تميل إلى الأكمل والأجمل والأفضل بدافع الفطرة، فإذا توفَّر غضُّ البصر توفرت القناعة بالحلال، ورضيَ كلٌّ من الزوجين بقرينه دون أن يميلَ إلى غيره، مما يُديم بينهما المودة والرحمة، ويصون الأسرة من الشتات والطلاق.
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً
لقلبِكَ يوماً أتعبتْكَ المناظرُ
رأيتَ الذي لا كلّه أنتَ قادرٌ
عليه ولا عن بَعضِه أنتَ صَابرُ
ولله در من نصحَ فقال:
لا تكثرنَ تأملاً
واحبسْ عليك عِنَان طَرْفِك
فلربَّما أرسلتَهُ
فرماكَ في مَيْدانِ حَتْفِكَ
3- إهمال كلٍّ من الزوجين واجباته نحوَ الآخر المادية والمعنوية، فبقاء الزوجية بينهما منوطٌ بحسن المعاشرة والتفاهم من كلٍّ للآخر، مع إدخال السرور على قلبه في حدود الشرع والحق، إذ لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق.
والعقل يقتضي أن يحاول كل منهما أن يتجدَّد في معاملته وشكله وسلوكه ونظافته وأدبه نحو الأفضل والأكمل، لئلا يحصلَ بينهما ضجرٌ، أو ملل، وابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: إني لأتزينُ لزوجتي كما تتزينُ لي.
والمرأة في البيت ليست هملاً أو متاعاً، بل إنسان كالرجل تُشاركه وتُشاطره الأفراحَ والأتراح (الأحزان)، والزوج راع ومسؤول عنها، وهي راعية ومسؤولة عنه، وأحبُّ درهمٍ أو دينارٍ إلى الله تعالى هو الذي يُنفقه الرجل على زوجه وأولاده، يُكتب له بذلك الأجر والصلة.
أما الذين يهملون واجباتهم نحو نسائهم، ويقضون نهارَهم وجزءاً كبيراً من الليل خارجَ الدار في جمع حطام الدنيا، والتنافس على متاعها الفاني، حتى إذا عادوا إلى بيوتهم حملوا إليها أكثر أعباء العمل ومشكلاته وهمومه، ينغّصون عيش المرأة والولد، فهم على خطأ وخطر خطير وشر مستطير، فالمودة والرحمة يحتاجان ليدوما إلى تعاطف وتبادل، وقد كان رسول الله إذا دخل داره يقومُ بحاجة أهله من: أنسٍ وعطفٍ ورعاية وحنان وتعاون ومواساة.
وكان يُحذِّر أصحابَه من إهمال ذلك، لأنَّ بني إسرائيل أهملوا نساءَهم ففعلنَ كذا وكذا. وذكرَ ما لا يليق.
وأمرهم أن يختموا بالمرأة، وأن يُؤدُّوا لها حقوقَها الزوجية المشروعة كاملةً، ليبقى عشُّ الزوجية في سلم وسلام، وآمن وأمان، في ساحة الإيمان والإسلام.
ولقد مدحت امرأةٌ زوجَها الوفي المخلص، فقالت: «زوجي لما عناني كاف، ولما أسقمني شاف، عرقه كالمسك، ولا يمل طولَ العهد، إذا غضبتُ لطفَ، وإذا مرضتُ عطفَ. أنيسي حين أفرد، وصفوحٌ حين أحقد، إذا دخلَ الدار دخلَ بسَّاماً، وإن خرج خرجَ ضحَّاكاً، ما غضبَ عليَّ مرة ولا حقد، يأكل ما وجد، ويدرك ما قصد، ويفي ما وعدَ، ولا يأسى على ما فقدَ، أديب أريب حسيب نسيب، كسوب خجول، لا كسولٌ ولا ملول، إذا طلبتُ منه أعطاني، وإن سكتُ عنه ابتداني. وإذا رأى مني خيراً ذكرَ ذلك ونشر، أو رأى تقصيراً سترَ ذلك وغفرَ» فطوبى لمن اقتدى واعتبرَ.
4- إهمال تربية الأولاد منذ الصغر على تحمل المسؤولية في الكبر، فالولد يُربَّى على الرجولة والشجاعة الأدبية، وقول الحق ومعرفة حقوق الزوجة والولد، والسعي وراء الرزق، وتحمل أعباء الحياة، والصبر على مصاعبها ومصائبها، والبنت تُربَّى على شؤون البيت والقيام بما تتطلبه الحياة الزوجية بنوعيها القولي والعملي، الأدبي والمادي، وتُعرَّف بحقوق الزوج وأهله وأولاده حتى إذا تزوجت أثبتت جدارةً وكفاءةً، وعاشتْ زوجةً كريمةً مكرمة، وأماً راضيةً مرضية.
أما الدلال والإهمال والتفريط في تربية الولد والبنت في الصغر، والإغضاء عن كل هفوة أو خطأ، أو صغيرة أو كبيرة، منهما، مع التماس الأعذار لهما في كل تفريط أو إفراط، فهو طريق الفساد والإفساد للمجتمع والأسر معاً.
مَن أدَّبَ أولادَه صغراً سُرَّ بهم كباراً.
ومَن أدَّبَ أولادَه أرغم حسَّاده.
والولدُ سِرُّ والديْه، ومرآة تعكس سلوكهما، وما نحلَ والدان ولدَهما أفضل من أدب حسن، والتربية في الصغر سهلة ميسرة، وفي الكبرى أَمْرُها صعب وعسير، فما أصعب فطامَ الكبير، وما أعسرَ رياضة الهرم!
إن الغصونَ إذا قوَّمتَها اعتدلتْ
ولا يلينُ إذا قوَّمتَه الخَشَبُ
إذا المرءُ أعيتهُ المروءةُ ناشئاً
فمطلبُها كهلاً عليه عسيرُ
وحين يشبُّ الفتى والفتاة على الدلال والإهمال والتفريط بالواجب، وعلى التماس والديهم الأعذار لأخطائهم دون توجيه أو إرشاد أو تقويم، فهما في الحياة الزوجية على شفا جرف هارٍ؛ لأن الحياة الزوجية مسؤولية كبيرة على الزوجين معاً، فإما العناء والشقاء، وهو لهما إرهاق، وإما الخصام والشقاق؛ اللذان يؤديان غالباً إلى الطلاق.
ويؤسفني أن أقول: إن الوالدين المهملين لتربية ولديهما الذكر والأنثى في الصِّغَر، يقفان في الكبر بجانب الباطل حين يتخاصمُ ولدهُما مع زوجته، أو ابنتهما مع زوجها، ويُدافعان عن ولدهما إن ظلمَ أو ابنتهما إن أهملت، وينكران الحق الذي مع الجانب الآخر، ويلتمسان لتفريط وإهمال ولديهما الأعذار السخيفة، كما فعلا ذلك في الصغر، وغالباً ما يتخلَّى الأب عن دوره الأساس في الموضوع لزوجته، فهي تقرر مصيرَ ولدها مع زوجتِهِ أو ابنتها مع زوجها، فتصرُّ على رأيها وتقفُ بجانب ولدها أو ابنتها ولو كانا على ظلم وباطل، فيقع الطلاق ومن بعده الخسارة والندامة، لأن الرجل تخلَّى عن قِوامته للمرأة في الأمور المهمة، التي تحتاج إلى رؤية وإنصاف ووعي ودراسة، وإلى قول فيصل عادل. وللعرب مثالٌ يصدق على هذا، هو قولهم في مثل ذلك «استنوق الجملُ» أي: صارَ الجملُ ناقة، فهل يعقلُ الرجالُ هذا ليحرصوا على قوامتهم، والرجولة الحق والإنصاف في الأمور والعدل فيها، دون التأثر بعاطفة أو فتنة؟
5- بعد الزوجين عن منهج الله تعالى، وأرى أن كل خلاف يجري بين أمة وأمة أو أسرة وأسرة أو فرد وآخر، كبر الخلاف أو صغر، إنما مرجعه إلى البعد عن منهج الله وشريعته.
ولو أن أياً من الخصمين صدرَ عن شرع الله وتبعه الآخر في ذلك، لزال كل خلاف وخصام وكذلك الزوجان: لو شربَ كلُّ منهما من نبع الشريعة الصافي لاتفقا في كل شيء، وسلما من كل خلاف أو شقاق، ولعل هذا بعض ما عناه الله تعالى في قوله:
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]
فالرجوعُ إلى حكم الله ورسوله في كل أمر والرضا به سبيل للخير وسلامة العاقبة والأمر:
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128]
وأذكر في هذا المجال أن صحفية مصرية سألت أحد السادة العلماء عن أسباب الجنوح عند الناس والجيل الجديد، وسبيل الخلاص من ذلك؟ فكتبَ إليها يقول:
«اعلمي رعاكِ الله أن الناسَ والشبابَ والشاباتِ، لا يُمكن أن يجتنبوا الآثام والمعاصي والإجرام، إلا إذا آمنوا بالله العليم العلاَّم، وعلموا أن هذا حلال وهذا حرام، وامتثلوا أوامر الله تعالى من الولادة إلى الحِمام (الموت) وعاشوا في ساحة الإيمان والإحسان والإسلام، وإليكِ مني ألفَ تحية وسلام».
(5)
الوصية
تكافلٌ وإنصافٌ
كثيراً ما يسألُ الناسُ عن الوصية، وما يتعلَّق بها، فإليكم البيان:
1- معنى الوصية:
لغة: مأخوذ من وصَّيْتَ الشيءَ أوصيت: إذا وصلته، فالموصي وصلَ ما كان له في حياته بما بعد موته بإذن الشارع الحكيم. وهي في الشرع: تفويضُ تصرُّفٍ خاص بعد الموت. وفي الحديث الشريف: «إنَّ اللهَ تصدَّق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتِكم زيادةً في حسناتِكم»( ) روي من طرق متعددة يقوّي بعضُها بعضاً، وهو دليل على جواز الوصية بالثلث، وأن المحتضرَ على فراش الموت لا يُمنع منها.
أما الوصية من الله تعالى لعباده فمعناها الأمر والعهدُ:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11]
والله تعالى أرحم بالأولاد من آبائهم وأمهاتهم.
2- حكم الوصية:
قيل: كانت واجبة في بداية الإسلام بجميع المال للأقربين، لقوله تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 180]
ثم نُسخت بآية المواريث التي أعطت كلَّ ذي حق حقه، وفصَّلت في ذلك، وبقيت الوصية مستحبة في الثلث فما دونه في حق غير الوارث، وفي الصحيحين: «ما حق امرئ مسلم له – أو عنده – شيء يُوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده»( ). وقيل: لم تكن واجبة بل مستحبة من الأصل وليس في الآية نسخ، بل هي محكمة ومعناها:
كُتب عليكم أن تنفِّذوا ما أوصى الله به في آية المواريث، ليأخذ كل وارث حقه كاملاً دون نقص أو حيف كما أمر الله تعالى:
نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء: 7]
وأن لا يحرم من شيء منه كيداً أو سعياً وراء ثناء أو فخر.
فقد جرت عادة أهل الجاهلية قبل الإسلام، أن يُوصوا للأبعدين الأجانب طلباً للفخر والشرف والثناء، ويتركوا الأقارب على فقر وعوز، فَنَزلت الآية تمنع من ذلك وتفرضُ وتضمنُ لكل قريب وارث حقه.
وقيل: هذه الآية تفرض وصيةً للوالدين والأقربين غير الوارثين، وهم المحجوبون عن الإرث بوجود غيرهم، كالجد عند وجود الأب، وابن الابن عند وجود الابن، والقاعدة: «كل من أدلى إلى الميت بواسطة حجبته تلك الواسطة». وجعلَ ذلك وصيةً واجبةً، وأخذَ بذلك قانون الأحوال الشخصية، وهو ما نميل إليه، واعتبرها وصيةً واجبة، فيأخذ أولاد المتوفى من إرث جدهم حصةَ أبيهم الذي مات قبل جدهم، وكأن أباهم حيٌّ يرث أباه، شريطة أن لا يزيد ذلك على الثلث الباقي بعد تجهيزه وحق الدائنين، وقصرها القانون على أولاد الابن (الذكر) المتوفى، وكنا نتمنى لو شملت أولاد البنت المتوفاة أيضاً، رحمةً باليتامى، وعوناً لهم إن كانوا على بؤس وفاقة، فالآية محكمة غير منسوخة، وتضييق دائرة النسخ هو ما نميل إليه تأييداً لكبار العلماء، والرحمة باليتيم والضعيف من مبادئ الإسلام وروحه، وهذا لا يتعارض مع حديث: «لا وصية لوارث»( ) لأن المحجوبَ في مسائل الإرث غير وارث.
والحق أن الوصية تعتريها الأحكام الخمسة فهي:
1- واجبة: وهي أن يسجلَ ماله على الناس وما عليه للناس، ليضمن حق الورثة وحق الدائنين.
ومنها الوصية الواجبة التي سبق ذكرها، وفيها رحمة للصغار الذين فقدوا أباهم في حياة جدهم، فتعينهم هذه الوصية على مصاعب ومطالب الحياة، وتخفف من آلامهم:
إن البلاء يُطاق غيرَ مضاعف
فإذا تضاعفَ صارَ غيرَ مُطاق
2- مندوبة: وهي الوصية في وجوه الخير للأقرباء غير الوارثين، كالخال والعمة وأولادهم، أو أهل العلم والصلاح، والحديث الشريف دليل على ذلك: «ما حقُّ امرئٍ مسلم له شيءٌ يُريد أن يُوصيَ فيه، يبيتُ ليلتين إلا وصّيتهُ مكتوبة عندَه»( ) فقوله: يريدُ، يدلُّ على أنها مندوبة مسنونة لا واجبة، وقد قام الإجماع على أن من لم يُوص هذا النوع من الوصية، قسم جميع ماله على الورثة بعد تجهيزه إلى قبره وأداء الديون التي عليه لله وللناس، ولو كان هذا النوع من الوصية واجباً لأخرج من ماله سهم لها.
