الحوار الأسري وسيلة تربوية تعليمية
الحوار الأسري وسيلة تربوية تعليمية
بشرى شاكر
باتت ثقافة الحوار للأسف تتقلص تدريجيًّا في أوساط أسرنا، فنحن نعد الحوار من الأمور الثانوية ونحاول التركيز على أمور قد تبدو لنا أهم بكثير، مثل الربح المادي للقيام بمسؤوليات البيت على أحسن ما يرام، ونظن أن أطفالنا لا يحتاجون منا إلا لكل شيء مادي، والمفارقة أننا ننتظر أن ينشأ أطفالنا على تربية حسنة، وإذا ما ساء الأمر فكل من الأبوين يجد طريقًا لإلقاء اللوم على الآخر، ولكن التربية كما هو معلوم لا تحتاج لشخص واحد من دون الآخر فهي متوقفة على كلا الأبوين.
الحوار بينك وبين أولادك هو قنطرة لعبور قيم الأجداد إلى الأحفاد وتتمة لتاريخ مضى بتمريره لمستقبل آت، ومن هنا ينبغي علينا أن نحاور أبناءنا وكأننا نحاور المستقبل، ففلذات الأكباد هم حاضر اليوم ومستقبل الغد.
إن الهوة التي نشأت بين الآباء والأولاد بسبب انعدام الحوار، غالبًا ما يكون سببها تصغير الأبناء والتقليل من قدرهم، فأحيانًا كثيرة يرى الكبير سنًّا أن محاورة الطفل عبث وربما أكثر من ذلك فقد يعتبرها مضيعة للوقت، وقد يقلل من أمره بذلك فلا يسمح له بالحديث أمام الكبار ولا حتى بمناقشته في أمور تتعلق به شخصيٍّا! بحيث يتخذ القرار عنه معتقدًا أنه يملك الحلول الناجعة لكل شيء، وأنه أدرى بمصلحة الطفل منه هو شخصيًا.
التربية دون حوار هي عبارة عن قواعد وقوانين تنفذ ولا يسمح للطفل أو الابن عموما أن يتجاوزها.
هذا الاستخفاف بقدر الطفل هو ما يجعل الآباء يرون ثمارهم تنضج بطريقة سلبية، وهو أيضًا ما يجعلهم يتجهون نحو من يسمعهم من أصدقاء أو زملاء، وقد يستأنسون لمن يرغب بأذيتهم لا لشيء إلا لأنه استدرجهم بما فقدوة أي الحوار.
وكما هو معروف أن الشواذ الذين يعتدون جنسيًا على الأطفال الصغار، غالبًا ما يمتلكون قدرة فائقة على الاستدراج بالحديث، فتكون أول خطواتهم إنشاء نوع من الحوار بينهم وبين الطفل الذي يجد لديهم ما يفتقده في بيته، فتتكون بينه وبين الجاني ألفة تجعله يتبعه مغمض العينين.
إن الإسلام كان يجعل من الحوار بين الآباء وأولادهم الركيزة الأساسية في التربية، ويتجلى لنا ذلك في موقف النبي إبراهيم [ حينما حاور ابنه إسماعيل في أمر الهي وهو يعرف أنه قاضيه لا محالة، لأنه وحي يوحى وليس أمرًا بشريًّا، وإنما أراد بذلك إثبات أهمية الحوار والمناقشة وجعل ابنه إسماعيل \ يفهم لم عليه أن يقوم بما أمر به؟ فقد قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم وإسماعيل: {فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات: 102).
حاور إبراهيم إسماعيل ابنه عليهما السلام، ففهم الولد ما طلب منه وامتثل لأمر والده وقبله لأنه أمر الله تعالى، فكان أن غير الله الأضحية بكبش بدل إسماعيل \، وكان يمكن أن يغير الله وحيه لإبراهيم قبل حتى ان يحاور ابنه، ولكن لله حكمًا في ذلك، أولها أن يرى طاعة نبيه له، وثانيها ان يبرز لنا قيمة الحوار والمناقشة وأن لها ثمارًا أبلغ بكثير من العند والعنف- والله أعلم-، فحتى وهو ينوي ذبح ابنه امتثالًا لوحي الله تعالى كان إبراهيم \ رحيمًا في شرحه وقد كان بإمكانه أن يفعل دون أن يستشيره في أمر هو فاعله كيفما كان رده.
وهنا نذكر حديث المحللة النفسية فرانسواز دولتو حيث قالت: «ينبغي للأهل أن يحدثوا ولدهم منذ صغره عن الله بكل بساطة ودون أي تصنع، كما يتحدث الإنسان عن أي أمر مهم في حياته، فهكذا يهيئونه كي يكتشف في الوقت المناسب ما يمثله الله بالنسبة إليهم».
