الكتــاب الأبيــض حـول حـوار الثقافـات ''من أجل العيش معاً متساوين في الكرامة''
الكتــاب الأبيــض حـول حـوار الثقافـات ''من أجل العيش معاً متساوين في الكرامة''
فضاء يشمل التنوع الثقافي
2. 1. التعددية والتسامح وحوار الثقافات
ليس التنوع الثقافي ظاهرة جديدة في نسيج أوروبا، إذ نجد فيه الآثار المختلفة للهجرات داخل القارة وإعادة رسم الحدود والاستعمار والإمبراطوريات المتعددة الجنسيات. وبفضل مجتمعاتنا المبنية على مبادئ التعددية السياسية والتسامح، خلال القرون الماضية، تمكنا من العيش في إطار التنوع دون خلق أخطار غير مقبولة تهدد التماسك الاجتماعي.
وخلال العقود الماضية، تسارعت وتيرة التنوع الثقافي. واستقطبت أوروبا مهاجرين وطالبي اللجوء من العالم بأسره يسعون إلى حياة أفضل. ومع العولمة، تقلصت عوامل المكان والزمان إلى درجة غير مسبوقة. وساهمت الثورات التي عرفتها مجالات الاتصالات والإعلام، لاسيما بعد ظهور خدمات جديدة للتواصل كالإنترنيت، في جعل الأنظمة الثقافية الوطنية أكثر شفافية. وساهم كذلك تطور المواصلات والسياحة في الربط، وبشكل مباشر، بين عدد قياسي من الأشخاص، مضاعفاً بذلك إمكانيات حوار الثقافات.
وفي هذا السياق، اكتسب كل من التنوع والتسامح وروح الانفتاح أهمية غير مسبوقة(1). وأقرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأن ''التعددية ترتكز على الاعتراف والاحترام الفعليين لتنوع وديناميكية التقاليد الثقافية والهويات العرقية والثقافية والمعتقدات الدينية والأفكار والمفاهيم الفنية والأدبية والسوسيو ــ اقتصادية'' وبأن ''التفاعل المنسجم ما بين أفراد وجماعات ذات هويات مختلفة يعتبر ضرورياً للتماسك الاجتماعي''(2).
ولكن قد لا تكون التعددية والتسامح وروح الانفتاح كافية. لذلك يجب اتخاذ تدابير سابقة التأثير، ومحكمة البناء ومشتركة على نطاق واسع قصد تدبير التنوع الثقافي. وفي هذا الإطار، يعد حوار الثقافات وسيلة أساسية يصعب من دونها حماية حرية ورفاهية الأفراد الذين يعيشون في هذه القارة.
2. 2. المساواة في الكرامة الإنسانية
لا يساهم التنوع في إنعاش الحياة الثقافية فحسب، بل يساهم كذلك في تحسين القدرات الاجتماعية والاقتصادية. إذ يخلق التنوع والإبداع والتجديد حلقة مثمرة، في حين يمكن للفوارق أن تتقوى بشكل متبادل، مما يسبب نزاعات تهدد الكرامة الإنسانية والرعاية الاجتماعية. فما هي الأواصر التي يمكنها أن تجمع ما بين سكان هذه القارة ؟
تعتبر القيم الديمقراطية التي يدعو إليها مجلس أوروبا كونية، فهي ليست في حد ذاتها أوروبية محضة. غير أن أوروبا، ونظراً لما شهدته من فظاعات خلال القرن العشرين ، اقتنعت وبشكل خاص بالقيمة المؤسسة للكرامة الإنسانية لكل فرد. وهكذا وضعت الدول الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية نظاماً أكثر غنى لحماية حقوق الإنسان عبر الحدود الوطنية وفي متناول الجميع، وليس فقط مواطني البلدان. ويقر هذا المتن لحقوق الإنسان بكرامة كل إنسان فضلاً عن الحقوق التي يتمتع بها الأفراد بصفتهم مواطني دولة معينة.
وتقر ترسانة حقوق الإنسان بإنسانياتنا المشتركة وبالفردية الخاصة لكل واحد. ومن شأن الاندماج داخل وحدة بدون تنوع أن يؤدي إلى مجانسة قسرية وإلى فقدان الحيوية، في حين يمكن أن يصبح الاعتراف المتبادل والإدماج الاجتماعي أمراً مستحيلاً إذا لم يتم إخضاع التنوع إلى إطار شامل يتمثل في مبدأي الإنسانية المشتركة والتضامن. فإذا أردنا بناء هوية مشتركة، يجب أن ترتكز على أخلاقيات استضافة الآخر واحترام الكرامة المتساوية لكل فرد. ويعتبر الحوار والتواصل مع الآخرين عنصرين مرتبطين ارتباطاً جوهرياً بهذه القيم.