وهذه الوصية المندوبة يجب أن تكون ضمن ثلث المال الباقي بعد أداء كل واجب في التركة، من تجهيز أو دين أو وصية واجبة. فقد سمحَ الرسول بالثلث لسعد بن أبي وقَّاص، وقال له: «الثلثُ والثلثُ كثيرٌ، إنك أن تذرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفَّفُون الناسَ»( ). وقد آثر ابن عباس رضي الله عنهما الربع على الثلث لقوله : «والثلث كثير».
3- مباحة: وهي الوصية لجار أو لصديق لا يُوصف بعلم أو صلاح، فلو نوى فيها البرَّ والصلة كانت مندوبة، لنية الطاعة، ويُثاب عليها؛ لقوله : «إنما الأعمالُ بالنيات»( ) وهي والمندوبة قبلها تكون في حدود الثلث الذي شرحناه آنفاً.
4- مكروهة: وهي أن يُوصيَ بما كرهَ الشارعُ فعلَه، كإطعامِ النَّاس يوم وفاته، وجعل منها بعضهم أن يوصي لغريب وفي أقاربه محَاويج، أو ورثته فقراء والمال الذي تركه قليل. ولعلَّ في الآية ما يدلُّ على ذلك وهو:
إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: 180]
أي: مالاً كثيراً. وقوله تعالى:
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8]
أي: أن الإنسان يحبُّ المال كثيراً.
وكلمة (خيراً) الواردة في الآية تعني بالإضافة إلى كثرة المال كونه من خلال، ولذا قال بعض السلف: لا يُقال للمال: إنه خير إلا إذا كان كثيراً، ومن كسب طيب حلال.
ويؤيده ما وردَ عن سيدنا علي كرم الله وجهه، أنه دخل على مريض ومنعه أن يُوصي فسأله المريض عن السبب فقال له: إنما قال الله تعالى:
إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: 180]
وأنت فقير تركت شيئاً يسيراً، وأولادك أحق به، وقد مرَّ معنا أن الرسول قال لسعد: «إنك أن تذرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرَهم فقراءَ يسألون الناسَ»( ).
ولذا قال بعضُ السلف: لا يُوصي إن ترك أقل من ألف دينار، وقال غيره: لا يُقال للمال: هو خير إلا إذا كان أكثر من ألف دينار، والحق أن يُقال: إن تقديرَ ذلك الخير يرجعُ إلى العرف، لاختلاف ذلك زماناً ومكاناً.
5- محرمة: كأن يُوصي بما حرَّمة الشارعُ الحكيم، كما لو أوصى أن يوضع بعض ماله في عمل محرَّم أو بدعة، أو بما يحقِّق ضرراً للورثة، ومثل هذه الوصية باطلة لا تنفذ، قال تعالى:
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء: 12]
إذ لا ضررَ ولا ضرار، كما وردَ في الحديث الشريف عن ابن عباس مرفوعاً: «الإضرار في الوصية من الكبائر»( ).
3- شروط الوصية المتطوع بها:
أ- أن تكون في حدود الثلث كما ذكرنا سابقاً والرُّبع أولى عند ابن عباس رضي الله عنهما، وقد بينا السبب.
ب- لا تجوز لوارث للحديث الشريف: «إن اللهَ أعطى كلَّ شيء حقه فلا وصيةَ لوارث»( ).
فإن أوصى لوارث توقف تنفيذها على إجازة الورثة، فإن أجازوا نفذت وإلا فلا، وقد وردَ عن ابن عباس رضي الله عنهما عند الدارقطني: «إلا أن يشاءَ الورثة»( ) بإسناد حسن، وقال بعض الفقهاء: «إذا أجاز الورثة كان ذلك هبةً منهم لا إنفاذاً للوصية، والخلاف على أية حال لفظي.
فإذا غيَّر الورثة رأيهم ورجعوا عن إجازتهم، ففي المسألة قولان:
1- لا رجوعَ لهم بعد أن أجازوا، لا في حياة الموصي ولا بعد مماته.
2- لهم الرجوع في حياته لا بعد مماته، لانقطاع الحق بالموت.
4- كيفية تنفيذها:
أ- بعد موت الموصي أو أي ميت نبدأ بتجهيزه إلى قبره من ماله، بتغسيله وتكفينه وحملة والصلاة عليه ودفنه في قبره، ونتجنب كل إسراف أو بدعة، ويرى بعضهم أنه يبدأ بديون الأعيان قبل التجهيز، كسجادة اشتراها قبل وفاته ولم يستعملها فترد لصاحبها.
ب- تسد الديون التي عليه، وهي نوعان:
1- ديون لله كالكفارات والنذور والزكاة ومنها الحج إن لم يحجّ، وأوصى أن يُحَجَّ عنه أو لم يوص، فنرسلُ من يَحُجَّ عنه من ماله.
2- ديون للناس فتسدد جميعها ولو استغرقت تركته كلها.
ج- الوصية الواجبة التي ذكرناها سابقاً، وتسدد من ثلث ما يبقى بعد تجهيزه ودفع ديونه بنوعيها.
د- الوصية المتطوع بها، وتُسدَّد من ثلث ما يبقى بعد التجهيز ودفع الديون والوصية الواجبة.
ﻫ- وما تبقى بعد ذلك يُصرف للورثة بحسب أوامر الشرع، فإن لم يُوجد من يستحق الإرث فرضاً أو تعصيباً، صُرف المال لذوي الأرحام كالخال والخالة.
فإن لم يوجد رُدَّ المالُ إلى بيت مال المسلمين.
5- سبب تقديم الوصية على الدَّين في القرآن الكريم:
قد يسأل مستفسر: ما دامت الديون مقدَّمة على الوصية، فلم وردَ ذكر الوصية قبل الدَّيْن في القرآن الكريم في سورة النساء أربع مرات؟
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء: 11]
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء: 12]
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء: 12]
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء: 12]
والتقديم والتأخير في القرآن من وجوه إعجازه، وهو قائم على منطق وهدف وحكمة، ولعل من حكم تقديم الوصية على الدَّيْن هنا:
1- أن الوصية شيء يُؤخذ أو يعطى بغير عوض، أما الدين فهو بعوض، وتنفيذ الورثة للوصية ودفع المال إلى الموصى له وهو ليس منهم شاق عليهم، وهو مَظنَّة التفريط أو الإهمال، أو ظلم الموصى له بنقص شيء من حقه؛ فقدمت الوصية ليحرصَ الورثة على تنفيذها كما وردت دون حيف أو مماطلة.
2- الوصية حظ الفقير والمسكين، والدَّين حظ الغريم، وهو مضمون يطلبه بقوة، فقدمت الوصية على الدين ترغيباً للموصى أن يوصي بها، فهي فضل من الله تعالى له ليزدادَ إحساناً وبرّاً قبل وفاته، فيحظى بنعيم الله تعالى وثوابه الجزيل في آخرته.
6- حكم الإشهاد مع الكتابة:
اكتفى بعض الفقهاء بالكتابة ولم يَشترطوا الإشهاد عليها، وإن كان الإشهاد مع الكتابة أولى، واحتجوا بقوله : «إلا وصيته مكتوبة عنده»( ). فقد نصَّ على الكتابة دون الإشهاد، وقالوا: إن كل وصية قابلة للتغيير من زيادة أو نقص حسب حال الموصي قبل وفاته، كما أن اللوازم والحقوق متجددة، فيصعب ويتعسر إحضار الشهود كلما أراد الموصي أن يغير في الوصية، فاكتفي بالكتابة رفعاً للحرج، وإن تيسر الإشهاد فهو أولى.
وقال جمهور الفقهاء: المراد من الحديث الشريف أن تكون الوصية مكتوبة عند الموصي بشرطها المعروف، وهو الإشهاد؛ لقوله تعالى في سورة المائدة:
شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة: 106]
وقالوا: إن الخط قابل للتزوير والتحريف والتبديل، فلا بد من الشهود لإظهار الحق على ألسنتهم.
والتحقيق: أنه إذا لم يتيسر الشهود وعُرف الخط وحصلَ اليقين أو غلبة الظن بأنه خط الموصي، اكتفي بالكتابة دون الشهود، رفعاً للحرج، وتحقيقاً لمصلحة الفقير الموصى له.
وللخطوط اليوم خبراء اختصاصيون يُميِّزون بينَ الخطوط وينسبون كل خط إلى كاتبه على وجه الصحة والدقة. وهذا خاص بالوصية، على أن الأولى للموصي أن يدعم الكتابة بالشهود، فهو أقوم، وأثبت، وأبعد عن الشكوك والخصام.
7- هل ينفذ إقرار الموصي المريض مرض الموت بشيء من ماله للوارث؟
أجاز ذلك الأوزاعي وبعض الفقهاء، ومنعه الإمام أحمد رحمهم الله جميعاً، وقال أحمد: إن الموصي حين يعلم أن لا وصية لوارث فإنه يجعل ما يريدُ أن يوصي به إقراراً، فيقرُّ له بدين عليه كذباً، فيمنعُ ذلك سداً للذريعة.
وقال من أجاز ذلك: إن حال المريض مرض الموت تذكره بربِّه وآخرته، فيقول الحق ويعدل ولا يظلم، فإن أقرَّ لوارث أقرَّ صادقاً. وأقول: ليس هذا بلازم فقد يُوجد مَنْ لا يخافُ الله وهو على فراش الموت وإن كان نادراً. ففي الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي: «إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران، فتجب لهما النار» وكلمة يُضَارَّان تشمل أموراً كثيرة منها:
1- حرمان البنت من إرثها، وتسجيل كل شيء للأولاد الذكور.
2- الإقرار للورثة بديون كاذبة لينقص حق الدائنين أو يضيع.
3- الوصية لوارث، رغبة في الحيف، أو نكاية بغيره، أو تفضيلاً له على غيره.
4- طلاق الرجل لامرأته التي ليست أم أولاده، وغالباً ما يكون ذلك بطلب من أولاده لئلا ترث مالاً كثيراً، فترثه إن مات وهي في العدة، وقال البعض: ترثه ولو انقضت عدتها وتزوجت من غيره وولدت من غيره؛ منعاً له عن الظلم وإحقاقاً للحق وسدّاً لذريعة الإفساد والظلم، وهو ما تميل إليه النفس، وقد أفتى به سيدنا عثمان بن عفان وهو خليفة. فليتق الله كلُّ مورث، وليذكر أن الإرث نصيب مفروض، وأن حرمان صاحبه منه معصية كبيرة وظلم مُستطير، يُؤجِّج العداوة في الأسرة ويشتت الشملَ ويُفسد في الأرض. وقد قالَ تعالى بعد آية المواريث.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء: 14]
والله يمهلُ ولا يهملُ، فلا يغتر عاص بحلمِ الله، فالله شديد العقاب لمن ظلم، أو طغى، أو خالف أوامره وتعدَّى حدُودَه.
والخلاصة:
1- خير الوصية أن يبدأها الموصي بما أخرجَ عبد الرزاق بسند صحيح، عن أنس رضي الله عنه موقوفاً: أنهم كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان أنه يشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريبَ فيها، وأن الله يبعثُ من في القبور، فاتقوا الله من بعدي وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا اللهَ ورسولَه، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون»( ).
وأرى أن يُضيفَ إلى ذلك: «وادعُوا لي بالرَّحمة والمغفرة والرضوان» فالميت في قبره كالغريق المستغيث، ينتظرُ دعوةً صالحة من ولد صالح أو حبيب أو قريب تنقذه، وأن يوصيهم بتجنب البدع والضلالات، وأن يصبروا صبراً جميلاً.
2- أن يذكرَ ما يُريد أن يوصيَ به من مال وصية متطوعاً بها لغير الوارثين من أقارب أو غرباء محتاجين من أهل الصلاح والاستقامة، وأن يشهد على ذلك ذوي عدل من أهل العلم والتقوى.
هذا إن ترك خيراً ومالاً كثيراً، وأن يكون ما أوصى به ضمن حدود ثلث ماله أو أقل، والربع أولى.
3- أن يذكرَ في وصيته ماله من دُيون على الناس، وما للناس من ديون عليه إن كان دائناً أو مديناً، ضماناً لحقوق الناس وحقوق ورثته، وأن يُرفَق ذلك بالمستندات الموثوقة، أو يدلَّ على مكانِها.
اللهم أحسن ختامنا إليك، وأحسن وقوفنا بين يديك، ولا تخزنا يوم العرض عليك.
(6)
كتابة الدين واجبة
حفظاً للحقوق، وصيانة للأموال
ما أكثرَ ما تضيعُ الحقوقُ في المحاكم، وما أكثر ما يُظلم الدائن لأسباب كثيرة، من أهمها في نظري: ثقة الدائن في المدين التي غالباً ما تكون في غير محلها، واكتفاؤه منه بالوعد بالوفاء للدَّيْن من أجله دون أن يسجلَ ذلك في عقد موثوق يوقِّع عليه المدين وشاهدان عدلان، يسجل فيه مقدار الدَّيْن بوضوح، ويذكر الأجل المسمى الذي يجب عنده أداء الدَّين من المدين إلى الدائن.