وهذا ما يوافقه العقل والحكمة ويبرز قيمته ديننا الحنيف، إذ إنه حتى في المسائل الدينية لا يجب أن نلقنها تلقينا للطفل وإنما أن ندرجها له حوارا يجعله يفهمها قبل أن يعتقدها إيمانًا.
الحوار لا يصغر من قيمة الآباء وإنما بالعكس يجعلهم أقرب إلى أولادهم، فهؤلاء أيضًا ليسوا مجرد شيء يملكه الآباء وإنما كائنات تمتلك عقلًا وحواسًّا ومشاعر، وعليه فإن التقليل من شأنهم ليس طريقًا للتربية السليمة، فنرى أن القرآن الكريم مثلًا، أكبر صغارا وجعلهم في مصاف الكبار ومن أمثال ذلك قوله تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا} (مريم:12)، فإذا كان الله يحاور نبينًّا وصبيًّا، أفنتعالى على ذلك نحن البشر؟
أليست هناك من حكمة في كون الله تعالى يخاطب بلغة الحوار عبدا هو الاحوج إليه والله الغني عنه؟!
الحوار هو ثقافة نتربى عليها ونربي عليها أولادنا، ففي مثل هذا السن الحديثة يتعلم الطفل الصواب من الخطأ بالحوار والمناقشة البعيدة عن العناد وفرض الرأي، وهنا يتبين لنا عسر أن يتعلم الإنسان في كبره ما لم يتعلمه من قيم في صغره، فمن شب على شيء شاب عليه، ولذلك وجب على الآباء أن يصنعوا ثقافة حوار بينهم وبين أولادهم، فيستطيعون بذلك ان يخلقوا جيلًا سويًا ومستقيمًا ويتمكنون من كسب ثقتهم فيستشيرونهم دون اللجوء إلى غيرهم، وهنا أيضًا يمكننا أن نسرد مثل نبي الله يعقوب \ في حواره مع ابنه يوسف \ كما جاء في القرآن الكريم: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس، والقمر رأيتهم لي ساجدين. قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين}، وهنا نرى أن الحوار جعل الابن يستشير في رؤياه وأعقب ذلك نصيحة الأب.
ولا يمكننا أن نرسم معالم الحوار ونجعل له بداية ونهاية، بل يجب أن نكون على استعداد للإجابة عن أسئلة الطفل دائما وإن لم نكن نعرف الجواب فيمكننا اخبار الطفل بأننا نحتاج وقتا للتفكير ولا يمكننا اجابته الآن، لأننا لا نعلم كل شيء، وهذه طريقة تعلم الطفل محدودية الفكر لدى كل شخص ولا تجعله يخجل من نقص درايته بالأمور، وهكذا يحاول أن يسأل أكثر من دون أن يخجل من جهله لأنه يعرف مسبقًا أن كلا منا كبيرنا وصغيرنا له فجوات معرفية كثيرة ويحاول أن يملأها بالسؤال والحوار.
والحوار المفيد هو الحوار الصادق، فالطفل يعرف صحة ما نقوله من عدمه وفي هذا أيضًا قالت الأخصائية فرنسواز دولتو: «يجب أن نتحدث مع الطفل وليس فقط أن نتحدث للطفل، والأهم أن نكلمه بصدق، فلا يمكننا أن نكذب على اللاشعور لأنه يعرف دائمًا الحقيقة».
بالفعل فإن الطفل يتبين نبرة الحقيقة من خلال سماعه الصوت منذ الساعات الأولى! لأنه يميز بين ما ننطق به وما نشعر به لأن ما يصدق من حديثنا والذي يبدو من نبرة صوتنا ومن حركاتنا هو ما يؤسس لذلك الوفاق بين الحيوية البيولوجية والحيوية الاجتماعية.
وهذا ما أبانه الحديث الذي كان بين رسول الله [ وبين والدة عبدالله بن عامر رضي الله عنهما حينما دعت طفلها قائلة: «ها تعال أعطيك»، فقال لها [: «ما أردت أن تعطيه؟». قالت: «أعطيه تمرًا»، فقال لها: «أما أنك لو لم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة».
