تعايش الأديان.. بين “أم جوزيف” و”الخال بطرس”

تعايش الأديان.. بين “أم جوزيف” و”الخال بطرس”

أحمد بن صلاح شبير - يقظة فكر

قراءة فكرية للفن والأعمال الفنية

حين يُذكر الفن، يُذكر الجمال، فالفن بتعريفه (الذهبي) هو التعبير عن الحياة بشكل جميل، فالذي يتغنّى بالجمال ويقدِّمه في أغنية له هو (فنان)، والرسّام الذي يسحر العيون والقلوب بجمال ريشته هو (فنانٌ) كذلك في مجاله، وهكذا في كل ميادين الحياة الجميلة حين نعبّر عنها بجمال حُقَّ لها أن تُسمَّى فنًّا. والفن من الأمور التي توقظ المعاني الإنسانية لدى البشر وتذكِّرهم برقيهم. وكلما ازداد المرء استشعارًا للفن زادت إنسانيته وزاد جماله الروحي.

وليست مهمة الفن أن يعظ “بل أن يوحي بمشاعر وانطباعات وأحاسيس وجماليات، لإشراك المُشاهد ككائن فاعل في الفضاء الفنِّي. ولذلك نجد أنَّ الكلمات المستخدَمة للتعبير عن التفاعل مع العمل الفنِّي هي: يحس، يشعر، إلخ”(*)، كون الفن يعمل على إبراز المشاركة الوجدانية والانسجام العاطفي بين الإنسان ومكونات حياته الإنسانية.

فالفنان الحقيقي تجده مفعمًا بالمشاعر الإنسانيَّة كالحب والتناغم مع الطبيعة بمعناها الأوسع والتغني بها والتفاعل معها تفاعلاً يسمو بإنسانيتنا. فتجد ذلك الفنان يجعل شعورا كـ(الحب) في مكانه الطبيعي في قمة الجمال والسمو، فتجد عنده الارتقاء بالحب، لا الوقوع فيه، فلا يتناغم ذلك الفنان الذي نرجوه – مثلاً – مع المقولة الرائجة (وقعت في الحب) بل تجده يصيِّرها إلى (ارتقيت بالحب)، وتجده يوقظ هذا المعنى السامي في نفوس من يسمعوا له إن كان فنه غناءً أو من يشاهدوه إن كان فنه تمثيلاً دراميًّا أو رسمًا وتصميمًا رائعًا، فيرتقي بنفسه ومجتمعه، وقبل ذلك يرتقي بالقيم النبيلة التي جُبل البشر عليها وكان من اللازم أن يرتقوا بحبها.

إنَّ أيّ نقاش للفنِّ اليوم لابد أن ينظر لما يتعرض له الفن من ابتذال نعاني من تشويهه لجمال الفن.

فكثير مما يسمى غناءً اليوم حوّل الفن الغنائي السماعي الجميل إلى مشاهدة بذيئة توغل في إلغاء شعورنا بالجمال، وبالتالي تسهم في إلغاء إنسانيتنا ونتحول بذلك – نحن معشر البشر – إلى ذئاب بشرية، ويصير الواحد منا إنسانًا بلا إنسانية، ونصبح حيوانات اقتصادية أو استهلاكية دعائية، أو نكون حيوانات بشعة كما تعبر عن ذلك صراحة بعض الفلسفات والنظريات المادية لدى البعض – بعيدًا عن التمظهر المثالي – ممن يعتبرهم الغرب وجمع من أفراد الشرق فلاسفة ومنظرين حضاريين، وعلى مقولاتهم بُني جزء كبير من حضارة غربية نعيشها اليوم، مما يجعلنا – وبقوة – نشكك في هكذا حضارة، ومرامي استغفالها للقيم الإنسانية الجمالية. فتركيز (محاولة التحضر) التي نعيشها اليوم على ثورة صناعية مادية في نشأتها وعولمتها، يضعها أمام سُؤالات هامة عن التزامها الإنساني في أفكارها خصوصًا عندما نقرأ لروادها مقولات (حيوانية) عن الحياة الإنسانية بعمقها.

من حقنا أن نتساءل في وقتٍ نرى بوضوح انتقال مجتمعات تلك الحضارة من استبداد الكنيسة الذي غيّب المادة وشوّه الروح إلى استبداد المادة الذي غيّب الروح و شوّه المادة.