وما ضاع حق، ولا انتشرت مظلمة، ولا ندم أحد إلا إثر إهمال الناس لأحكام الله تعالى في شريعته الغراء (الإسلام) والبعد عن منهجه:
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1]
ففي أواخر سورة البقرة آية تُسمَّى آية المداينة، بيَّنت حكمَ الله تعالى في الدَّيْن مطلعها:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282]
ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأمر بكتابة الدين يدلُّ على الاستحباب والأولى، لا على الوجوب، لقوله تعالى في آية الرهن:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة: 283]
وذهبَ قليلٌ منهم إلى أن كتابة الدين واجبة دون أن يستدلوا على رأيهم بما يكفي أو يقنع، والذي أراه أن حكم كتابة الدين هو الوجوب لا الاستحباب؛ لعدة أسباب:
1- الآية هي أطول آية في كتاب الله تعالى، وطولها دليل الاهتمام بما فيها، وشدة الاهتمام تنصرف لأمر واجب لا مستحب.
2- كثرة الأوامر فيها بالكتابة للدين:
فاكتبوه.... وليكتبْ بينكم كاتب بالعدل... فليكتبْ... وليُمْلِل.. مما يصرفُها إلى الوجوب، ولا قرينة قاطعة تصرفها عنه.
3- استعمال «إذا» في أوائل الآية، وهي تفيد تحقيق ما بعدها مثل:
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1]
وقد تحقق ولم يقل إن تداينتم، و«إن» أضعف من «إذا» في هذا المجال. وفي قول الفقهاء بفرضية ردِّ السلام في قوله تعالى في سورة النساء:
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء: 86]
دليل على وجوب كتابة الدين في قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282]
ولا فرق بين الآيتين من حيث الصيغة والمدلول.
فيجب أن يتفقا في وجوب وفرضية جواب إذا، وهو «فحيُّوا» و«فاكتبُوه».
4- النهي عن ترك الكتابة قلَّ الدينُ أو كثرُ:
وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ
وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ [البقرة: 282]
والنهي يقتضي التحريم إلا بقرينة تصرفه عنه، ولا قرينة هنا.
5- وصف الكتابة أنها أقسط وأعدل وأبعد عن الشك، وأدل على صدق الشهادة:
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا [البقرة: 282]
وما حقق العدل وكان سبباً لحماية الحقوق فهو واجب.
6- الأمر بالإشهاد، ونهي الشهود عن ترك الشهادة:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ
وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة: 282]
وضمان مصلحة الشاهد المادية والمعنوية فلا يغرم ولا يتهم إن صدق في شهادته:
وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 282]
7- أمر المدين أن يُملي على الكاتب، لأنه إن أملى فهو مقر، والإقرار أقوى من الادعاء فيما لو أملى الدائن، وفي ذلك احتياط لضمان حق الدائن، وهذا الحرص على ضمان الحق يدعم الوجوب:
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ [البقرة: 282]
8- لم يوجب الكتابة في التجارة الحاضرة التي يأخذُ منها المشتري البضاعة ويدفعُ للبائع ثمنها، وكلٌّ وصلَ إلى حقه، وقال في مثل ذلك:
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا [البقرة: 282]
والجناح هو الإثم، ورفع الإثم هنا يدلُّ بمفهوم المخالفة على وجود الإثم في الدين إن لم يكتب، ولا يأثم المرء إلا بترك واجب، أو فعل محظور.
والكتابة للديون واجبة، وترك الكتابة إثم ومحظور، كما رأيت في آيات النهي عن ترك الكتابة.
9- على أنَّ الله تعالى آثر الإشهاد في البيع والشراء، ولو خلا من الكتابة ما دامت تجارة حاضرة وصل كل من البائع والمشتري فيها إلى حقه، ضماناً للمستقبل وتجنباً لخلاف متوقع، فكيف بالدين حيث لا عوض هنا ولا ضمان إلا بالكتابة والشهود؟
10- ضمان حق أولاد الدّائن، فإذا مات المدين ولا دليل على الدين فمن يوصلهم إلى إرثهم من أبيهم إن كان ديناً لم يكتب ولم يوثق؟ لاسيما إذا لم يُوص المدين بدفعه، ولم يذكره في دفاتره، أو ذكره، والورثة للمدين لا يخافون الله، فهم يخفون كلَّ دليل لديهم وينكرون حق ورثة الدائن، وتضيع الحقوق من تفريط الدائن وإهماله لكتابة الدين وتوثيقه، يقول عليه الصلاة والسلام: «إنك أن تذرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». والدائن المفرط يظلم ورثته ويتركهم عالة يحتاجون الناس، ولو احتاط وامتثل أمر الله، وكتب الدين، ووثقه على المدين، وتركَ دليلاً بيد ورثته لترَكهم أغنياءَ لهم يد عليا تعطي ولا تأخذ.
وأكثر ما ينصحُ به المحامون والقضاة كتابة الديون والحقوق، وتوثيق العقود، ويخبرونك أن أكثر الحقوق التي تضيع هي التي لم تُكتب ولم توثق بعقد تتوفر فيه شروطه، وإذا كانت الكتابة وجبت في عصر كانت تصعبُ فيه، فلا عذر لنا اليوم والكتابة ميسورة.
وألفتُ النظر هنا إلى وجوب كتابة عقد الزواج في المحاكم الشرعية الرسمية؛ لضمان حق الزوجين في المهر إن حصل طلاق و الإرث إن حصلت وفاة، وإذا اضطروا إلى كتابته خارج المحكمة لعذر قاهر، فليوثق على أوراق يوقع عليها الزوج والزوجة ووليها والشاهدان، ويكتب فيها كل شيء واضحاً، ويوضع عند كل من الزوجين صورة للعقد، أما الاكتفاء بإجراء العقد شفوياً دون كتابته، فهو جهل وتفريط وإضاعة لحقوق كل من الزوجين إن حصلَ خلاف أو خصام أو طلاق، وكان الزوجان أو أحدهما ممن لا يرعى عهداً ولا إلاًّ ولا ذمة.
وعدم كتابة الزواج أو الدين يسمح للفاسدين والضالين والظالمين والمستغلين أن يظلموا ويرتعوا في مرتع وخم دون عقاب، أما ما احتجَّ به الذين ذهبوا إلى استحباب كتابة الدين لا إلى وجوبها من قوله تعالى:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة: 283]
فذلك في آية الرهن لا في آية المداينة، وهذه ملحوظة مهمة.
أي: إن كنتم على سفر وتعسَّرَ وجود كاتب يكتب الدينَ، ولم يُوجد مع المدين عين يدفعها للدائن كرهن يستوثق بها دينه، فنحن أمام ضرورة ملحة، مدين محتاج في سفر لا يملك رهناً يضعُه عند الدائن، فلا حرجَ أن يحصلَ دينٌ بلا كتابة، أما إن تيسرت الكتابة كما في الحضر أو في سفر مريح أو رهن يقبض، فلا بد من الكتابة أو الرهن الذي يعادل الكتابة في طمأنينة الدائن أن حقَّه مصون لن يضيع، وقوله تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة: 283]
أي: إن تيسر الرهن، ويأمر بقبض الرهن قبل تسليم الدين منعاً للخصومة.
وقوله تعالى في الصوم:
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184]
كلتا الآيتين فيها شرط: (إن) و(من)، وجوابه مقترن بالفاء، والتقدير فالواجب رهان مقبوضة، والواجب صيام عدة من أيام أخر، فالصيغة فيهما والمدلول واحد، فيجب أن يتفقا في وجوب الجواب إلا إن تعذر، فلم يوجد رهن ولم تتيسر كتابة، فيصار إلى الرخصة:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: 283]
والصائم إن لم يتيسر له القضاء لامتداد مرضه أو تحوّله إلى مرض مزمن أو موته قبل القضاء، فيصار إلى الفدية، وهي إطعام مسكين عن كلِّ يوم أفطره لعذر مشروع من مرض أو سفر أو...
ولذا فقد ذكرَ تعالى في آية الرهن:
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283]
وذكر في آية المداينة قبلها:
وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة: 282]
ولكل آية منهما غرض معين بحيث لا تغني إحداهما عن الأخرى، ففي آية المداينة الشاهد معروف لدى الدائن والشاهدين والقاضي، وعليه أن يبادرَ عند الضرورة للإدلاء بشهادته، فإذا امتنع فسيدعى ليحضر، ولو قسراً، ليشهدَ ويصلَ الحقُّ إلى أصحابه.
أما في آية الرهن فالشاهد غير معروف، فقد يكتم شهادته إن كان لا يخاف الله أو تبرَّم من النُّزول إلى المحكمة، وصورتها: أنّ المدين الذي استدان عند عدم توفر الكاتب والرهن ووثقَ به الدائنُ وأمنَه، قد يقرّ أمام أي شخص قريب أو غريب بأنه استدانَ من فلان مالاً دون كتابة أو شهود للضرورة، فكل من سمع منه ذلك صارَ شاهداً، لأن الإقرار من البالغ العاقل حجة قوية، فإذا أنكر المدين الدين فعلى هذا الشاهد السامع لإقرار المدين أن يُبادر إلى القاضي ويشهد بالحق لئلا يضيعَ حق الدائن، فإذا كتم شهادته كان آثماً وظالماً.
وهذا ما يدعم وجوبَ كتابة الدين عند توفر الكاتب والشاهدين، وأن آية:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: 283]
هي للرخصة والضرورة عند عدم توفر الكتابة مع الإشهاد أو الرهن، فليحرص كل ذي حق أن يوثق حقه بالكتابة والشهود أو الرهن إن أمكنه، وهو متوفر اليوم، ولا عذر لمفرط أو جاهل، ولله در مَنْ قال:
أَنِلْني بالذي اسْتَقْرضْتَ خَطّاً
وأَشْهِدْ مَعْشَراً قَدْ شاهَدُوهُ
فإِنَّ اللهَ خَلاَّقَ البَرَايَا
عَنَتْ لِجَلالِ هَيْبَتِهِ الوجُوهُ
يَقُولُ إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ
إِلى أَجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوهُ
(7)
حرمة الدِّماء
وإزهاق النُّفُوس
الإنسانُ صنعةُ الخالق العظيم، أبدعه بقدرته وسوّاه بحكمته، واختصّه بكثير من آلائه ونعمائه، فلابد أن يكونَ الإنسانُ ملكاً خالصاً لله، لا يتصرف فيه سواه.
يحكم عليه بالبقاء أو الفناء، ضمن شريعة وحدود وقيود، وضعَها سبحانه لمصلحة العباد كافة.
فمن سيطرَ على الإنسان بغير حق، أو ظلمَه فقد أغضبَ الله، واستحقَّ عقابَه.
وكيان الإنسانية يتزعزع ويتزلزل، وأساسه يتضعضعُ ويتخلخلُ حين يغري الشيطانُ الرجيم الإنسان ليعتديَ على أخيه الإنسان ظلماً وقهراً، فتزهق الأرواح البريئة، وتراق الدماء الزكية المعصومة، فتقع الطامَّة الكبرى والنكبة العظمى.
وقد وردَ في الأثر: «الإنسان بناءُ الله، ملعونٌ من هدمَه، وويلٌ لمن هدمَه».
ونفس الإنسان ليست مُلْكاً لَهُ أيضاً، بل هبة من الله تعالى يستخدمها الإنسان لتحقيق الخلافة في الأرض، بأن يعمرَها بالإيمان والتوحيد والحق ومكارم الأخلاق ورفيع الأذواق في إطار الإخلاص والوفاق، وتجنب الشقاق والنفاق، فيعيش حياته في ساحة ما يرضي الله إلى أن يوافيه الموت، فيلقى الله وهو عنه راض.
ومن ثم حرَّم أن يعتديَ على نفسه بإهلاك أو إتلاف أو انتحار، قال تعالى:
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]
وقال:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (سورة النساء: من الآية 29)
وقال الرسول : «مَنْ تردَّى من جبل فقتلَ نفسَه فهو في نارِ جهنَّمَ يتردَّى فيها خالداً مخلَّداً فيها أبداً»( ). ويقاس على ذلك كلّ وسيلة يستخدمها الإنسان ينتحر بها ليقتل نفسه.
كما أكد الإسلام على حرمة دم الإنسان وعرضه وماله، ودعا إلى الحفاظ على ذلك في دائرة العطف والحب والرحمة.
والأحاديث في ذلك كثيرة، حسبنا منها قوله:
«كل المسلم على المسلم حرام، دمُه ومالُه وعِرْضُه»( ).
«لا يزالُ العبدُ في فسحةٍ من دينِه ما لم يُصبْ دماً حراماً»( ).
«لزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتل مُسلم»( ).
«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقَاتلُ والمقتولُ في النَّار» قالوا: هذا القاتلُ فما بالُ المقتولُ؟ قال: «إنَّه كانَ حريصاً على قتلِ صَاحبه»( ).
ولا شك أن للنية أثراً بالغاً في العقاب أو الثواب، ولقد كان الاعتداء على النفوس والدماء أول جريمة شنعاء ارتُكِبَتْ في الأرض بينَ بني آدمَ عليه السلام.
والقرآن الكريم حدّثنا عن ذلك في سورة المائدة، حيث ذكرَ قصة ابني آدم، وكيف قتلَ أحدُهما أخاه حسداً وعدواناً، ثم بيَّن أن كلَّ جريمةٍ لابد أن يعقبَها خسارةٌ وندامةٌ، حيث لا ينفعُ الندم، فقال في ذلك عن القاتل:
فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 30]
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 31]
ولقد ذكرَ الله تعالى في سورة الفرقان أنّ من أهم صِفات عباده الذين يرجونَ رحمته، ويخشون عذابه:
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان: 68]
ثم هدَّد من يقوم بمثل ذلك ولو مرةً واحدةً بالخلود في جهنم إن لم يتداركْ أمرَه بتوبة نصوح، واستقامة عاجلة، والتزام جَادَّةِ الإيمان قولاً وعملاً.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان: 68-70]
وإنَّما قالَ: ومَنْ يفعلْ ذلك، ولم يقل: ومَنْ يعملْ ذلك، ليشيرَ إلى أن المصيرَ الوخيمَ، والعقابَ الأليمَ، ينتظرُ من يقوم بذلك ولو مرة واحدة، ولو قال ومَنْ يعملْ ذلك لكانَ التَّهديدُ متوجهاً لمن يتخذُ ذلك حرفة أو يُكرِّرُ ذلك، وهذا من بعض الفروق بين لفظي فعلَ وعَمِلَ.
