الحـوار في سورة الكهف

الحـوار في سورة الكهف
بقلم : محمد الحسناوي
ثمة ظاهرة تسترعي الانتباه في سورة ( الكهف) ألا وهي وفرة الحوار ، والحوار حديث يدور بين اثنين في الأقل ، أو هو كلام يقع بين الأديب ونفسه أو من ينزله مقام نفسه (1) ، وهو من عناصر القصة أو المسرحية بشكل خاص .
يشغل الحوار في هذه السورة ثلاثة أرباعها تقريباً ، فآياتها التي تعد مئة وعشر آيات ، منها ثلاث وثمانون آية في الأقل حوارية . والحوار فيها لا يختص بالقصص الأربع التي تقوم عليها ، بل يشمل الخط الواصل بين هذه القصص جميعاً ، وهو مخاطبات الله تعالى لرسوله محمد عليه السلام ، وهو الخط الأول الذي جاءت القصص ( ضرب أمثال) لتعززه وتكمله في بناء السورة الكلي . واثنتان من هذه القصص- وهما قصة صاحب الجنتين وقصة النبي موسى والرجل الصالح - يغلب عليهما الحوار حتى كادتا تتحولان إلى حواريتين .
في هذا الحوار تنوعت الأطراف المتخاطبة ، ولم يقتصر الحوار على المخاطبات البشرية ، فهناك خطاب من الله تعالى لرسوله محمد عليه السلام ، وآخر من الله تعالى إلى الملائكة ، ومن الله تعالى للعباد ، ومن العباد إلى الله تعالى ، ومن العباد للعباد ، وأخيراً خطاب النفس أو النجوى .
وتنوع آخر في أزمنة الخطاب ، ففي الزمن الماضي ، وفي عالم الغيب : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) ( الآية 50) ، وفي المستقبل المغيب أيضاً ، يوم القيامة ( ويوم يقول : نادوا شركائي ) ( الآية 52) ، وأما الزمن الحاضر بالنسبة إلى المتخاطبين فكثير .
العادة أن يبدأ كل حوار بفعل ( قال) أو أحد مشتقاته ، ومع ذلك وردت عبارات حوارية مستغنية عن فعل ( قال) وعن أي إشارة صريحة للقول ، بمعنى أنها جاءت بشكل مباشر ، كما يفعل الحوار في المسرحية أو في بعض القصص ، وهو يكثر في مخاطبات الله تعالى لرسوله الكريم ، مثل ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ) ( الآية6 ) وقوله : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ..) (الآية 17 ) . ومن البدايات المفاجئة : مخاطباً الفتية أهل الكهف : ( فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربُّكم من رحمته ، ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً ) ( الآية 16) أو مخاطباً الظالمين الموالين للشيطان من البشر : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ . بئس للظالمين بدلاً ) ( الآية 50) ، وقد وردت هذه البدايات في سبعة مواضع ، يضاف إليها صيغة شبيهة بالقول مرتين ، وهما : ( واضرب لهم مثلاً ) ( الآية 32) ,( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا) ( 45) .
أنواع الحوار:
يمكن أن نميز نوعين من الحوار . الأول: الحوار السردي ( القص) ، ووظيفته الإخبار ، ونجده في الخط الأول من بناء السورة ، فيه يخاطب الله تعالى رسوله محمداً عليه السلام بألوان من الخطاب مثل خطابات التلقين والتفهيم أو التأييد مثلاً ، ومثل التمهيد للقصص أو التعليق عليها . فمن خطابات التلقين قوله تعالى : ( قل : إنما أنا بشرٌ مثلُكم يُوحى إليَّ أنما إلهكم إلهٌ واحد ، فمن كان يرجو لقاءَ ربِّهِ فليعملْ عملاً صالحاً ، ولا يُشركْ بعبادةِ ربِّهِ أحداً ) ( الآية 110) . وفي التمهيد لقصة أهل الكهف ، قوله تعالى : ( أم حسبتَ أن أصحابَ الكهفِ والرَّقيمِ كانوا من آياتنا عجباً) ( الآية 9) ، وفي التعليق عليها ، قوله تعالى : ( ولبثوا في كهفهم ثلاثَ مئةِ سنين وازدادوا تسعاً . قل : الله أعلمُ بما لبثوا له غيبُ السمواتِ والأرضِ أبصرْ به وأسمِعْ . ما لهم من دونه من وليٍ ولا يُشركُ في حكمهِ أحداً ) (الآيتان25و26) .