2. 3. المعايير والأدوات : إنجازات مجلس أوروبا خلال العقود الخمس الأخيرة(3)
تبرهن مختلف صكوك مجلس أوروبا، لاسيما الاتفاقيات والمواثيق التي تشرك كل الدول الأعضاء أو بعضها وكذلك التوصيات والإعلانات والبيانات، على الإجماع الأوروبي القوي حول القيم.
وجسدت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان )1950( التزام الدول بعد الحرب باحترام الكرامة الإنسانية. ونتج عن ذلك تأسيس المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والتي تفسر الاتفاقية في اجتهاداتها القضائية على ضوء الظروف الحالية. تضمن البروتوكول رقم 12 لاتفاقية حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية ) 2000( منعاً عاماً للتمييز. ويبين الميثاق الاجتماعي الأوروبي بوضوح )تم اعتماده سنة 1961 ومراجعته سنة 1996( أنه يجب أن يستفيد الكل وبدون تمييز من الحقوق الاجتماعية التي يحددها. وجاء في الإعلان حول المساواة ما بين النساء والرجال )1988( بأن التمييز على أساس الجنس في أي مجال يشكل حاجزاً أمام الاعتراف والتمتع بحقوق الإنسان والحريات الأساسية وممارستها. وأقرت الاتفاقية الأوروبية حول الوضع القانوني للعامل المهاجر )1977( بحق العمال المهاجرين في نفس المعاملة التي يحظى بها مواطنو الدول الأعضاء.
وتعترف الاتفاقية الثقافية الأوروبية )1954( ''بالإرث الثقافي المشترك'' من جهة، وبضرورة التعلم في مختلف الثقافات، في حين تشير الاتفاقية الأوروبية حول التلفزيون العابر للحدود إلى أهمية الإذاعة لتنمية الثقافة والتكوين الحر للآراء. ومن جانبها، توضح الاتفاقية الإطار حول قيمة الإرث الثقافي بالنسبة للمجتمع )2005( كيف أن معرفة هذا الإرث يمكن أن تشجع على إرساء الثقة والتفاهم.
ونجد مسألة تشجيع وحماية التنوع في إطار روح التسامح في صلب كل من الميثاق الأوروبي للغات المحلية أو لغات الأقليات )1992( والاتفاقية الإطار لحماية الأقليات الوطنية )1995(. وتتطرق كل من الاتفاقية الإطار الأوروبية حول التعاون العابر للحدود ما بين الجماعات والسلطات الترابية )1980( والاتفاقية حول مساهمة الأجانب في الحياة العامة المحلية )1992( والميثاق الأوروبي حول مساهمة الشباب في الشأن المحلي والإقليمي )2003، معدلة( إلى المساهمة في الحياة العامة على المستوى المحلي، بالإضافة إلى عمل جمعية السلطات المحلية والجهوية، لاسيما إعلان شتوتغارت الذي اعتمدته حول إدماج ''الأجانب'' )2003(. ويمنع بموجب الاتفاقية حول الاعتراف بالكفاءات المتعلقة بالتعليم الجامعي في المنطقة الأوروبية لمجلس أوروبا واليونسكو )1997( اعتبار عوامل خارجية، مثل المعتقدات والآراء ووضعية المرشحين، عند تقييم كفاءاتهم.
قبل إعلان فارو حول استراتيجية مجلس أوروبا لتنمية حوار الثقافات )2005(، وقع اختيار وزراء الثقافة على حوار الثقافات ليكون موضوع عمل في إعلان أوباتيجا )2003( في حين تدارس نظراؤهم في قطاع التربية مسألة التعليم المشترك بين الثقافات في إعلان أثينا )2003(. لقد أعطى الوزراء الأوروبيون المكلفون بقطاع الشباب، خلال اجتماعهم ببودابست سنة 2005، الأولوية للتربية على حقوق الإنسان والتضامن العالمي وتحويل الصراعات والتعاون ما بين الأديان. إضافة إلى ذلك، تبنت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، منذ الثمانينات، سلسلة واسعة من التوصيات والقرارات وعقدت مجموعة من الجلسات والحوارات حول مختلف مظاهر حوار الثقافات وبين الأديان(4). لقد مكن مخطط العمل، المعتمد خلال القمة الثالثة لرؤساء الدول والحكومات، من تطوير استراتيجيات لتدبير التنوع الثقافي والنهوض به، ضامناً في الآن نفسه انسجام مجتمعاتنا كما شجع حوار الثقافات بما في ذلك بعده الديني.
