كيفية دعوة أهل الكتاب إلى اللَّه تعالى
كيفية دعوة أهل الكتاب إلى اللَّه تعالى
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى اللَّه تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
ههه
المقدمـة
إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في ((كيفية دعوة أهل الكتاب إلى اللَّه تعالى)) بيّنت فيها الطرق المُثلَى في كيفية دعوتهم بالأساليب والوسائل المناسبة على حسب ما تقتضيه الحكمة في دعوته إلى اللَّه تعالى.
واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
حرر ضحى يوم الخميس 25/2/1425ه
تمهيد:
إن من حكمة القول في دعوة أهل الكتاب إلى اللَّه – تعالى – أن يُجَادَلُوا بالتي هي أحسن، بحسن خلق ولُطْفٍ ولين كلام، ودعوة إلى الحق، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية، ورد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل لابد أن يكون القصد بيان الحق، وهداية الخلق، كما قال ( )، ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ( )، وقال : ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ ( ).
ونظير ذلك من الدعوة بالقول الحكيم قوله لموسى وهارون: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ ( ).
ومن ذلك القول اللين كقوله تعالى لموسى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾( ).
وقد كان النبي × يستخدم القول الحكيم في دعوته إلى اللَّه ومن ذلك ما روته عائشة ’ قالت: دخل رهط من اليهود على رسول اللَّه × فقالوا: السَّامُ( ) عليك. قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السَّامُ واللعنة! قالت: فقال رسول اللَّه ×: ((مهلاً يا عائشة، إن اللَّه يحب الرّفق في الأمر كله)). فقلت: يا رسول اللَّه! أولم تسمع ما قالوا: قال رسول اللَّه ×: ((قد قلت: وعليكم))( ).
وكان × يستخدم ذلك حتى في رسائله، ففي كتابه إلى هرقل:
((ههه، من محمد رسول اللَّه، إلى هرقل عظيم الروم.
سلام على من اتبع الهدى. أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك اللَّه أجرك مرتين، فإن توليتَ فإن عليك إثم الأريسيين( )، و﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ﴾ إلى قوله: ﴿اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ ( ).
وعلى أساس دعوة أهل الكتاب بالجدال بالتي هي أحسن القول الحكيم، فسأتحدث عن ذلك بإذن اللَّه – تعالى – في المباحث الآتية:
المبحث الأول: حكمة القول مع اليهود.
المبحث الثاني: حكمة القول مع النصارى.
المبحث الثالث: البراهين على إثبات الرسالة المحمدية وعمومها.
المبحث الأول: حكمة القول مع اليهود
من حكمة القول مع اليهود في دعوتهم إلى اللَّه أن يسلك معهم الداعية المسلم المسالك الآتية:
المسلك الأول: الأدلة العقلية والنقلية على نسخ الإسلام لجميع الشرائع.
المسلك الثاني: الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة.
المسلك الثالث: إثبات اعتراف المنصفين من علماء اليهود.
المسلك الرابع: الأدلة على ثبات رسالة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
المسلك الأول: الأدلة العقلية والنقلية على نسخ( ) الإسلام لجميع الشرائع:
دعوة الرسل – عليهم الصلاة والسلام – إلى توحيد اللَّه تعالى دعوة واحدة، فقد اتفقوا جميعاً على دعوة الناس إلى إفراد اللَّه بالعبادة، لا إله إلا هو، ولا ربّ سواهُ، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ ( )، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ﴾ ( ).
فأصل دين الأنبياء صلى اللَّه عليهم وسلم واحد، وهو التوحيد، وإن اختلفت فروع الشرائع( )، ولهذا قال ×: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات( )، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، [وليس بيني وبين عيسى نبي]))( ).
ثم ختم اللَّه – تعالى – الشرائع كلها بشريعة محمد ×، فأرسله اللَّه إلى جميع الثقلين: من إنس وجن، ونسخت شريعته جميع الشرائع السابقة، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ( ).
وقال ×: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي أو نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار))( ).
واللَّه – تعالى – حكيم عليم ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾( )، ولا غرابة في أن يرفع شرع بآخر مراعاة لمصلحة العباد عن علم سابق من علام الغيوب تبارك وتعالى، ولكن اليهود والنصارى( ) أنكروا نسخ الشريعة الإسلامية لجميع الشرائع السابقة( )، فيكون الرد عليهم بالقول الحكيم كالآتي:
أولاً: الأدلة العقلية:
1 – ليس هنالك محظور في النسخ عقلاً، وكل ما لم يترتب عليه محظور كان جائزاً عقلاً، فالنسخ جائز عقلاً.
2 – اللَّه – تعالى – يأمر بالشيء على قدر ما تقتضيه المصلحة، فقد يأمر بالشيء في وقت، وينهى عنه في وقت آخر؛ لأنه – سبحانه – أعلم بمصالح عباده، والطبيب الحكيم يأمر المريض بشرب الدواء، أو استعمال دواء خاص في بعض الأزمنة، وينهاه عنه في زمن آخر، بسبب اختلاف مصلحته عند اختلاف مزاجه، والملك الذي يُشفق على رعيته ينقلهم في بعض الأزمنة إلى نوع من السياسة غير النوع الأول، لما في ذلك من المصالح، وقد يسوس الوالد الحكيم ولده في وقت باللطف، وفي وقت آخر بالتأديب، على قدر ما يرى في ذلك من المصلحة( )، واللَّه ﴿... وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ( )، وهو سبحانه لا يفعل شيئاً إلا لحكمة بالغة، فهو يُحيي ثم يُميت ثم يُحيي، وينقل الدولة من قوم أعزّة إلى قوم أذلّة، ومن قوم أذلة إلى أعزة، ويُعطي من شاء ما شاء، ويمنع من شاء( ) ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾( ).
3 – يلزم من يقول بوقوع النسخ سمعاً وجوازه عقلاً أنهم ما داموا يجوزون أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته، وقد وقع ذلك سمعاً فليجوزوا نسخ الشريعة الإسلامية للأديان السابقة( ).
ثانياً: الأدلة النقلية السمعية، وهي نوعان:
النوع الأول: ما تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى الذين لم يعترفوا برسالة محمد ×.
النوع الثاني: ما تقوم به الحجة على من آمن برسالة محمد ×، ولكنهم قالوا: إنها خاصة بالعرب( ).
النوع الأول: تقوم الحجة على من أنكروا نبوة محمد × مطلقاً بالأدلة الواردة في التوراة والإنجيل، والداعية المسلم إذ يُورد الأدلة من كتبهم لا يعتقد أن هذه النصوص كما أُنزلت، بل يحتمل أن تكون مما وقع عليه التحريف والتغيير؛ فإن اليهود والنصارى قد غيَّروا وبدَّلوا كثيراً من كتبهم، ولكن المسلم يقيم الحجة عليهم بما بين أيديهم من التوراة والإنجيل( )، لا لثبوتها ولكن لإلزامهم بالتسليم، أو يعترفوا بالتحريف، ومن ذلك ما يلي:
1 – جاء في التوراة: إن اللَّه – تعالى – أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه، وورد أنه كان يولد له في كل بطن من البطون ذكر وأنثى، فكان يزوج توأمة هذا للآخر، ويزوج توأمة الآخر لهذا، إقامة لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب، ثم حرَّم اللَّه ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى( ).
2 – جاء في السفر الأول من التوراة: إن اللَّه – تعالى – قال لنوح عند خروجه من السفينة: ((إني جعلت كل دابة مأكلاً لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم فلا تأكلوه))، ثم اعترفوا بعد ذلك بأن اللَّه حرَّم كثيراً على أصحاب الشرائع، من ذلك الخنزير في شريعة موسى، وهذا عين النسخ( ).
3 – أمر اللَّه إبراهيم × بذبح ولده، ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل به، وقد أقرّ منكرو النسخ بذلك( ).
4 – الجمع بين الأختين كان مباحاً في شريعة يعقوب ×، ثم حُرِّم في شريعة موسى × ( ).
5 – أمر اللَّه – تعالى – من عَبَدَ العجلَ من بني إسرائيل أن يقتتلوا، ثم أمرهم برفع السيف عنهم( ).
وغير ذلك كثير.
النوع الثاني: تقوم الحجة به على من آمن بنبوة محمد × واعترف بها؛ ولكنه جعلها خاصة بالعرب دون غيرهم، فهؤلاء متى سلّموا واعترفوا برسالته × وأنه صادقٌ فيما بلغه عن اللَّه من الكتاب والسنة وجب عليهم الإيمان والتصديق بكل ما ثبت عنه، وما جاء به من عموم الرسالة، والنسخ الثابت بالكتاب والسنة( )، ومن هذا النوع ما يأتي:
1 – قال تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ ( ).
2 – وقال تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ( ).
3 – وقال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ ( ).
4 – وقال سبحانه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾( ).
5 – وقال : ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ( ).
6 – وقال جل وعلا: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ ( ).
7 – إجماع سلف الأمة على أن النسخ وقع في الشريعة الإسلامية، كما أن النسخ وقع بها لجميع الشرائع السابقة( ).
وبهذه الأدلة العقلية والنقلية السمعية – التي دلت على جواز النسخ عقلاً ووقوعه( ) نقلاً وسمعاً – سقطت أقوال منكري النسخ وأقوال من أنكر عموم رسالة النبي × ( )، وللَّه الحمد والمنة.
المسلك الثاني:الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة:
من حكمة القول في دعوة اليهود إلى اللَّه أن يبيَّن لهم بالجدال بالتي هي أحسن أن الكتب التي بأيديهم قد دخلها التحريف والتبديل والتغيير( ).
واليهود والنصارى يُقرّون أن التوراة كانت طول مملكة بني إسرائيل عند الكاهن الأكبر الهاروني وحده، وتقرّ اليهود أن سبعين كاهناً اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشرة حرفاً من التوراة، وذلك بعد المسيح × في عصر القياصرة الذين كانوا تحت قهرهم، ومن رضي بتبديل موضع واحد من كتاب اللَّه فلا يؤمن من تحريف غيره.
واليهود تقر أيضاً أن السامرة حرفوا مواضع التوراة، وبدَّلوها تبديلاً ظاهراً، وزادوا ونقصُوا والسامرة تدَّعي على اليهود بأن التوراة التي بأيديهم محرّفة مبدّلة( ).
والذي يحكم بين الجميع هو كلام اللَّه المنزل على محمد ×، المهيمن على ما سبقه من الكتب المصدِّق لها، فقد سجل التحريف وأثبته على أهل الكتاب، ونسب إليهم أنواعاً من التحريف للتوراة، كالآتي:
النوع الأول: إلباس الحق بالباطل:
كان بنو إسرائيل يخلطون الحق بالباطل، بحيث لا يتميز الحق من الباطل، وقد سجل القرآن الكريم هذا الجرم عليهم، قال سبحانه: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ الآية( )، وقال سبحانه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾ الآية( ).
ومن أبلغ الصور وأقبحها في إلباس الحق ادعاء الكهنة والأحبار في التوراة التي بأيديهم أن هارون × هو الذي جمع الذهب من بني إسرائيل واشترك معهم في صناعة العجل الذهبي، ووافقهم على عبادته من دون اللَّه – تعالى – وفي الوقت نفسه يبرئون السامري.
فهارون × الذي تحمل المشاق في سبيل إقرار فرعون بالتوحيد جعلوه داعية إلى الشرك والكفر، ولكن القرآن الكريم كان لهذه الدعوى بالمرصاد، فكذبهم، وبين حقيقة الأمر( )، قال تعالى: ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى... ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى... ﴾ الآيات( )، فهذا هو الصدق حقّاً، إنما عمل لهم العجل السامري، أما هارون فنهاهم ولكنهم عصوا وكادوا يقتلونه( ).
النوع الثاني: كتمان الحق:
لاشك أن اللَّه حق، ولا يقول إلا حقّاً، والتوراة التي أنزلت على موسى كلها حق؛ لأنها كلام اللَّه – تعالى – ولكن بني إسرائيل كانوا يكتمون الحق، قاصدين بذلك إخضاع كتاب اللَّه لأهوائهم وشهواتهم، فالآيات التي يرون فيها منفعة لهم عاجلة أو تكون في جانب حجتهم يقرونها، أما الآيات التي يرون أن فيها دليلاً عليهم فيكتمونها، ولهذا سجل اللَّه عليهم هذا الكتم في كتابه، فقال سبحانه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ( ).
ومن أعظم ما كتمه أهل الكتاب هو ما وجدوه في كتبهم من صفات محمد ×، واختيار اللَّه له رسولاً إلى الناس أجمعين، وقد كانوا يعرفونه في كتبهم كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم إذا سُئِلُوا عن ذلك كتموه( )، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ( )، ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ( ).
وقد بيَّن صفاته × الكاملة في التوراة والإنجيل، فقال : ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ ( ).
ومع هذه الأوصاف العظيمة التي كانوا يعرفونها مكتوبة عندهم، أنكروا نبوته ×، وكتموا ما علموه( ).
النوع الثالث: إخفاء الحق:
الإخفاء قريب من الكتمان( )، وقد كان أهل الكتاب يخفون من أحكام التوراة الشيء الكثير، قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ ( ).
ومن الأحكام التي أخفاها اليهود حكم رجم الزاني المحصن، فقد جاءوا إلى النبي × برجل وامرأة قد زنيا، فقال لهم: ((كيف تفعلون بمن زنى منكم؟)). قالوا: نُحَمِّمهما ونضربهما. فقال: ((لا تجدون في التوراة الرجم؟)) فقالوا: لا نجد فيها شيئاً. فقال لهم عبد اللَّه بن سلام: كذبتم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فوضع مدراسها الذي يدرسها منكم كفه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم، فنزع يده( ) عن آية الرجم، فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما رسول اللَّه × فرجما... الحديث( ).
ولهذا قال سبحانه: ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ ( )، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ ( ).
فأنكر سبحانه على أهل الكتاب المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم: التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة اللَّه فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد × تولوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم( ).
النوع الرابع: ليُّ اللسان:
من أنواع تحريف اليهود للتوراة: ليُّ اللسان، فهم يلوون ألسنتهم ويعطفونها بالتحريف، ليلبسوا على السامع اللفظ المنزل بغيره، ويفلتون ألسنتهم حين يقرءون كلام اللَّه – تعالى – لإمالته عما أنزله اللَّه عليه إلى اللفظ الذي يريدونه( )، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ( ).
ومن التحريف بليِّ اللسان ما كان يفعله اليهود مع رسول اللَّه × بقولهم: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ ويقصدون معنى: اسمع لا سمعت، أي: يدعون على النبي × وقد كان المسلمون يقولون للنبي × راعنا، من المراعاة، والمعنى فَرِّغ سمعك لكل منا، فلما سمع اليهود هذه اللفظة اغتنموا الفرصة في التحريف، لأن معناها عندهم السبّ والطعن بمعنى: يا أحمق( )، ولكن اللَّه كشف سترهم، فقال: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ ( ).
ونهى اللَّه المؤمنين عن صفات اليهود فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ( ).
النوع الخامس: تحريف الكلام عن مواضعه:
أثبت اللَّه على أهل الكتاب هذا النوع من التحريف، فقال : ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ... ﴾ ( )، ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ... ﴾ ( )، وقال : ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ... ﴾ ( ).
وهذا النوع من التحريف له أربع صور كالآتي:
1 – تحريف التبديل: وهو وضع كلمة مكان كلمة، أو جملة مكان جملة.
2 – تحريف بالزيادة: ويكون بزيادة كلمة أو جملة.
3 – تحريف بالنقص: وهو إسقاط كلمة، أو جملة من الكلام المنزل على موسى ×.
4 – تحريف المعنى: تبقى الكلمة أو الجملة كما هي، ولكنهم يجعلونها محتملة لمعنيين، ثم يختارون المعنى الذي يتّفق مع أهوائهم وأغراضهم( ).
وهذه الصور لها أمثلة كثيرة من التوراة لا يتسع المقام لذكرها( ).
وقد بيَّن اللَّه أن أهل الكتاب يعلمون أن ما جاء به محمد × هو الحق، لما يجدونه في كتبهم من نعته × وأمته، وما شرفه اللَّه به من الشريعة الكاملة( )، قال سبحانه: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ ( )، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ( ).
ومن رحمة اللَّه – تعالى – بهم وكرمه أنه عندما ذكر ما فعلوه من العظائم دعاهم إلى التوبة، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً﴾ ( )، فلو آمنوا باللَّه وملائكته وجميع كتبه ورسله لكفَّر عنهم سيئاتهم وأدخلهم الجنة( )، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾( )، ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ( ).
المسلك الثالث: إثبات اعتراف المنصفين من علماء اليهود:
لاشك أن من حكمة القول مع أهل الكتاب في دعوتهم إلى اللَّه الاستشهاد عليهم بشهادة علماء أهل الكتاب المنصفين، الذين وفقهم اللَّه – تعالى – وقبلوا الحق، وبيّنوه ولم يكتموه، وهذا من باب قوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا﴾ ( ).
وأذكر على سبيل المثال من هؤلاء العلماء الذين يعترف اليهود بأنهم كانوا منهم فأقروا بالإسلام وأنه الدين الحق ما يلي:
1 – عبد اللَّه بن سلام رضي اللَّه عنه وأرضاه:
لو لم يسلم من اليهود في زمن النبي × إلا سيد اليهود على الإطلاق وابن سيدهم، وعالمهم وابن عالمهم، وخيرهم وابن خيرهم، باعترافهم وشهادتهم، لكان في مقابلة كل يهودي على وجه الأرض، فكيف وقد تابعه من الأحبار والرُّهبان من لا يُحصي عددهم إلا اللَّه( ).
وقد آمن هذا الرجل باللَّه وبرسوله ×، فعن أنس قال: بلغ عبد اللَّه بن سلام مقدم النبي × المدينة فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيٌّ، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال رسول اللَّه ×: ((خبَّرني بهنَّ آنفاً جبريلُ)) قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول اللَّه ×: ((أما أول أشرط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيت كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها))، [قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول اللَّه] قال: يا رسول اللَّه، إن اليهود قوم بُهْتٌ، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بَهَتُوني عندك، فادعهم [فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي]، [فأرسل نبي اللَّه × فأقبلوا]، فدخلوا عليه فقال لهم رسول اللَّه ×: ((يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا اللَّه، فواللَّه الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول اللَّه حقاً، وأني جئتكم بحق، فأسلِمُوا))، قالوا: ما نعلمه – قالوا للنبي ×، قالها ثلاث مراراً – فقال رسول اللَّه ×: ((فأي رجل فيكم عبد اللَّه بن سلام؟)) قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، وأخبرنا وابن أخبرنا، [خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا]، قال: ((أفرأيتم إن أسلم؟)) قالوا: أعاذه اللَّه من ذلك، حاشا للَّه ما كان ليسلم، قال: ((أفرأيتم إن أسلم؟)) قالوا: حاشا للَّه ما كان ليسلم، قال: ((أفرأيتم إن أسلم؟)) قالوا: حاشا للَّه ما كان ليسلم، قال: ((يا ابن سلام اخرج عليهم))، [فخرج عليهم عبد اللَّه فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً رسول اللَّه]، [معشر اليهود، اتقوا اللَّه، فواللَّه الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول اللَّه، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت]، [شرُّنا وابن شرِّنا، ووقعوا فيه]، [فأخرجهم رسولُ اللَّه ×]( ).
وعن عبد اللَّه بن سلام قال: لما قدم النبي × المدينة انجفل الناس قبله، وقيل قدم رسول اللَّه ×، قدم رسول اللَّه ×، قدم رسول اللَّه × ثلاثاً، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبيّنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: ((يا أيها الناس، أفشُوا السلام، وأطعِمُوا الطعامَ، وصِلُوا الأرحامَ، وصلُّوا بالليلِ والناسُ نيامٌ، تدخُلُوا الجنّةَ بسلام))( ).
وقد أثنى اللَّه على هذا العالم الرباني، فعن سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت النبي × يقول لأحد يمشي( ) على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد اللَّه بن سلام، قال: وفيه نزلت هذه الآية( ): ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ ( ).
2 - زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود÷:
قال : ما من علامات النبوة شيءٌ إلا وقد عرفتها في وجه رسول اللَّه × حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وقد اختبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت باللَّه ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً، وأشهدك أن شطر مالي – فإني أكثرها مالاً – صدقة على أمة محمد ×. قال عمر: أو على بعضهم، فإنك لا تسعهم. قلت: أو على بعضهم. فخرج عمر وزيد إلى رسول اللَّه ×، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وآمن به، وصدّقه، وبايعه، وشهد معه مشاهد كثيرة، ثم توفي في غزوة تبوك مُقبلاً غير مدبر( )، رضي اللَّه عنه ورحمه.
3 - من أسـلم عند الموت:
أتى رسول اللَّه × وأبو بكر وعمر على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها يُعزِّي بها نفسه على ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول اللَّه ×: ((أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي))؟ فقال برأسه هكذا، أي: لا. فقال ابنه: إي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه. فقال: ((أقيموا اليهودي عن أخيكم))، ثم وليَ كفنه، وحنطهُ، وصلى عليه × ( ).