أما النوع الثاني من الحوار ، فهو الحوار الجدلي (الدرامي ) ، وهو حوار يبرز فيه الصراع بين المتحاورين بالإضافة إلى الوظائف الأخرى مثل تصوير الشخصيات أو تنمية الحدث أو القص ، ونجد نماذجه في القصص الأربع لا سيما قصة صاحب الجنتين وقصة النبي موسى والرجل الصالح .
ووظيفة الحوار العامة بث الحيوية في النص ، واستحضار الشخوص أمام السمع والبصر . وليس أفضل في معرفة الشخصيات ودخائل نفوسهم ووجهات نظرهم المختلفة مثل سماعهم يتكلمون بأنفسهم ، أو يحاجج بعضهم بعضاً .
خطاب الله للملائكة :
لم يرد إلا في بعض آية ، قوله تعالى : (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) ( الآية50) . ومن المعلوم أن الحوار مطلوب فيه الدقة والإيجاز ، كما أن من مزايا القصة في القرآن أن يساق القدر الموفي بالغرض منها ، ولو كان لمحة عابرة ، كما ورد في هذه العبارة الحوارية الدالة على قصة عصيان إبليس حين طلب منه السجود لأبينا (آدم ) عليه السلام . والدور الفني لهذه العبارة الحوارية تمهيدها للخطاب الموجه من الله للذين يوالون الشيطان في الآية نفسها : ( فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه . أفتتخذونه وذرّيته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ . بئس للظالمين بدلاً ) . وهكذا تتناسق مع الموضوع العام للسورة الذي هو عقيدة التوحيد أي الولاء لله وحده والبراء مما سواه كالشيطان ، وتصحيح العقيدة وتصحيح منهج النظر والفكر على ضوء العقيدة .
وسوف نلحظ كل الخطابات الموجهة من الله تعالى لخلقه من ملائكة أو رسول أو بشر ، تنحو منحى خطاب فرد يتكلم ، وهو الله تعالى ، والطرف الثاني يسمع أو لا يجيب ، وفي ذلك إيحاء بالهيبة والجلال بشكل عام . وحتى خطاب البشر إلى الله تعالى ، كالدعاء ، كما سوف نرى ، يقتصر على كلام طرف واحد أيضاً ، لكنه طرف البشر ، وهو يعكس ما في نفوس المتكلمين من خشوع وإجلال لله عز وجلَ .
خطاب الله للعباد :
ورد في خمسة مواضع ضمن آيات خمس ، أحدها مخاطبة الموالين للشيطان : ( أفتتخذونه وذريته أولياء ) ، ثانيها في آية أخرى مواجهتهم بتحدٍّ لا قبل لهم به قائلاً : ( ويوم يقول : نادوا شركائي الذين زعمتم . فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقاً ) ( الآية 52) . وقد سبقت الإشارة إلى دور هذين الموضعين في القص والتناسق مع الموضوع العام ، ثالثها توجيه فتية الكهف المؤمنين إلى الملاذ الآمن : ( فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً ) ( الآية 16) ، ووظيفته سرد واقعة من جهة ، وبيان مقدار حب الله وحمايته لهم ، وتوفير الأمن والسلامة لهم ، جزاء على صدق ولائهم من جهة ثانية . رابعها مخاطبة منكري البعث بعد الموت وقد قامت القيامة فعلاً، وسيرت الجبال ، وحشروا صفاً لم يُستثنَ منهم أحد : ( لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ، بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً ) ( الآية 48) ، ووروده مفاجئاً يزيد من التخويف والوعيد . خامسها خطاب ذي القرنين : ( قلنا يا ذا القرنين . إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حُسناً ) ( الآية 86) ، ووظيفته تسمية الرجل أو الشخصية الرئيسة في قصته ، والتعريف بجوانبها ، كالقوة التي حباه الله إياها ، والشروع بالأحداث التي سوف يقوم بها ، مستخدماً فيها هذه القوة العادلة الراشدة ، مما يكمل القصة المرتبطة بموضوع السورة العام ارتباط ( المثل) بما يضرب له عادة . وهو هنا صحة عقيدة ذي القرنين ، وولاؤه الكامل لمولاه ، كصحة عقيدة الفتية المضطهدين . وهنا تقابل يحقق التناسق بين قصتين من سورة واحدة ، فالفتية أهل الكهف من الرعية المظلومة ، على حين جاء ذو القرنين حاكماً عادلاً ، لا يظلم أحداً . أما حين يجتمع الظالم والمظلوم على صعيد واحد ، مثل صاحب الجنتين والرجل المؤمن ، أو حين يلتقي التلميذ والمعلم ، كالنبي موسى والرجل الصالح ، فالحوار يحتاج إلى اشتباك جدالي ، وتبادل مباشر في الخطاب والمحاجة ، كما سوف نرى .