فتأمَّلْ تفلح وتكنْ من المهتدين، ذلكَ لأنَّ أهم ما عَندَ الإنسان العاقل المتزن السوي عقيدته وروحه وعرضه. وهي أولى ما يجبُ الحفاظ عليه:
أصونُ عِرْضي بمالي لا أُدَنِّسُهُ
لا باركَ الله بعد العَرض بالمالِ
ولله در من قال:
اعلم بأنَّ مِنَ الرِّجالِ بهيمةً
في صُورة الرَّجُل السَّميع المُبصِرِ
فطنٌ بكلِّ مصيبةٍ في مالِه
وإذا أصيبَ بعِرْضهِ لم يَشْعُرِ
ولا يقعُ من المؤمن قتل لمؤمن إلا خطأ، ويجب عليه في ذلك دية لأهل القتيل، وكفارة لله أن يصوم شهرين متتابعين، قال تعالى:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النساء: 92]
وهو لا يقتله عمداً، فإن فعلَ فمصيرُه إلى الجحيم والعذاب الأليم:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء: 93]
وهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يستأذنه أحد ولاته في تعذيب مُتَّهم، ليعترفَ، فيجيبه عمر «لا تفعلْ، فوالله لأن يلقوا الله بآثامهم وخياناتهم أهون عليَّ من أن ألقى اللهَ بدمائهم وظلمهم». وقد قال : «أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء»( ). فاحذر القصاصَ إلا في حق وبعد يقين، فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وستقرأ كتاباً تلقاه منشوراً، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وبعد؛ فماذا يبقى للمسلمين إذا هانت فيهم الأرواح، واستبيحت الدماء، واستعرت بينهم الحروب والفتن، واشتدت الخلافات الهامشية التي لا مبرر لها ولا دليل، وعدوُّهم شامت ساخرٌ يتربَّصُ بهم الدوائر، يعتدي عليهم ويقتل منهم، ويحتلُّ أرضَهم، فلا يهبُّون لنجدة بعضهم، أين هم من قوله : «مثلُ المؤمنين في توادّهم وتَراحُمِهم كَمَثلِ الجسدِ الواحِدِ إذا اشتكَى منه عضوٌ تَداعَى له سائرُ الجسدِ بالحمَّى والسَّهرِ»( ).
وأين هم من قول الشاعر:
قلْ لأبناءِ يعربَ وَحِّدوا الشملَ
كما وَحَّد النبيُّ الجهودَا
إن أولى الورَى بتوحيدِ شَمْلٍ
أمةٌ كانَ دينُها التوحيدَا
لقد فاض من الدماء الزكية والبريئة ما يخجلُ الإنسان أو يستحي أن يذكرَه فمتى؟ متى تفيضُ دموعُ الحسرة والحَنَان والألفة والقربى والأخوة في العقيدة، والوحدة في الوطن والآمال والآلام والتاريخ والمصالح المشتركة واللغة، لتتصافح الأيدي بعد أن تتصافح منهم القلوب وتغمد السيوف، ويلتئمَ الشمل، ويتوحد الصف، فيرضى الله تعالى، فيتحقق النصر، وترفرف السعادة على الجميع تحت شعار الآية الكريمة:
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]
وأخيراً لعلَّ خيرَ ما نختم به الموضوعَ قوله تعالى:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 16]
(8)
حمايةُ الأمة والشباب
من أخطار الفرقة، والغزو الفكري
أين موقعُ المسلمين اليوم من الكتاب والسنة، وهل ينبغي أن يلتزم الإنسان بمذهب واحد أم لا؟ وماذا نقول لشبابنا الذين غزت أفكارَهم ما جاءَنا من الغرب؟ وكيف نواجه هذا الغزو الفكري؟
أسئلة كثيرة تخطر على النفس، وترد على الفكر، ونفصِّل القول فيها كالآتي:
(1)
o يقول الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه مخاطباً المسلمين: «تركتُ فيمن ما إن تمسَّكتم به لن تَضِلُّوا: كتابَ الله وسنتي»( ) أين موقع المسلمين اليومَ من الكتاب والسنة؟ ومن المسؤول عمّا وصلَ إليه حال المسلمين..؟ الدعاة أم العامة؟.
o لا شكَّ أن في القرآن الكريم والسنة الشريفة غنية وكفاية لكل مجتمع ينشدُ السعادة في الدنيا والآخرة، لأن الإسلام الحنيف فتحَ العقولَ لكل علم نافع وخير، وجلبَ للناس المصالحَ ودرأ عنهم المفاسدَ، وفتحَ بابَ الاجتهاد في الأمور التي لم يرد فيها نصٌّ قطعي الثبوت قطعي الدلالة بشروط الاجتهاد المعروفة، وذلك عن طريق الاجتهاد الفردي (المذهبي) أو الجماعي، وهو ما يسمى: (الإجماع) وهذا بعضٌ من سرِّ عظمة هذا الدين الذي يصلح لكلِّ زمان ومكان. أما موقع المسلمين اليوم من الكتاب والسُّنة فيؤسفني أن أقول: إنه لا يرضي، فلقد آثروا عليهما القوانينَ الوضعية التي هي من وضع البشر، وحَصَرُوا الدين في مجال القضاء في قوانين (الأحوال الشخصية) أي: فيما يتعلَّق بأحوال الأسرة... بدءاً ووسطاً ونهاية. وهذا سبب رئيس في كثيرة مما تُعانيه المجتمعات الإسلامية وغيرها من اضطراب ومشكلات ومعضلات وأزمات في حياتهم الاجتماعية وغيرها:
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1]
والمسؤولية في ذلك تقعُ على كل فرد من أفراد الأمة، أما الدعاة فمسؤوليتهم كبيرة، ولا يمكن أن ينجحوا في مجال الدعوة إلا إذا توفرت لديهم الشروط التالية:
1- القدوة الصالحة والأسوة الحسنة.
2- الصدق في القول والعمل والرحمة في المعاملة مع التسامح.
3- العلم الغزير والاطلاع الواسع في شتى العلوم الشرعية، والاجتماعية، وغيرها.
4- الصبر والمصابرة.
5- الحلم، وتجنب الغضب والتشنج.
6- الحكمة، وذلك بوضع الشيء في موضعه المناسب، ومخاطبة كل فئة أو فرد بما يليق ويناسب.
7- الإخلاص لله في الدعوة سعياً وراء ثوابه، لا وراء الدنيا وحطامها.
8- حسن التحضير، وجمال العرض والأداء والإلقاء.
9- اللغة السليمة والأسلوب الأدبي العذب المحبب.
10- الإقناع بالدليل والمنطق السليم والبرهان القاطع والحجة الدامغة... ومن ملك العلم وكان على اقتناع فيما يدعو إليه توفرت لديه وسائل الإقناع.
11- تجنُّب التزمت والجمود والانغلاق والعزلة عن الناس.
12- التفتح على كل جديد نافع للإفادة منه وبناء دعوته على أساس تحريك العقول نحو الأفضل والأحسن في كل شيء، وإثارتها لتفكر وتنتج وتقترح، لا مجرد ملء العقول بمعلومات عليها أن تحفظها وتعيدها كما هي دون نقد أو تفكير أو مناقشة أو تبصر أو استفسار. ولا ينبغي أن ننسى أننا نعيش القرن العشرين قرن الذرة واللاسلكي وارتياد الفضاء والطباعة والتلفزة.
يؤلمني أن أقول: إن أكثر الدعاة ينقصهم كثير مما ذكرت، ولذا فإن تأثيرهم قليل.
والعامة مسؤولون أن يُبادروا إلى المساجد ومجالس العلم، لينهلوا منها، وهم كالأرض العطشى تريد أن ترتوي فإذا وجدت ماء عذباً طاهراً زلالاً تلقفته وارتوت منه، فأثمرت وأينعت وعمَّ خيرها، وإلا ضاع الجهد ولم يرض الحصاد.
(2)
o هل يتوجب على المسلم أن يتقيد تقيداً تاماً بأحد المذاهب الأربعة في تطبيق تعاليم الإسلام؟ وهل هذا التقيد مفيد على المدى البعيد أم أنه يُؤدِّي إلى خلافات في المستقبل؟
o إذا كان المسلم جاهلاً بالأحكام الشرعية، فعليه أن يطلب العلم بها وهذا فرض عليه، فإن قصَّر أو أهمل أثم، ومذهبه حينئذ مذهب من يفتيه ويُجيبه على ما يسأل عنه.
أما المتخصصون بالعلوم الشرعية الذين يستطيعون أن يميزوا بين الأدلة، ويختاروا الأصم والأصوب، فعليهم أن يتبعوا ما يرونه هو الصواب، وأن يختاروا الفاضل على المفضول والراجح على المرجوح، ولا يلزمون بمذهب واحد، ولا يجوز حجر العقول الدارسة الواعية المتخصصة عن أن تعملَ وتميز وتختار، والسادة الفقهاء جزاهم الله عنا كل خير، كانوا يبحثون عن الحق والصواب ما وسعهم، وكان الواحد منهم يقول: «إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي» ومن اجتهدَ منهم فأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجرٌ واحد، ولكن تعصبَ أتباعهم بعد ذلك جرَّ إلى خصومات وخلافات وشذوذات كان لها الأثر لا يرضي ولا يليق، ولا يزال بعض ذلك الأثر قائماً عند الجامدين المتعصبين لمذهب ما، ولو ظهرَ لهم أن الدليل والحق في جانب مذهب آخر في مسألة ما.
وكم آمل لو يجتمع من كل قطر إسلامي أو عربي أفذاذ وعلماء الفقه والعلوم الشرعية، تحت قبة واحدة، في قاعة كبيرة واحدة، ليختاروا لنا من المذاهب الفقهية المشهورة والمعروفة والمجمع على قبولها من الأمة، الأصح، والأصوب، والأكمل، والأفضل، والأنفع، والأصلح في كل مسألة من مسائل الفقه، وهذا الاختيار لن يُخرجنا عن دائرة اتباع هذه المذاهب. لأن الرأي المنتقى سيكون من أحد تلك المذاهب، وأن يُضيفوا إلى ذلك اجتهاداً لكل أمر جديد لم يرد فيه نص، ولم يسبق من الفقهاء الكرام رأي فيه، كالتأمين على الممتلكات وما شابه ذلك، مما كثر في القرن العشرين، ليحملوا المسلمين في شتى أقطارهم على هذا الإجماع فيزول كل خلاف، وتتآلف القلوب وتجتمع العقول والنفوس على رأي ونهج واحد، أشبع دراسة وتمحيصاً وتدقيقاً ودراية ورواية وفهماً.
والمراجع للعلوم الشرعية اليوم تتوفر أكثر من ذي قبل، وقد طبعت طباعة جديدة، بعد أن جرى عليها التحقيق والتدقيق والتصنيف وحسن التوزيع ووضوح الخط وجمال الطباعة وجودة الورق ويسر المطالعة، مما لم يتيسر جزء منه للفقهاء قديماً.
وهذا عمل فيه خير كبير.. وكم يُؤلمني أن يصوم المسلمون أو يفطروا مبتدئين الصوم كل قطر يخالف قطراً أو أقطاراً أخرى حتى يصل الفرق في بداية الصيام أو نهايته إلى ثلاثة أيام، مع أن الرأي الراجح والفاضل والعلمي المنطقي أن يبدؤوا في يوم واحد، وأن ينتهوا كذلك في يوم واحد. وجمع الكلمة واجب، ولاسيما في هذه الأمور، والعلم وأدواته أكبر معين على خدمة الدين في مثل هذا وغيره.
ولا عذرَ للمقصرين اليومَ في جمع الكلمة على خط ورأي ومنهج واحد.
(3)
o تتعرض الأمة الإسلامية اليوم لغزو فكري وحضاري يقصد إلى النيل من شخصيتنا المستقلة. ما الدواء الناجع لرد شبابنا عن تقليد كل ما يأتينا من الغرب على أنه حضارة ورقي؟
o الغزو الفكري والحضاري شطران:
شطر فاسد مفسد واجبٌ علينا أن نجتنبه ونشجبه، ونمنعه ونجنبه أبناءنا وبناتنا وحياتنا. منه ما يتعلَّق بالعقيدة وأكثره يتعلَّق بالأمور الأخلاقية وقضايا المرأة وحريتها ولباسها وتصرفها... ومعضلات لا حصرَ لها.
والشطر الآخر حضاري علمي نافع، وهو ما يتعلق بالعلوم التجريبية، كالطب والهندسة والفلك... فهذا مما يجبُ أن نفيد منه في حدود ما يُرْضي الله تعالى، ويرسخ إيماننا به عز وجل وخشيتنا منه، ويحقق لنا المنعة والقوة والكرامة والسعادة، وحماية الوطن والمقدسات تحت ظلال قوله تعالى:
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60]
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه حديث موقوف بحكم المرفوع:
«لا يكن أحدُكم إِمَّعة إن أحسنَ الناس أحسن، وإن أساؤوا أساء، ولكن ليوطد نفسه إن أحسنَ الناس أن يحسن وإن أساؤوا أن لا يسيء»( ).