وهذا يضعنا جميعًا – كإنس – أمام سؤالٍ أكبر وأعمق وهو: “هل من الممكن أن تستمر محاولات للتحضر كهذه – إن لم تراجع نفسها – لتقود زمام الحضارة الحقيقية للمجتمع الإنساني؟ وما الخيارات الحضارية المتاحة في حال الفشل واستمرار التراجع في القيم الإنسانية – ومنها الفن –؟”

اعذروني على توغُّلي في خواطر تتلمّس شيئًا من واقعنا المعاصر، وتبتعد قليلاً عن موضوع المقالة. لكن الواقع يا أحبة يجبر أقلامنا على أن تنتقد ما تراه مشوهًا، لتقول كلمة تقترب فيها من مستوى صفاء روح الله فينا.

نعود إلى موضوعنا الأساسي، فما الذي ستستهدفه القراءة الفكرية؟ وما هو (النموذج الفني) – بكافة عناصره – الذي سيدور حوله النقاش؟

بعد متابعة لبعض الأعمال الفنية – إن صحَّت نسبة الفن إلى جَمْعٍ منها – التي تُعرَض في بعض الوسائل الإعلامية الرائجة، شدّ انتباهي جزآن من عمليْن تمثيلييْن يناقشان قضية واحدة. ومن المناسب أنْ أقول أنّ المقال لن يناقش أمورًا فنية بحتة، كالإخراج والتصوير، ولكنه سيناقش الفكرة المطروحة من قبل القائمين على العمليْن في جزئيْهما، ومدى نضوجها وتلمسها للحقيقة الفكرية في القضية.

وهذه المناقشة الفكريَّة لهذا النموذج الفني قابلة للنقد، بل وقابلة للنقض أيضًا، فهي قراءة فكرية تحوي نقدًا بعيدًا عن تشنّجات فكرية في مواجهة أي من الأعمال المعروضة، فهو نقد أريحيّ لأبعد الحدود، نتمنى أن يجد أريحيَّة مقابِلة له، ليحصل الإصلاح الفني الفكري المرجو، فيتحقق بذلك الغرض الأساسي من كتابة المقالة.

فالقضيَّة التي ستُنَاقَش هي (العلاقة مع الآخر في ظل التعددية الدينية)، وستكون الأجزاء من الأعمال الفنية الموضوعة على طاولة النقاش – متمثلة في شخصياتها داخل العمل الفني – هي: (أم جوزيف) من العمل الدرامي (باب الحارة)، و(الخال بطرس) من مسلسل (طاش ما طاش) الكوميدي – الذي تجده تراجيديًّا أيضًا في بعض حلقاته –.

أم جوزيف

إنَّ المتأمل لشخصية (أم جوزيف) في كيفية ظهورها في العمل – بدين مختلف عن البقية – لا يجعل المشاهد يلحظ هذا البروز المفاجئ – اللهم إلا في بعض المستلزمات الدينية (القولية) في غالبها – في الدراما المقدّمة، بل يجعله يرى المشهد متكاملاً بعد ظهور شخصيتها، فتجد جميع الممثلين يتكاملون ليشكلوا لوحة إنسانية تبرز تعايشًا جميلاً، وتكاتفًا في الكفاح التحرري، ولا تكاد تجد حديثًا عن الديانات والعقائد، وتجد نقاشًا في ثنايا ذلك النموذج لقضية (العلاقة مع الآخر) استطاع أن يوصل فكرة عميقة للمشاهد بجمال الحياة الإنسانية واستيعابها لكل المكونات داخلها.

أهم ما تجده في جزئية (أم جوزيف) في (باب الحارة) هو التفريق المهم بين الانتماء العقدي للبشر و بين الانتماء البشري لهم (المُشترَك الإنساني)، والاشتغال على الثاني في الفن من منطلق إنسانية هذه الركيزة الحضارية (الفن). فَأَنْ أكون مسلمًا وفي مجتمعي يوجد النصراني، لا يعني هذا أبدًا أنْ يتوقف كل واحد منا عن دوره الإنساني في إقامة الحياة وإعمار الأرض، وقيامنا بهذا الدور يضعنا جميعًا أمام مسؤولية التعارف والمشاركة في الحياة الإنسانية وداخل حياة المُواطَنة المشروعة.