خطاب من العباد إلى الله ، الدعاء :
ورد في موضع واحد وفي آية واحدة ، قوله تعالى على لسان فتية الكهف المؤمنين : ( ربَّنا آتِنا من لدُنكَ رحمةً وهيّىء لنا من أمرِنا رشداً ) ( الآية 10) . الخشوع في الخطاب واضح ، والتماس العون والسداد من الله تعالى وحده ، واضح أيضاً . وهذا يتناسق مع موضوع السورة العام وهو : عقيدة التوحيد وتصحيحها ، وإذا سألتَ فاسألِ الله ، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله .
خطاب الله للرسول محمد :
وهو خطاب حافل ورد في عشرة مواضع ضمن ثلاث وثلاثين آية ، وهذا يتسق مع بناء السورة الذي قام على خطين ، أولهما : مخاطبة الرسول عليه السلام وصحبه الكرام في العهد المكي للتثبيت والتلقين والتفهيم والمواساة وغير ذلك مما سوف نبينه .
ويمكن أن نميز في هذا الخطاب نوعين أو مستويين من الخطاب ، أحدهما يقصد به الرسول عليه السلام شخصياً ، كقوله تعالى : ( واتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً . واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيِّ يريدون وجهه ، ولا تعدُ عيناكَ عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تُطعْ من أغفلنا قلبه عن ذكرِنا ، واتَّبعَ هواهُ ، وكان أمرهُ فُرُطاً .) (الآيتان 27و28) وغرضه التعليم والتفهيم والصبر مع المؤمنين في إخلاص الوجه لله عز وجلّ . وجاء قسم وافر منه في تلقين الله تعالى رسولَه المواقف والحجج والبراهين في مواجهة المشركين ، مثل الآيات السبع التي اختتمت بها السورة مبدوءة بلفظ ( قل ) ثلاث مرات : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً ...) ( الآيات 103- 108 ) (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً . قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد ، فمن كان يرجو لقاءَ ربه فليعملْ عملاً صالحاً ولا يُشركْ بعبادة ربه أحداً ) ( الآيتان 109و110) .
المستوى الثاني يُخاطب به الرسول أيضاً لكنه معدول عنه إلى غيره لغرض بلاغي ، مثل قوله تعالى ( وترى الشمسَ إذا طلعت تَزاورُ عن كهفِهم ذاتَ اليمين وإذا غربتْ تَقرضهم ذات الشمال .. وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ، ونقلبهم ذاتَ اليمين وذات الشمال .... لو اطلعتَ عليهم لوَلّيتَ منهم فراراً ولملئتَ منهم رُعباً) ( الآيتان 17و18 ) ، فالرسول لم يكن في زمن الفتية حتى يرى الشمس حين تطلع عليهم أو تغرب ، أو لم يطلع عليهم ليخاف ، ولا المقصود به الرسول وحده في الرؤية أو الاطلاع ، بل الناس كافة ، من خلال مخاطبة جنس البشر في شخص الرسول عليه السلام . وهذا المستوى غرضه السرد أو القص بشكل واضح ، وقد غلب على آيات الخط الأول ، مما عمل على استكمال جوانب القصص والأحداث المروية تمهيداً وتعقيباً وعرضاً ، وأسهم في تحديد الأزمنة والأمكنة بالإضافة ، إلى وصف الشخصيات وصفاً تحليلياً أيضاً .