يعمل مجلس أوروبا بوصفه منظمة حكومية دولية وله نفوذ في باقي العالم من خلال آليات المتابعة وبرامج العمل وعبر تشجيع بعض السياسات والتعاون مع الشركاء الدوليين. وفي هذا الإطار، تعد اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح أداة مهمة حيث تقوم بمتابعة ظاهرة الميز العنصري وكل أشكال التعصب والتمييز التي تصاحبها في الدول الأعضاء، وتعد توصيات لسياسة عامة، بالإضافة إلى تعاونها مع منظمات المجتمع المدني لتحسيس المجتمع. وللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية وعدم التسامح اتصالات منتظمة مع كتابة لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري ومكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمن والتعاون بأوروبا ووكالة الحقوق الأساسية التابعة للاتحاد الأوروبي. وبشكل عام، يقوم مفوض حقوق الإنسان لمجلس أوروبا بدور مهم من خلال النهوض بالتربية والتحسيس بحقوق الإنسان واحترامها. كما كان للجنة الأوروبية من أجل الديمقراطية من خلال القانون )''لجنة البندقية''(، وهي عبارة عن جهاز استشاري تابع لمجلس أوروبا ينكب على القضايا الدستورية، دور رائد في تبني دساتير تتوافق ومعايير الإرث الدستوري الأوروبي، كما تحدثت في مناسبات عدة عن حقوق الأقليات. وأصبح ''المركز شمال ــ جنوب'' فضاء مهماً للحوار بين الثقافات وجسر يربط ما بين أوروبا والمناطق المجاورة.
2. 4. مخاطر اللا حوار
يجب تقدير مخاطر اللا حوار بما يكفي. فغياب الحوار يساهم بشكل كبير في تطوير صورة جاهزة عن الآخر وإرساء جو من الريبة المتبادلة والتوتر والقلق، وفي اعتبار الأقليات أكباش فداء ويساهم بشكل عام في تشجيع التعصب والتمييز. ويمكن لفشل الحوار داخل المجتمعات أو في ما بينها أن يشكل في بعض الأحيان أرضاً خصبة لظهور التطرف بل وحتى الإرهاب واستغلال البعض لذلك الوضع. وبالتالي يعتبر حوار الثقافات ضرورياً ما بين الجيران محلياً ودولياً.
إن إغلاق الباب أمام بيئة تتميز بتنوع كبير يمكن أن يوفر أماناً وهمياً كما يمكن للانطواء في الرفاهية المطمئنة ظاهرياً لجماعة حصرية أن يخلق أحادية في التفكير خانقة. يحرم غياب الحوار كل فرد من إمكانية الاستفادة من الانفتاح الثقافي الجديد الضروري للتنمية الشخصية والمجتمعية في ظل عالم العولمة. فالجماعات المنعزلة والمنطوية على نفسها تخلق جواً غالباً ما يكون معارضاً للاستقلالية الشخصية والممارسة الحرة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
لا يأخذ غياب الحوار بعين الاعتبار الدروس المستخلصة من خلال الإرث الثقافي والسياسي لأوروبا، فقد تميزت المراحل السلمية والمثمرة في تاريخ أوروبا دائماً بالإرادة القوية في التواصل مع الجيران والتعاون ما وراء الحدود. وغالباً ما تسبب ضعف الانفتاح على الآخر في كوارث إنسانية، فوحده الحوار يمكن الناس من العيش في إطار الوحدة والتنوع.
ـــــــــــــــ
(1) بشأن أهمية التعددية والتسامح والتفتح في المجتمعات الديمقراطية، راجع مثلاً قضية هانديسايد ضد المملكة المتحدة، الحكم الصادر بتاريخ 7 ديسمبر 1976، سلسلة أ رقم 24، 49.
(2) كورزيليك وآخرون ضد بولونيا )الغرفة الكبرى(، الحكم رقم 98/44158 بتاريخ 17 فبراير .2004
(3) انظر الملحق ــ جدول حول وضع المصادقات على الأدوات الاتفاقية الرئيسية.
(4) انظر مرجعيات التوصيات المهمة للجمعية البرلمانية في الملحق.
المصدر: http://www.isesco.org.ma/arabe/publications/White%20Book/p4.php