فوجدْنا (أم جوزيف) تقاوم و تدافع عن رجال و نساء الحارة (الوطن)، وتجد رجال حارات الشام ونساءها يدافعون عن (أم جوزيف) المواطِنة الصالحة. وإن دلَّ هذا الأمر فهو يدل على مشروع إنساني محترم يُجسَّد في عمل فني يعمل على تعميق المشترك الإنساني، ولا يقوم بتكريس التفاوت و الخلاف داخل الحياة الإنسانية.

وأخْذ هذه القضية حيزًّا جيّدًا من العمل أسْهَم في رفع كفاءة المناقشة الفنية للقضية، وطرح قضيتنا ضمن قضية يُجمع عليها الكل الإنساني (الكفاح من أجل الحرية) ومشاركة الجميع في يوميات الحارة وما يُجسَّد فيها من قيم إنسانية كالحب والحياة والموت والشرف والأمانة والبطولة أظهر المعاني التي أوردناها بشكل جميل.

الخال بطرس

لننتقل إلى (الخال بطرس)، ونتعمّق قليلا في دوره في مسلسل (طاش). في البداية تجد نوعا من (تكوين العلاقات الإنسانية) يصوّر ذلك الأب المسلم يتزوج امرأة مسيحية من بلد آخر، أعجبتني هذه الفكرة – كفكرة مجردة – ولكن تطبيقها في العمل جاء مشوَّها بعض الشيء، كون ورود هذه الفكرة الإنسانية في تلك الحلقة جاء خاضِعا لفكرة الحلقة لا مُخضِعًا لها، وهنا برز خلل بنائي في فكرة الحلقة وطريقة توصيلها لقضية (العلاقة مع الآخر). فتجد الافتراق وخطف الأولاد من أمهم وتجاهل حقها الشرعي – الذي يوصي به الإسلام – في أن يكونوا تحت نظرها الحاني يشوّه بشدة ذلك النقاش الإنساني في الحلقة، ويشوه تبعًا لذلك العلاقات الإنسانية السامية، والأهم أنَّه لم يتم الانتقاد لهذا الفعل الخاطئ بل تم عرضه كما هو بدون مناقشة له – من وجهة نظر ديانة الأب (الإسلام) خاصة – حيث صُوِّر للمشاهد على أنه فعل طبيعي!.

إنَّ من النقاط المهمة التي أسهمت في بروز خلل في عرض القضية عند (طاش) هو أنَّ عرض هذه القضية كان كوميديًّا في كثير من جوانبه مما كوّن وجهة نظر سطحية بعض الشيء لهذه القضية الهامة. ولوحظ في الحلقة أيضًا بعض الإقحامات الكوميدية ليست في سياقها المفروض، ربما كان ذلك لتلطيف الأجواء أو لإبراز جو كوميدي متأصل في (طاش) بأي ثمن!.

إنَّ قضيَّة حساسة كهذه كان من اللازم على (طاش) عملها في إطار جاد – قليل الوجود في (طاش) – يغلب على أي إطار آخر ولو كان كوميديا. ففي نفس المسلسل نجد أن (طاش) ساق حلقات له في مواسم سابقة في إطار من الدراما الجادة بشكلٍ كامل، ولم تكن تلك القضايا المناقَشَة في (الدراما الجادة) بأهمية قضية (العلاقة مع الآخر) وضرورة وجودها. فبرز – باعتقادي – التسطيح وعدم النضوج الفكري أثناء مناقشة القضية بقالب فني.

ومن الأمور الملفتة للنظر أيضًا وجود (تكامل إنساني) بين الجميع بمختلف أديانهم في الحلقة التي ناقشت القضية، لكنه كان كما عنصر (تكوين العلاقات الإنسانية) ناقصا عند تجسيده.

فبرز التكامل بشكل جميل حين تصرّ عائلة الزوجة المسيحية على استضافة أبنائهم المسلمين في لمحة إنسانية معبرة، لكن الخلل في التكامل برز عندما ظهر للمشاهد نقاش عقدي للقضية بُيِّن من خلاله وجهة نظر أظهرت النموذج الجاهل للمسلم، العاقل المتنوِّر للنصراني، هذه نظرة باعتقادي لا تستوعب التكامل الإنساني المفترض.

هذا الخلل أوْقع أهل (طاش) في أمريْن أو (خَطيئتيْن) بحق الفن. الأمر الأول، وهو الأهم – من وجهة نظري – في تصوير القضية.