على أن في هذا القسم من الخطاب مظهراً من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم ، لأنه ليس من مألوف البشر أو الأدب العربي أن يخاطب المتكلم نفسه ذاتاً أخرى مباينة كل المباينة ، وهذا خطاب يختلف عن النجوى المعروفة ، فـ( من الواجب أن نذكر – أولاً – مدى التباعد الرئيسي البيّن في الحوار بين الذات المتكلمة الآمرة الحازمة ، والذات المضطربة المجفلة ) (2) ، كما يقول مالك بن نبي تعليقاً على صيغة ( اقرأ) التي نزلت في أول آية قرآنية أوحيت على الرسول ، ويضيف الرجل قوله : ( وسنجد فيما بعد ، وإلى النهاية ، أن الذات المحمدية لن تتحدث مع الذات المتكلمة حين تخاطبها ، وهذا الصمت – في ذاته – جدير بالملاحظة ، لأنه يسجل إدراك الرسول صلى الله عليه وسلم النهائي أمام الظاهرة ، التي سيقف منها منذ ذلك الحين موقف التسليم ) ( 3) .
خطاب العباد بعضهم بعضاَ :
ورد في خمسة مواضع , وشغل مساحة أربع وثلاثين آية ، وهو حوار في أكثره جدلي ، تبرز فيه الخلافات والمحاجة والانفعالات العاطفية ، وتتباين المواقف حتى تبلغ القمة ، ثم تهدأ وتستقر أخيراً . فمما يظهر القلق النفسي والخوف من بطش الطغيان قول الفتية أهل الكهف لبعضهم : ( فابعثوا أحدكم بِوَرِقِكم هذه إلى المدينة ، فلينظرْ أيها أزكى طعاماً ، فليأتكم برزق منه ، وليتلطَّفْ ، ولا يُشعِرَنَّ بكم أحداً . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يُعيدوكم في ملتهم ، ولن تُفلحوا إذن أبداً ) ( الآيتان 19و20) .
ومما يرسم الشخصيات حتى يحولها إلى نماذج بشرية من نوعها ، ذلك الحوار الذي دار بين الغني المتغطرس والفقير المؤمن : ( فقال لصاحبه ، وهو يحاوره : أنا أكثر مالاً وأعزُّ نفراً . ودخل جنته وهو ظالم لنفسه . قال: ما أظن أن تبيد هذه أبداً ، وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رُددتُ إلى ربي لأجدنَّ خيراً منها منقلبا . قال له صاحبه وهو يحاوره : أكفرتَ بالذي خلقكَ من ترابِ ثم من نطفة ثم سوّاكَ رجلاً : لكنَّا هو الله ربي ، ولا أُشركُ بربي أحداً . ولولا إذ دخلتَ جنتَكَ قلتَ : ما شاءَ الُله ، لا قوةَ إلا بالله . إن تَرَنِ أنا أقلَّ منك مالاً وولداً ، فعسى ربي أن يُؤتيَني خيراً من جنتك ، ويُرسِلَ عليها حُسباناً من السماءِ ، فتُصبحَ صعيداً زَلَقاَ ، أو يُصبِحَ ماؤها غوراً ، فلن تستطيعَ لهُ طَلَباَ ) ( الآيات 34- 41 ) .
ومما يُلحظ فيه الصراع الصاعد إلى درجة التأزم والقمة ثم الحل بالإضافة إلى تصوير الشخصيات تصويراً حياً ، ذلك الحوار الذي دار بين النبي موسى والرجل الصالح : ( قال له موسى : هل أتبعُكَ على أن تُعلمني مما عُلِّمتَ ُرشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا ، وكيف تصبر على ما لم تُحط به خُبْرا . قال : ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً . قال : فإن اتبعتَني فلا تسألني عن شيء حتى أُحدِثَ لك منه ذِكرا . فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها . قال : أخرقتَها لتُغرق أهلَها لقد جئت شيئا إمراً . قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً . قال : لا تؤاخذني بما نسيتُ ولا تُرهقني من أمري عُسراً . فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله . قال : أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئتَ شيئاً نُكرًا . قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ، قال : إن سألتُك عن شيءِ بعدها فلا تُصاحبني قد بلغتَ من لدُنّي عُذراً . فانطلقا حتى إذا أتيا أهلَ قرية استطعما أهلها فأبَوا أن يُضيِّفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضَّ فأقامَه ، قال: لو شئتَ لا تخذتَ عليه أجراً . قال : هذا فراقُ بيني وبينِك سأُنبئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً . أما السفينة فكانت لمساكينَ يعملون في البحر ، فأردتُ أن أعيبَها ، وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينة غصباً . وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفراً . فأردنا أن يُبدلَهما ربُّهما خيراً منه زكاة وأقرب رُحْما . وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ لهما وكان أبوهما صالحاً ، فأراد ربُّك أن يبلغا أشُدَّهما ، ويستخرجا كنزهما رحمةً من ربك وما فعلتُه عن أمري . ذلك تأويل ما لم تسطعْ عليه صبراً ) ( الآيات 66-82) .
في كل من المشهدين الحواريين السابقين كانت تطرح قضية فكرية مختلف عليها ، ويظهر فيها طرفان ، ثم تدور معركة حجاج تنتهي بنتيجة انتصار موقف أحدهما على الآخر . ففي المشهد الأول كان الغني البطر طرفاً أولاً معتداً بماله وولده وبزعم الغلبة له في الدنيا وحتى الآخرة على الطرف الآخر ، وهو الفقير المؤمن المعتمد على الله حق الاعتماد ، ولما أُحيط بجنتي الرجل وبالثمر .. خسر المعركة ، فأعلن ندمه قائلاً : ( يا ليتني لم أُشرك بربي أحداً ) بعد فوات الأوان ( ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً . هنالك الولاية لله الحق ، هو خير ثواباً وخير عُقباً ) (الآيتان43و44).
وفي حوارية النبي موسى الطرف الأول ، والرجل الصالح الطرف الثاني ، كانت القضية المطروحة محدودية علم البشر أمام علم الله تعالى أو الغيب الذي عُلِّمه الرجل الصالح ، فالعلم البشري المحدود بظاهر الأمور لم يستسغ ( خرق سفينة المساكين ، ولا قتل الغلام بلا ذنب ، ولا بناء جدار بلا مقابل في قرية بخيلة ) فكانت النتيجة أن أوضح الرجل الصالح ما خفي من سر هذه الوقائع لموسى واحدة واحدة ، تحقيقاَ لحكمة الله وعدله وسعة علمه . وهكذا تصب كل من القضيتين المطروحتين في الموضوع العام للسورة : عقيدة التوحيد وتصحيح الفكر والنظر على ضوء هذه العقيدة .
أما الحوار المتعلق بفتية الكهف ، فله ثلاثة مشاهد ، أولها الخلاف مع قومهم حول التوحيد : ( لن ندعوَ من دونه إلهاً لقد قُلنا إذن شَطَطاً . هؤلاء قومنا اتخذوا م دونه آلهة لولا يأتون عليه بسلطان بيّن ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ) ( الآيتان 14و15 ) ، والمشهد الثاني خلاف بين الفتية أنفسهم حول المدة التي قضوها نائمين ، فاتفقوا على أن العلم اليقيني بذلك لله تعالى وحده : ( قالوا : ربكم أعلمُ بما لبثتم ) (الآية 22) ، والمشهد الثالث خلاف قومهم بعد مئة سنة ويزيد حول وضعهم وعددهم : ( إذ يتنازعون بينهم أمرهم ، فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربُّهم أعلمُ بهم .... سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ..) ( الآية 22) ، ومرة أخرى يردّ العلم الحقيقي إلى الله عزّ وجل : ( قل ربي أعلمُ بِعدتِهم ..) (الآية 22) ( قل اللهُ أعلمُ بما لبثوا ...أبصِرْ به وأسمِعْ..) ( الآية 26 ) . انسجاماً مع الموضوع العام للسورة أيضاً .