كما أن الحوار لا يتعلق بأمر معين، فقد يكون حوارًا لمجرد المزح ومشاطرة الطفل لعبه، وقد يكون حوارًا يستدرج فيه الابن لمعرفة أخباره الدراسية، ولكن دون أن يتحول ذلك إلى تحقيق بوليسي، والأهم أن يكون الحوار صادقًا ومبنيًا على الثقة والاحترام وليس على الخوف والتوتر، وهكذا يمكن للابن أن يبدأ بالحوار، ويمكن أن نشير هنا إلى أن أهم الحوارات وأكثرها إفادة هي التي يبدأ بها الطفل وليس الأب أو الأم، لأن الحوار الذي يأتي من فم طفل أو مراهق هو دليل احتياج للمعرفة وبالتالي فإن ما سيسمعه سيرسخ في ذهنه أكثر، كما أنه سيكون دليلًا آخر على رغبة الطفل في التقرب من والديه، وهنا يمكن أن يستغل الآباء الفرصة لخلق حوارات جديدة بينهم وبين أبنائهم دون أن تكون متداخلة بشكل يشتت تركيز الطفل.
وكما أن الحوار مهم لتربية سوية فيجب أن نحترم عدم رغبة الطفل في الحديث، فهو له كما ذكرنا شخصيته المستقلة وظروفه كأي إنسان، فحينما لا يرغب بإخبارنا عن سبب صمته فلا يجب أن نلح عليه ولكن من الأفضل أن ننتظر إلى أن يرغب هو في الحديث فيسعى إلينا طلبا لذلك، وإن لم يفعل نترك له حيزا من الزمن ونسأله ولكن دون اتباع أسلوب استفزازي أو الإصرار على حوار هو لا يرغب فيه، فاحترام الحالة النفسية للطفل ضرورية في مثل هذه الأحيان.
ابتعاد الأبناء عن مشورة الآباء والحديث إليهم هو رد فعل عادي جدًا أمام عدم اكتراث الوالدين لهم، مما يجعلهم يلجأون كما قلنا سابقا إلى طرف ثالث للحديث معه، وغالبًا ما يتقرب الأطفال من أصدقائهم أكثر وخاصة حينما يبدأ نزوحهم نحو سن العاشرة فما فوق، وليس غريبًا أن يكون هذا السن هو الذي حدد كعتبة نهائية لوجوب صلاة الطفل في الإسلام.
ومما يجهله الكثير من الآباء أن بعض الأطفال هم أكثر ذكاء من أعمارهم ويمكن الاستفادة من محاورتهم، وليس من مثل أبلغ على ذلك مما حصل حينما قام أبويزيد البسطامي لقيام الليل ورأى بجواره ابنه الصغير يرافقه فأشفق عليه من مشقة السهر وبرد الليل فقال له: «ارقد يا بني فأمامك ليل طويل» وأجابه الطفل قائلا: «فما بالك أنت قد قمت؟» فقال: «قد طلب مني أن أقوم»، قال الطفل الصغير، «لقد حفظت فيما انزل الله في كتابه: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك}، فمن هؤلاء الذين قاموا مع النبي [ ؟»، فأجابه الأب: «إنهم أصحابه»، فقال الطفل: «فلا تحرمني من شرف صحبتك في طاعة الله»، فقال أبوه في دهشة: «يا بني أنت طفل ولم تبلغ الحلم بعد» فقال الغلام: «يا أبت إني أرى أمي وهي توقد النار تبدأ بصغار قطع الحطب لتشعل كبارها فأخشى أن يبدأ الله بنا يوم القيامة قبل الرجال إن أهملنا في طاعته»، فانتفض أبوه من خشية الله وقال: «قم يا بني فأنت أولى بالله من أبيك».
فلو لم يكن أبويزيد البسطامي حليمًا في حواره مع ابنه لما علم بذكائه وما تعلم منه ما خفي عنه.
أما الحوار المفيد فهو المناقشة البناءة التي لا تتحول إلى صراع أو أوامر، ولا ينقص من قدر الطفل والنظر إليه على أنه لا يفقه شيئًا، بل يجب أن يترك له حيز من المسؤولية في النقاش والحوار واتخاذ القرار بعد هذا كله، حتى وإن كنا من نوجهه، فلنتركه هو يختار ما نريده أن يقوم به ونراه صائبًا، فهكذا سيتقبله أكثر وسيقوم به عن اقتناع، وليس هناك مانع من التودد للطفل بمناداته بأسماء يحبها كما كان يفعل الرسول ص وهو ينادي زينب باسم مصغر، فعن أنس ] قال: «كان رسول الله ص يلاعب زينب بنت أم سلمة وهو يقول: يازوينب، يا زوينب مرارًا».
يجب أن نعلم أن الأطفال ليسوا عبيدًا ولا خدما نملكهم، وإنما هم مستقبل أمة بأكملها، فحينما نحاورهم علينا أن نفهم أننا نحاور حاضرًا سوف ينمو ليصبح مستقبلًا.