أما حماية شبابنا من خطر الغزو المفسد، فهو بأن نوفر لهم المناعة القوية المجدية الكافية الواعية، التي تحميهم من التأثر بأي فساد أو شبهة، وذلك بتحصينهم بالعقيدة السليمة القائمة على الإقناع والدليل والبرهان، وتزويدهم بالخلق القويم النابع من القدوة العلمية والأبوية الصادقة، وصلاح البيت والمدرسة والمجتمع معاً، وتثقيفهم بالعلم النافع الصحيح الذي يزودهم بما يملكون معه أن يدفعوا كل شبهة، وأن يجيبوا عن كل مسألةٍ وأن يحلوا كل معضلة، بعلم وحكمة، وفهم وروية، وحمايتهم من المتناقضات في مجتمعهم التي تجعلهم فرائس الشكوك والأوهام والعادات المرذولة والأفكار الوافدة الضالة. والله هو المعين حين تصدق النيات وتبذل الجهود.
(4)
o ولعلَّ خير نصيحة أسديها للمسلمين المقيمين في ديار الغربة والمهجر:
1- أن يُقيموا فيها على قدر الضرورة الملحة، لأن الضرورة التي تُبيح المحظور إنما تقدر بقدرها، وأن يسعوا ما وسعهم إلى العودة لديار الإسلام والعروبة، فهم في ديار الغرب والمهجر كنقطة في بحر، تتأثر أكثر مما تؤثر، وتضيع في زحمة تلاطم الأمواج، وبلادهم أحق بهم وأجدر بطاقاتهم وجهودهم.
2- أن يعلموا أنهم يمثلون هناك الإسلام، ويدعون له بأقوالهم وأفعالهم، فعليهم أن يسعوا لهداية من حولهم عن طريق القدوة الصالحة والأسوة الحسنة والسلوك الفاضل، فإن صدقوا أثَّروا وأفادوا، ولأن يهديَ الله على أيديهم شخصاً واحداً خير لهم من الدنيا بما فيها.
والقلوب تتقبل الحق، والنفوس تتعشق الضياء والنور، والأجساد تصحو وتنمو بالعافية، والإسلام كالشمس للنهار، والعافية للأبدان، والغذاء للقلوب والأرواح والأجساد، إذا أحسن عرضه وأخلص الموجهون إليه.
3- أن يعنوا باللغة العربية عناية بالغة بالإضافة إلى دراسة الإسلام دراسة واعية سليمة هم وأولادهم، ففهم اللغة العربية سبيل لفهم الدين فهماً سليماً، وأن ينشئوا لذلك المدارس على اختلاف مراحلها والمعاهد والجامعات إن أمكن.
4- أن يصونوا نساءهم وأولادهم وبناتهم من المزالق، كأماكن الشبهات والمفاسد والاختلاط المشين، وأصدقاء السوء، والمجلة الفاسدة، والفيلم الفاسد، والمسلسل الشارد على شاشة التلفزيون وغيرها. وأن يتجنب شبابهم الزواج من غير المسلمات حفاظاً على عقيدة ومستقبل أولادهم، وأن يتصيدوا وقتاً كافياً لتربية أولادهم.
5- أن يعيشوا حياة الوسطية والاعتدال في المسكن والملبس والمأكل والأثاث والنفقة، وأن يتجنبوا الإسراف والتبذير، وكل شيء يوفرونه عون لهم ولوطنهم وأولادهم في المستقبل.
6- أن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وأن يكون ارتباطهم بالمساجد ومراكز العلم الشرعي والمحاضرات الدينية والعلمية ارتباطاً وثيقاً، وأن يدعوا إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يستقدموا في كل شهر عالماً من كبار أهل العلم والدعوة إلى الله؛ يُوجههم نحو الخير ويُرشدهم نحو الأفضل والأنفع، ويعلمهم ما يجهلون، وينشط فيهم حركة العلم والمحاضرات والمعرفة والاطلاع على ما لم يَعرفوا من قبل، وعليهم أن يبذلوا في سبيل تآلفهم وتحاببهم واجتماعهم على ذلك الغالي والرخيص للحفاظ على شخصيتهم الإسلامية العربية وتراثهم وأصالتهم ودينهم.
(9)
حُسْن السِّيْرَةِ وحُسْن الصُّوْرَة
إن حسن الصورة المادية لا يتم إلا بحسن جميع أجزائها وأركانها، فكذلك حسن الصورة الروحية النفسية لا يتم إلا بحسن الخلق وكمال الإيمان، وذلك لا يتم إلا بصلاح القوى الآتية:
1- قوة العقل: وبها يُدرك المرء الفرق بين الإيمان والكفر، والحق والباطل، والحسن والقبيح، والصدق والكذب، فما اكتسب مكتسب مثل فضل عقل وعلم يهدي صاحبه إلى هدى أو يردّه على ردى، وما استقام دينه حتى يتوفر علمه ويتم عقله.
2- قوة الغضب: بحيث يضبط المرء قواه وعواطفه فلا يقوده الغضب لأذى أو لما لا يليق، ولا يغضب إلا لله تعالى، فقد كان الرسول لا ينتقم لنفسه ولا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله.
3- قوة الشهوة: بحيث يملك المرء نفسه ويضبط غرائزه وميوله وشهواته، فلا يفعل معصية ولا يقرب حراماً لا يرتكب سوءاً ولا يقرب شبهة ولا يُسيء إلى أحد لا في القول ولا في العمل، وقد قال : «مَنْ يضمن لي ما بين فَكَّيْه وما بين فخذيه أضمن له الجنة»( ). والضابط لما مر من القوى:
4- صلاح قوة العدل والاعتدال: والخير في كل شيء دائماً هو التوسط في الأمور، وهو فضيلة بين رذيلتين وحسنة بين سيئتين، فلا إفراط ولا تفريط، وهي الحكمة التي تندرج تحت قوله تعالى:
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269]
فإذا اعتدلت قوة العقل، أنتجت تدبيراً حسناً، ورأياً سديداً، وذهناً متقداً، وظناً صائباً، وإدراكاً واعياً لحقائق الأمور، وآفات النفوس.
أما الإفراط في قوة العقل فطريق إلى الخداع والدهاء والمكر.
وأما التفريط فيها فطريق إلى البَله والبَلادة والحمق، والحماقة أعيتْ من يداويها، وإذا اعتدلت قوة الغضب أنتجت شجاعة في الحق، وكرماً في اليد، ونجدة وإغاثة للملهوف، وكظماً للغيظ، وتحلياً بالوقار والأناة والحلم.
وأما الإفراط فيها فطريقٌ إلى التكبر والعجب والتهور، وقد يؤدي إلى الجريمة التي تلزم صاحبها الخسارة والندامة، ولاتَ حين مناص.
وأما التفريط فيها فطريق إلى الجبن والخساسة، وانعدام الغيرة على الدين والعرض، وضعف الحميَّة، ولله در من قال:
ليس الشجاعُ الذي يَحمِي فريستَه
عند القتال ونار الحرب تشتعلُ
لكنّ مَنْ كفَّ طَرْفاً أو ثنى قدماً
عن الحرام فذاكَ الفارسُ البطلُ
وإذا اعتدلت قوة الشهوة أنتجت عفة وحياء وورعاً وسماحة وصبراً، وقناعة بالحلال، وبعداً عن كل معصية وحرام. أما الإفراط فيها فطريق إلى الفسق والمجون والشره، والحرص والطمع، والحسد والجريمة بعد حقد وحسد. والإسراف في المباح والتبذير في تبديد المال في وجوه الحرام. وأما التفريط فيها فيؤدي إلى المذلة والمهانة والعزلة واليأس والجمود.
فالعدل والاعتدال في كل شيء قوة، إذ هو الفيصل والضابط لإيجاد التوازن والسلامة والسعادة والرعاية والتوفيق.
سئل أعرابي: كيف تعيش؟ قال: أعيشُ حسنة بين سيئتين، أي: أعيش حياة الوسط والتوسط فلا بخل ولا إسراف، وتلا قوله تعالى في مدح عباد الرحمن:
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان: 67]
وفي الحديث الشريف: «ما عالَ مَنِ اقتصدَ»( ) أي: ما افتقر من توسَّط في النفقة.
والجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، ومصالح الدِّين والدنيا، عدل واعتدال ودليل قوة العقل.
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ [القصص: 77]
ولا تعارض ولا تضاد ولا عداوة بين الدين والدنيا، فالدنيا موضوع من موضوعات الدين، نظمَها وبيَّن حلالها وحرامها، ودعا إلى التعايش فيها في حدود الحق، وحذر من الافتتان بزينتها، مما تشغل عن الله والحق والواجبات.
والدنيا مزرعة الآخرة، فمن أحسن الزرع والجهد في الدنيا طاب له الغراس والحصاد والقطاف في الآخرة:
لا دارَ للمرء بعد الموت يسكنُها
إلا التي كان قبلَ الموت يَبْنِيهَا
فإن بَنَاها بخيرٍ طابَ مسكنُه
وإِن بَنَاهَا بشرٍّ خابَ بَانِيْهَا
والواقع أن أكثر علل المسلمين وبلائهم صادر عن تركهم الوسطية والاعتدال في شتى شؤون حياتهم، وميلهم فيها إلى الإفراط أو التفريط، ولله درُّ من قال:
اعتَدلْ في كلِّ حَال
واجتنبْ غمَّاً وذمَّا
لا تكنْ حلواً فتؤكلْ
لا ولا مُرَّاً فتُرمى
وكم يألم المسلم الغيور حين يرى الشباب والشابات يُعنون بحسن الصورة فحسب، وبعوامل الفتنة والإغراء، وهي معاول هدم لكل بناء، ومنه لكلِّ عطاء، وإفساد لكل هناء.
فما أجدرهم أن يضيفوا إلى اهتمامهم بالمظهر اهتماماً بصفاء ونقاء المخبر، وإلى عنايتهم بحسن الصورة عنايتهم بحسن السيرة؛ ليكونوا قدوة صالحة وأسوة حسنة لغيرهم، يُحسب حسابهم ويُرهب جانبهم، ويُسمع كلامهم، ويُقتدى بهم، فحسن السيرة سبيل أكيد إلى الصلاح فالفلاح والنجاح.
فانهضْ إلى النفس واستكملْ فضائِلَها
فأنتَ بالرُّوح قبل الجسم إنسانُ
ولعلَّ خيرَ ما أختم به قوله : «اتق اللهَ حيثما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُهَا وخالقِ النَّاسَ بخلقٍ حسن»( ).
أَلْهَمَنا اللهُ تعالى وجميعَ الناس السداد والرشاد.
(10)
الوسطية والاعتدال في الإسلام
يُسعدني ويطيبُ لي أن أكتبَ في الوسطية والاعتدال اللذين دعَا إليهما الإسلام، لأذكِّرَ المسلمينَ في العالم الإسلامي عامة، وفي أمريكا خاصة بذلك، وقد رأيتُ منهم إسرافاً في كثير من شؤون الحياة، بعد أن عشت في ربوعهم شهراً كلاماً، أخطُب وأحاضِر في عدة ولايات ومدن.
رأيت إسرافاً في السعي وراءَ الدنيا وجمعِ حُطامِها ومالها، على حساب إهمال الزوجة والأولاد، والأنس بهم وتوجيههم إلى مراشد الأمور ومكارم الأخلاق.
وإسرافاً في النفقة على الأثاث واللِّباس والمأكل والمشرب ومتع الحياة الأخرى، تُوكَّلُ المرأة بإحضار كل حاجات البيت، والإشراف على إصلاح شؤونه وآلاته والعناية بأحوال وشؤون الأولاد داخل البيت وخارجه، مما يُعرِّضها وبناتها إلى كثير من الاختلاط بالرجال الغرباء، وهذا بلا ريب مَزلق من المزالق التي لا تُحمد عقباها، ولاسيما إذا غدا عادةً وديدناً، لا يُستغنى عنه في مجتمع فيه من الانطلاقات من قيود الشرع والآداب، ما يخجلُ الإنسان أن يذكرَه. ولكم آلمني أن أراهم وأولادهم يتقنون اللغة الإنكليزية نطقاً وكتابةً بطلاقة، على حين لا يُحسنون التكلُّم باللغة العربية، بل يُخطئون فيها كثيراًن وهي لغة القرآن والإسلام، ولو بذلوا جزءاً مما يبذلونه للترف في سبيل بناء أو إنشاء مدارس ابتدائية وإعدادية وثانوية لأولادهم لتعلُّم اللغة العربية والعلوم الشرعية، لكان لأولادهم حظ وافر في فهم الدِّين والتمسك به، ولكان لهم بذلك ثواب جزيل.
ويُؤسفني أن أقولَ: إن الفرد فيهم يحدثك، فتجد منه الغيرة على الدِّين واللغة العربية، حتى إذا درسته ضمن المجموعة، رأيته قليل البذل أو بخيلاً بكل جهد أو عطاء أو إنتاج، ينقدُ غيرَه ممن يعملُ في مجال الدعوة لله تعالى، ولا يقدّم هو شيئاً في طريق البذل والعمل، ويلتمس لتقصيره وإهماله أعذاراً غير مقبولة ولا معقولة. والمسلم في ديار غيره منظور إليه، وعليه أن يكون قدوة في أفعاله وأقواله وسائر أحواله، وهو واقف على حصن الإسلام، يحمي جانباً منه، فلا يجوز أن يُؤتى الإسلام من قبله، أو أن يطعن فيه إذا أساءَ السلوك. والإسلام يدعو إلى حسن المعاملة مع سائر الناس مسلمهم وغير مسلمهم، فكثير من بلاد المسلمين دخلَ الإسلامُ إليها عن طريق القدوة الصَّالحة من تاجر أمين أو سائح شريف، والنصوص كثيرة في القرآن الكريم:
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف: 85]
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: 60]
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: 83]
وفي الحديث الشريف: «وخالقِ النَّاسَ بخلقٍ حَسَن»( ) والمسلم لا يُؤثِّر في غيره إلا إذا كانَ سبَّاقاً لتنفيذ ما يدعو إليه، والنفس تتأثر بالأفعال أكثر مما تتأثر بالأقوال، والمؤمن المسلم مؤتمن على دينه عليه أن يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة باللطف والرحمة، والحلم والإقناع والقدوة الحسنة الصالحة، ونجاح الداعية يكمن في أن يتبعه الناس طواعية.