أما حوار ذي القرنين مع رعيته فلا نكاد نحس فيه خلافاً : ( قالوا : يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ، فهل نجعلُ لكَ خَرْجاً على أن تجعلَ بيننا وبينهم سدّاً . قال : ما مكنّي فيه ربي خيرٌ ، فأعينوني بقوة أجعلْ بينكم وبينهم ردماً ) ( الآيتان 94و95 ) ، بل نشهد رحلات ذي القرنين شرقاٌ وغرباً وحتى بين السدين منتصراً ، ولا تطغيه القوة ولا الانتصارات ، إذ يُرجع كل ذلك إلى فضل الله عليه ، وإلى أن القوة الحقيقية هي قوة الله وحده ، لا سيما بعد إنجازه بناء الردم وصبه الحديد المصهور ، وعجز قوم يأجوج ومأجوج عن أن يظهروه أو ينقبوه فـ: ( قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعدُ ربي جعله دكَّاءَ وكان وعدُ ربي حقاً ) ( الآية 98) ، وهذا انصباب آخر في موضوع السورة العام .
حوار العباد كان منوعاً بين الرعية والرعاة ، بين الظالم والمظلوم ، بين العالم والمتعلم ، بين العامة أنفسهم . وكان كله يتجه بانسجام إلى موضوع السورة العام . وهذا لون من ألوان الربط الفني والإحكام .
خطاب النفس ، النجوى :
ليس أصدق من كلام النفس في التعبير عن مكنوناتها ودخائلها ، وليس أقوى منه في التأثير على السامع أو المتلقي أيضاً ، لأنه حديث صريح ، يكشف المخبوء بلا حرج أو مواربة . وهذا المخبوء قد يكون بسبب الخوف أو الحياء أو ملابسات أخرى تحول دون التصريح به . وبذلك يضاف إلى مزايا الصراحة مزايا الكشف عن مجهول .
ولما كانت النفس الإنسانية هدفاً أساساً في الخطاب القرآني للهداية والتزكية ، كان هذا اللون من الخطاب ذا أهمية مضاعفة في سورة الكهف ، لانسجامه مع هدف السورة العام من جهة ، وتناسقه مع هدف القرآن العام من جهة ثانية .
ويكتسب هذا اللون من الخطاب جانباً آخر من الأهمية وروده في نهاية المواقف أو المصائر ، بمثابة ختام أو تعليق أو نتيجة للمقدمة أو المقدمات التي سبقت ، التي قد تكون حوارات ونقاشات مفعمة بالحجج والانفعالات والمدّ والجزر في الأفكار ، أشبه ما تكون بحال غريق تلاعب به الموج العاصف ، ثم وصل أخيراً إلى اليابسة سالماً مُعافى . لكن اليابسة قد تكون برداً وسلاماً ، أو ناراً وسعيراً .
يواجهنا ها اللون من الخطاب في ستة مواضع ، ضمن سبع آيات .
اثنان منهما يتقابلان تقابل الضدين ، على الرغم من أن أحدهما في قصة صاحب الجنتين ، والثاني في قصة ذي القرنين ، الأول الغني البطران الطامع بربه بغير حقّ ، فيقول : ( ولئن رُددتُ إلى ربي لأجدنّ خيراً منها مُنقلباً ) ( الآية 36) ، والآخر المتواضع المستسلم لربه برغم كل ما تمتع به من قوة وسلطان مشرقاً ومغرباً وبناء السد والحديد المصهور ، يقول : ( هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعدُ ربي جعله دكاءَ ، وكان وعدُ ربي حقاً )(الآية98) على أن تكرار لفظ الجلالة مع المضاف إليه ( ربي) ثلاث مرات فيه من الحلاوة والطلاوة ما فيه ، وبقدر ما يوجد في كلام ذي القرنين من الطمأنينة يوجد الشك في كلام صاحب الجنتين من استخدام (إن) حرف الشرط ، الذي يفيد الشك عادة وضعف الاحتمال . .
واثنان آخران يعكسان الندم والحسرة الشديدين ، أحدهما في الحياة الدنيا ، بعد غرق الجنتين بالحسبان وتدميرهما، وتقليب صاحبهما كفَّيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها : ( ويقول: يا ليتني لم أشرك بربي أحداً ) (الآية 42) ، والثاني يوم القيامة والحساب في الآخرة : ( ويقولون : يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ووجدوا ما عملوا حاضراً ، ولا يظلم ربُّكَ أحداً ) (الآية 49) .
والخامس نجوى الفتية أهل الكهف ، موحدين لله ، منيبين إليه بكل يقين واطمئنان : ( فقالوا : ربُّنا ربُّ السموات والأرض لن ندعوَ من دونهِ إلهاً ، لقد قلنا إذن شططاَ . هؤلاء قومُنا اتخذوا من دونهِ آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ؟ ) ( الآيتان 14و15 ) .
والسادس ، خطاب طريف من نوعه ، حين يستوي سرُّ الرجل وعلانيته في الاستقامة ، وهي حالة نادرة ، ألا وهو حديث ذي القرنين مع نفسه المؤمنة : ( قال: أما من ظلم فسوف نعذبه ، ثم يُردّ إلى ربه ، فيعذبه عذاباً نكرا . وأما من آمن وعمل صالحاً ، فله جزاءً الحسنى ، وسنقول له من أمرنا يُسراً ) ( الآيتان 87 و88 ) .
تناسق الحوار مع بناء السورة :
رأينا بناء السورة يقوم على خطين متوازيين : الأول خطاب الله تعالى لرسوله الكريم ، وهو في الوقت نفسه خطاب للجماعة المسلمة في العهد المكي ، والخط الثاني : هو القصص أو الأمثلة المضروبة لتعزيز الخط الأول تمثيلاً وتوكيداً وتوضيحاً . والمساحة التي يشغلها الخط الثاني ، حجمها أكبر بكثير من الخط الأول ، يكاد يكون الضعف ، بمعدّل ( 71 آية للثاني ) مقابل ( 39 للأول) . وقد جاء الحوار متناسقاً مع هذا البناء من وجهين :
التناسق الأول كان في اتخاذ الحوار السردي وحده طوال مسيرة الخطاب الأول من الله تعالى لرسوله الكريم ، فالمولى تعالى وحده يتكلم ، والرسول مصغ صامت . على حين اتخذ الحوار الجدلي السمة الغالبة على الخط الثاني ، خط القصص أو الأمثلة ، حيث ارتفعت الأصوات وتباينت وتضاربت بين بني البشر . وهو تناسق أعمق مما نشير إليه ، لاستجابته لمنحنيات النفوس والمواقف في كل منهما ، ولطبيعة العلاقة بين المخاطبين : أي بين الله تعالى والعباد من جهة ، وبين العباد أنفسهم مثلاً .
التناسق الثاني هو المساحة التي شغلها الحوار في كل من الخطين المتوازيين . فقد شغل الحوار السردي في الخط الأول ما مقداره ثلاث وثلاثون آية ، على حين شغل الحوار الجدلي ما مقداره أربع وثلاثون آية . وفي ذلك ما فيه من توازن خفي يعمل عمله في نفس المتلقي .
---------------
(1) – المعجم الأدبي – جبور عبد النور – دار العلم للملايين – ط1 : 1979م – بيروت – ص : 100 .
(2) – الظاهرة القرآنية – مالك بن نبي – دار القرآن الكريم – ط : 1398هـ = 1978م – ص : 194 .
(3) – المصدر السابق : ص : 196.
http://hasnawi.net/index.php?option=com_content&task=view&id=176&Itemid=33

الأكثر مشاركة في الفيس بوك