هذه ثلاثة أمثلة لاعترافات أحبار اليهود بأن محمداً × حقّاً، وأن صفته موجودة في التوراة، ويعرفه اليهود كما يعرفون أبناءهم ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ ( ).
المسلك الرابع: الأدلة على إثبات رسالة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:
من حكمة القول مع اليهود في دعوتهم إلى اللَّه – تعالى – إثبات نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وذلك بما ظهر على يديهما من المعجزات الباهرات، والآيات البينات الظاهرة التي لا يقدر أحد أن يأتي بمثلها، كالآتي:
(أ) البراهين والبينات على صدق نبوة عيسى ابن مريم ×:
ثبتت نبوة عيسى × بما ظهر على يده من المعجزات الخارقة للعادات من: إحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم، وإبراء الأكمه، والأبرص، وخلق الطير من الطين بإذن اللَّه، والإخبار بالغيوب، وإنزال الطعام من السماء، وولادته من أم بغير أبٍ، وكلامه في المهد( )، وغير ذلك من المعجزات( ).
ومعجزات عيسى لم تكن دون معجزات موسى عليهما الصلاة والسلام، فكلا الرسولين اشتركا في المعجزات والآيات الظاهرة، فإن قيل: إن أحدهما قد تعلمها بحيلة، فالآخر يمكن أن يُقال ذلك في حقه، وقد أخبرا جميعاً أن اللَّه – تعالى – هو الذي أجرى ذلك على أيديهما، وأنه ليس من صنعهما، فتكذيب أحدهما وتصديق الآخر تفريق بين المتماثلين، وليس هناك دليل على أن موسى × تلقى المعجزات عن اللَّه – تعالى – إلا وهو يدلُّ على أن عيسى × تلقاها عن اللَّه – تعالى – فإن أمكن القدح في معجزات عيسى أمكن القدح في معجزات موسى، وإن كان ذلك باطلاً فهذا باطل أيضاً( )، ولا شك أنه لا يمكن القدح في شيء من ذلك أبداً.
( ب ) الحُججُ والبراهين على صدق نبوة محمد ×:
ظهر على يده × من الآيات والمعجزات الخارقة للعادات عند التحدي أكثر من سائر الأنبياء، والعهد بهذه المعجزات قريب، وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم، ونقلها ثابت بالتواتر قرناً بعد قرن، وأعظمها مُعجزة: القرآن، لم يتغير ولم يتبدل منه شيء، بل كأنه منزل الآن، وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذي أخبر به، كأنه يُشاهده عياناً، وقد عجز الأولون والآخرون على الإتيان بمثله ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ ( ).
ولا يمكن ليهودي أن يؤمن بنبوة موسى × إن لم يؤمن بنبوة محمد ×، ولا يمكن لنصراني أن يقر بنبوة المسيح × إلا بعد إقراره بنبوة محمد ×، لأن من كفر بنبوة نبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه ببعضهم دون بعض، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا، وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ ( ).
ولا ينفع أهل الكتاب شهادة المسلمين بنبوة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام؛ لأن المسلمين آمنوا بهما على يد محمد ×، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد × وبما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوتهما، ولا سيما وليس بأيدي أهل الكتاب عن أنبيائهم ما يُوجب الإيمان بهم؛ فلولا القرآن ومحمد × ما عرفنا شيئاً من آيات الأنبياء المتقدمين، فمحمد × وكتابه هو الذي قرر نبوة موسى وعيسى، لا اليهود والنصارى، بل نفس ظهوره ومجيئه تصديقاً لنبوتهما؛ فإنهما أخبرا بظهوره، وبشّرا بظهوره: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ ( )، فلما بعث كان بعثه تصديقاً لهما، قال تعالى عن محمد ×: ﴿بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ( ).
فمجيئه تصديق لهما من جهتين: من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به وشهادته بنبوتهم، ولو كان كاذباً لم يصدق من قبله، كما يفعل أعداء الأنبياء( ).
ومن أعظم الأدلة على صدقه × أنه قال لليهود لما بهتوه: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ( )، ولم يجسر أحد منهم على ذلك – مع اجتماعهم على تكذيبه وعداوته – لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك، فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم، وصدقه فيما يخبرهم به لسألوا اللَّه الموت لأي الفريقين أكذب، منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة( )، ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ ( ).
وغير ذلك من دلائل نبوته وصدقه( )×، التي سأذكرها – إن شاء اللَّه – في آخر مطلب من مطالب حكمة القول مع أهل الكتاب.
المبحث الثاني: حكمة القول مع النصارى
من حكمة القول مع النصارى في دعوتهم إلى اللَّه – تعالى – أن يسلك معهم الداعية المسلم المسالك الحكيمة الآتية:
المسلك الأول: إبطال عقيدة التثليث وإثبات الوحدانية للَّه تعالى.
المسلك الثاني: البراهين على إثبات بشرية عيسى وعبوديته للَّه تعالى.
المسلك الثالث: البراهين على إبطال قضية الصلب والقتل.
المسلك الرابع: البينات على إثبات وقوع النسخ والتحريف.
المسلك الخامس: إثبات اعتراف المنصفين من علماء النصارى.
المسلك الأول: إبطال عقيدة التثليث وإثبات الوحدانية للَّه تعالى:
المقصود بالتثليث عند النصارى ثلاثة أشياء: الأب، والابن، ورُوحُ القدس.
وقالوا: الأب هو الذات، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو الحياة( )، ويعبرون عن ذلك بأن اللَّه – تعالى عن كفرهم – ثلاثة أقانيم، والأقنوم في لغتهم هو الأصل( )، والثلاثة أسماء إله واحد( ) في زعمهم الباطل عقلاً وشرعاً.
والرّدُّ على عقيدة التثليث وإبطالها( )، ودعوة أصحابها إلى اللَّه بالقول الحكيم يتلخص في الأمور الآتية:
1 - التوحيد دين الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – وأتباعهم:
إن عقيدة التثليث لم تكن في أمةٍ من الأمم السابقة من عهد آدم عليه الصلاة والسلام، إلى رفع عيسى ×.
وعقيدة التوحيد هي دين الأنبياء وأتباعهم، كما أن كتب العهد القديم عند أهل الكتاب ناطقة بأن اللَّه واحد، أزليٌّ، أبديٌّ، حيٌّ لا يموت، قادر يفعل ما يشاء، ليس كمثله شيء، لا في الذات ولا في الصفات، وعبادة غير اللَّه حرام، وحرمتها مصرحة في مواضع شتى، وهذا الأمر لشهرته وكثرته في تلك الكتب غير محتاج إلى نقل الشواهد( ).
2 - النصارى تلقوا عقيدة التثليث عن أصحاب المجامع:
إن المصادر النصرانية الموثوق فيها لا تملك سوى الإقرار بأن دعوة عيسى × كانت توحيد اللَّه الخالص من الشرك، إلى بداية القرن الرابع الميلادي( )، وذلك أن اللَّه بعث عبده ورسوله عيسى ابن مريم إلى بني إسرائيل، فجدد لهم الدين، وصدق لما بين يديه من التوراة، وأحل لهم بعض الذي حُرّم عليهم، ودعاهم إلى عبادة اللَّه وحده، فعادوه وكذبوه، ورموه وأمه بالعظائم، وأرادوا قتله، فطهره اللَّه – تعالى – منهم، ورفعه إليه، ولم يصلوا إليه بسوء، وأقام اللَّه – تعالى – للمسيح أنصاراً دعوا إلى دينه وشريعته حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلاثمائة سنة، ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير، ولم يبق بأيدي النصارى منه إلا بقايا: كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحلت لهم بنصها، ثم استحلوا الخنزير، وأحلوا السبت، وعوضوا منه يوم الأحد، وتركوا الختان، والاغتسال من الجنابة، وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس فصلوا إلى المشرق، وعظموا الصليب وعبدوه، وعندما أخذ دين المسيح × في التغير والفساد اجتمعت النصارى عدة مجامع، ثم يفترقون على الاختلاف والتلاعن، ومن أهم هذه المجامع: مجمع نيقية عام 325م، فقد جمع الملك قسطنطين – باني القسطنطينية – ألفين وثمانية وأربعين أسقفاً (2048) من جميع بلدان العالم، وكانوا مختلفي الآراء والأديان، واتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً (318) على أن المسيح ابن اللَّه – تعالى عن كفرهم – وأنه مساوٍ له في الجوهر، وأنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس، وصار إنساناً، وحمل به، ثم ولد من مرين، وقُتِلَ وصُلِبَ، ودُفِنَ، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء مرة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، وقالوا: نؤمن بروح القدس، وأجبر الملك الناس على هذه العقيدة التي أسسها هؤلاء الأساقفة.
ثم عُقِدَ مجمع آخر عام 381م، وحضره مائة وخمسون أسقفاً (150)، وأجمعوا على أن روح القدس خالق غير مخلوق، وبهذا المجمع تم لهم التثليث، وقالوا: بأن الأب والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم، وفرض ملوك النصارى هذه العقيدة على الناس.
ثم عُقِدَ مجمع سنة 431م، وحضره نحو مائتي أسقف (200) وقرروا أن مريم ولدت إلهاً..!
واستمرت المجامع تُعقد بعد ذلك، وأشهرها المجامع العشرة التي عُقِدَت على مر العصور، وكلهم يُكفِّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، فدينهم الذي ابتدعوا قائم على اللعنة( ).
فثبت بهذا الاستعراض أن دين المسيح × هو التوحيد إلى نهاية القرن الثالث الميلادي، وأن المجامع النصرانية هي التي فرضت عقيدة التثليث، وألزم الملوك الناس بذلك بالسيف والعطاء( ).
فعُلِمَ قطعاً بأن عقيدة التثليث عقيدة وثنية مصدرها المجامع النصرانية، بدءاً بمجمع نقية سنة 325م، وهذا من أعظم ما يُردُّ به على النصارى، ولكن بالقول الحكيم، وبالرفق واللين، والجدال بالتي هي أحسن.
3 - بطلان كون الثلاثة إله واحد:
قال المثلثة: الأب، والابن، وروح القدس: الثلاثة أسماء إله واحد، ورب واحد، وخالق واحد، ومسمى واحد، لم يزل ولا يزال شيئاً حيّاً ناطقاً: أي الذات والنطق والحياة( )، ويعبرون عن ذلك بأن اللَّه – تعالى عن كفرهم – ثلاثة أقانيم، وحينئذ يرد عليهم بالقول الحكيم بالآتي:
أولاً: لم خصصتم الأقانيم الثلاثة؟ فإنه قد ثبت أنه: موجود، حي عليم، قادر، سميع، بصير، كريم، خالق، رازق...، فيلزمكم على قولكم هذا أن تُثبتوا أقنوماً رابعاً وهو القدرة، وخامساً وهو: السمع، وسادساً وهو: البصر، وسابعاً وهو: الكرم، وثامناً وهو: الخلق، وتاسعاً وهو: الكلام... وسائر الصفات الثابتة، فإن أسماء اللَّه – تعالى – وصفاته متعددة كثيرة، ومنها تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة( ).
فإذا كانت أسماء اللَّه كثيرة فالاقتصار على ثلاثة أسماء أو ثلاث صفات باطل مردود( ).
ثانياً: قولكم: الأبُ الذي هو ابتداء الاثنين، والابن النطق الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل: كلام باطل؛ لأن صفات الكمال لازمة لذات اللَّه – تعالى – أولاً وآخراً، فهو لم يزل ولا يزال حيّاً، عالماً، قادراً، فلم يَصِرْ حيّاً بعد أن لم يكن حيّاً، ولا عالماً بعد أن لم يكن عالماً!!
ثالثاً: قولكم في النطق: إنه الابن، وإنه مولود من اللَّه – تعالى -: إن أردتم به أنه صفة لازمة له، فكذلك الحياة صفة لازمة له، فيكون روح القدس أيضاً ابناً ثانياً، وإن أردتم أنه حصل منه بعد أن لم يكن لزم أن يكون عالماً بعد أن لم يكن، وهذا مع كونه باطلاً وكفراً فيلزم مثله في الحياة، وأنه صار حيّاً بعد أن لم يكن حيّاً، تعالى اللَّه وتقدس عن ذلك!!
رابعاً: إن تسمية حياة اللَّه: روح القدس، لم ينطق به شيء من كتب اللَّه المنزلة، فإطلاق روح القدس على حياة اللَّه من التبديل والتحريف للكلم عن مواضعه.
خامساً: إنكم تدعون أن المتجسد بالمسيح هو الكلمة، الذي هو العلم، وهذا إن أردتم به نفس الذات العالمة الناطقة كان المسيح هو الأب، وهو الابن، وهو روح القدس، وهذا عندكم وعند جميع الناس باطل.
سادساً: العلم صفة، والصفة لا تَخلُق ولا تَرزُقُ، والمسيح نفسه ليس هو صفة قائمة بغيرها باتفاق العقلاء، وأيضاً هو عند المثلثة خالق للسماوات والأرض، فامتنع أن يكون المتحد به صفة، فإن الإله المعبود هو الإله الحي العليم القدير، وليس هو نفس الحياة ولا نفس العلم والكلام، فلو قال قائل: يا حياة اللَّه، أو يا علم اللَّه، أو يا كلام اللَّه اغفر لي وارحمني... كان هذا باطلاً في صريح العقل، ولهذا لم يُجَوِّزْ أحد من أهل الأديان السماوية أن يقال للتوراة أو الإنجيل وغير ذلك من كلام اللَّه: اغفر لي وارحمني، وإنما يقال للإله المتكلم بهذا الكلام – وهو اللَّه وحده -: اغفر لي وارحمني.
والمسيح عند المثلِّثة هو الإله الخالق الذي يقال له: اغفر لنا وارحمنا، فلو كان هو نفس علم اللَّه وكلامه لم يجز أن يكون إلهاً معبوداً، فكيف إذا لم يكن هو نفس علم اللَّه وكلامه، بل هو مخلوق بكلامه حيث قال: (كن)، فكان، فتبين بذلك أن كلمات اللَّه كثيرة لا نهاية لها، ومعلوم أن المسيح ليس هو كلمات كثيرة، بل غايته أن يكون كلمة واحدة، إذ هو المخلوق بكلمة من كلمات اللَّه ( ).
سابعاً: مما لا يَشكُّ في صحته عاقل: أن عقيدة التثليث باطلة مردودة بصريح النقل وصحيح العقل، ومن المعلوم عند سائر أهل الملل: أن اللَّه موجود، حي، عليم، متكلم، قدير لا تختص صفاته بثلاثة، ولا يعبر عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك، وهو: لفظ الأب، والابن، وروح القدس، فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسروها به في لغة أحد من الأمم، ولا يوجد في كلام أحد من الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكروه من المعاني، بل ذلك مما ابتدعه النصارى، ولم يدل عليه شرع ولا عقل( ).
فتبين أن جميع كتب الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – تُبْطِل مذهب النصارى، فهم بين أمرين:
1 – الإيمان بكلام الأنبياء وبطلان دينهم (عقيدة التثليث).
2 - تصحيح دينهم وتكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام( ).
4 - إبطال عقيدة التثليث بما في كتب النصارى:
من الأدلة التي تُلزم أصحاب التثليث أن يبين لهم بالقول الحكيم ما في كتبهم التي يعترفون بها، فإن فيها ما يبطل قولهم وعقيدتهم في التثليث، ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي:
( أ ) جاء في إنجيل يُوحنَّا: إن المسيح × قال في دعائه: ((إن الحياة الدائمة إنما تجبُ للناس بأن يشهدوا أنك أنت اللَّه الواحد الحق، وأنك أرسلت اليسوع المسيح))( ).
وهذه حقيقة شهادة أن لا إله إلا اللَّه، ولا معبود بحقٍّ سواه.
( ب ) وقال: ((إن اللَّه ما أكل ولا يأكل، وما شرب ولا يشرب، ولم ينم ولا ينام، ولا ولد له ولا يلد ولا يولد، ولا رآه أحد ولا يراه أحد( ) إلا مات))( ).
وبهذا يظهر سر قوله تعالى: ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ﴾ ( ).
وغير ذلك من الأمثلة كثير لا يتسع المقام لذكرها( ).
5 - إبطال القرآن الكريم لعقيدة التثليث:
القرآن الكريم هو الأصل في تصحيح العقائد، وما سبق من القول الحكيم مع النصارى إنما هو مخاطبتهم على قدر عقولهم بالأدلة العقلية، وبالواقع من تاريخهم، وما جاء في كتبهم، مما يبطل عقيدة التثليث، ويُثبتُ أن عقيدة التوحيد هي دين الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام.
والقرآن الكريم – المحفوظ من اللَّه عن التبديل والتحريف – يتولى الرد على هذه القضية بأوجز عبارة وأوضحها، قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ( )، ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ( ).
وقال مبيناً حقيقة عيسى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ( ).
وأخبر اللَّه عن المسيح أنه لم يأمر الناس إلا بما أمره اللَّه به، فقال سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ( )، ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا* تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا* أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا* وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا* إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ ( )، ﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ( )، فهل بعد هذا القول بيان؟ وهل بعد هذه الحجج من حجج؟( ).
وأما قوله تعالى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ ( )، فقد بينها اللَّه تعالى أعظم بيان وأكمله وأبلغه.
( أ ) فالكلمة التي ألقاها اللَّه إلى مريم هي: (كن)، فكان عيسى بـ((كن))، وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان عيسى، فالكن من اللَّه قوله: (كن)، وليس الكن مخلوقاً( )، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ* قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ ( ).
ففي هذا الكلام وجوه تبين أنه مخلوق، وليس كما يقول النصارى، وذلك:
1 - قوله تعالى: ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾، وهي نكرة في سياق الإثبات يقتضي أنه كلمة من كلمات اللَّه، وليس هو كلامه كله، كما يقول النصارى.
2 - ومنها أنه بيّن مراده بقوله: ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾، وأنه مخلوق، حيث قال: ﴿كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ ( )، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ ( ).
فهذه ثلاثة آيات في القرآن تبيّن أن اللَّه قال له: ﴿كن﴾، وهذا تفسير كونه كلمة منه.
3 - وقال: اسمه المسيح عيسى ابن مريم.
4 - وأخبر أنه وجيه في الدنيا والآخرة.
5 - وأنه من المقربين.
وهذه كلها صفة مخلوق، واللَّه – تعالى – وكلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيءٌ من ذلك.
6 - وقالت مريم: ﴿أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾، فبيّن أن المسيح الذي هو الكلمة ولد مريم لا ولد اللَّه سبحانه وتعالى( ).
( ب ) أما الروح التي قال تعالى فيها: ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾، فلا يجب أن يكون منفصلاً من ذات اللَّه، كما قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ ( )، ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ ( )، ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ ( ).
فهذه الأشياء كلها من اللَّه وهي مخلوقة.
وأبلغ من ذلك روح اللَّه التي أرسلها إلى مريم، وهي مخلوقة ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا﴾ ( )، ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ ( )، وقال تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ ( ).
فعُلِمَ بذلك أن الروح الذي أرسله اللَّه إلى مريم هو روح القدس، وهو الملك جبريل، ، وهو مخلوق، وهو الذي خُلِقَ المسيح من نفخه ومن مريم، فإذا كان الأصل مخلوقاً فكيف الفرع الذي حصل به؟
أما قوله عن المسيح: ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ فخص بذلك لأنه نفخ في أمه من الروح، فحملت به من ذلك النفخ، وذلك غير روحه التي يشاركه فيها سائر البشر، فامتاز بأن حملت به من نفخ الروح، فلهذا سمي روحاً منه( ).
أما إضافة الروح إلى اللَّه في قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا﴾ فهي إضافة مخلوق إلى خالقه، كقوله تعالى: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾ ( )، ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ ( )، والمضاف إلى اللَّه – تعالى – نوعان:
( أ ) إن كان صفة مضافة إلى اللَّه لم تقم بمخلوق: كعلم اللَّه، وقدرة اللَّه، والقرآن كلام اللَّه، وحياة اللَّه، كان صفة للَّه تعالى.
( ب ) وإن كان المضاف عيناً قائمة بنفسها أو صفة فيها، أو صفة لغير اللَّه: كالبيت، والناقة، والعبد، والروح كان مخلوقاً مضافاً إلى خالقه ومالكه.
لكن هذه الإضافة (ناقة اللَّه)، (بيت اللَّه)، (عباد اللَّه)، (روح اللَّه)، إضافة مخلوق إلى خالقه تقتضي التشريف، وبهذا يتبين أنه لا يوجد للنصارى حجة إطلاقاً، فسقط قولهم بحمد اللَّه تعالى( ).
المسلك الثاني: الأدلة والبراهين القاطعة على بشرية عيسى وعبوديته للَّه:
ومن حكمة القول مع النصارى في دعوتهم إلى اللَّه أن يُبين لهم أن عيسى × عبد اللَّه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، خلقه ، وبيّن لعباده أنه مخلوق، وأن ذلك لا يُعجزه قال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ ( ).
فقد خلق اللَّه – تعالى – هذا النوع على الأقسام الممكنة، ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، كما قال تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ ( )، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح؛ لأن حواء خلقت من ضلع آدم، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل خلق حواء، فلهذا شبهه اللَّه بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، فإذا كان سبحانه قادراً أن يخلقه من تراب، والتراب ليس من جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان؟ وهو خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن، فكان لما نفخ فيه من روحه، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه، وقال له: كن، فكان، ولم يكن آدم بما نفخ فيه من روحه لاهوتاً وناسوتاً، بل كله ناسوت، فكذلك المسيح كله ناسوت( ).
وقد أمر اللَّه رسوله × أن يُباهل النصارى على حقيقة عيسى ×، وأنه عبد اللَّه ورسوله، فقال تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ ( ).
وقد امتثل النبي × قول اللَّه فدعاهم إلى المباهلة، فعرفوا أنهم إن باهلوه أنزل اللَّه عليهم لعنته، فأقروا بالجزية وهم صاغرون.
وهذا كله يُبيّن أن عيسى عبد اللَّه ورسوله، وأنه مخلوق، ويُبيّن أنّ النصارى بامتناعهم عن المباهلة وعن الدخول في الإسلام كانوا ظالمين( ).
وقد بيّن حقيقة عيسى، ووصفه وأمه وصفاً كاملاً لا يدع مجالاً للشك، ويقطع كل شبهة ترد على بشرية عيسى وأمه، فقال : ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا... ﴾ إلى قوله: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا* قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ* مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ... ﴾ الآيات( ).
وقال سبحانه: ﴿إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ( ).
وهو × عبد اللَّه ورسوله، وأحد أنبيائه ورسله الكرام، ويتصف بصفات البشر، ويأكل الطعام كما يأكله البشر( ):﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ﴾ ( ).
وقد شهد رسول اللَّه × بالجنة لمن شهد أن عيسى عبد اللَّه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، فقال: ((من شهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد اللَّه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم روح منه، وأن الجنة حقٌّ، والنار حقٌّ، أدخله اللَّه الجنة على ما كان من العمل))( ).
وحذر × عن الغلو، وبيّن أنه من أسباب تأليه النصارى لعيسى ابن مريم( ).
وبهذه البراهين القطعية من الأدلة العقلية والنقلية يتضح لكل ذي لُبٍّ أن عيسى عبد اللَّه ورسوله، وابن أمته، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، ومَنْ وصفه بغير ذلك من الصفات التي لم يصفه بها ربه وخالقه فقد خرج عن مقتضى العقل والنقل إلى الجنون أو الجحود والظلم: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا﴾ ( )، ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ ( ).
المسلك الثالث: البراهين الدالة دلالة قطعية على إبطال قضية الصلب والقتل:
زعم النصارى أن اليهود قتلوا عيسى × وصلبوه وقُبِرَ، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء( )، وقد كذبهم اللَّه فيما زعموا، ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ ( ).
ومن الحكمة القولية في دعوتهم إلى اللَّه وإبطال مذهبهم أن يُردّ عليهم بالآتي:
1 - الأدلة العقلية:
( أ ) بما أنكم أجمعتم أيها النصارى على القول بالاتحاد والصلب والقتل( )، فهل كان الاتحاد موجوداً في حالة الصلب والقتل أم لا؟
فإن قلتم كان موجوداً، لزمكم القول بأن ابن اللَّه القديم – في زعمكم – مات وصُلِبَ، لأن جواز القتل كجواز الموت والحركة والسكون والافتراق، وفيه جواز موت الأب والروح، وهذا لا يقولون به.
فإن قالوا: إن الاتحاد بَطل، قيل لهم: فيجب ألا يكون المقتول مسيحاً؛ لأن الجسد عند انتقاضِ الاتحاد ليس بمسيح، فبطل قولكم بأن المسيح قُتِلَ وصلب.
( ب ) أنتم تزعمون أن المسيح قُتِلَ وصُلِب، والمسيح في عقيدتكم كان لاهوتاً وناسوتاً، فيلزم من ذلك إطلاق القول بقتل إلهكم، لأن المسيح عندكم إله مُطلق، ومن ضرورة ذلك إطلاق القول بقتل الإله وموته، وذلك مروق عن الدين( ).
فإن قالوا: إنما قُتل الناسوتُ دن اللاهوت. قيل لهم: هذا باطل من وجهين:
1 - أن ناسوته لم يصلب وليس فيه لاهوتاً.
2 - ذكركم ذلك دعوى مُجردة، فيكفي في مقابلتها المنع( ).
( ج ) إذا كان عيسى ابن اللَّه – تعالى – قديم الروح بزعمكم فكيف قدر اليهود على أن يقتلوا ابن اللَّه، وهو إله عندكم، والإله لا يُقتل!!
فإن قالوا: إنما قُتِلَ الهيكل دون الروح، قيل لهم: قد بطل الاتحاد الذي ادعيتموه، فكان يجب أن يمنع الروح واللاهوت عن القتل وإتلاف الهيكل والناسوت، فدل ذلك على أنه كان عبداً للَّه ورسولاً له، لا ابناً له( ).
2 - أخبار القتل والصلب مصدرها اليهود:
من المعلوم يقيناً أن أخبار المسيح والصلب والقتل إنما تلقاها النصارى عن اليهود، وقد ثبت أنه لم يحضر أحد منهم، وإنما قال اليهود: قتلناه وصلبناه، وهم أعظم أعدائه الذين رموه وأمه بالعظائم، وأجمعت اليهود على أن عيسى × لم يدَّع شيئاً من الإلهية التي نسبها إليه النصارى، فحينئذ يقال للنصارى: إن صدقتم اليهود في القتل والصلب فصدقوهم في أنه ليس بإله، بل هو عبد مخلوق!( ).
ومن العجيب أن النصارى يُعظِّمون الصليب، وكان من مقتضى العقول أن يحرِّقوا كل صليب وجدوه، لأنه قد صُلِبَ عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم.. فبأي وجه بعد هذا يستحق الصليب التعظيم( ).
3 - تناقض الأناجيل في قضية الصلب:
وقع في قضية الصلب في الأناجيل المعتمدة عند النصارى أكثر من ثلاثين تناقضاً، وحينئذ يطبق على هذه التناقضات قاعدة: كل ما تسرب إليه الاحتمال سقط به الاستدلال( ).
وهذا يدلُّ على أن كل ما تعلق بالصلب اشتبه أمره على النصارى، وغابت عنهم الحقيقة، فهم لا يزالون مختلفين، وبهذا يسقط قولهم؛ لأنهم لا علم لهم ولا دليل يعتمدون عليه( ).
4 - إبطال القرآن الكريم لقضية الصلب والقتل:
أوضح اللَّه في القرآن الكريم أمر الصلب وبيّنه وجلاّهُ وأظهره، وأوضحه عنه رسوله × المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات، فقال تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا، وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ ( ).
فعيسى × لم يُصلب، بل رفعه اللَّه إليه، ولم يمت، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ ( )، وقال تعالى حكاية عن المسيح: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ( ).
والوفاة هنا بمعنى القبض، كما يقال: توفيت من فلان ما لي عليه، بمعنى: قبضته واستوفيته، فيكون معنى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ أي: إني قابضك من الأرض ورافعك إليَّ( ).
وقوله : ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ يعم اليهود والنصارى، فدلَّ ذلك على أن جميع أهل الكتاب يؤمنون بالمسيح قبل موته، وذلك إذا نزل في آخر الزمان( ) آمنت اليهود والنصارى بأنه رسول اللَّه، ليس كاذباً كما يقول اليهود، ولا هو اللَّه كما يقول النصارى( )، ثم بعد أن يحكم بشريعة محمد × يموت كما يموت البشر قبل يوم القيامة.
فاتضح بذلك – بحمد اللَّه – أن عيسى لم يُقتل، ولم يُصلب، ولم يَمت حتى الآن، فبطل قول النصارى ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ واللَّه المستعان.
المسلك الرابع: البينات الواضحات على وقوع النسخ والتحريف في الأناجيل:
من حكمة القول في دعوة النصارى إلى اللَّه – تعالى – أن يبيّن لهم بالأدلة العقلية والنقلية أن دين الإسلام قد نسخ جميع الشرائع السابقة، وأن ما وجد من الكتب السابقة فهو بين أمرين: إما حق قد نسخته الشريعة الإسلامية، وإما كلام محرف أو خلط فيه الحق بالباطل( ).
ومن المعلوم أن النصارى يقسمون الكتاب إلى قسمين:
1 - كتب العهد القديم( ).
2 - كتب العهد الجديد( ).
أما كتب العهد القديم فقد تقدم إثبات وقوع التحريف فيها بالأدلة العقلية والنقلية( ).
وأما كتب العهد الجديد فلا شك أن القول بالتحريف في كتب العهد الجديد عند النصارى أيسر عليهم من القول بالتحريف في العهد القديم؛ لأنهم لا يدعون أن الأناجيل منزلة من عند اللَّه – تعالى – على المسيح، ولا أن المسيح × أتاهم بها، بل كلهم مُجمعون على أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال في أزمان مختلفة( )، ولهذا قال ابن تيمية – رحمه اللَّه تعالى -: ((الإنجيل بمنزلة ما ينقل من أقوال الأنبياء وسيرهم، ويقع في ذلك الصح والخطأ))( ).
ولسعة هذا الموضوع سأقتصر على ما يثبت وقوع التحريف في الأناجيل بالأمثلة الآتية:
1 - النتيجة التي لا مفرّ من التسليم بها أن الأناجيل القانونية الموجودة الآن ما هي إلا كتب مؤلفة، وهي تبعاً لذلك معرّضة للخطأ والصواب، ولا يمكن الادعاء ولو لحظة أنها كتبت بإلهام؛ فلقد كتبها أناس مجهولون، في أماكن غير معلومة، وفي تواريخ غير مؤكدة، والشيء المؤكد أن هذه الأناجيل مختلفة غير متآلفة، بل إنها متناقضة مع نفسها، ومع حقائق العالم الخارجي، لأنها فشلت في تنبؤات كثيرة، كالقول بنهاية العالم، وهذا القول قد يضايق النصراني العادي، بل قد يصدمه؛ ولكن بالنسبة للعالم النصراني فقد أصبح ذلك عنده حقيقة مسلم بها( )، لِمَا أجراه من أبحاث، ولِمَا علمه من واقع الأناجيل.
2 - الشواهد على التحريف من الأناجيل:
( أ ) جاء في إنجيل مرقس: أن المسيح قال لتلاميذه: ((اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن، وهذه الآيات تتبع المؤمنين يخرجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيّات، وإن شربوا شيئاً مميتاً لا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون))( ).
ففي هذا النص حجة على النصارى من وجهين:
الوجه الأول: قولهم عن عيسى: إنه أمرهم أن يبشروا بالإنجيل، فدل ذلك على أن إنجيلاً أتاهم به وليس هو عندهم الآن، وإنما عندهم أربعة أناجيل متغايرة، وليس منها إنجيل أُلِّف إلا بعد رفع عيسى × بأعوام كثيرة، فصحّ أن ذلك الإنجيل الذي أخبر المسيح أنه أتاهم به وأمرهم بالتبشير به ذهب عنهم؛ لأنهم لا يعرفون له أصلاً، وهذا ما لا يمكن سواه.
الوجه الثاني: قولهم: إنه وعد كل من آمن بدعوة التلاميذ أنهم يتكلمون بلغات لا يعرفونها، وينفون الجن عن المجانين، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرءون، ويحملون الحيّات، وإن شربُوا شربة قتَّالة لا تضرهم، وهذا وعد ظاهر الكذب؛ فإن ما من النصارى أحد يتكلم بلغة لم يتعلمها، ولا منهم أحد ينفي جنيّاً، ولا من يحمل حية فلا تضره، ولا من يضع يده على مريض فيُشفى، ولا منهم أحد يُسقى السم فلا يضره، وهم معترفون بأن يوحنا – صاحب الإنجيل – قتل بالسم وحاشا للَّه أن يأتي نبي بمواعيد كاذبة، وهذا دليل على تحريف النصارى وتناقضهم وتكذيبهم أنفسهم))( ).
( ب ) ومن ذلك ما جاء في إنجيل متّى أن عيسى × دعا على شجرة تين خضراء، فيبست التينة في الحال، فتعجب التلاميذ من ذلك، فقال لهم عيسى: ((الحق أقول لكم إن كان لكم إيمان، ولا تشكُّوا أمر التينة فقط، بل إن قلتم أيضاً لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر فيكون))( ).
وهذا فيه حجّة على النصارى، وذلك أن الأمر لا يخلو من أن يكون النصارى مؤمنين بالمسيح ×، أو غير مؤمنين، فإن كانوا مؤمنين، فقد كذبوا المسيح فيما نسبوه إليه في هذه المقالة – وحاشا له من الكذب – فليس منهم أحد قدر على أن يأمر حبة من خردل بالانتقال فتنتقل، فكيف على قلع جبل وإلقائه في البحر!
وإن كانوا غير مؤمنين به فهم بإقرارهم هذا كفار، ولا يجوز أن يصدق كافر( ).
وبهذا يتبين أن الأناجيل وقع فيها تحريفٌ عظيم، ولا يعتمد عليها، ولا مخرج من هذا التيه إلا بالدخول في الإسلام.
المسلك الخامس: إثبات اعتراف المنصفين من علماء النصارى:
من حكمة القول مع النصارى في دعوتهم إلى اللَّه الاستشهاد عليهم بشهادة المنصفين من علماء النصارى، ومن وفقه اللَّه منهم للإسلام، فإن هذا من باب ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا﴾ ( )، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:
1 - النجاشي ملك الحبشة ‘ و÷:
عندما قرأ جعفر بن أبي طالب على النجاشي( ) صدراً من سورة مريم، بكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكى أساقفته حين سمعوا ما تُلي عليهم، وقال النجاشي للوفد: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟ فقال جعفر : يقول فيه قول اللَّه: هو روح اللَّه وكلمته، أخرجه من البتول العذراء التي لم يقربها بشر... فتناول النجاشي عوداً فرفعه، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد على ما تقولون في ابن مريم ما تزن هذه، وقال للوفد: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول اللَّه، وأنه الذي بشَّر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعله...( ).
2 - سلمان الفارسي ÷ وأرضاه:
قصة سلمان مشهورة عجيبة( )، فقد عاش مع مجموعة من علماء النصارى، وعندما كان مع آخر عالم من هؤلاء بعمورية بالروم حضرته الوفاةُ، فأوصى سلمان الفارسي وقال: ((قد أظلَّكَ زمان نبي يُبعثُ من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل، فإنه قد أظلك زمانه)).
وسافر سلمان ووجد العلامات التي وصفت له، فأسلم رضي اللَّه عنه( ).
3 - هرقل عظيم الروم:
قال هرقل لأبي سفيان في آخر حديثه: ((... وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقّاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه...))( ).
ثم قال للروم بعد ذلك: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت مُلككم فتبايعوا هذا النبي؟( ) ولكن رغب في ملكه وضنَّ به، فلم يسلم!
وهذا مما يبيّن أن عدول أهل الكتاب ومنصفيهم قد شهدوا لرسول اللَّه × وأنه رسول اللَّه حقّاً، فلا يقدح قدح المكذبين بعد ذلك( ).
وقد أسلم الجمُّ الغفير من علماء النصارى وشهدوا بأن محمداً × رسولُ اللَّه إلى الناس أجمعين، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ( ).
فحريٌّ بجميع النصارى أن يسيروا على طريق علمائهم المنصفين، ويسلموا للَّه رب العالمين.
فينبغي للداعية إلى اللَّه أن لا يُغفل هذا المسلك في دعوته للنصارى إلى اللَّه تعالى( ).
المبحث الثالث: البراهين على إثبات الرسالة المحمدية وعمومها
من أعظم الأقوال الحكيمة في دعوة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار أن تبيّن لهم البراهين والأدلة القطعية الدالة على صدق رسالة محمد × إلى الناس أجمعين.
ولا شك أن الآيات والبينات الدالة على نبوته × وعموم رسالته كثيرة متنوعة، وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء، وجميع الأنواع تنحصر في نوعين:
( أ ) منها: ما مضى وصار معلوماً بالخبر الصادق كمعجزات موسى وعيسى.
( ب ) ومنها: ما هو باق إلى اليوم كالقرآن، والعلم والإيمان اللذين في أتباعه، فإن ذلك من أعلام نبوته، وكشريعته التي أتى بها، والآيات التي يظهرها اللَّه وقتاً بعد وقتٍ من كرامات الصالحين من أمته، وظهور دينه بالحجة والبرهان، وصفاته الموجودة في كتب الأنبياء قبله وغير ذلك( )، وهذا باب واسع لا أستطيع حصره؛ ولكن سأقتصر في إثبات نبوته × وعموم رسالته على المسالك الآتية:
المسلك الأول: معجزات القرآن العظيم.
المسلك الثاني: معجزاته × الحسية.
المسلك الثالث: عموم رسالته ×.
المسلك الأول: معجزات القرآن العظيم:
المعجزة لغة: ما أُعجزَ به الخصم عند التحدي( ).
وهي أمر خارق للعادة يعجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان بمثله، يجعله اللَّه على يد من يختاره لنبوته؛ ليدلّ على صدقه وصحة رسالته( ).
والقرآن الكريم كلام اللَّه المنزل على محمد × هو المعجزة العظمى، الباقية على مرور الدهور والأزمان، المعجز للأولين والآخرين إلى قيام الساعة( )، قال ×: ((ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي من الآيات على ما مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه اللَّه إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة((( ).
وليس المراد في هذا الحديث حصر معجزاته × في القرآن، ولا أنه لم يؤت من المعجزات الحسية كمن تقدمه، بل المراد أن القرآن المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره؛ لأن كل نبي أُعطي معجزة خاصة به، تحدّى بها من أُرسل إليهم، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه، ولهذا لما كان السحر فاشياً في قوم فرعون جاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة، لكنها تلقف ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره.
ولما كان الأطباء في غاية الظهور جاء عيسى بما حيّر الأطباء، من: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وكل ذلك من جنس عملهم، ولكن لم تصل إليه قدرتهم.
ولما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والخطابة جعل اللَّه – سبحانه – معجزة نبينا محمد × القرآن الكريم الذي( )﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ ( ).
ولكن معجزة القرآن الكريم تتميز عن سائر المعجزات؛ لأنه حجة مستمرة، باقية على مرّ العصور، والبراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، أما القرآن فلا يزال حجة قائمة كأنما يسمعها السامع من فم رسول اللَّه، ولاستمرار هذه الحجة البالغة قال ×: ((فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يومَ القيامة))( ).
والقرآن الكريم آية بيّنة، معجزة من وجوه متعددة، من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، والبلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها، ومعانيه التي أخبر بها عن اللَّه – تعالى – وأسمائه وصفاته وملائكته، وغير ذلك من الوجوه الكثيرة التي ذكر كل عالمٍ ما فتح اللَّه عليه به منها( )، وسأقتصر على أربعة وجوه من باب المثال لا الحصر بإيجاز كالآتي:
الوجه الأول: الإعجاز البياني والبلاغي:
من الإعجاز القرآني ما اشتمل عليه من البلاغة والبيان، والتركيب المعجز، الذي تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك، قال تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ ( )، وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاّ يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ﴾ ( ).
وبعد هذا التحدي انقطعوا فلم يتقدم أحد، فمدّ لهم في الحبل وتحداهم بعشر سور مثله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ( ). فعجزوا فأرخى لهم في الحبل فقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ( )، ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة، فقال تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ ( ).
فقوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ أي: فإن لم تفعلوا في الماضي، ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، فثبت التحدي، وأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسورة من مثله فيما يستقبل من الزمان، كما أخبر قبل ذلك، وأمر النبي وهو بمكة أن يقول: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ ( ).
فعم بأمره له أن يخبر جميع الخلق معجزاً لهم، قاطعاً بأنهم إذا اجتمعوا لا يأتون بمثل هذا القرآن، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك، وهذا التحدي لجميع الخلق، وقد سمعه كل من سمع القرآن، وعرفه الخاص والعام، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوه، ولا أتوا بسورة مثله من حين بُعِثَ × إلى اليوم والأمر على ذلك( ).
والقرآن يشتمل على آلاف المعجزات؛ لأنه مائة وأربع عشرة سورة، وقد وقع التحدي بسورة واحدة، وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات قصار، والقرآن يزيد بالاتفاق على ستة آلاف ومائتي آية، ومقدار سورة الكوثر من آيات أو آية طويلة على ترتيب كلماتها له حكم السورة الواحدة، ويقع بذلك التحدي والإعجاز( )، ولهذا كان القرآن الكريم يغني عن جميع المعجزات الحسية والمعنوية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
الوجه الثاني: الإخبار عن الغيوب:
من وجوه الإعجاز القرآني أنه اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد × بها، ولا سبيل لبشر مثله أن يعلمها، وهذا مما يدلّ على أن القرآن كلام اللَّه – تعالى – الذي لا تخفى عليه خافية: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ ( ).
والإخبار بالغيوب أنواع:
النوع الأول: غيوب الماضي: وتتمثل في القصص الرائعة وجميع ما أخبر اللَّه به عن ماضي الأزمان.
النوع الثاني: غيوب الحاضر: أخبر اللَّه رسوله × بغيوب حاضرة، ككشف أسرار المنافقين، والأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين، أو غير ذلك مما لا يعلمه إلا اللَّه، وأطلع عليه رسوله ×.
النوع الثالث: غيوب المستقبل، أخبر اللَّه رسوله × بأمور لم تقع، ثم وقعت كما أخبر، فدلّ ذلك على أن القرآن كلام اللَّه، وأن محمداً × رسول اللَّه( ).
الوجه الثالث: الإعجاز التشريعي:
القرآن العظيم جاء بهدايات كاملة تامّة، تفي بحاجات جميع البشر في كل زمان ومكان؛ لأن الذي أنزله هو العليم بكل شيء، خالق البشرية والخبير بما يُصلحها ويُفسدها، وما ينفعها ويضرّها، فإذا شرع أمراً جاء في أعلى درجات الحكمة والخبرة ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ ( ).
ويزداد الوضوح عند التأمل في أحوال الأنظمة والقوانين البشرية التي يظهر عجزها عن معالجة المشكلات البشرية ومسايرة الأوضاع والأزمنة والأحوال، مما يضطر أصحابها إلى الاستمرار في التعديل والزيادة والنقص، فيُلْغُونَ غداً ما وضعوه اليوم؛ لأن الإنسان محلّ النقص والخطأ، والجهل لأعماق النفس البشرية، والجهل بما يحدث غداً في أوضاع الإنسان وأحواله، وفيما يصلح البشرية في كل عصر ومصر.
وهذا دليل حسي مُشاهد على عجز جميع البشر عن الإتيان بأنظمة تصلح الخلق وتقوّم أخلاقه، وعلى أن القرآن كلام اللَّه سليم من كل عيب، كفيل برعاية مصالح العباد، وهدايتهم إلى كل ما يصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة إذا تمسكوا به واهتدوا بهديه( )، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ ( ).
وبالجملة فإن الشريعة التي جاء بها كتاب اللَّه – تعالى – مدارها على ثلاث مصالح:
المصلحة الأولى: درء المفاسد عن ستة أشياء( ): حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والعرض، والمال.
المصلحة الثانية: جلب المصالح( ): فقد فتح القرآن الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، وسدّ كل ذريعة تؤدي إلى الضرر.
المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
فالقرآن الكريم حلّ جميع المشاكل العالمية التي عجز عنها البشر، ولم يترك جانباً من الجوانب التي يحتاجها البشر في الدنيا والآخرة إلا وضع لها القواعد، وهدى إليها بأقوم الطرق وأعدلها( ).
الوجه الرابع: الإعجاز العلمي الحديث:
يتصل بما ذكر من إعجاز القرآن في إخباره عن الأمور الغيبية المستقبلة نوع جديد كشف عنه العلم في العصر الحديث، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ( ).
لقد تحقق هذا الوعد من ربنا في الأزمنة المتأخرة، فرأى الناس آيات اللَّه في آفاق المخلوقات بأدق الأجهزة والوسائل: كالطائرات، والغواصات، وغير ذلك من أدق الأجهزة الحديثة التي لم يمتلكها الإنسان إلا في العصر الحديث... فمن أخبر محمداً × بهذه الأمور الغيبية قبل ألف وأربعمائة وعشرة أعوام؟ إن هذا يدلّ على أن القرآن كلام اللَّه، وأن محمداً رسول اللَّه حقّاً.
وقد اكتُشِفَ هذا الإعجاز العلمي: في الأرض وفي السماء، وفي البحار والقفار، وفي الإنسان والحيوان، والنبات، والأشجار، والحشرات، وغير ذلك، ولا يتّسع المقام لذكر الأمثلة العديدة على ذلك( ).
المسلك الثاني: معجزات النبي × الحسية:
معجزات النبي × الحسية الخارقة للعادة كثيرة جداً( )، لا أستطيع حصرها، وسأقتصر بإيجاز على ذكر تسعة أنواع منها على سبيل المثال، كالآتي:
النوع الأول: المعجزات العلوية، ومنها:
1 - انشقاق القمر: وهذه من أمهات معجزاته × الدالة على صدقه، فقد سأل أهل مكة رسول اللَّه × أن يُريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا جبل حِراء بينهما( )، قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ الآيات( ).
2 - صعوده × ليلة الإسراء والمعراج إلى ما فوق السموات: وهذا ما أخبر به القرآن الكريم، وتواترت به الأحاديث، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير﴾ ( ).
وهذه الآية من أعظم معجزاته ×، فإنه أُسري به إلى بيت المقدس، وقطع المسافة في زمن قصير، ثم عُرِجَ به إلى السماوات، ثم صعد إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام، ورأى الجنة، وفرضت عليه الصلوات، ورجع إلى مكة قبل أن يُصبح، فكذبته قريش، وطلبوا منه علامات تدلّ على صدقه، ومن ذلك علامات بيت المقدس، لعلمهم بأنه × لم ير بيت المقدس قبل ذلك، فجلَّى اللَّه له بيت المقدس ينظر إليه ويخبرهم بعلاماته وما سألوا عنه( ).
وغير ذلك من الآيات العلوية، كحراسة السماء بالشهب عند بعثته ×.
النوع الثاني: آيات الجوّ:
1 – من هذه المعجزات طاعةُ السَّحاب له ×، بإذن اللَّه – تعالى – في حصوله ونزول المطر وذهابه بدعائه( )×.
2 – ومن هذا النوع نصر اللَّه للنبي × بالريح التي قال تعالى عنها: ﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾ ( )، وهذه الريح هي ريح الصَّبّا، أرسلها على الأحزاب، قال ×: ))نُصِرْتُ بالصّبا، وأُهْلِكت عادٌ بالدَّبورِ((( )، وغير ذلك.
النوع الثالث: تصرفه في الحيوان: الإنس، والجنّ والبهائم:
وهذا باب واسع، منه على سبيل المثال:
( أ ) تصرفه في الإنس:
1 - كان علي بن أبي طالب ÷ يشتكي عينيه من وجع بهما، فبصقَ رسول اللَّه × فيهما دعا له فبرأ، كأن لم يكن به وجع( ).
2 - انكسرت ساق عبد اللَّه بن عتيك فمسحها رسول اللَّه ×، فكأنها لم تنكسر قطُّ( ).
3 - أُصيب سلمة بن الأكوع بضربة في ساقه يوم خيبر، فنفث فيها رسول اللَّه × ثلاث نفثات، فما اشتكاها سلمة بعد ذلك( ).
( ب ) تصرفه في الجنّ والشياطين:
1 - كان × يُخرج الجن من الإنس بمجرد المخاطبة. فيقول: >>اخرج عدو اللَّه أنا رسول اللَّه))( ).
2 - أخرج الشيطان من صدر عثمان بن أبي العاص، فضرب صدر عثمان بيده ثلاث مرات، وتفل في فمه، وقال: ((اخرج عدو اللَّه)) فعل ذلك ثلاث مرات، فلم يُخالط عثمان الشيطان بعد ذلك( ).
( ج ) تصرفه في البهائم:
وقد حصل له مراراً، ومن ذلك أنه جاء بعير فسجد للنبي ×، فقال أصحابه: يا رسول اللَّه! تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحقّ أن نسجد لك، فقال ×: ((اعبدوا ربَّكم، وأكرِمُوا أخاكُم، ولو كنتُ آمراً أحداً أن يسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجد لزوجها...())( ).
النوع الرابع: تأثيره في الأشجار والثمار والخشب:
( أ ) تأثيره في الأشجار:
1 - جاء أعرابي إلى رسول اللَّه × وهو في سفر، فدعاه رسول اللَّه × إلى الإسلام، فقال الأعرابي: ومن يشهد لك على ما تقول؟ فقال رسول اللَّه ×: ((هذه السَّلمة)) )، فدعاها رسول اللَّه × وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخدّ( ) الأرض خدّاً حتى قامت بين يديه، فأشهدها ثلاثاً، فشهدت ثلاثاً أنه كما قال، ثم رجعت إلى مَنْبَتِها( ).
2 – أراد رسول اللَّه × أن يقضي حاجته وهو في سفر، فلم يجد ما يستتر به، فأخذ بغصن شجرة وقال: ((انقادي عليَّ بإذن اللَّه))، فانقادت معه كالبعير المخشوم( ) حتى أتى الشجرة الأخرى، ففعل وقال كذلك، ثم أمرهما أن تلتئما عليه فالتأمتا، ثم بعد قضاء الحاجة رجعت كل شجرة، وقامت كل واحدة منهما على ساق...( ).
( ب ) تأثيره في الثمار:
جاء أعرابي إلى رسول اللَّه × فقال: بم أعرف أنك نبي؟ قال: ((إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول اللَّه))؟ فدعاه رسول اللَّه × فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي ×، ثم قال: ))ارجع((، فعاد، فأسلم الأعرابي( ).
( ج ) تأثيره في الخشب:
كان × يخطب في المدينة يوم الجمعة على جذع نخل، فلما صنع له المنبر ورقِي عليه صاحَ الجذعُ صياحَ الصبي، [وخارَ كما تخورُ البقرة، جزعاً على رسول اللَّه × فالتزمه رسول اللَّه × وضمه إليه وهو يئن، ومسحه حتى سكن]( ).
النوع الخامس: تأثيره في الجبال والأحجار وتسخيرها له:
( أ ) تأثيره في الجبال:
صعد النبي × أُحداً، ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فضربه × برجله، وقال: ((اثبت أحد، فإن عليك نبي، وصدِّيق، وشهيدان))( ).
( ب ) تأثيره في الحجارة:
وقال ×: ((إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسلِّم عليّ قبل أن أُبعثَ، إني لأعرفه الآن))( ).
( ج ) تأثيره في تراب الأرض:
عندما كان رسول اللَّه × في معركة حنين، واشتدّ القتال، نزل عن بغلته وقبض قبضة من تراب الأرض، واستقبل به وجوه القوم، فقال: ((شاهَت الوُجُوه))، فما خلق اللَّه إنساناً منهم إلا ملأ عينيه من تلك القبضة، فهزمهم اللَّه وقسم غنائمهم بين المسلمين( ).
النوع السادس: تفجير الماء، وزيادة الطعام والشراب والثمار:
( أ ) نبع الماء وزيادة الشراب:
هذا النوع حصل لرسول اللَّه × مراتٍ كثيرة جدّاً( )، ومن ذلك:
1 - عطش الناس في الحديبية، فوضع يده × في الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كالعيون، فشربوا وتوضؤوا، قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة( ).
2 - قدم × تبوك، فوجد عينها كشراك النعل، فغُرِفَ له منها قليلاً قليلاً، حتى اجتمع له شيء قليل، فغسل فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر، وبقيت العين إلى الآن( ).
3 - قصة أبي هريرة وقدح اللبن، وزيادة لبن القدح حتى شرب منه أضياف الإسلام( ).
( ب ) زيادة الطعام وتكثيره لما جعل اللَّه في النبي × من البركة:
1 - كان النبي × في ألف وأربعمائة من أصحابه في غزوة، فأصابهم مشقة، فأمر × أن يجمعوا ما معهم من طعام وبسطوا سفرة، وكان الطعام شيئاً يسيراً فبارك فيه، وأكلوا، وحشوا أوعيتهم من ذلك الطعام( ).
2 - بقي الصحابة والنبي × في غزوة الخندق ثلاثة أيام لا يذوقون طعاماً، فذبح جابر بن عبد اللَّه عناقاً، وطحنت زوجته صاعاً من شعير، ثم دعا النبي ×، فصاح النبي × بأهل الخندق يدعوهم على هذا الطعام اليسير، ثم جاء النبي × وبصقَ في العجين وبارك، وبصقَ في البرمة وبارك، قال جابر ^: وهم ألف، فأقسم باللَّه لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغطّ كما هي( )، وإن عجيننا ليخبز كما هو( ).
وهذا باب واسع لا يمكن حصره.
( ج ) زيادة الثمار والحبوب:
1 - جاء رجل يستطعم النبي × فأطعمه شطرَ وسْقِ شعيرٍ، فما زال الرجل يأكل منه وأهله حتى كاله، فأتى النبي × فقال: ((لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم))( ).
2 - كان على والد جابر دين، وما في نخله لا يقضي ما عليه سنين، فجاء جابر إلى رسول اللَّه × ليحضر الكيل، فحضر، ومشى حول الجرن، ثم أمر جابراً أن يكيل فكال لهم حتى أوفاهم، قال جابر : ((وبقي تمري وكأنه لم ينقص منه شيء))( ).
النوع السابع: تأييد اللَّه له بالملائكة:
أيد اللَّه رسوله بالملائكة في عدة مواضع، نُصرً له ولدينه، منها على سبيل المثال:
1 - في الهجرة، قال المولى – جل وعلا -: ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ ( ).
2 - في بدر، قال اللَّه تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ ( ).
3 - في أُحدٍ، قاتل جبريل وميكائيل – عليهما السلام – عن يمين النبي × وعن يساره( ).
4 - في الخندق، قال اللَّه : ﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا﴾ ( ).
5 - في غزوة بني قُريظة، جاء جبريل إلى النبي × بعد أن وضع السلاح من غزوة الخندق واغتسل، فقال له جبريل: قد وضعت السلاح؟ واللَّه ما وضعناه فاخرج إليهم، فسأله النبي ×: ((إلى أين))؟ فأشار إلى بني قريظة، فخرج ×، ونصره اللَّه عليهم( ).
6 - في حنين، قال اللَّه : ﴿وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ ( ).
النوع الثامن: كفاية اللَّه له أعداءه وعصمته من الناس:
هذا النوع من أعظم الآيات الدالة على صدق رسالة محمد ×، ومن ذلك:
1 - كفاه اللَّه – تعالى – المشركين والمستهزئين، فلم يصلوا إليه بسوء، قال تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ ( ).
2 - كفاه اللَّه أهل الكتاب، قال تعالى: ﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ( ).
3 - وعصمه تعالى من جميع الناس بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ ( ).
وهذا خبر عام بأن اللَّه يعصمه من جميع الناس، فكلٌّ من هذه الأخبار الثلاثة قد وقع كما أخبر اللَّه – تعالى – فقد كفاه اللَّه أعداءه بأنواع عجيبة خارجة عن العادة المعروفة، ونصره مع كثرة أعدائه وقوتهم وغلبتهم، وانتقم ممن عاداه.
ومن ذلك أن رجلاً نصرانيّاً أسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي × ثم ارتدّ وعاد نصرانيّاً، فكان يقول: ما يَدْري محمد إلا ما كتبت له، فأماته اللَّه، فدفنه قومه، فأصبح وقد أخرجته الأرض من بطنها، فأعادوا دفنه، وأعمقوا قبره، فأصبح وقد أخرجته الأرض منبوذاً على ظهرها، فأعادوا دفنه وأعمقوا له، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أن هذا ليس من الناس فتركوه منبوذاً( ).
النوع التاسع: إجابة دعواته ×:
الأدعية التي دعا بها النبي × وشُوهدت إجابتها كالشمس في رابعة النهار كثيرة جدّاً، لا تُحصر ولا يتّسع المقام لذكر أكثرها، ولكن منها على سبيل المثال:
1 - قال × لأنس : ((اللَّهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته<<( )، [وأطل حياته واغفر له]( )، قال أنس: فواللَّه إنّ مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادُّون على نحو المائة اليوم( )، [وحدثتني ابنتي أمينة أنه دُفِنَ لصلبي مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة] ( ).
وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منها ريح المسك( ).
2 – ودعا × لأم أبي هريرة بالهداية فهداها اللَّه فوراً، وأسلمت( ).
3 - وقال × لعروة بن أبي الجعد البارقي: ((اللَّهم بارك له في صفقة يمينه))، فكان يقف في الكوفة ويربح أربعين ألفاً قبل أن يرجع إلى أهله( )، [وكان لو اشترى التراب لربح فيه]( ).
4 - ودعاؤه × على بعض أعدائه، فلم تتخلّف الإجابة، كأبي جهل، وأميّة، وعقبة، وعتبة...( ).
5 - ودعاؤه يوم بدر، ويوم حنين، وعلى سراقة بن مالك وغيره كثير( ).
والحقيقة أن العاقل المنصف يقف أمام هذه الدلائل والبينات مذعوراً، ولا يسعه إلا أن يقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه.
المسلك الثالث: عموم رسالته ×:
إن أصل الأصول هو تحقيق الإيمان بما جاء به محمد ×، وأنه رسول اللَّه إلى جميع الخلق: إنسهم وجنّهم، عربهم وعجمهم، كتابيّهم ومجوسيّهم، رئيسهم ومرؤوسهم، وأنه لا طريق إلى اللَّه – – لأحد من الخلق إلا بمتابعته × باطناً وظاهراً، حتى لو أدركه موسى وعيسى، وغيرهما من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لوجب عليهم اتباعه، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ* فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ( ).
قال ابن عباس ^ ((ما بعث اللَّه نبيّاً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به، ولينصرنه<( ).
ولهذا جاء في الحديث: ((لو كان موسى حيّاً بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتبعني))( ).
ومن خالف عموم رسالة النبي × لا يخلو من أحد أمرين:
1 - إما أن يكون المخالِفُ مؤمناً بأنه مرسل من عند اللَّه؛ ولكنه يقول: رسالته خاصة بالعرب.
2 - وإما أن يكون المخالف منكراً للرسالة جملةً وتفصيلاً.
فأما المعترف له بالرسالة؛ ولكنه يجعلها خاصة بالعرب فإنه يلزمه أن يصدقه في كل ما جاء به عن اللَّه – تعالى – ومن ذلك عموم رسالته، ونسخها للشرائع قبلها، فقد بيّن × أنه رسول اللَّه إلى الناس أجمعين، وأرسل رسله، وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى، وقيصر، والنجاشي، وسائر ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، ثم قاتل من لم يدخل في الإسلام من المشركين، وقاتل أهل الكتاب، وسبى ذراريهم، وضرب الجزية عليهم، وذلك كلّه بعد امتناعهم عن الدخول في الإسلام، أما كونه يؤمن برسول ولا يصدّقه في جميع ما جاء به فهذا تناقض ومكابرة.
وأما المنكر لرسالة نبينا محمد × مطلقاً، فقد قام البرهان القاطع على صدق صاحب الرسالة ×، ولا تزال معجزات القرآن تتحدى الإنس والجنّ، فإما أن يأتي بما يُناقض المعجزة القائمة وإلا لزمه الاعتراف بمدلولها، فإن اعترف بالرسالة لزمه التصديق بكل ما أخبر به الرسول ×، وإن ذهب يُكابر ويُعاند ليأتي بقرآن مثل ما جاء به محمد × وقع في العجز وفضح نفسه لا محالة؛ لأن أصحاب الفصاحة والبلاغة قد عجزوا عن ذلك، ولا شكّ أن غيرهم أعجز عن هذا؛ لأن القرآن معجزة قائمة مستمرة خالدة( ).
وحينئذ يلزم جميع الخلق العمل بما فيه والتحاكم إليه.
وقد صرح القرآن الكريم بأن محمداً × رسول إلى جميع الناس، وخاتم النبيين، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ ( )، وقال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ ( )، ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ ( ).
وهذا تصريح بعموم رسالته لكل من بلغه القرآن.
وصرح تعالى بشمول رسالة النبي × لأهل الكتاب، فقال: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ ( )، ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ ( )، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ ( )، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ( ).
وبلغ × الناس جميعاً أنه خاتم الأنبياء، وأن رسالته عامة، قال ×: ((أعطيت خمساً لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي))، وذكر منها: ((وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصّة، وبُعثت إلى الناس كافَّةً))... الحديث( ).
وقال ×: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وُضِعت هذا اللبنة))؟ قال: ((فأنا اللَّبنةُ، وأنا خاتم النبيين))( ).
وعموم رسالته × لجميع الإنس والجن في كل زمان ومكان من بعثته إلى يوم القيامة، وكونها خاتمة الرسالات، يقضي ويدلّ دلالة قاطعة على أن النبوة قد انقطعت بانقطاع الوحي بعده، وأنه لا مصدر للتشريع والتعبد إلا كتاب اللَّه – تعالى – وسنة رسوله ×، وهذا يقتضي وجوب الإيمان بعموم رسالته واتباع ما جاء به، فقد قال ×: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار))( ).
وبعون اللَّه – تعالى – ثم بهذه المسالك الثلاثة الآنفة الذكر – تقوم الحجة وتثبت رسالة النبي × وعمومها وشمولها لجميع الثقلين: الإنس والجن، في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾ ( )، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ... ﴾ الآية( ).
أما دعوة أهل الكتاب بالقوة الفعلية فقد بيّنتها في آخر رسالة كيفية دعوة الوثنيين، فليرجع إليها من شاء.
وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.