ولا يتوفر ذلك إلا إذا عاشَ ودعا إلى حياة الوسطية والاعتدال، وهي الفطرة الإلهية التي فطرَ الناس عليها وفيها السعادة كل السعادة، قال تعالى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143]
والشاهد لا تُقبل شهادتُه إلا إذا كان صادقاً مستقيماً اشتهر بذلك وعُرف.
فالمسلمون ينظرون إلى غيرهم، ويشهدون، فما رأوا من خير أقرُّوه، وما رأوا من شر نصحوا بإزالته، ودعوا إلى كل معروف، ونهوا عن كل منكر بحجة وأناة وصبر وإقناع.
ومن دعا إلى معروف فليكن أمره بمعروف.
والفئة الوسطى هي معدن الخير في كل أمة، وأفرادها هم أهل العافية والرضا والاستقرار، لأنهم ارتفعوا عن مَنْزلة الفقر المدقع، وعافاهم الله من بلاء الغنى الفاحش الذي يؤدِّي في أغلب الأمور إلى الطغيان:
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6-7]
وقد أجمعَ المفسرون على أن الوسط هم خيار الأمة، قد وضع الله تعالى بين أيديهم سُنن الفطرة وقواعد العدل وأحكام التشريع الإنساني، فكان لهم من ذلك ميزان تزن أخلاق الأمم وأحداث التاريخ، فتشهد على الأفراد والجماعات بما تدلُّ عليه موازين هذه السنن والقواعد والأحكام.
إن مدارَ هذه الشهادة على الناس بموازين الإسلام قائم على الاعتدال وأن تكون الطبقة الوسطى من هذه الأمة هي صاحبة النسبة الكبرى في تعدادها، لأنها معدن الخير، فالوسط خير الأمور وهو لسان الميزان أي هو العدل والاعتدال.
ذلك أن الزيادة إفراط والنقص تفريط وتقصير، وبالإفراط والتفريط يخرجُ الناس عن الصراط المستقيم. والاعتدال مطلوبٌ في كل شيء حتى في أمور العبادات، فقد وردَ النهي عن الغلوِّ فيها، كما ورد النهي عن التفريط بها والتقصير فيها. والله تعالى يحبُّ من الأعمال أدومَها وإن قلَّ، وهو تعالى لا يملّ من ثوابنا حتى نمل من عبادته، والملل لا يأتي إلا من الكَلَل، والكلل من المبالغة. لقد كتبَ الله النجاح للإسلام على أيدي أصحاب الرسول ، لأنهم كانوا أمةً وسطاً، أعطوا أجسادهم حقَّها من الوقاية والرعاية، وأنفسهم حقَّها من التطهير والتهذيب، وجيرانهم حقهم من حسن الجوار وجميل العرفان، وفقراءهم حقَّهم من البر والإحسان، ودينهم حقَّه من الزجر والتأديب والنصيحة. فأعطوا كلَّ ذي حق حقَّه، وكانوا شهداءَ على الناس بما أدّوا من هذه الحقوق، أو أهملوا أو فرّطوا، ورضوا بالرسول شهيداً عليهم.
والإسلام لا يمنع أهلَه أن يكونوا من أهل الثروة والغِنى، فنعم المال الصَّالح في يد العبد الصالح. ولكنَّه سلّط على أموالهم وجائب كثيرة، تُفَتِّتُ الثروةَ، وتحمي المجتمع، وتمنع الكنَز، وتربطُ بين أفراد الأمة برباط الرحمة والأخوة والمودة والإحسان.
بحيث يتنَزّه الجميع في سيرتهم عن كل طغيان أو ظلم أو أثرة، كل فرد فيهم نقيُّ النفس، عفُّ اللسان، طاهرُ الذيل، كريم اليد، وباذل لجهده في سبل الخير، أكرمهم عند الله أتقاهم. في سلوكها وأخلاقها، سعيدةً في مواردها وطاقاتها، مستقيمةً في حياتها على الحق، قوية على أعدائها مرهوبةَ الجانب.
الغني فيها مسرورٌ، والفقير مجبور، والظالم مقهور، والمظلوم منصور، فلنكن تلك الأمة الوسط التي أرادها الله تعالى، لحمل رسالة الحق، نفلحْ ونكنْ من المهتدين.
(11)
العدل في كل شيءٍ واجبٌ دِيْنِيٌ
لقد حمل الإسلام مُتَّبعيه على التزام جانب العدل في كل الأمور:
1- عدل في الحكم:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء: 58]
والإسلام حين دعا إلى الفضل وآثره في كثير من الأمور على العدل:
وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: 237]
إنما دعا إلى الفضل حين يكون الأمر بين شخصين – فئتين... كما بين دائن ومدين:
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 280]
أو بين بائع ومشتري: «رحمَ الله امرءاً سَمْحَاً إذا باعَ، سمحاً إذا اشترى، سَمْحاً إذا قَضَى، سمحاً إذا اقتضى»( ). أما حين يكون الأمر فيه جانب ثالث يحكم بين فريقين – شخصين – أسرتين، فعليه العدل فحسب ليأخذ العدل مجراه في الحكم وغيره:
إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء: 135]
والإمام العادل أول الذين يظلهم الله تعالى يوم الدين في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
2- عدل في القضاء:
دون تأثر بعاطفة صداقة أو محبة أو قرابة مع الترفع عن قبول أي مؤثر مادي أو معنوي، والهدية للقاضي غالباً ما تكون رشوة:
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام: 152]
أي: ولو كان المبطل في الخصومة قريباً، فاحكموا بالحق لصاحب الحق، وعلى القاضي ليكون عادلاً منصفاً أن لا يقضي إلا وهو في حال نفسية مرضية: «لا يقض القاضي وهو غضبان»( ).
حكوا أن قاضياً في عهد الخليفة المهدي قدمت له هدية فرفضها وردَّها، وبعد أيام قدم صاحب الهدية دعوى إلى القاضي، فاستقال القاضي من وظيفته واعتزل القضاء، فعاتبه المهدي قائلاً: نحن نثق بك وبعدلكَ وقد رددتَ الهدية، فلم اعتزلت القضاء؟! فأجابه: يا أميرَ المؤمنين! إن القضاءَ مستقل وهو أعلى سلطة في الأمة، فالقاضي قد يحكم على الأمير، ولا يكون القاضي جديراً بالقضاء إلا إذا كان من الهيبة والوقار والقوة بحيث لا يتجرأ أحدٌ أن يُقدِّم له هدية، أو يَطمع منه بحيف أو انحراف عن العدل والحق، أما وقد تجرأ أحدُهم وتقدَّم إلي بدعوى بعد أن قدَّمَ هديةً فهذا يعني أنني فقدتُ هيبةَ القاضي ولم أعد صالحاً للقضاء:
أولئكَ آبائي فجئْنِي بمثلِهم
إذا جمعتَنا يا صديقي المَجَامِع
3- العدل مع الخصم:
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8]
أي: لا يحملنكم بغض أحد على ظلمه بل اعدلوا مع البغيض كما تعدلون مع الحبيب، وتلك شارة التقوى ودليل الإخلاص والوفاء.
4- العدل بين الزوجات:
في الأمور المادية، كالمبيت، والنفقة في المأكل والملبس والمسكن و... فإن لم يعدل في ذلك لم يجزْ له التعدد:
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء: 3]
أما العدل القلبيُّ في المحبة والمودة فذلك مما لا يملك الإنسان زِمامَه، لأنه جُبل على تفضيل الأجمل والأكمل والأفضل ولذا قال : «اللهمَّ هذا قَسْمِي فيما أملكُ فلا تؤاخذني فيما لا أملكُ وتملكُ»( ) ولذا فعلى الزوج أن يحاول وسعه العدل في ذلك وأن يُسدِّدَ ويقاربَ وأن يخفَي حبه المتزايد لإحدى زوجاته عن الأخريات، وأن لا يظلم إخداهن في حقها بالمبيت عندها في يومها المحسوب لها:
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء: 129]
وقد هدد الرسول من يظلم إحدى زوجاته أن يفضخه الله يوم القيامة أمام الناس، فيبعثه وأحد شقيه مائل.
5- العدل بين الأولاد في العطية:
ففي الحديث: «سَوُّوا بين أولادِكم في العطيَّة، ولا تُشهدوني على جَوْر – ظلم – ألا تحبُّون أن يكونوا لكم في البرِّ سَواء فكونُوا لهم في البِرِّ سواء»( ).
ويجب الانتباه إلى أن العطية غير النفقة، فالتسوية في النفقة غير متصورة لأن الولد الكبير يتطلب نفقة أكثر من أخيه الصغير، فهذا لا بأس فيه ولا حرج.
6- العدل في الإرث:
وهو أن توزع التركة كما أمرَ الله تعالى، وأن لا يُحرم أحد من حقه في الإرث فقد جعلَ الله ذلك:
نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء: 7]
تلك حدود الله بيَّنها في آيات المواريث، ثم قال في آخرها مهدداً من يظلم أو يحرم وارثاً حقه:
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء: 14]
7- العدل في الوزن:
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود: 85]
وهذا نداء من شعيب عليه السلام لقومه المطففين الظالمين الكافرين، فأبوا وأصروا على ما هم عليه:
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف: 78]
وهذا تحقيق لوعيد الله تعالى:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين: 1-6]
8- العدل في تحقيق المطالب المادية والمعنوية:
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص: 77]
«إن لجسدك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً...»( ). والجمع بين مصالح الدين والدنيا والآخرة أمر مطلوب وميسور لمن آمن وعقل واهتدى.
9- العدل في المعاملة:
ففي الإحسان:
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60].
أرى المعروف عند الحر ديناً
وعندَ النذل مقبحةً وذما
كقطرِ الغيثِ في الأصدافِ دُرٌّ
وفي حَلقِ الأفاعي صَارَ سُمّا
وفي الإساءة:
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194]
أي: عن طريق القضاء لتسلم العواقب، ويمنع الثأر والانتقام المتواصل، والفضل والعفو والتسامح أولى، ولا سيما مع الحبيب والقريب والصديق:
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126]
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى: 40]
وفي ذلك دعوة إلى العفو والفضل والتسامح، وإلا فلابد من المثلية في العقاب عن طريق القضاء العادل، فإن تعذرت المثلية أو كان في تحقيقها خطر محقق يتجاوز المثلية، صار الصلح في إطار التسامح مع التعويض وإصلاح ما فسد واجباً.
10- عدل العلماء مع العامة:
وذلك بأن يحملوهم عند الشدائد على الرخص: «إن اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رخصُه كما يَكرَه أن تُؤتى مَعَاصِيه»( ). وعند الراحة على العزائم، لئلا ينفروهم من الدين قال ص: «يسروا ولا تعسروا، بشروا وسَكِّنوا ولا تنفِّروا»( ).
ولما رأى رجلاً صائماً في سفر شاق يُعاني فيه العطش الشديد والألم الواضح غير المحتمل، أمرَه بالفطر وقال: «ليس من البر الصِّيام في السفر»( ) أي: حين يكون السفر شاقاً مضنياً.
وأعجب ما في الأمر أن ترى من يفتي للناس بالعزائم ويلتمس لنفسه الرخص دائماً؟!.
11- عدل في اللغة:
فالجمع المذكر السالم يُرفع بالواو ويُنصب ويُجرُّ بالياء: أحسن المتفوقون، كافأت المتفوقين، أعجبت بالمتفوقين.
والجمع المؤنث السالم يُرفع بالضمة، لأنها تعادل الواو وتُناسبها: أحسنت المتفوقات، ويجر بالكسرة: سررتُ من المتفوقات، والكسرة أصلٌ في الجر، ولكنه يُنصب بالكسرة نيابةً عن الفتحة: كافأتُ المتفوقاتِ، مع أن الفتحة هي الأصل في النصب، ولكننا عدلنا عن الفتحة إلى الكسرة لأن الكسرة تُناسب الياء التي هي علامة النصب في جمع المذكر السالم، ليحصل التعادلُ والتناسبُ بين الجمعين في الإعراب. ولو ذهبتُ أضربُ لك الأمثلة في ذلك، لرأيتَ من أسرار اللغة العربية وجمالها واعتدالها وعدالتها ما يفوق الوصف، ويرشدك إلى سرِّ اختيار الله تعالى لها، لتكون لغة أشرف وأعظم وأسمى وأكمل كتاب سماوي عرفته البشرية، وألزمَ به عباده جميعاً إلى يوم الدين:
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]
ولله در شاعر النيل حافظ إبراهيم يتحدَّث على لسان اللغة العربية:
وسعت كتاب الله لفظاً وحكمةً
وما ضقت عن آي به وعظاتِ
أنا البحرُ في أحشائِه الدرُّ كامنٌ
فهل سألُوا الغوَّاص عن صَدَفاتي؟
12- عدل في التجويد:
أي: تحسين اللفظ في نطق القرآن الكريم، واللغة العربية على أحسن وأجمل ما يُرام نطقاً وتلاوة. فيمدُّ حرفُ العلَّة – وهو ضعيف – مع الهمزة، أو الحرف المشدَّد، لقوتهما كما في: السماء، الطاقة؛ ليقوى الضَّعيف بالمدِّ، فيعادل القويَ، ويُسمَّى الأوَّلُ مدَّاً مُتَّصلاً واجباً، والثاني مدَّاً لازماً كلميّاً مُثقَّلاً.
13- عدل في اللفظ والحروف:
فاللام القمرية تدخل على أربعة عشر حرفاً.
واللام الشمسية تدخلُ على أربعة عشر حرفاً أخرى، هي بقية الحروف العربية.
14- العدل في التوزيع الإلهي:
لقد رصد الله تعالى في الأرض من الخيرات والمعادن والكنوز والمياه ما يسع الخلقَ جميعاً ويكفيهم، ووزَّع ذلك في الأرض ليتعارفَ الخلقُ ويتآلفوا ويتعاونوا على البرِّ والتقوى.
وأخيراً ألا يجدرُ بالنَّاس جميعاً، وبالمؤمنينَ خاصة، وهم يرون العدالة الإلهية في كل شيء، أن يُقيموا حياتهم على العدل والعدالة والتوازن، لينعموا ويسعدوا في دنياهم وأخراهم؟.
(12)
كيف نُرَبِّي أبناءَنَا
على حُبِّ لغتهم العربية وتَعلُّمِها
في أوائل سورة يوسف قوله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]
وفي أوائل سورة الزخرف قوله تعالى:
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3]
وفي الآيتين إشارة لطيفة إلى أن من أراد أن يعقلَ القرآن الكريم ويفهمه حق الفهم، فعليه أنْ يتفهَّمَ اللغة العربية، ويدرسَها دراسةً واعيةً، ويقف على كثير من أسرارها وقواعدها وبلاغتها، فهي السبيل إلى تدبر كتاب الله تعالى والإفادة منه والتأثر به مع الإخلاص في التدبر والإقبال.
ولقد شرَّفَ الله تعالى هذه اللغة العربية باختيارها لغةً لقرآنه الكريم، كما شرّف الأمة العربية باختيارها أول الأمر لحمل رسالة الإسلام إلى الناس كافة، وحفظ كتابه الكريم من كل نقص أو تحريف أو تبديل أو تشويه:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحِجْر: 9]
فحفظت معه اللغة العربية الفصحى، وبقيت أداة التخاطب بين المسلمين على مدة الدهور والعصور، ولها أهمية بالغة في جمع شمل العرب والمسلمين والتفاهم فيما بينهم، فهي رابطة وثيقة تؤلف بينهم في إطار الدين الصحيح والعقيدة السليمة.
ولولا القرآن الكريم لتفرعت إلى لغات ولهجات كثيرة، مما يجعل التفاهم بين أهل بلد وبلد عسيراً بل مستحيلاً، كما حصل للغة اللاتينيّة التي تفرعت إلى لغات ولهجات كثيرة، تختلف كل منها عن الأخرى اختلافاً كبيراً.
ومصادرُ اللغة أية لغة ثلاثة:
1- تعليم إلهي قال تعالى:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة: 31]
أي: علَّمه لغة التخاطب مع قومه، لأن الله تعالى ما أرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبين لهم، ثم علَّم ذريته على اختلاف ألوانهم وأعراقهم لغة التخاطب بينهم، ولا شك أن كثرة اللهجات وتنوع اللغات، واختلاف الألوان والألسنة في العلم، مما يصعب حصرُه، يدلُّ على عظمة الخالق، قال تعالى:
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم: 22]
وألمح معنًى خفياً تشير إليه آية:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة: 31]
أن الله يطالب عباده أن يتعرفوا على قوانين الكون وأسراره وعلومه وأن يعرفوا وظيفة كل شيء في الوجود، وآثاره وفوائده ليفيدوا منه سعادة وبركة وخيراً، ويطلقوا عليه الاسم المناسب لطبيعته ووظيفته، إذ تسمية الشيء فرع عن خصائصه ووظائفه وآثاره وطبيعته. وفي ذلك حث على النهوض المستمر والتقدم المتواصل نحو الأفضل والأكمل في كل علم وشيء.
2- الاشتقاق بأنواعه الصغير والكبير (والكبّار وهذا يسمى النَّحت) وهو اشتقاق لفظ صغير من جملة طويلة يُعطي مدلولها، ويغني عنها، كقولنا: «حوقل» لمن قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن الاشتقاق أن نشتق من العلم أو علمَ، كلمات كثيرة منها عالم، وعليم، وعلاّمة، ومعلوم، ومعلّم، ومعالم و...
3- محاكاة الطبيعة، فأنت تجد في قواميس اللغة: نباح الكلب – عواء الذئب – مواء القطة – زقزقة العصافير – حفيف الأشجار – فحيح الأفاعي – نقيق الضفادع – هديل الحمام – اصطكاك الأسنان و...
ولو تأمّلت كلَّ كلمة لرأيتها تحاكي وتشبه الصوت الذي يخرج، فيسمع في الطبيعة من الحيوان أو الشيء الذي أُضيفت ونسبت إليه؛ مما يجعل اللغات في تطور وازدياد دائم، واللغة العربية أجمل اللغات وأفصحها لفظاً، وأحلاها سماعاً، وأعذبها، وأوسعها وأكثرها اشتقاقاً، ومحاكاة للطبيعة والواقع.
ولقد كان سيدنا محمد أفصحَ من نطق بالضاد، وكان يعنى باللغة، ويحض على فهمها، وتدبر القرآن الكريم على ضوئها، ويُشير لهم إلى بعض أسرارها وقواعدها حسب المناسبات. فقد وردَ أنَّ÷ نزل قوله تعالى:
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح: 5-6]
بشرهم عليه الصلاة والسلام وقال: «لن يغلبَ عُسْر يُسرين»( ) إشارة منه إلى أن الآيتين الكريمتين تدلان على أن كل عسر يعقبه يسران.
لأن المعرفة إذا تكررت لا تتعدد، أما النكرة فإنها إذا تكررت تعددت، والعسر في الآيتين معرفة فهو واحد، وكلمة يسر أتت في الآيتين نكرة فهما يسران. فكلُّ عسر وراءه يُسران وكل شدة وراءها راحتان من لطف الله وكرمه.
وروت كتب السير والتراجم والأدب: أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رأى رجلاً يخطئ في رمي السهام وهو يتدرب للقتال، ثم سمعه يخطئ في اللغة العربية، وهو يخاطب زملاءَه، فقال له: «والله إنَّ خطأكَ في اللغة أشدُّ علي من خطئك في الرمي» وقال: «تعلَّموا العربية السليمة كما تتعلمون الفرائضَ والسُّنن» وقال: «تعلَّموا العربيةَ فإنها تقوِّي العقل وتزيدُ في المروءة والفهم».
وقال عبد الملك بن مروان: «اللَّحن في المنطق أقبحُ من آثار الجدري في الجسم».
وقال الحسنُ البصري رحمه الله: «إني لأخشى إنْ دعوتُ اللهَ فلحنتُ – أي: أخطأت – في الدعاء أنْ لا يُستجابَ لي».
وورد عن المأمون أنه قال لولده: «يا بني تعلَّمِ العربيةَ فبها تُصلح لسانَك، وتفوقُ أقرانَك، وتُقيم أَوَدَك: - معيشتك - وتَزين مجلسك، وتُبطل حجة خصمك بمسكتات حكمتك».
وكان الفقهاء والعلماء لا يرون الصلاة خلف من يلحن ولا يتقن العربية، لأن تغير حركة أو حرف قد يُؤدي إلى معصية أو خطأ فاحش يُبطل الصلاة.
ففي أوائل سورة التوبة قوله تعالى:
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة: 3]
فكلمة ورسوله الثانية مرفوعة، والواو قبلها للاستئناف، وهي مبتدأ خبره محذوف، التقدير: ورسولُه بريءٌ من المشركين أيضاً.
ولو نصبتَ: ورسولَه، لصحَّ الكلامُ على العطف، والتقدير: إن الله بريء من المشركين وإنَّ رسولَه بريءٌ منهم كذلك.
أما لو أخطأ الإمامُ لجهله باللغة فجرّ كلمة (ورسوله) الثانية بالكسرة – لا سمح الله – لوقعَ في خطأ فاحش يُسيء إلى الصَّلاة، لأن المعنى يكون عندئذ أنَّ الله بريء من رسوله، وهذا غير صحيح، فالله يحبُّ رسولَه، ويؤيده وينصره.
ولذا كان السَّلفُ يعوِّدون لسانهم على الصواب، وعدم اللحن في الجدِّ والهزل، وكانوا يقولون: اللحن ليس من المروءة.
قال رجل لسعيد بن عبد الملك وهو يُودعه لسفر: أتأمرني (بشيئاً)؟!.
فقال له سعيد: «نعم، آمرُك بتقوى الله وإسقاط الألف» أي: أن تقول بشيءٍ؛ لأنها مجرورة بالباء، وقوله يدلُّ على أنه يرى أنَّ إصلاحَ الكلام وتصويبه وفصاحتَه من التقوى حيث قرن بينهما.
وقال رجل للأعمش: من أين أقبلت؟ قال: من السوق – وماذا اشتريت؟ قال: اشتريت عسلاً بالنصب، لأنها مفعول به.
وكان واجب الرجل أن يقول له: هلا زدتَ في العسل ألفاً، لأنها مفعول به لفعل زدت، والأعمش من أهل العلم، وأدرك خطأه غير المتعمد وخطأ الرجل معه، فصحَّحَ كلامَه وكلامَ صاحبه. وهكذا كانوا يرون الخطأ في اللغة عيباً كبيراً فيسارعون إلى نصح المخطئ وتصويب كلامه.
ورحم الله القائل:
النحو يُصلح من لسانِ الأَلْكَنِ
والمرءُ تُكرمُه إذَا لم يَلْحَنِ
وإِذا أردتَ من العُلوم أجلَّها
فأَجلُّها منها مقيمُ الأَلْسُنِ
ومن طريف ما قرأت في الشعر هذان البيتان:
اعتذر شاعر عن تقصيره في البلاغة والفصاحة والعلم، لأن قومَه لا يقدِّرون ذلك – وهذا ليس عذراً مقبولاً منه – فقال:
إذا شاهدت في علمي فتورَاً
ونُطقي والفَصاحِةِ والبيانِ
فلا تعجبْ لذلك إنَّ رقصي
على مقدار إيقاعِ الزمانِ
واللغة الفصحى التي ندعُو لتعلمها، والنطق بها هي اللغة الجميلة السهلة العذبة الواضحة، التي تَنْزل على قلب وسمع الناس برداً وسلاماً، كأنها الماء العذب الزلال، يقدَّم لعطشان على حر وتعب؛ فيجيبه وينعشه.
وإذا كان القرآن الكريم، وهو أعظم ما عرفت البشرية كلها من مبدأ وعلم ومنهج، قد يسّره الله للذكر والفهم، فجدير بنا أن نسلك سبيل التيسير في حياتنا قولاً وعملاً:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 22]
أما التقعر في اللغة والتشدُّق فيها، واختيار الألفاظ الصعبة منها مما يحتاج السامع معها إلى الرجوع إلى القواميس اللغوية، فهذا ليس مشكوراً في الكلام.
وأضرب لذلك مثلاً بعض ما ورد عن أبي علقمة النحوي الذي كان يُحبُّ التقعر في الكلام، فقد سأل خادمه يوماً: أصقعت العتاريف؟ فلم يفهم خادمُه شيئاً فأراد أن يجاري سيده في التقعير، فبالغ وأتاه بكلام لا معنى له، فقال له: زقفيلم. فقال له أبو علقمة: أعدْ ما قلتَ لم أفهم ما تريد. فقال: وأنا كذلك لم أفهم ما تريد.
قال أبو علقمة: أردت من قولي أصقعَت العتاريف؟ أنْ أسألكَ: أصاحت الديكة؟ ولو رجعتَ إلى المعاجم لرأيت هذا المعنى.
فقال له الغلام: وأنا أردت من قولي زقفيلم: أن أجيبك: لم تصح الديكة. ولو رجعت إلى المعاجم لما رأيت هذه الكلمة.
كما وردَ أن أبا علقمة نفسه وقع مغشياً عليه مرة، فظنَّه الناس مصروعاً، فأخذوا يُعالجونه ويدعون له بالشفاء، فلما صحا من صدمته ووجدهم حوله، قال لهم: «ما لكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنَّة، افرنقعوا عني» يريد: ما لكم تجمعتم حولي كما تتجمعون على من به جنون، انصرفوا عني، وتفرَّقوا ودعوني وشأني. فاختارَ لهذه المعاني أصعب وأبعد الألفاظ عن الفهم.
فقال أحد الواقفين مازحاً: دعوه فإن جنّيّته تتكلم الهندية.
وسئل ورّاق عن حاله فأجاب: عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدقُّ من مسطرة. وجاهي أوهى من الزجاج، وسوء حالي ألزمُ من الصَّمْغ. وحظّي أسودُ من الحبر، وطعامي أمرُّ من الصبر.
فقال له صاحبه: عبّرت عن بلاء ببلاء!.
وأرى أن قوله : «ولا تُعَسّروا»( ). يتناول التيسير في القول كما يتناول التيسير في العمل والتوجيه والفتوى والتعليم، ويعجبني قول الرُّصَافي:
لست بالشاعر الذي يرسل اللفـ
ـظ جزافاً لكي يصيب جناسه
أنا لا أبتغي من الشعر إلا
ما جرى في سُهولة وسلاسَه
إنما غايتي من الشعر معنى
واضحٌ يأمنُ اللبيبُ التباسَه
هذا وإن اللغة العربية في القرن العشرين حيّة ميتة.
حية لوجود القرآن الكريم والسنة الشريفة، حية في الكتب القديمة والحديثة، وعلى ألسنة الفقهاء والعلماء والخطباء ذوي المعرفة بها.
ميتة عند عامة العرب والمسلمين الذين لم يدرسوها وهم يتفاهمون بالعاميّة التي يروّج لها أعداء الإسلام والعروبة، لأن من جهل اللغة العربية جهل القرآن والسنة وعاش في بعد عنهما وضلال كبير. وكم يُؤلم الغيورَ على الإسلام والعربية أن يرى ويسمع كثيراً من العرب يتكلمون الإنكليزية في بلادهم العربية وفي الفنادق والمنتديات العلمية وعلى الهواتف في البلاد الأجنبية، يخاطب العربيُّ بها أخاه العربي بطلاقة وإتقان، ولا يعرف من اللغة الفصحى شيئاً، وإذا تكلَّم بالعربية تكلَّم بها ركيكة عامية ضعيفة كارهاً أو مكرهاً.
وهذا يرجع إلى ضعف في الدين والإرادة والشخصية، وانسلاخ عن الانتماء إلى أقدس لغة وأشرف أمة وخير سلف.
وخدمة اللغة العربية خدمةٌ للإسلام الحنيف والقيم والمثل العليا، ودعم لإشاعة مكارم الأخلاق، وألطف الأذواق عند الصغار والكبار.
وهذا يتطلب أموراً كثيرة نفيد منها أجيالنا ونستفيد، ونثبت أن لغتنا كديننا صالحة لكل زمان ومكان:
1- أن يتكلم الوالدان مع الطفل منذ صغره باللغة السليمة بعد أن يبذلا جهدهما لفهمها ودراستها بقد الإمكان. فالبيت والأسرة هما المدرسة الأولى لطفل، ومرحلة الطفولة هي المرحلة المخصبة في تربية الطفل وتعليمه وحسن توجيهه نحو الأفضل والأكمل والأجمل. والطفل معقود سمعه وبصره على والديه ومربيه وأستاذه، الخير عنده ما يصنعون أو يقولون، والشر عنده ما يتركون أو يكرهون، وهو سريع التقليد لكل ما يسمع أو يرى. فليحذرْ كلٌّ منّا أمامَ أولاده أو طلابه أن يقول أو يفعل ما لا يحسنُ أو ما لا يليق.
2- اختيار المعلم الكفء ذي الاختصاص في اللغة لتعليم الأطفال اللغة العربية، فاللغة تتلقى بالمحاكاة والتقليد أكثر مما تتلقى بالتعليم، والصواب أو الخطأ ينتقش في ذهن الطفل منذ صغره، فيردده ويثبت عليه، فاختيار ذوي الخبرة والاختصاص في اللغة العربية للمرحلة الابتدائية ذو أثر فعال في تنشئتهم على سلامة النطق وفصاحة اللغة. وكم يتألم الإنسان أن يستمعَ إلى أغلاط كثيرة وخطأ فاحش في اللغة العربية ممن يحملون شهادات عالية في شتى الاختصاصات، وهم يتكلمون في ندوات إذاعية وتلفزيونية أو يكتبون للمجلات والصحف، فتقرأ في مقالاتهم ما لا يُرضيك من الأسلوب الضعيف، أو اللغة البعيدة عن القواعد الصحيحة، وحبذا لو يعرضون مقالاتهم قبل إذاعتها أو نشرها على ذوي الاختصاص في اللغة العربية ليصححوها فتذاع أو تنشر على أصح وأحلى ما يُرام.
3- اختيار الكتب الواضحة السهلة ذات العبارات والجمل الميسرة للفهم السريع البعيدة عن التعقيد في الأسلوب والإطالة في الشرح الممل الذي لا طائل وَراءه، المليئة بالأمثلة التطبيقية المجدية مع الوظائف المدرسية والمنْزلية التطبيقية، وأن تصحح جميعاً ليقف الطالب على الصحيح في كل شيء، فيلتزمه في قوله وكتابته، وأن تستعمل في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية السبورة دائماً في تعليم اللغة العربية مع الحكك (الحوار) الملّون لبيان حركة الإعراب أو البناء أو عود الضمير أو التقديم أو التأخير أو الحذف أو التقدير، ليرسخ ذلك في ذهن الطالب، مع كثرة الأمثلة التطبيقية لكل قاعدة على السبورة، أما تلقين الطلاب اللغة العربية بالحكك (الحوار) الأبيض فحسب مع قلة الأمثلة، أو بجلوس الأستاذ على الكرسي يشرحُ العبارة شفوياً دون النهوض إلى السبورة للبيان العملي الملوّن عليها، مع تعليل القاعدة وبيان السبب، فإن ذلك لا يجدي في التعليم شيئاً وهذا سبب من أسباب ضعف الطلاب في تلقي مادة النحو من الأساتذة في شتى المدارس الشرعية وغيرها.
وخير كتاب نختار للمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية في نظري هو «النحو الواضح» للأستاذين مصطفى أمين وعلي الجارم مع الاستعانة بكتاب «جامع الدروس العربية» للشيخ مصطفى الغلاييني، لوضوح هذين الكتابين، وكثرة الأمثلة التطبيقية فيهما، مع الشرح الوافي الواضح بأسلوب مبسَّط لا تعقيد فيه، مع كثير من التعليل وبيان السبب.
وفي كتاب النحو الواضح ثغرة كنت أودُّ أن لا توجد، وهو خلوّه من الشواهد والنصوص القرآنية ومن الحديث الشريف، ولو كانت معظم شواهده من القرآن الكريم والسنة الشريفة، لجاء على غاية ما يُرام، ولذا نصحت بالاستعانة بكتاب جامع الدروس العربية الذي اعتمدَ على القرآن والسنة بالإضافة إلى الشعر القديم في الاستدلال على القاعدة، وبذلك يتمم ما فات كتابَ النحو الواضح ويسدُّ الثغرة فيه. كما أنّ كتاب الدروس النحوية المطبوع في مصر لعدة مؤلفين ممتاز يُغني عن غيره للمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية. أما تحفيظ ألفية ابن مالك، واختيار أصعب كتب النحو لطلاب المرحلة الإعدادية والثانوية للطلاب ولو في المدارس الشرعية، كشرح ابن عقيل ومغني اللبيب وغيرهما، مما هو فوقَ طاقة الطلاب من حيث العبارَة المكثَّفة المضغوطة على أسلوب القدامى في التأليف، مما يصعب على طلاب المرحلة الإعدادية بل والثانوية أحياناً حفظها، أو استيعابها، فهو مما لا يجدي كثيراً.
وأنصح بأن تدرَّسَ مثل هذه الكتب في الجامعات، لمن يُريد أن يتابعَ دراسته وتخصصه في المراحل الجامعية وما بعدها في اللغة العربية.
والمجدي في تدريس اللغة العربية في المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية الشرعية وغيرها أن نقوّم لسان الطالب، وأن نعلمه الصوابَ في القول والكتابة بالأسلوب السهل من الكتاب والنحو الواضح، حتى يقطفَ ثمرة النحو ويفيد منها، لا أن نعتدَّ بقوة المنهاج وصعوبة الكتب دون أن يفيد الطالب منها إلا القليل النادر.
وأسلوب التعليم في كل مادة ومنها النحو لا يجوزُ أن يقتصرَ على ملء الوعاء، أي: تحفيظ الطالب العبارات المعقدة أو المطوّلة بصماً ولو لم يفهمها ولكن المقصود أن يفهمَ ويفيد من علمه تطبيقاً عملياً ويَستفسِرَ، وهذا يتطلب قدحَ شرارة الفكر عند الطالب، ليسألَ ويناقش عن الدليل والتعليل، فإذا توفرت لديه القناعة مع الفهم أحبَّ المادةَ وتابعها وأفادَ منها.
4- أن يحاول كل فرد في المجتمع أن يقوِّمَ لسانه اللغوي، وأن ينطقَ بالصواب لتتضافَر جهود البيت والمدرسة والمجتمع لتحقيق هدف واحد، وهو النهوض بالطفل والطالب إلى المستوى المطلوب فلا يسمع إلا صواباً، ولا يرى إلا أدباً فيكون بذلك رجل المستقبل المأمول، وأمل الأمة المنشود.
وعلى أجهزة الإعلام أن تختارَ أفصحَ وأبلغَ المذيعين، لأنها تشد إليها الصغير والكبير فيتعلمون صحيح اللغة وحسن الإلقاء.
5- تدريس جميع العلوم في الجامعات ومنها الطب باللغة العربية، ومن كتب أحسن طبعها وإخراجها وتأليفها وصورها على أحسن ما يُرام لغةً وأسلوباً ووضوحاً وعلماً وفناً، وعلى يد أساتذة يُحسنون اللغة العربية وينطقون بها على الوجه الصحيح.
مع الاستعانة بمجمع اللغة العربية والعلمية الذي أثبت جدارته في كل قطر عربي، ولاسيما دمشق والقاهرة على قدرته على إعطاء كلّ مخترع جديد أو علم جديد اسماً عربياً ومصطلحاً عربياً واضحاً، أخذ عن طريق الاشتقاق والقياس، وحبذا لو تدرس جميع الجامعات العربية العلوم كلها ومنها الطب باللغة العربية، اعتزازاً بتراثنا ولغتنا، وخدمة لطلابنا ليستوعبوا العلم عن طريق لغة يتقنونها، بالإضافة إلى العناية باللغات الأجنبية التي يدعو الإسلام إلى تعلمها، لنفيد من علومهم ونأمن مكرهم ونعقد معهم صلة خير للإنسانية جمعاء. ولا شك أن قوة أية لغة في العلم وانتشارها منوط بقوة أهلها، فلنكن نحن العرب والمسلمين أقوياء كما أمرنا الله تعالى ليقوى جانب لغتنا وتراثنا في العالم فيهتدوا به.
وقد حدَّثني طبيب صالح موثوق بأنه تخصَّص في بلد تتكلم الألمانية وتعتز بلغتها، وسمع الأستاذ في الجامعة «كلية الطب» يصحح لطالب أخطأ بكلمة وهو ينطقُ بها ويرشدُه إلى الصواب فيها، وقد ظهر عليه التأثر لأن الطالب الطبيب لا يتقن اللغة الألمانية، وطلب منه أن يعيد الكلمة بشكل صحيح ثلاث مرات ليحفظها جيداً ولا يُخطئ ثانيةً، ونحن أولى أن نعتز بتراثنا ولغتنا من غيرنا، لأننا ولله الحمد نملك أكمل وأعظم منهج وشريعة، وأجمل وأشرف لغة وأعذب نطق.
ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم، فقد قال قصيدة رائعة يتحدث فيها بلِسان اللغة العربية، أختار لكم منها ما أراه مناسباً للموضوع:
رجعت لنفسي فاتهمتُ حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقمٍ في الشباب وليتني
عَقِمت فلم أجزعْ لقولِ عُداتي
وَلَدْتُ ولما لم أجدْ لعرائسي
رجالاً وأكفاءً وأدتُ بناتي
أيهجُرني قَومي عفَا الله عنهم
إلى لغة لم تتصلْ برواةِ
وسعتُ كتابَ الله لفظاً وغايةً
وما ضقتُ عن آي به وعظاتِ
فكيف أضِيق اليومَ عن وصفِ آلةٍ
وتنسيقِ أسماءٍ لمخترعاتِ
أنا البحرُ في أحشائِه الدرُّ كامنٌ
فهل سألوا الغوّاصَ عن صَدَفاتي؟!
وأخيراً ما أجملَ أن نجمع بين سلامة اللغة وسلامة السلوك، بين صحة العقيدة وصحة النطق والخلق، بين الاستقامة في الحياة والاستقامة في الكلام، بين الإخلاص والصدق في الأقوال والأفعال والأعمال.
وأختم الموضوع بقصة طريفة ذكرَتْها كتب الأدب:
وهي أن واعظاً أخطأ في اللغة فقالَ له نحوي: أخطأتَ يا لُحنَة.
فقال له الواعظ:
أيها المعربُ في أقواله، اللاحن في أفعاله، ما لي أراك معاتباً منكراً؟ أكل ذلك لأنك رفعت ونصبت وخفضت وجزمت. هلا رفعت إلى الله يديك في جميع الحالات والحاجات، ونصبت بين عينيك ذكر الممات، وخفضت نفسك بعيداً عن الشهوات، وجزمتها عن إتباع المحرمات.
أوما علمت أنه لا يُقال لك يوم القيامة:
ألا كنت فصيحاً معرباً؟ وإنما يقال لك: لم كنت عاصياً مذنباً؟ ولو كان الأمر كما زعمتَ والخطبُ كما حكمتَ لكان هارون أحق بالتقديم بالرسالة من موسى لأنه كانَ أفصحَ منه.
فجعلهَا الله في موسى قبلَ هارون لفصاحة جنانه، لا لفصاحة لسانه.
ثم أنشد:
مجازفٌ في الفِعال ذو زَلَلِ
فإذا قالَ قولَه وزنَه
قالَ وقد أعجبته لفظته
تيهاً وعجباً: أخطأت يا لحنة
فقلت أخطأ الذي يقوم غداً
ولا يُرى في كتابه حسنة
ولعل القصة مؤلفة وليست واقعية، لأن واعظاً يحسن هذا الجواب ما أظن أنه يُخطئ كثيراً في اللغة، لأن «اللُّحنة» على وزن «فُعَلَة» وهو كثير الخطأ واللحن في اللغة، وعلى أية حال ففي القصة عبرة ودرس يدعونا إلى إصلاح العمل بالإضافة إلى إصلاح القول. والحمد لله الذي تتمُّ بنعمته الصَّالحات