بين (أم جوزيف) و(الخال بطرس)

فإنْ قلنا أنَّ العمل الأول تجده يُفرّق بين الانتماءيْن العقدي والبشري ويركز على المشترك الإنساني في نقاشه للقضية، تجد الثاني يخلط بين الانتماءيْن خلطا ينم عن خلل فكري معين في صياغة رسالة الحلقة و فكرتها. وكان من نتائج هذا الخلْط أن ظهر لدينا خلل في فهم الحياة الإنسانية لا يعترف بعنصر الاختلاف في الدين وكيفية الإيمان بين البشر وأنه اختلاف طبيعي إنساني. ونجد أيضا اشتغال جزئي بالانتماء العقدي يبرز تشويها في تقديم الفن كأنموذج إنساني جميل.

وبناء على الخلل (الانتمائي) السابق برز لنا الأمر الثاني الذي شكَّل (الخطيئة) الثانية، وهي توظيف الفن في إبراز رأي معين دون آخر في قضية من القضايا. هذا التوظيف الذي يُؤدلج الفن، إذا اعتُبِرت الأدلجة أمرًا لا ينبغي إقحام الفن بإنسانيته فيه، نتج عنه إساءة للفن ورسالته، متجاهلين بذلك المشترك الإنساني الذي من المفترض أن يتبنّاه الفن، مكرّسين بشكل غير مباشر للخلاف و التفاوت.

ومن المناسب هنا أنْ نشير أنّ كثيرا من الأعمال الفنية – بمختلف أنواعها – أضحت في الآونة الأخيرة لا تقدم مادة فنية معتبرة، بل ويتم توظيف كثير من القضايا في سبيل إخراج المادة المُقدَّمة بأي طريقة كانت!.

ويظهر تبعا لذلك خلل فكري علمي واضح عند نقاش قضية من القضايا. خلل نتج عن فن أصبح يُصنع لأجل الفن، ليس هذا فحسب، وبل وعلى حساب الفكرة المُقدَّمة، وعلى حساب احترام فكر وعقل المشاهد الكريم.

لذلك فهذه الأعمال الفنية – إن أرادت البقاء والتميز – عليها أن ترفع من مستوى أدائها، وأن تراجع حلقاتها فكريًّا بواسطة مفكرين محترمين قبل أن تقوم بعرضها كمادة وروح للمشاهد.

فليس العمل الذي نرجوه عملاً يهدف لكسب مادي دعائي فقط يعتمد على إثارة مُشوَّهة، بل نريد عملاً محترمًا يليق بمصطلح الفن ويمنح المتابع متعة فنية و فكريَّة.

بعد هذا كله من واجبنا ومن حق النموذجيْن علينا أن نحيّيهما لمناقشة القضية وإن كانت تحية منقوصة لـ (الخال بطرس) ، وتحية تقدير لـ (أم جوزيف) . عسى أن نكون قد أظهرنا شيئا من المناقشة الفكرية وساهمنا في نقد بنّاء يقوِّم الأمر ولا يُنهيه. متمنين أن نرى نماذج فنية تناقش هذه القضية الإنسانية وغيرها من القضايا بشكل راقٍ يقدم حقائق فكرية مُعتبرة. آملين أن يقدم هذا الرقي الفني المأمول حقيقة الفن الذي يعبر عن رهافة الحس ورقي المشاعر وروعة المدارك.

* ملحق متأخّر بالمقالة:

حين انتهيت من كتابة هذه المقالة وهَمْمت بإرسالها إلى الموقع الجميل (يقظة فكر)، فاجأتنا الأنباء في مصر العزيزة بإجرام بحق الإنسانية اُرتُكِبَ بحق الشعب المصري ككل، وبحق الأمة العربية والإسلامية الجامِعة للكل الوطني والإنساني تحت مظلتها الشامخة. فاستهداف أي إنسان حر وشريف وارتكاب الجرائم بحق أي مكان لأي ديانة لا يمكن لأي حر أن يرضاه، أو يرضى التهاون في ردعه من قبل المجتمع الواعي و الأمة الوطنية المتماسكة. وربما هكذا حوادث مؤلمة تزيد من أهمية مناقشة قضيتنا (تعايش الأديان و التعددية الدينية) – في الفن خاصة – وغيرها من قضايانا الإنسانيَّة نقاشًا واعيًا يعمِّق المشترك الإنساني داخل الحياة الإنسانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) الفن باعتباره دراما إنسانية، لـ”هفال يوسف”.

المصدر: http://feker.net/ar/2011/01/04/435-3/

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك