كيفية دعوة الوثنيين إلى اللَّه تعالى

كيفية دعوة الوثنيين إلى اللَّه تعالى
في ضوء الكتاب والسنة

تأليف الفقير إلى اللَّه تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني

ههه
المقدمة
إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في ((كيفية دعوة الوثنيين المشركين إلى اللَّه تعالى)) بيّنت فيها بإيجاز الأساليب والوسائل والطرق الحكيمة في دعوتهم إلى اللَّه تعالى.
واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
حرر ضحى يوم الخميس 25/2/1425ه‍

تمهيد:
الوثني: من يتدين بعبادة الوثن( )، يقال: رجل وثنيٌّ، وقوم وثنيُّون، وامرأة وثنية، ونساء وثنيَّات( )، واسم الوثن يتناول كل معبود من دون اللَّه. سواء كان ذلك المعبود قبراً، أو مشهداً، أو صورة، أو غير ذلك( ).
وكل من دعا نبيّاً أو وليّاً أو ملكاً أو جنيّاً، أو صرف له شيئاً من العبادة فقد اتخذه إلهاً من دون اللَّه( )، وهذا هو حقيقة الشرك الأكبر، الذي قال اللَّه – تعالى – فيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ ( ).
والمشركون يُدعَون إلى اللَّه – تعالى – بالحكمة القولية على حسب عقولهم وأفهامهم.
وسأبين ذلك – بإذن اللَّه تعالى – في المباحث الآتية:
المبحث الأول: الحجج والبراهين العقلية القطعية على إثبات ألوهية اللَّه تعالى.
المبحث الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون اللَّه من كل الوجوه.
المبحث الثالث: ضرب الأمثال الحكيمة.
المبحث الرابع: الكمال المطلق للإله المستحق للعبادة وحده.
المبحث الخامس: التوحيد دعوة جميع الرسل، عليهم الصلاة والسلام.
المبحث السادس: الغلو في الصالحين سبب كفر بني آدم.
المبحث السابع: الشفاعة المثبتة والمنفية.
المبحث الثامن: الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده.
المبحث التاسع: البعث بعد الموت.
المبحث الأول: الحجج العقلية القطعية على إثبات ألوهية اللَّه تعالى
من البراهين القطعية التي ينبغي للدعاة إلى اللَّه تبيينها وتوضيحها لمن اتخذ من دون اللَّه آلهة أخرى، قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾( ).
فقد أنكر – سبحانه – على من اتخذ من دونه آلهة من الأرض، سواء كانت أحجاراً أو خشباً، أو غير ذلك من الأوثان التي تعبد من دون اللَّه! فهل هم يحيون الأموات ويبعثونهم؟ والجواب: كلا، لا يقدرون على شيء من ذلك، ولو كانت في السماوات والأرض آلهة تستحق العبادة غير اللَّه لفسدتا وفسد ما فيهما من المخلوقات؛ لأن تعدد الآلهة يقتضي التمانع والتنازع والاختلاف، فيحدث بسببه الهلاك، فلو فُرِضَ وجود إلهين، وأراد أحدهما أن يخلق شيئاً والآخر لا يريد ذلك، أو أراد أن يُعطي والآخر أراد أن يمنع، أو أراد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه، فحينئذ يختل نظام العالم، وتفسد الحياة!، وذلك:
• لأنه يستحيل وجود مرادهما معاً، وهو من أبطل الباطل؛ فإنه لو وجد مرادهما جميعاً للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حيّاً ميتاً، متحركاً ساكناً.
• وإذا لم يحصل مراد واحد منهما لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية.
• وإن وُجِدَ مراد أحدهما ونفذ دون مراد الآخر، كان النافذ مراده هو الإله القادر، والآخر عاجز ضعيف مخذول.
• واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن.
وحينئذ يتعين أن القاهر الغالب على أمره هو الذي يوجد مراده وحده من غير مُمانع ولا مُدافع، ولا مُنازع ولا مُخالف ولا شريك، وهو اللَّه الخالق الإله الواحد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ ولهذا ذكر – سبحانه – دليل التمانع في قوله : ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ( ).
وإتقان العالم العلوي والسفلي، وانتظامه منذ خلقه، واتساقه، وارتباط بعضه ببعض في غاية الدقة والكمال: ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾( ). وكل ذلك مسخر، ومدبر بالحكمة لمصالح الخلق كلهم – يدل على أن مدبره واحد، وربه واحد، وإلهه واحد، لا معبود غيره، ولا خالق سواه( ).
المبحث الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون اللَّه من كل الوجوه
من المعلوم عند جميع العقلاء أن كل ما عُبِدَ من دون اللَّه من الآلهة ضعيف من كل الوجوه، وعاجز ومخذول، وهذه الآلهة لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً من ضر أو نفع، أو حياة أو موت، أو إعطاء أو منع، أو خفض أو رفع، أو عز أو ذل، وأنها لا تتصف بأي صفة من الصفات التي يتصف بها الإله الحق، فكيف يعبد من هذه حاله؟ وكيف يُرجى أو يُخاف من هذه صفاته؟ وكيف يُسأل من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئاً( ).
وقد بيّن اللَّه  ضعف وعجز كل ما عبد من دونه أكمل بيان، فقال – سبحانه -: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ( )، ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ، وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّـيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ* وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ ( ).
وهي مع هذه الصفات لا تملك كشف الضر عن عابديها ولا تحويله إلى غيرهم ﴿قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً﴾ ( ).
ومن المعلوم يقيناً أن ما يعبده المشركون من دون اللَّه من: الأنبياء أو الصالحين أو الملائكة أو الجن الذين أسلموا، أنهم في شغل شاغل عنهم باهتمامهم بالافتقار إلى اللَّه بالعمل الصالح، والتنافس في القُرب من ربهم، يرجون رحمته ويخافون عذابه، فكيف يُعبَدُ من هذه حاله؟( ) قال تعالى: ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ ( ).
وقد أوضح وبيَّن سبحانه أن ما عُبِدَ من دونه قد توفرت فيهم جميع أسباب العجز وعدم إجابة الدعاء من كل وجه؛ فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض لا على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك، وليس للَّه من هذه المعبودات من ظهير يساعده على ملكه وتدبيره، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له( )، قال : ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.. ﴾ ( ).
المبحث الثالث: ضرب الأمثلة الحكيمة
ضرب الأمثال من أوضح وأقوى أساليب الإيضاح والبيان في إبراز الحقائق المعقولة في صورة الأمر المحسوس، وهذا من أعظم ما يُردُّ به على الوثنيين في إبطال عقيدتهم وتسويتهم المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم؛ ولكثرة هذا النوع في القرآن الكريم فسأقتصر على ثلاثة أمثلة توضح المقصود كالآتي:
1 - قال اللَّه : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ( ).
حق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه، فالآلهة التي تُعبد من دون اللَّه لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف بما هو أكبر منه، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئاً مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو أضعف المخلوقات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة الباطلة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون اللَّه؟!
وهذا المثل من أبلغ ما أنزل اللَّه – تعالى – في بطلان الشرك وتجهيل أهله( ).
2 - ومن أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده، قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاّ الْعَالِمُونَ﴾ ( ).
فهذا مثل ضربه اللَّه لمن عبد معه غيره يقصد به التعزز والتقوي والنفع، فبين – سبحانه – أن هؤلاء ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياء من دون اللَّه أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت التي هي من أضعف الحيوانات، اتخذت بيتاً وهو من أضعف البيوت، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفاً، وكذلك من اتخذ من دون اللَّه أولياء، فإنهم ضعفاء، وازدادوا باتخاذهم ضعفاً إلى ضعفهم( ).
3 - ومن أبلغ الأمثال التي تُبيّن أن المشرك قد تشتت شمله واحتار في أمره، ما بيَّنه تعالى بقوله: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ ( ).
فهذا مثل ضربه اللَّه – تعالى - للمشرك والموحد، فالمشرك لمَّا كان يعبد آلهة شتى شُبِّهَ بعبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون، سيئة أخلاقهم، يتنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، فهو في عذاب.
والموحِّد لما كان يعبد اللَّه وحده لا شريك له، فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه واختلافهم، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ والجواب: كلا، لا يستويان أبداً( ).
المبحث الرابع: الكمال المطلق للإله الحق المستحق للعبادة وحده
بعد أن عرفنا صفات الآلهة الباطلة، وأنها لا تملك لنفسها ولا لغيرها ضرّاً ولا نفعاً، فهي لا تستحق العبادة، وإنما الذي يستحق العبادة وحده من يملك القدرة على كل شيء، والإحاطة بكل شي، وكمال السلطان والغلبة والقهر والهيمنة على كل شيء، والعلم بكل شيء، ويملك الدنيا والآخرة، والنفع والضر، والعطاء والمنع بيده وحده، فمن كان هذا شأنه فإنه حقيق بأن يُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى، ولا يُشرك معه غيره( ).
وصفات الكمال المطلق للَّه – تعالى – لا يحيط بها أحد، ولكن منها على سبيل المثال.
1 - المتفرد بالألوهية: لا يستحق الألوهية إلا اللَّه وحده، الحي الذي لا يموت أبداً، القيوم الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع المخلوقات، وهي مفتقرة إليه في كل شيء، ومن كمال حياته وقيوميته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وجميع ما في السماوات والأرض عبيده، وتحت قهره وسلطانه: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا﴾ ( ).
ومن تمام ملكه وعظمته وكبريائه أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم، ولا يأذن إلا لمن ارتضى، وعلمه تعالى محيط بجميع الكائنات، ولا يطلع أحد على شيء من علمه إلا ما أطلعهم عليه، ومن عظمته أن كرسيه وسع السموات والأرض، وأنه قد حفظهما وما فيهما من مخلوقات، ولا يثقله حفظهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القاهر لكل شيء، العلي بذاته على جميع مخلوقاته، والعلي بعظمته وصفاته، العلي الذي قهر المخلوقات، ودانت له الموجودات، العظيم الجامع لصفات العظمة والكبرياء، وقد دل على هذه الصفات العظيمة قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ... ﴾ الآية( ).
2 - وهو الإله الذي خضع كل شيء لسلطانه، فانقادت له المخلوقات بأسرها: جماداتها وحيواناتها، وإنسها وجنّها وملائكتها ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ ( ).
3 - وهو الإله الذي بيده النفع والضر، فلو اجتمع الخلق على أن ينفعوا مخلوقاً لم ينفعوه إلا بما كتبه اللَّه له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إذا لم يرد اللَّه ذلك ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ( ).
4 - وهو القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ( ).
5 - إحاطة علمه بكل شيء، شامل للغيوب كلها: يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون( )،﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ﴾ ( )، ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ ( )، ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ ( )، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ( ).
ولا شك أن من عرف هذه الصفات وغيرها من صفات الكمال والعظمة، فإنه سيعبد اللَّه وحده؛ لأنه الإله المستحق للعبادة.
المبحث الخامس: التوحيد دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام
يجب أن يُبلّغ كل من أشرك باللَّه – تعالى – أن الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – دعوا أقوامهم إلى عبادة اللَّه وحده دون ما سواه، وأن الحجة قد قامت على جميع الأمم، وما من أمة إلا بعث اللَّه فيهم رسولاً، وكلهم يدعون إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له( )، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ ( )، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ﴾ ( )، وقال تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ ( ).
فبيّن سبحانه في هذه الآيات عن طريق العموم أن جميع الرسل دعوا إلى ((لا إله إلا اللَّه))، وخلع جميع المعبودات من دون اللَّه( )، وفصَّل ذلك في مواضع أخرى من كتابه، كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾ ( )، ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾ ( )، ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾ ( )، ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾ ( )، ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ ( ).
وهذا بلاغ مبين من اللَّه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فالداعية إلى اللَّه – تعالى – يقوم بإيصال هذه الحكم القولية إلى الناس، ويبين لهم ذلك، فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها، وما ربك بظلام للعبيد.
المبحث السادس: الغلو في الصالحين سبب شرك البشر
من أعظم الحكم القولية في دعوة من تعلق بغير اللَّه – تعالى -، أن يبين لهم أن الغلو في الصالحين هو سبب الشرك باللَّه – تعالى – فقد كان الناس منذ أُهبط آدم × إلى الأرض على الإسلام، قال ابن عباس ^: ((كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام))( ).
وبعد ذلك تعلق الناس بالصالحين، ودب الشرك في الأرض، فبعث اللَّه نوحاً × يدعو إلى عبادة اللَّه وحده، وينهى عن عبادة ما سواه( )، وردّ عليه قومه: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ ( ).
وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدت((( ).
وهذا سببه الغلو في الصالحين، فإن الشيطان يدعو إلى الغلو في الصالحين وإلى عبادة القبور، ويُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على اللَّه بها، وشأن اللَّه أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون اللَّه، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه الستور، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويذبح عنده، ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيداً، ثم ينقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقَّص أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون( ).
ولهذا حذَّر اللَّه عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفع المخلوق عن منزلته التي أنزله اللَّه – تعالى – كما قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ ( )، ولهذا حذَّر رسول اللَّه × عن الإطراء، فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد اللَّه ورسوله))( )، وقال: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين))( ).
وحذر × عن اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن عبادة اللَّه عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم، ولهذا لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة ^ لرسول اللَّه × كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللَّه يوم القيامة)).
ومن حرص النبي × على أمته أنه عندما نزل به الموت قال: ((لَعْنَةُ اللَّه على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). قالت عائشة ’: يحذر ما صنعوا( ).
وقال قبل أن يموت بخمس: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك))( ).
وحذّر × أمته عن اتخاذ قبره وثناً يعبد من دون اللَّه، ومن باب أولى غيره من الخلق، فقال: ((اللَّهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب اللَّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))( ).
ولعن × من اتخذ المساجد على القبور؛ لينفِّر عن هذا الفعل، فعن ابن عباس ^ قال: ((لعن رسول اللَّه × زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج))( ).
ولم يترك × باباً من أبواب الشرك التي تُوصّل إليه إلا سدّه( )، قال ×:((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها))( ).
وقد بيّن × أن القبور ليست مواضع للصلاة، وأن من صلى عليه وسلم فستبلغه صلاته، سواء كان بعيداً عن قبره أو قريباً، فلا حاجة لاتخاذ قبره عيداً: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم))( ).
وقال ×: ((إن للَّه ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام))( ).
وإذا كان قبر النبي × أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فغيره أولى بالنهي كائناً ما كان( ).
وقد كان × يطهر الأرض من وسائل الشرك، فيبعث بعض أصحابه إلى هدم القباب المشرفة على القبور، وطمس الصور، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللَّه ×؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته))( ).
وكما سد × كل باب يوصّل إلى الشرك، فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه، فقال ×: ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)).
فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد، وهو الذي فهمه الصحابة  من قول النبي ×، ولهذا عندما ذهب أبو هريرة  إلى الطور، فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين جئت؟ قال: من الطور، فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه، سمعت رسول اللَّه × يقول: ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد...))( ).
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره × أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك))( ).
فتبين أن زيارة القبور نوعان:
النوع الأول: زيارة شرعية يقصد بها السلام عليهم، والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات صلاة الجنازة؛ ولتذكر الموت؛ ولاتباع سنة النبي ×، بشرط عدم شد الرحال.
النوع الثاني: زيارة شركية وبدعية( )، وهذا النوع ثلاثة أنواع:
1 - من يسأل الميت حاجته، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام.
2 - من سأل اللَّه – تعالى – بالميت، كمن يقول: أتوسل إليك بنبيك، أو بحق الشيخ فلان، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخرِجُ عن الإسلام كما يُخرِج الأول.
3 - من يظنّ أن الدعاء عند القبور مُستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، وهذا من المنكرات بالإجماع( ).
فإذا سلك الداعية هذه المسالك في دعوة الوثنيين بالحكمة القولية وُفّق بإذن اللَّه تعالى.
المبحث السابع: الشفاعة المثبتة والمنفية
الشفاعة لغة: يُقال: شفع الشيء: ضمَّ مثله إليه، فجعل الوتر شفعاً( ).
واصطلاحاً: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرةٍ( ).
من الحكمة القولية في دعوة من يتعلق بغير اللَّه – تعالى – ويطلب الشفاعة منه أن يبين له أن الشفاعة ملك للَّه وحده ﴿قُل للَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ( ).
ويمكن أن يرد على من طلب الشفاعة من غير اللَّه – تعالى – بالأقوال الحكيمة الآتية:
أولاً: ليس المخلوق كالخالق، فكل من قال: إن الأنبياء والصالحين والملائكة أو غيرهم من المخلوقين لهم عند اللَّه جاهٌ عظيمٌ ومقاماتٌ عاليةٌ، فهم يشفعون لنا عنده كما يتقرب إلى الوجهاء والوزراء عند الملوك والسلاطين، ليجعلوهم وسائط لقضاء حاجاتهم، فهذا القول من أبطل الباطل؛ لأنه شبه اللَّه العظيم ملك الملوك بالملوك الفقراء المحتاجين للوزراء والوجهاء في تكميل ملكهم ونفوذ قوتهم، فإن الوسائط بين الملوك وبين الناس على أحد وجوه ثلاثة:
1 - إما لإخبارهم عن أحوال الناس بما لا يعرفونه.
2 - أو يكون الملكُ عاجزاً عن تدبير رعيته فلابدّ له من أعوان؛ لذُلِّهِ وعجزه.
3 - أو يكون الملك لا يريد نفع رعيته والإحسان إليهم، فإذا خاطبه من ينصحه ويعظه تحركت إرادته وهمّته في قضاء حوائج رعيته.
واللَّه  ليس كخلقه الضعفاء، فهو تعالى لا تخفى عليه خافية، وغني عن كل ما سواه، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، ومعلوم أن الشافع عند ملوك الدنيا قد يكون له ملك مستقل، وقد يكن شريكاً لهم، وقد يكون معاوناً لهم، فالملوك يقبلون شفاعته لأحد ثلاثة أمور:
( أ ) تارة لحاجتهم إليه. ( ب ) وتارة لخوفهم منه.
( ج ) وتارة لجزاء إحسانه إليهم.
وشفاعة العباد بعضهم عند بعض من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة، واللَّه  لا يرجو أحداً ولا يخافه، ولا يحتاج إليه( )، ولهذا قطع اللَّه جميع أنواع التعلقات بغيره، وبين بطلانها، فقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.. ﴾ ( ).
فقد سدّت هذه الآية على المشركين جميع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك أبلغ سد وأحكمه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وحينئذ فلابد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو يكون شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده( ).
ثانياً: الشفاعة شفاعتان:
( أ ) شفاعة مثبتة: وهي التي تطلب من اللَّه، ولها شرطان:
الشرط الأول: إذن اللَّه للشافع أن يشفع، لقوله تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ ( ).
الشرط الثاني: رضا اللَّه عن الشافع والمشفوع له، لقوله تعالى: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ ( )، ﴿يَومَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً﴾ ( ).
( ب ) الشفاعة المنفية: وهي التي تطلب من غير اللَّه فيما لا يقدر عليه إلا اللَّه، والشفاعة بغير إذنه ورضاه، والشفاعة للكفار: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ ( )، ويستثنى شفاعته × في تخفيف عذاب أبي طالب( ).
ثالثاً: الاحتجاج على من طلب الشفاعة من غير اللَّه بالنص والإجماع، فلم يكن النبي × ولا الأنبياء من قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة، أو الأنبياء، أو الصالحين، ولا يطلبوا منهم الشفاعة، ولم يفعل ذلك أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولم يستحبّ ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا مجتهد يعتمد على قوله في الدين، ولا من يعتبر قوله في مسائل الإجماع، فالحمد للَّه رب العالمين( ).
المبحث الثامن: الإله الحق سخر جميع ما في الكون لعباده
من الحكمة في دعوة المشركين إلى اللَّه – تعالى – لفت أنظارهم وقلوبهم إلى نعم اللَّه العظيمة: الظاهرة والباطنة، والدينية والدنيوية. فقد أسبغ على عباده جميع النعم ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ ( )، وسخر هذا الكون وما فيه من مخلوقات لهذا الإنسان.
وقد بين سبحانه هذه النعم، وامتن بها على عباده، وأنه المستحق للعبادة وحده، ومما امتن به عليهم ما يأتي:
أولاً: على وجه الإجمال:
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا... ﴾ ( )، ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ ( ) الآية. ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ( ).
فقد شمل هذا الامتنان جميع النعم: الظاهرة والباطنة، الحسيّة والمعنوية، فجميع ما في السموات والأرض قد سُخّر لهذا الإنسان، وهو شامل لأجرام السموات والأرض، وما أودع فيهما من: الشمس والقمر والكواكب، والثوابت والسيارات، والجبال والبحار والأنهار، وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمار، وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو من مصالح بني آدم، ومصالح ما هو من ضروراتهم للانتفاع والاستمتاع والاعتبار.
وكل ذلك دالّ على أن اللَّه وحده هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له، وهذه أدلة عقلية لا تقبل ريباً ولا شكًّا على أن اللَّه هو الحق، وأن ما يُدعى من دونه هو الباطل( )،﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ ( ).
ثانياً: على وجه التفصيل:
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ* وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾( ).
وقال  بعد أن ذكر نعماً كثيرة: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ( ).
أفمن يخلق هذه النعم وهذه المخلوقات العجيبة كمن لا يخلق شيئاً منها؟
ومن المعلوم قطعاً أنه لا يستطيع فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم اللَّه به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه في بدنه، وكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها واختلاف أجناسها؟( ).
ولا يسع العاقل بعد ذلك إلا أن يعبد اللَّه الذي أسدى لعباده هذه النعم ولا يشرك به شيئاً، لأنه المستحق للعبادة وحده سبحانه.
المبحث التاسع: البعث بعد الموت
استبعد المشركون والملحدون إعادة الأجساد بعد موتها، إذا تقطعت الأوصال، وتمزقت الأجساد، وبليت العظام وتفتت وتفرّقت في أجزاء الأرض، وتحلل الجسد إلى ذرات ترابية، وربما أكلته السباع، فصار غذاء لها واختلط بأجزائها( ).
ومن الحكمة القولية في دعوة هؤلاء إلى الإيمان بالبعث أن تُسلك معهم المسالك الآتية:
المسلك الأول: الأدلة العقلية.
المسلك الثاني: الأدلة الحسية.
المسلك الثالث: الأدلة الشرعية.
المسلك الأول: الأدلة العقلية:
أولاً: حكمة اللَّه – تعالى – وعدله يقتضيان البعث والجزاء:
لقد شاء اللَّه  أن يجعل الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار وعمل، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأمر بعبادته وحده، وجعل داراً أخرى، وذلك من مقتضيات ملكه وحكمته وعدله؛ ليُثيب المحسن على إحسانه، ويُجازي المسيء على إساءته، ولم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم هملاً، قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ ( )، ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ ( ), ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾ ( ).
وهو  لا يساوي بين الخبيث والطيب، والمحسن والمسيء والكافر والمؤمن، وقد أنكر على من ظن ذلك( ) فقال تعالى: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ ( )، ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ( ).
ثانياً: القادر على إيجاد الخلق قادر على إعادته، وهو أهون عليه.
الشيء إذا لم يكن ثم كان ثم أعدم فإن إعادته أيسر وأهون على من بدأه أول مرة ثم أفناه، وقد ردَّ اللَّه – سبحانه – على من أنكر البعث بهذا، فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ ( ), ﴿وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ ( ).
وغير ذلك من الأدلة القطعية التي تدل على أن من خلق الخلائق وابتدع خلقهم على غير مثال سابق قادر على إعادة خلقهم مرة أخرى، وهو أهون عليه، وله المثل الأعلى( ).
ثالثاً: الخالق لمَّا هو أعظم قادر على خلق ما هو أصغر بلا شك:
من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم، فخلقه لهذه المخلوقات العظيمة وقدرته عليها من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت؛ لأن من خلق الأعظم الأكبر لا شك في قدرته الكاملة على خلق الأيسر الأضعف الأصغر، وهو أولى بالقدرة والإمكان من الأعظم( )، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ( ).
رابعاً: اليقظة بعد النوم:
النوم يعتبر موتاً مصغراً، والاستيقاظ يعتبر حياة مصغرة أيضاً، وكما تتم عملية النوم للإنسان والحيوان وعملية الاستيقاظ تتم عملية الموت والحياة الكاملة لهما( )، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ( ).
ومن آيات اللَّه العظيمة الباهرة الدالة على بعث الأرواح والأجساد ما أجراه اللَّه سبحانه على أهل الكهف من نوم ثلاثمائة سنة وازدادوا تسع سنين، ثم بعثهم بعد هذا النوم الطويل( ): ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا﴾ ( ).
خامساً: إخراج النار من الشجر الأخضر:
ومن الأدلة على بعث الأجساد والأرواح قدرة اللَّه – تعالى – على إخراج النار اليابسة المحرقة من الشجر الأخضر الذي هو في غاية الرطوبة مع تضادهما وشدة تخالفهما، فالقادر على أن يخلق من الشجر الأخضر ناراً أولى بالقدرة على أن يخرج إنساناً حيّاً من التراب، كما خلقه أول مرة( )،﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ﴾ ( ).
المسلك الثاني: الأدلة الحسية:
من الأدلة الحسية التي شاهدها الناس ونقلها لنا أعظم الكتب والمهيمن عليها ما يأتي:
أولاً: إحياء اللَّه الموتى في الحياة الدنيا:
فمن أعظم البراهين التي تدل على البعث إحياء اللَّه –  – بعض الموتى في الحياة الدنيا؛ لأن من أحيا نفساً واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ ( ).
ومن هذا النوع الأمثلة الآتية:
1 - قوم موسى حين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى اللَّه جهرةً، فأماتهم اللَّه – تعالى – ثم أحياهم، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ( ).
2 - قصة القتيل الذي اختصم فيه بنو إسرائيل، فأمرهم اللَّه تعالى أن يذبحوا بقرة، ثم يضربوه ببعضها، ثم فعلوا فأحياه اللَّه، فأخبر بمن قتله، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ( ).
3 - قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فأماتهم اللَّه تعالى ثم أحياهم، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ ( ).
4 - قصة الرجل الذي مرّ على قرية ميتة فاستبعد أن يُحييها اللَّه، فأماته اللَّه مائة سنة ثم أحياه، قال تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾( ).
5 - قصة إبراهيم × حين سأل اللَّه – تعالى – أن يريه كيف يحيي الموتى؟ فأمره أن يذبح أربعة من الطير، ويفرقهن أجزاء على الجبال التي حوله، ثم يناديهن فتجتمع الأجزاء بعضها إلى بعض، وتأتي إلى إبراهيم سعياً( )، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ( ).
6 - ما أخبر اللَّه به عن عيسى × من أنه كان يحيي الموتى، ويخرجهم من قبورهم بإذن اللَّه تعالى: ﴿وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾( )، ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي﴾ ( ).
فهذه أدلة حسية واقعة، وبرهان قطعي على القدرة الإلهية، وأن الذي أماتهم ثم أحياهم قادر على بعثهم يوم القيامة، فإنه لا يعجزه شيء سبحانه( ).
ثانياً: إحياء الأرض بعد موتها:
إحياء اللَّه الأرض بعد موتها بُرهان قاطع من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت؛ لأنه بُرهان حسي يتجدد بين يدي الناس، ويشاهدون فيه آثار قدرة اللَّه – تعالى – في الإحياء المتجدد، ولأن من أخرج النبات وجعل في الأرض من كل زوج بهيج فأحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم( ) قال اللَّه – تعالى -: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ ( )، ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ( )، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ( ).
المسلك الثالث: الأدلة الشرعية:
رد اللَّه – تعالى – شبه المنكرين للبعث، فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ ( )، ﴿ق~ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾( ).
فبيّن سبحانه أنه يعلم ما تأكل الأرض من أجسادهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم، ولا يخفى عليه أين تفرقت، وإلى أين ذهبت، كل ذلك عنده في كتاب مضبوط محفوظ( ).
وأمر اللَّه رسوله × أن يُقسم بربه – سبحانه – على وقوع البعث ووجوده، وأنه لا يغيب عن اللَّه – تعالى – مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ولا يعجزه شيء( )، قال تعالى: ﴿وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ ( )، ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ( ).
فإذا استخدم الداعية إلى اللَّه – تعالى – في دعوته للوثنيين بالحكمة القولية ما جاء في هذه المطالب ومسالكها التفصيلية، كان مصيباً مسدداً، منزلاً للناس منازلهم، سالكاً طريق الحكمة في دعوتهم بإذن اللَّه تعالى.
المبحث العاشر: الدعوة بالقوة الفعلية مع الكفار
المطلب الأول: مراتب الدعوة إلى اللَّه تعالى
قد دل كتاب اللَّه على أن مراتب الدعوة – بحسب مراتب البشر – قال اللَّه تعالى -: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ( )، وقال تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ ( )، فاتضح بذلك أن مراتب الدعوة إلى اللَّه أربع مراتب كالآتي:
المرتبة الأولى: الحكمة.
المرتبة الثانية: الموعظة الحسنة.
المرتبة الثالثة: الجدال بالتي هي أحسن.
المرتبة الرابعة: استخدام القوة.
ولابد أن تكون مرتبة الحكمة ملازمة لجميع المراتب التي بعدها، فالموعظة لابد أن توضع في موضعها، والجدال في موضعه، واستخدام القوة في موضعه مع بيان الحق بدليله والإصابة في الأقوال والأفعال، وكل ذلك بإحكام وإتقان.
وبهذا تكون مراتب المدعوِّينَ بحسب هذه المراتب كالآتي:
1 - المستجيب الذكي، القابل للحق، الذي لا يعاند ولا يأباه، وهذا يُبيّن له الحق علماً وعملاً واعتقاداً، فيقبله ويعمل به.
2 - القابل للحق المعترف به؛ لكن عنده نوع غفلة وتأخر، وله أهواء وشهوات تصدّه عن اتباع الحق، فهذا يُدعى بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل.
3 - المعاند الجاحد، فهذا يُجادل بالتي هي أحسن( ).
4 - فإن ظلم المعاند ولم يرجع إلى الحق انتُقل معه إلى مرتبة استخدام القوة إن أمكن.
واستخدام القوة يكون بالكلام، وبالتأديب لمن له سلطة وقوة، وبالجهاد في سبيل اللَّه – تعالى – تحت لواء ولي أمر المسلمين بالشروط التي دلّ عليها الكتاب والسنة( )، وهذا ما يقتضيه مفهوم الحكمة الصحيح؛ لأنها وضع الشي في موضعه اللائق به بإحكام وإتقان وإصابة.
ويزيد ذلك وضوحاً وبياناً ما كان عليه رسول اللَّه × وهو الذي أعطاه ربه من الحكمة ما لم يعط أحداً من العالمين، فقد كان يضع العلم والتعليم والتربية في مواضعها، والموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، والقوة والغلظة والسيف في مواضعها، وهذا من أحكم الحكم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ ( )، وهذا عين الحكمة في الدعوة إلى اللَّه تعالى( ).
المطلب الثاني: أسباب استخدام القوة الفعلية مع الكفار
أصناف المدعوين: من الملحدين، والوثنيين، وأهل الكتاب، وغيرهم من الكفار إذا لم يؤثر فيهم ما تقدم من حكمة القول في دعوتهم، ولم يستفيدوا من حكمة القول العقلية، والحسية، والنقلية، والبراهين المعجزة، والجدال بالتي هي أحسن، وأعرضوا وكذبوا فحينئذ يكون آخر الطب الكي: وهو استخدام القوة؛ فإن لها الأثر العظيم في نشر الدعوة، وقمع الباطل وأهله، ونصر الحق وأهله، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ( ).
فبين – سبحانه – أنه أرسل الرسل عليه الصلاة والسلام، بالبينات وهي: المعجزات، والحُجج الباهرات، والبراهين السَّاطعات، والدلائل القاطعات، التي يوضح اللَّه بها الحقّ، ويدفع بها الباطل، وأنزل مع الرسل الكتاب الذي فيه البينات والهدى والإيضاح، وأنزل معهم الميزان: وهو العدل في الأقوال والأفعال الذي يُنصَف به المظلوم من الظالم، ويقام به الحق، ويعامل الناس على ضوئه بالحق، وأنزل الحديد فيه قوة وردع وزجر لمن خالف الحق، فالحديد لمن لم تنفع فيه الحجة والبرهان وتؤثر فيه البيّنة، فهو الملزم بالحق والقامع للباطل بإذن اللَّه – تعالى –. ولقد أحسن من قال في مثل هذا:
وما هو إلا الوحْيُ أوْحَدُّ مُرْهَفٍ
تُميلُ ظُبَاه أخدَعَيْ كُلِّ مائِلِ

فهذا دواءُ الدَّاءِ مِن كلِّ عالمٍ
وهذا دواءُ الدَّاءِ من كُلِّ جاهِلِ

هوَ الحقُّ إنْ تستيقِظُوا فيه تَغْنَمُوا
وإن تَغْفَلُوا فالسَّيْفُ لَيْسَ بغافِلِ( )

وقال آخر: يعني رسول اللَّه ×:
قالوا غَزَوْتَ ورسْلُ اللَّه ما بُعثوا
لقتْلِ نفسٍ ولا جاءُوا لسفكِ دم

جهلٌ وتضليلُ أحلامٍ وسفسطة
فتحتَ بالسيف بعد الفتح بالقلم

لما أتى لكَ عفواً كلُّ ذي حَسَبٍ
تكفَّلَ السيفُ بالجهالِ والعَمَم( )

وما أحكم ما قاله الآخر:
دعا المصطفى دهراً بمكة لم يجب
وقد لان منه جانب وخطاب

فلما دعا والسيف صلت بكفه
له أسلموا واستسلموا وأنابوا( )

فالعاقل ذو الفطرة السليمة ينتفع بالبينة والبرهان ويقبل الحق بدليله، أما الظالم المتّبع لهواه فلا يردّه إلا السيف وأنواع السلاح( )، ولهذا يكون الجهاد في سبيل اللَّه أعظم حكمة القوة في الدعوة إلى دين اللَّه تعالى.
المطلب الثالث: قوة الجهاد في سبيل اللَّه تعالى
الجهاد في سبيل اللَّه( ) من أعظم ما تقرّب به العباد بعد الفرائض إلى اللَّه – تعالى – لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين وقمع الكافرين المعاندين والمنافقين وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة، وله أهداف، وأطوار، وأنواع، ومراتب إذا علمها المجاهدون وعملوا بها فقد أحرزوا حكمة القوّة الفعلية في الدعوة إلى اللَّه.
وسأتناول ذلك بإذن اللَّه – تعالى – في المسالك الآتية:
المسلك الأول: أهداف الجهاد وغايته.
المسلك الثاني: أطوار الجهاد.
المسلك الثالث: الإعداد للجهاد.
المسلك الرابع: ضوابط قوة الجهاد.
المسلك الخامس: مراتب الجهاد وأنواعه.
المسلك الأول: أهداف الجهاد وغايته:
الجهاد جهادان: جهاد الطَّلب وجهاد الدِّفاع، والمقصود منها جميعاً والهدف هو:
1 – إعلاء كلمة اللَّه، وتبليغ دينه، ودعوة الناس إليه، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ﴾ ( ).
2 – نصر المظلومين، قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً﴾ ( ).
3 – رد العدوان، وحفظ الإسلام، وحماية عقيدة التوحيد، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ ( )، ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ ( ).
المسلك الثاني: أطوار قوة الجهاد:
قد كان الجهاد في الإسلام على أطوار ثلاثة:
الطور الأول: الإذن للمسلمين بالجهاد من غير إلزامهم به وفرضه عليهم، كما في قوله سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ ( ).
الطور الثاني: الأمر بقتال من قاتل المسلمين والكفّ عمن كفّ عنهم، كما قال تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ ( ).
الطور الثالث: جهاد الكفار والمشركين كافةً، وغزوهم في بلادهم وقتالهم بعد البلاغ والدعوة إلى الإسلام وإصرارهم على الكفر، فيجاهَدوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للَّه. وليعم الخير أهل الأرض، وتتسع رقعة الإسلام، ويزول من طريق الدعوة دُعاة الكفر والإلحاد، ويَنْعَمَ العباد بحكم الشريعة العادل، وليخرجوا بهذا الدين من ضيق الدنيا إلى سعة الإسلام، ومن عبادة الخلق إلى عبادة الخالق سبحانه، ومن ظلم الجبابرة إلى عدل الشريعة الإسلامية وأحكامها الرشيدة.
ويستمر القتال حتى يدخلوا في دين اللَّه أو يلتزموا بالجزية بشروطها إذا كانوا من أهلها( )، كما قال تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ ( ).
وهذا هو الذي استقر عليه أمر الإسلام وتوفي عليه نبينا محمد × وأنزل اللَّه فيه آية السيف، وهي من آخر ما نزل: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ( ).
وقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للَّهِ﴾ ( ). وقوله ×: ((أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه، ويُقيموا الصلاةَ ويُؤتُوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عَصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام وحسابهم على اللَّه((( ).
وهذا إذا استطاع المسلمون بدء عدوهم بالقتال وجهاده في سبيل اللَّه. أما إذا لم يستطيعوا فعليهم أن يُقاتلوا من قاتلهم واعتدى عليهم، ويكفُّون عمن كفَّ عنهم عملاً بآية النساء وما ورد في معناها في الطور الثاني من أطوار الجهاد( )، قال تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ( )، ولا تعارض بين هذه الآية وآية التوبة وما جاء في معناها، لأن آية التوبة فيها الأمر بقتال الكفَّار إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه آية الأنفال، وكما فعل النبي × يوم الحُديبية، فلا مُنافاة ولا نسخ ولا تخصيص واللَّه أعلم( ). ويكون الأمر لوليّ الأمر إن شاء قاتل، وإن شاء كفّ، وإن شاء قاتل قوماً دون قوم على حسب القوة والقدرة والمصلحة للمسلمين لا على حسب هواه وشهواته. فإذا صار عندهم من القوة والقدرة، والسلاح ما يستطيعون به قتال جميع الكفار أعلنوها حرباً للجميع وأعلنوا الجهاد للجميع( ).
المسلك الثالث: الإعداد لقوة الجهاد:
ولا يمكن أن يكون الجهاد قويًّا إلا بإعداد قوتين عظيمتين:
1 – قوة الإيمان والعمل الصالح، كما قال : ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ( )، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ ( )، ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ ( )، فالقيام بجميع الواجبات والابتعاد عن جميع المحرَّمات من أعظم أسباب النصر والتمكين.
2 – قوة الحديد وما استطاعه المسلمون من قوّة مادية، قال اللَّه تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ ( )، والإعداد يكون على حسب الظروف والأحوال، ويتناول كل وسيلة يستطيعها المسلمون، وقد ثبت عنه × أنه قال: ((وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قُوَّةٍ، ألا إن القوَّة الرمي، ألا إن القوّة الرمي، ألا إنّ القوة الرَّمي))( )، فيجب إعداد القوات البرية، والجوية، والبحرية إذا استطاع المسلمون ذلك( )، ويجب عليهم أن يأخذوا حذرهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ ( ).
وهذا يدل على وجوب العناية بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء، ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد المتعلقة بالأسلحة والأبدان، وتدريب المجاهدين على أنواع الأسلحة، وكيفية استعمالها وتوجيههم إلى ما يُعينهم على جهاد عدوّهم والسلامة من مكائده، واللَّه  أطلق الأمر بالإعداد وأخْذ الحذر، ولم يذكر نوعاً دون نوع ولا حالاً دون حال، وما ذلك إلا لأن الأوقات تختلف، والأسلحة تتنوع، والعدوّ يقل ويكثر، ويضعف ويقوى، فلهذا ينبغي على قادة المسلمين وأعيانهم ومفكريهم إعداد ما يستطيعون من قوة لقتال أعدائهم وما يرونه من المكيدة في ذلك، وقد قال ×: ((الحرب خدعة))( )، ومعناه أن الخصم قد يُدرك من خصمه بالمكر والخديعة في الحرب ما لا يُدركه بالقوة والعدد، وذلك مُجرّب ومعروف( ).
المسلك الرابع: ضوابط قوة الجهاد:
ومع أن ما تقدم هو مفهوم القوة الصحيح في الدعوة إلى اللَّه – تعالى – فإن قوة الجهاد في سبيل اللَّه لها ضوابط ينبغي أن يلتزم بها المجاهدون في سبيل اللَّه – تعالى – ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ( )، فيدخل في ذلك ارتكاب المناهي: من المثلة والغلول، وقتل النساء، والصبيان، والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال، والرُّهبان، والمرضى، والعُمي، وأصحاب الصّوامع؛ لكن من قاتل من هؤلاء أو استعان الكفّار برأيه قتل( ).
ويدخل في ذلك قتل الحيوان لغير مصلحة، وتحريق الأشجار، وإفساد الزّروع والثّمار، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت( )، ولهذا كان × إذا أمَّر أميراً على جيش أو سريّة أوصاه في خاصته بتقوى اللَّه ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: ((اغزوا بسم اللَّه في سبيل اللَّه، قاتلوا من كفر باللَّه، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال...((( )، ثم بيّنها × كالآتي:
( أ ) الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين.
( ب ) فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية.
( ج ) فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان باللَّه وقاتلهم( ).
ومن هذه الضوابط قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ ( ).
فإذا كان بين المسلمين والكفار عهد أو أمان فلا يجوز للمسلمين الغدر حتى ينقضي الأمد، فإن خاف المسلمون من أعدائهم خيانةً، بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة، فحينئذٍ يخبرهم المسلمون أنه لا عهد بيننا وبينكم حتى يستوي علم المسلمين وعلم أعدائهم بذلك.
ودلت الآية على أنه إذا وُجِدَت الخيانة المحققة من الأعداء لم يحتج أن يُنبذ إليهم عهدهم؛ لأنه لم يُخَف منهم بل عُلم ذلك.
ودل مفهوم الآية أيضاً أنه إذا لم يُخف منهم خيانة؛ بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته( ).
ولهذا قال سليم بن عامر: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى عهدهم غزاهم، فجاء رجل على فرس أو بِرْذَون، وهو يقول: اللَّه أكبر، وفاء لا غدر. فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية  فسأله، فقال: سمعت رسول اللَّه × يقول: ((من كان بينه وبين قومٍ عهدٌ فلا يشدُّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضيَ أمَدُها أو ينبذ إليهم على سواء)) فرجع معاوية( ).
وهذا هو عين الحكمة في دعوة من ظلم وتجبّر وصدَّ عن سبيل اللَّه تعالى.
المسلك الخامس: مراتب قوة الجهاد وأنواعه:
الجهاد له أربع مراتب: جهاد النفس، والشيطان، والكفَّار والمنافقين، وأصحاب الظلم والبدع والمنكرات.
1 - جهاد النفس له أربع مراتب:
( أ ) جهادها على تعلم أمور الدين والهُدى الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به.
( ب ) جهادها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
( ج ) جهادها على الدعوة إليه ببصيرة، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل اللَّه من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا يُنجيه من عذاب اللَّه.
( د ) جهادها على الصبر على مشاقّ الدعوة إلى اللَّه، وأذى الخلق، وأن يتحمل ذلك كله للَّه. فمن علم وعمل، وصبر فذاك يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات. قال اللَّه تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ ( ).
2 - جهاد الشيطان وله مرتبتان:
( أ ) جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشّكوك القادحة في الإيمان.
( ب ) جهاده على دفع ما يلقي إليه من الشهوات والإرادات الفاسدة، فالجهاد الأول بعد اليقين، والثاني بعد الصبر. قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾( ). والشيطان من أخبث الأعداء، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ ( ).
3 - جهاد الكفَّار والمنافقين:
وله أربع مراتب:
( أ ) بالقلب. ( ب ) باللسان. ( ج ) بالمال. ( د ) باليد.
وجهاد الكفار أخصّ باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
4 - جهاد أصحاب الظّلم والعدوان، والبدع والمنكرات:
وله ثلاث مراتب:
( أ ) باليد إذا قدر المجاهد على ذلك.
( ب ) فإن عجز انتقل إلى اللسان.
( ج ) فإن عجز جاهد بالقلب، قال ×: ((من رأى منكم منكراً فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان))( ).
فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، وأكمل الناس عند اللَّه من كمل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند اللَّه تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على اللَّه محمد خاتم أنبيائه ورسله؛ فإنه كمَّل مراتب الجهاد وجاهد في اللَّه حق جهاده( )، فصلوات اللَّه وسلامه عليه ما تتابع الليل والنهار.
ولما كان جهاد أعداء اللَّه في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات اللَّه، كما قال ×: ((ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة اللَّه، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب))( ). كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرها اللَّه به وتترك ما نهاها اللَّه عنه، ويحاربها في اللَّه، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصار عليه، وعدوه الذي بين جنبيه غالب له وقاهر له؟ ولا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يُجاهد نفسه على الخروج. فهذان عدوان( )، وبينهما عدو ثالث لا يمكن للعبد أن يجاهدهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط الإنسان عن جهادهما ويخوِّفه ويخذله، ولا يزال يخوّفه ما في جهادهما من المشاقّ، وفوات اللذات، والشهوات، فلا يمكنه أن يُجاهد هذين العدوين إلا بجهاد هذا العدوّ الثالث، وهو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان( ).
ويتضح مما تقدم أن ميادين أو أنواع القتال في الجهاد كالآتي:
1 - جهاد الكفّار، والمنافقين، والمرتدين( ).
2 - جهاد البغاة المعتدين.
3 - جهاد الدفاع عن: الدين، والنفس، والأهل، والمال. ويدخل في هذا النوع جهاد قُطَّاع الطّرق أو المحاربين. قال ×: ((من قُتِلَ دون ماله فهو شهيدٌ، ومن قُتِلَ دون أهله فهو شهيدٌ، ومن قُتِلَ دون دينه فهو شهيدٌ، ومن قُتِلَ دون دمه فهو شهيدٌ))( ).
المطلب الرابع: أسباب النصر
من المعلوم يقيناً أن النصر على الأعداء له أسباب تُحقّقه للمسلمين على أعدائهم بإذن اللَّه – تعالى – وسأذكر معظم هذه الأسباب بإيجاز في أربعة عشر مسلكاً كالآتي:
المسلك الأول: الإيمان والعمل الصالح:
وعد اللَّه المؤمنين بالنصر المبين على أعدائهم، وذلك بإظهار دينهم، وإهلاك عدوهم وإن طال الزمن قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ *يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ ( ). وقال سبحانه: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ( ). والمؤمنون الموعودون بالنصر هم الموصوفون بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا... ﴾ ( ). وقال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ( ). وقال تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ ( ).
المسلك الثاني: نصر دين اللَّه تعالى:
ومن أعظم أسباب النصر: نصر دين اللَّه – تعالى – والقيام به قولاً، واعتقاداً، وعملاً ودعوة. قال تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾( ). وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ ( ). وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ ( ).
المسلك الثالث: التوكل على اللَّه والأخذ بالأسباب:
التوكل على اللَّه مع إعداد القوة من أعظم عوامل النصر، لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ( ). وقال سبحانه: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ( ). وقال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ( ). ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾ ( ). ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾ ( ). وقال ×: ((لو أنكم كنتم توكّلون على اللَّه حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وترُوحُ بِطاناً))( ). ولابد مع التوكل من الأخذ بالأسباب، لأن التوكل يقوم على ركنين عظيمين:
( أ ) الاعتماد على اللَّه، والثقة بوعده ونصره تعالى.
( ب ) الأخذ بالأسباب المشروعة.
ولهذا قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ ( ). وعن أنس  أن رجلاً قال: يا رسول اللَّه أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: ((اعقلها وتوكل))( ).
المسلك الرابع: المشاورة بين المسؤولين:
كما كان رسول اللَّه × يشاور أصحابه مع كمال عقله وسداد رأيه، امتثالاً لأمر اللَّه تعالى وتطييباً لنفوس أصحابه، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ( )، ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ ( ).
المسلك الخامس: الثبات عند لقاء العدو:
من عوامل النصر الثَّبات عند اللقاء وعدم الانهزام والفرار، فقد ثبت النبي × في جميع معاركه التي خاضها، كما فعل في بدر، وأُحد وحُنين. وكان يقول في حنين حينما ثبت وتراجع بعض المسلمين: ((أنا النبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. اللَّهم نزِّل نصرك))( ) وثبت أصحابه من بعده. وهو قدوتنا وأسوتنا الحسنة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ ( ).
وقال ×: ((يا أيُّها الناسُ لا تمنَّوا لقاءَ العدوِّ، واسألوا اللَّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف))( ).
المسلك السادس: الشجاعة والبطولة والتضحية:
من أعظم أسباب النصر: الاتصاف بالشجاعة والتضحية بالنفس والاعتقاد بأن الجهاد لا يُقدِّم الموت ولا يُؤخِّره؛ ولهذا قال تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ ( ).
قال الشاعر:
من لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والموت واحد

ولهذا كان أهل الإيمان الكامل هم أشجع الناس، وأكملهم شجاعة هو إمامهم محمد ×، وقد ظهرت شجاعته في المعارك الكبرى التي قاتل فيها، ومنها على سبيل المثال:
( أ ) شجاعته البطولية الفذَّة في معركة بدر، قال علي بن أبي طالب : ((لقد رأيتُنا يوم بدرٍ ونحن نلوذُ برسول اللَّه × وهو أقربنا إلى العدوّ، وكان من أشد الناس يومئذٍ بأساً))( ). وقال : ((كُنَّا إذا حَميَ البأسُ ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول اللَّه ×، فلا يكون أحدنا أدنى إلى القوم منه))( ).
( ب ) في معركة أحد قاتل قتالاً بطوليّاً لم يُقاتله أحد( ).
( ج ) في معركة حنين: قال البراء: كُنّا إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يُحاذي به يعني النبي × ( ).
وهكذا أصحابه  ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان، فينبغي للمجاهدين أن يقتدوا بنبيهم ×، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ ( ).
المسلك السابع: الدعاء وكثرة الذكر:
من أعظم وأقوى عوامل النصر الاستغاثة باللَّه وكثرة ذكره؛ لأنه القويّ القادر على هزيمة أعدائه ونصر أوليائه، قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ ( ). ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ ( )، ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ﴾ ( ). وقد أمر اللَّه بالذكر والدعاء عند لقاء العدو، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ( ). لأنه سبحانه النصير، فنعم المولى ونعم النصير. وقال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ ( ). ولهذا كان النبي × يدعو ربه في معاركه ويستغيث به، فينصره ويمدّه بجنوده، ومن ذلك أنه نظر × يوم بدر إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل × القبلة ورفع يديه واستغاث باللَّه، وما زال يطلب المدد من اللَّه وحده مادّاً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: ((يا نبي اللَّه كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك))، فأنزل اللَّه : ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ ( ) فأمدَّه اللَّه بالملائكة. وهكذا كان × يدعو اللَّه في جميع معاركه، ومن ذلك قوله: ((اللَّهم منزل الكتاب، سريع الحساب [مُجْريَ السَّحاب] [هازمَ الأحزاب] اهزم الأحزاب. اللَّهم اهزمهم وزلزلهم، وانصرنا عليهم))( ). وكان يقول عند لقاء العدو: ((اللَّهم أنت عَضُدي، وأنت نصيري، بك أحول، وبك أصُول، وبك أقاتل))( ). وكان إذا خاف قوماً قال: ((اللَّهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم))( ). وقال ابن عباس ^: ((حسبنا اللَّه ونعم الوكيل. قالها إبراهيم حين أُلقيَ في النار، وقالها محمد حين قال له الناس: ﴿إن الناس قد جمعوا لكم﴾))( ). وهكذا ينبغي أن يكون المجاهدون في سبيل اللَّه – تعالى – لأن الدعاء يدفع اللَّه به من البلاء ما اللَّه به عليم.
ولهذا قال ×: ((لا يردّ القضاء إلا الدّعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر))( ).
المسلك الثامن: طاعة اللَّه ورسوله ×:
طاعة اللَّه ورسوله من أقوى دعائم وعوامل النصر، فيجب على كل مجاهد في سبيل اللَّه – تعالى – بل على كل مسلم أن لا يعصي اللَّه طرفة عين، فما أمر اللَّه – تعالى – به وجب الائتمار به، وما نهى عنه تعالى وجب الابتعاد عنه. ولهذا قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ ( ). وقال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ ( ). ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا﴾ ( ). وقال تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ( ). وقال ×: ((... وجُعِلَ الذلُّ والصّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم))( ).
المسلك التاسع: الاجتماع وعدم النزاع:
يجب على المجاهدين أن يُحقِّقوا عوامل النصر، ولا سيما الاعتصام باللَّه والتكاتف، وعدم النزاع والافتراق، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ ( ). وقال: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ ( ). وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ ( ).
المسلك العاشر: الصبر والمصابرة:
لابد من الصبر في الأمور كلها، ولا سيما الصبر على قتال أعداء اللَّه ورسوله. والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة اللَّه التي هي من عوامل النصر، وصبر عن محارم اللَّه، وصبر على أقدار اللَّه المؤلمة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ( )، ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ( ). وجاء عنه ×: ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً))( ). وقال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾( ).
المسلك الحادي عشر: الإخلاص للَّه تعالى:
لا يكون المقاتل والغازي مجاهداً في سبيل اللَّه إلا بالإخلاص، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ ( ) الآية. وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ ( ). وجاء رجل إلى النبي × فقال: يا رسول اللَّه! الرجل يُقاتل للمغنم، والرجل يُقاتل للذِّكْر( ). والرجل يُقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل اللَّه؟ قال:((من قاتل لتكون كلمةُ اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه))( )، وقد ثبت عنه × أن أول من يُقضى عليه يوم القيامة ثلاثة، وذكر منهم من قاتل ليُقال: هو جريء – أي شجاع( ).
المسلك الثاني عشر: الرغبة فيما عند اللَّه تعالى:
مما يُعين على النصر على الأعداء هو الطّمع في فضل اللَّه وسعادة الدنيا والآخرة، ولهذا نصر اللَّه نبيه × وأصحابه من بعده، ومما يدلّ على الرغبة فيما عند اللَّه تعالى ما يأتي:
( أ ) ما فعل عُمير بن الحمام في بدر، حينما قال ×((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)). فقال: يا رسول اللَّه جنّة عرضها السموات والأرض؟ قال: ((نعم)) قال: بَخٍ بَخٍ( ) فقال ×: ((ما يحملك على قولك بَخٍ بَخٍ))؟ قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: ((فإنك من أهلها)). فأخرج تمرات من قرنه( ) فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل( ).
( ب ) ما فعل أنس بن النضر – عم أنس بن مالك – يوم أحد. تأخر  عن معركة بدر، فشقّ عليه ذلك، وقال: أول مشهد شهده رسول اللَّه × غبت عنه، وإن أراني اللَّه مشهداً فيما بعد مع رسول اللَّه × ليراني اللَّه ما أصنع( ). فشهد مع رسول اللَّه × يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو واهاً لريح الجنة( ) أجده دون أحد. فقاتلهم حتى قُتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، فما عرفته أخته – الربيع بنت النضر – إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾( ). فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه( ).
والمسلم المجاهد في سبيل اللَّه – تعالى – إذا رغب فيما عند اللَّه، فإنه لا يُبالي بما أصابه رغبة في الفوز العظيم.
فلست أُبالي حين أُقتل مسلماً
على أي جنب كان في اللَّه مصرعي

المسلك الثالث عشر: إسناد القيادة لأهل الإيمان:
من أسباب النصر تولية قيادة الجيوش، والسرايا، والأفواج والجبهات لمن عرفوا بالإيمان الكامل والعمل الصالح والشجاعة الحكيمة، ثم الأمثل فالأمثل، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ( ). واللَّه  يُحبُّ أهل التَّقوى، ومحبّته – سبحانه – للعبد من أعظم الأسباب في توفيق عبده وتسديده ونصره على أعدائه، قال تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ( ).
المسلك الرابع عشر: التحصن بالدعائم المنجيات:
إن العباد لهم منجيات، ودعائم تُنجّيهم من المهالك والهزائم إذا حلّت بهم، وهذه الأمور هي من أعظم العلاج لمن أُصيب بالمهلكات أو الحروب والأوبئة، وهي كذلك وقاية من حلول المصائب قبل نزولها، وتتلخّص في اتّباع الدعائم المنجيات الآتية:
( أ ) التوبة والاستغفار من جميع المعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها، ولا تقبل التوبة إلا بشروط:
1 - الإقلاع عن جميع الذنوب وتركها.
2 - العزيمة على عدم العودة إليها.
3 - الندم على فعلها. فإن كانت المعصية في حقّ آدمي فلها شرط رابع، وهو التّحلل من صاحب ذلك الحقّ. ولا تنفع التوبة عند الغرغرة، أو بعد طلوع الشمس من مغربها. ولا شكّ أن التوبة النصوح والاستغفار من أعظم وسائل النصر ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ ( ). ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ ( ).
( ب ) تقوى اللَّه تعالى وهي أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من ربه ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك. وهي أن تعمل بطاعة اللَّه على نور من اللَّه ترجو ثواب اللَّه، وأن تترك معصية اللَّه على نور من اللَّه تخاف عقاب اللَّه.
( ج ) أداء جميع الفرائض واتباعها بالنوافل؛ لأن محبة اللَّه لعبده تحصل بذلك.
( د ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال ×: ((والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليُوشِكَنَّ اللَّه أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدْعُنَّه فلا يستجيب لكم))( ). وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ ( ).
(ه‍ ) الاقتداء بالنبي × في جميع الاعتقادات، والأقوال والأفعال.
( و ) الدعاء والضَّراعة إلى اللَّه تعالى.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك