كيفية دعوة الملحدين إلى اللَّه تعالى
المقدمـة
إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في ((كيفية دعوة الملحدين إلى اللَّه تعالى)) بينت فيها بإيجاز الأساليب والطرق في كيفية دعوتهم إلى اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
حرر ضحى يوم الخميس 25/2/1425ه
تمهيد: إنزال الناس منازلهم:
الداعية الحكيم هو الذي يدرس الواقع، وأحوال الناس، ومعتقداتهم، وينزل الناس منازلهم، ثم يدعوهم على قدر عقولهم وأفهامهم وطبائعهم وأخلاقهم ومستواهم العلمي والاجتماعي، والوسائل التي يؤتون من جهتها، ولهذا قال علي بن أبي طالب : ((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب اللَّه ورسوله))( ).
وذُكر عن عائشة ’ أنها قالت: ((أمرنا رسول اللَّه × أن نُنزل الناس منازلهم))( ).
وقال عبد اللَّه بن مسعود : ((ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة))( ).
وقد بيَّن النبي × ذلك للدعاة إلى اللَّه فقال لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن – داعياً ومعلماً وقاضياً –: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب...)) الحديث( ).
فبيَّن × لمعاذ عقيدة القوم الذين سوف يقدم عليهم حتى يعرف حالهم، ويستعد لهم، ويقدم لهم ما يناسبهم، وما يصلح أحوالهم.
وقال × لعائشة ’: ((يا عائشة، لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون))( ).
فترك × هذه المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفاسد( ).
فدراسة البيئة والمكان الذي تبلغ فيه الدعوة أمر مهمٌّ جداً، فإن الداعية يحتاج في دعوته إلى معرفة أحوال المدعوين: الاعتقادية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ومعرفة مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة، ويحتاج إلى معرفة لغتهم، ولهجتهم، وعاداتهم، والإحاطة بمشكلاتهم ونزعاتهم الخلقية، وثقافتهم، ومستواهم الجدلي، والشبه التي انتشرت في مجتمعهم، ومذاهبهم( ).
والداعية الحكيم يكون مدركاً لما حوله، مقدراً للظروف التي يدعو فيها، مراعياً لحاجات الناس ومشاعرهم، وكل أحوالهم.
والداعية إلى اللَّه – تعالى – لا ينجح في دعوته، ولا يكون موفقاً في تبليغه ولا مسدداً في قوله وفعله حتى يعرف من يدعوهم، وهل هذا المجتمع من المسلمين العُصاة، أو من المسلمين الذين انتشرت فيهم البدع والخرافات؟ هل هذا المجتمع من أهل الكتاب؟ فإذا كانوا منهم، فهل هم من اليهود أم من النصارى؟ هل هذا المجتمع من الملحدين الطبيعيين والماديين والدهريين؟ أم من الوثنيين المشركين؟
فإذا عرف الداعية هذا كله، فكيف يدعو كل فئة من هذه الفئات بالحكمة؟ وماذا يقدم معهم؟ وماذا يؤخر؟ وما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها؟ وما الأفكار الضرورية التي يطرحها ويبدأ بها؟
وهكذا، فالداعية الحكيم كالطبيب الحكيم الذي يشخص المرض، ويعرف الداء ويحدده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك: قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه، من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض، وهكذا الداعية الحكيم يعرف أمراض المجتمع، ويحدد الداء، ويعرف الدواء، وينظر ما هي الشبه والعوائق فيزيلها، ثم يقدم المادة المناسبة بدءاً بأمور العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية، مع تشويق المدعو إلى القبول والإجابة.
المبحث الأول: مفهوم الإلحاد
الإلحاد في الأصل هو: الميل والعدول عن الشيء، والظلم والجور، والجدال والمراء، يقال: لحد في الدين لحداً، وألحد إلحاداً، لمن مال وعدل ومارى وجادل وظلم( ).
واللحد: الشق الذي يعمل في جانب القبر لموضع الميت؛ لأنه قد أُميل عن وسط القبر إلى جانبه( ).
والإلحاد: هو الميل عن الحق، والانحراف عنه بشتى الاعتقادات، والتأويل الفاسد، والمنحرف عن صراط اللَّه والمعاكس لحكمه يسمى ملحداً( ).
والمراد بالملحدين في هذا المبحث: هو المعنى المصطلح عليه في هذا العصر، وهم: من أنكروا وجود رب خالق لهذا الكون، متصرف فيه، يدبر أمره بعلمه وحكمته، ويجري أحداثه بإرادته وقدرته، واعتبار الكون أو مادته الأولى أزلية، واعتبار تغيراته قد تمت بالمصادفة، أو بمقتضى طبيعة المادة وقوانينها، واعتبار الحياة – وما تستتبع من شعور وفكر حتى قمتها الإنسان – من أثر التطور الذاتي للمادة( ).
المبحث الثاني: الأدلة الفطرية
الفطر: الشق، والجمع منه فُطورٌ( )، قال تعالى: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ ( )، وفطر اللَّه العالم: أوجده ابتداء( )، وفطر الخلق: خلقهم وبدأهم( )،﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ ( )، والفطرة: الخلقة التي خُلِقَ عليها كل موجود أول خلقة( )، والخلقة التي خلق عليها المولود في رحم أمه، والدين( )، والطبيعة السليمة التي لم تُشَبْ بعيبٍ( )، قال الرسول ×: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون بها من جَدْعَاء))( )، ثم يقول أبو هريرة : ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ ( ).
فمن حكمة القول مع الملحدين أن يستخدم الداعية إلى اللَّه – تعالى – في دعوته لهم الأدلة الفطرية، فيوضح ويبين لهم أن المولود يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو تُرِكَ عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غَيرها، وإنما يعدل عنها من يعدل؛ لآفة من آفات البشر والتقليد... وكل مولود يولد على معرفة اللَّه والإقرار به، فلا تجد أحداً إلا وهو يقرّ بأن له صانعاً وإن سماه بغير اسمه، أو عبد معه غيره( ).
والمقصود بفطرة اللَّه التي فطر الناس عليها: فطرة الإسلام( )، والسلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة؛ فإن حقيقة الإسلام هو الاستسلام للَّه وحده.
وقد ضرب رسول اللَّه × مثل ذلك فقال: ((كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)).
فأوضح أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ( )، قال ×: ((إني خلقتُ عبادي كلهم حُنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً...))( ).
وقد مثل شيخ الإسلام ابن تيمية الفطرة مع الحق بمثل يوضح ذلك، فقال: ((ومثل الفطرة مع الحق مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذل عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة العارضة من: تهودٍ، وتنصرٍ، وتمجسٍ، مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس، وكذلك كل ذي حس سليم يحب الحلو، إلا أن يعرض في طبيعته فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مرًّا))( ).
وليس المراد بقوله ×: ((يولد على الفطرة)) أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين ويعتقد الإسلام بالفعل؛ لأن اللَّه يقول: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ( ).
ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، وقبوله وإرادته للحق، وإقراره بالربوبية، فلو خُلّي من غير معارض ومن غير مغيِّر لما كان إلا مسلماً ولم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه صارف، ومن ثم شُبِّهت الفطرة باللبن، فهي تستلزم معرفة اللَّه ومحبته وتوحيده( ).
ويدل على ذلك رواية مسلم: ((ما من مولو يُولَدُ إلا وهو على هذه الملة حتى يُبيِّن عنه لسانه))( ).
وقد أخبر اللَّه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن اللَّه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾ الآية( ).
وهذا يدل دلالة قاطعة على أن كل إنسان قد فُطِرَ على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم( ).
ومما يبين ذلك ويوضحه أن العاقل إذا رجع إلى نفسه وعقله أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الخالق – تعالى – في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله( )، وإذا نظر إلى الخلائق علم فقرهم كلهم إلى الخالق في كل شيء: فقراء إليه في الخلق والإيجاد، وفي البقاء والرزق والإمداد، وفقراء إليه في جلب المنافع ودفع المضار.
فانظر إلى حالة الناس إذا كربتهم الشدائد، ووقعوا في المهالك، وأشرفوا على الأخطار، كيف تجد قلوبهم معلقة باللَّه، وأصواتهم مرتفعة بسؤاله، وأفئدتهم تنظر إلى إغاثته، لا تلتفت يمنة ولا يسرة إلا إليه( ).
ومما يزيد ذلك وضوحاً أن الخلق متى شاهدوا شيئاً من الحوادث المتجددة كالرعد والصواعق، والبرق والزلازل، والبراكين المتفجرة الثائرة، والريح الشديدة، وانهمار الأمطار الغزيرة، وفيضانات الأنهار، واضطراب الأمواج في البحار والمحيطات، متى شاهدوا ذلك دعوا اللَّه وسألوه وافتقروا إليه؛ لأنهم يعلمون أن هذه الحوادث المتجددة لم تتجدد بنفسها، بل لها مُحدث أحدثها، وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات؛ لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفاً لهم، بخلاف المتجدد، ولو لم يكن إلا خلق الإنسان، فإنه من أعظم الآيات، فكلٌّ يعلم أنه لم يحدث نفسه، ولا أبواه أحدثاه، ولا أحد من البشر أحدثه، ويعلم أنه لابد له من خالق خلقه، وأن هذا الخالق موجود، حي، عليم، قدير، سميع، بصير، حكيم، حفيظ( )،﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ( )، وقال – سبحانه – تذكيراً لهذا الإنسان الجاحد: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ ( )، ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ ( ).
فبين هذا أن الناس إذا غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء، لعلمهم الفطري أن اللَّه الذي يكشف الشدائد، ولا ملجأ منه إلا إليه، فيسألونه بلسان المقال ولسان الحال، فهل هذه الأمور تحصل إلا لأن الخليقة مفطورة على الاعتراف بربوبية اللَّه ووحدانيته، وأنه النافع والضار، وملكوت كل شيء بيده، إلا من فسدت فطرته بالعقائد الفاسدة( ).
المبحث الثالث: البراهين والأدلة العقلية
إذا كان الماديون والطبيعيون والدهريون يتظاهرون بإنكار وجود اللَّه – تعالى – فإن من الحكمة في دعوة هؤلاء إلى اللَّه – تعالى – أن تُقدّم لهم البراهين والأدلة العقلية القطعية في المسالك الآتية:
المسلك الأول: التقسيم العقلي الحكيم:
يستدل على كل من أنكر وجود اللَّه – تعالى – وربوبيته بأمر لا يمكنهم إلا التسليم للحق والانقياد له، أو الخروج عن موجب العقل إلى الجنون والفطر المنحرفة، فيقال لكل من أنكر ذلك:
الأمور الممكن تقسيمها في العقل ثلاثة لا رابع لها:
1 - إما أن تُوجد هذه المخلوقات بنفسها صُدقة من غير مُحدث ولا خالق خلقَهَها، فهذا مُحالٌ ممتنع تجزم العقول ببطلانه ضرورة، ويُعلم يقيناً أن من ظن ذلك لهو إلى الجنون أقرب منه إلى العقل؛ لأن كل من له عقل يعرف أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير مُوجدٍ ولا مُحدثٍ، فلابد لكل حادث من مُحدث، ولا سبيل إلى إنكار ذلك، فإن وجود الشيء من غير مُوجد مُحالٌ وباطلٌ بالمشاهدة والحسّ والفطرة السليمة.
2 - وإما أن تكون هذه المخلوقات الباهرة هي المحدثة الخالقة لنفسها، فهذا أيضاً مُحالٌ ممتنع بضرورة العقل، وكل عاقل يجزم أن الشيء لا يُحدثُ نفسه ولا يخلقه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقاً؟!
فإذا بطلَ هذان القسمان عقلاً وفطرةً، وبان استحالتهما، تعين القسم الثالث:
3 - وهو أن هذه المخلوقات بأجمعها: علويها وسفليّها، وهذه الحوادث لابد لها من مُحدث ينتهي إليه الخلق والملك والتدبير، وهو اللَّه العظيم الخالق لكل شيء، المتصرف في كل شيء، المدبر للأمور كلها( )، ولهذا ذكر اللَّه – تعالى – هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي، فقال: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾( )، ولذلك تأثر جبير بن مطعم بسماعها من النبي × تأثراً عظيماً، قال : ((سمعت النبي × يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ ( ) كاد قلبي أن يطير))( )، ((وذلك أول ما وقرَ الإيمانُ في قلبي))( ).
فالمخلوق لابد له من خالق، والمصنوع لابد له من صانع، والمفعول لابد له من فاعل، وهذه قضايا بدهية جلية واضحة، يشترك في العلم بها جميع العُقلاء، وهي أعظم القضايا العقلية، فمن ارتاب فيها أو شكّ في دلالتها فقد برهن على ضلاله، واختلال عقله( ).
المسلك الثاني: العدم لا يخلق شيئاً:
من القواعد العقلية التي ينبغي للداعية إلى اللَّه أن لا يغفلها في دعوته مع الملحدين قاعدة: العدم لا يخلق شيئاً، فالعدم الذي لا وجود له لا يستطيع أن يصنع شيئاً؛ لأنه غير موجود.
وإذا تأمل العاقل في المخلوقات التي تولد في كل يوم، من إنسان وحيوان، وتفكر في كل ما يحدث في الوجود من رياح وأمطار، وليل ونهار، وما يجري في كل حين من حركات منتظمة للشمس والقمر والنجوم والكواكب، إذا تأمل العاقلُ في هذا وغيره من التغيرات المحكمة التي تجري في الوجود في كل لحظة، فإن العقل يجزم بأن هذا كله ليس من صنع العدم، وإنما هو من صنع الخالق الموجود سبحانه وتعالى( ).
المسلك الثالث: الطبيعة الصماء لا تملك قدرة، وفاقد الشيء لا يعطيه
من المعلوم عند جميع العُقلاء أن الذي لا يملك مالاً لا يسأل الناسُ منه المال، والجاهلُ لا يأتي منه العلم؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه.
فمن زعم أن الطبيعة( ) خلقته أو خلقت شيئاً فقد خالف العقل وحارب الحق، لأن الكون يشهد أن خالقه حكيم عليم خبير، هاد رزّاق، حافظ رحيم، واحد أحد، والطبيعة الجامدة لا تملك مثقال ذرة من ذلك.
ومن العجيب أن كل من زعم أن الطبيعة تخلق شيئاً فقد خالف مقتضى العقول؛ لأن الطبيعة لا تملك خبرة، ولهم خبرة، ولا تملك إرادة، ولهم إرادة، ولا تملك علماً، ولهم علم! أما علموا أن فاقد الشيء لا يُعطيه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ... ﴾ ( )، فلابد أن يكون الخالق كاملاً كمالاً مطلقاً، بحيث يكون:
1- مستغنياً عن غيره.
2- ويكون أولاً ليس له بداية.
3- وآخراً ليس له نهاية.
4- لا يحدّه زمان.
5- لا يحدّه مكان.
6- قادراً على كل شيء.
7- عالماً بكل شيء، ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
وهذه الخصائص لا يمكن أن تكون إلا للَّه الكامل من كل الوجوه، وبذلك يسقط – بحمد اللَّه تعالى – قول الماديين؛ لأن المادة لا تتصف بشيء من ذلك( ).
المسلك الرابع: الصدفة العمياء لا تملك حياة:
يعتقد الملحدون بالصدفة( )، وهي أن جميع الأشياء والمخلوقات تم تكوينها على ما هي عليه بطريق الصدفة، والمقابلة، وليس ذلك بطريق القصد والإرادة والتدبير.
ومن حكمة القول مع هؤلاء أن يُقال لهم: من أين حصل لهذا العالم هذا النظام العجيب، والترتيب الحكيم الذي حارت فيه العقول؟ كيف ينسب ذلك إلى الاتفاق والمصادفة ومجرد البخت؟ وكيف اجتمعت تلك الأجزاء على اختلاف أشكالها، وتبايُن مواردها وقواعدها، وكيف حُفظت وبَقيت على تآلفها، وكيف تجددت المرة بعد المرة؟!
إن مثل من يقول أو يعتقد أن هذا النظام والإبداع والإتقان وُجِدَ بطريق الصدفة لا غير، كمثل من وضع حروف الهجاء: أ، ب، ت...، في صندوق ثم جعل يحركه طمعاً منه أن تتألف هذه الحروف من تلقاء نفسها، فيتركب منها قصيدة بليغة، أو كتاب دقيق في الهندسة، أليس ذلك من السّفه المبين ونقص العقل؟! فإنه لو داوم على تحريك هذا الصندوق السنين والدهور لم يحصل إلا على حروف.
ومثله كمن يقول: إن رجلاً أعمى غرزت له إبرة في لوحة، وأُعطي ألف إبرة، وقيل له: ارم هذه الإبر واحدة بعد الثانية، لتدخل الإبرة الأولى في ثُقب الإبرة المغروسة في اللوحة، وتدخل الإبرة الثانية في ثقب الأولى، والثالثة في ثقب الثانية، وهكذا بطريق الصدفة، حتى دخلت كل الإبر في بعضها بطريق الصدفة، فهل عاقل يصدق بهذه العملية والتي قبلها؟ لا يمكن أن يُصدّق عاقل بهذا، لأنه من قبيل المستحيل الذي لا تقبله العقول ولا تُقرّه، فكيف يُصدّق عاقل أن الكون كله بما فيه من إبداع وتنظيم في كل ذرة من ذراته وُجِدَ بطريق الصدفة؟
إن مخلوقاً يُصدّق بهذه التخيلات لمجنون قطعاً، لا تصلح نسبته إلى العُقلاء، ولا يُذكر في عدادهم أبداً ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ ( ).
وهذا فيه دلالة عقلية قاطعة على أن اللَّه هو الخالق لكل شيء، وأن الصدفة لا وجود لها ولا تصرف في مخلوقات اللَّه – تعالى – وبهذا تبطل شبه أهل الإلحاد والعناد الذين قالوا بالصدفة، وللَّه الحمد( ).
المسلك الخامس: المناظرات العقلية الحكيمة:
من الحكمة في دعوة الملحدين والطبيعيين الماديين أن يُناظروا بالمناظرات العقلية الحكيمة التي تُوضح لهم الحق، وتجعلهم يُسلِّمون ويقرُّون بأن اللَّه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل.
ومن المناظرات التي أفحم بها المسلمون الملحدين ما ذُكِرَ عن أبي حنيفة – رحمه اللَّه تعالى – أنه اجتمع بطائفة من الملحدين وناظرهم فغلبهم، ورجعوا على أنفسهم بالملام، وقيل: إنهم رجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه( ).
المسلك السادس: مبدأ السببية:
إنّ الواقع والعقول السليمة تشهد أن الإنسان منذ فتح عينيه لم يُشاهد أن حادثاً حدث من غير سبب، أو أن شيئاً وُجد من غير موجد، حتى أصبح هذا المعنى بحكم الواقع لا يتصور العقل خلافه، ولا يأبى الإقرار به إلا عقل مفقود أو مريض كشأن المعتوهين، أو عقل قاصر كشأن الطفل الذي يكسر الإناء، ثم يقول: إنه انكسر بنفسه( ).
ولذلك أدرك الأعرابي هذه السببية عندما سُئِل: ما الدليل على وجود الرّبّ؟ فقال: - سبحان اللَّه – إن البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذات فجاجٍ، وبحارٌ ذات أمواج، ليل داج، ونهار ساجٍ، ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير( ).
فكل مخلوق لابد له من خالق، وكل أثر لابد له من مؤثر، وكل محدَثٍ لابد له من مُحدِثٍ، وهذا هو قياس الشمول.
أما قياس التمثيل فكقول: هذا مُحدَث فيحتاج إلى مُحدِثٍ( ).
وبناء على هذه القاعدة فعالمنا هذا، من أرض وسماوات، وإنسان وحيوان، وليل ونهار، وشمس وقمر، لابدّ له من مُحدث، ثم إن هذا العالم لا يبقى إلا بسبب يحفظه ويبقيه، كما أنه لم يحدث إلا بسبب أحدثه، وهذا لا يقدر عليه إلا اللَّه الواحد القهَّار( ).
المسلك السابع: التفكر في المصنوع يدل على بعض صفات الصانع:
من القواعد التي يُردّ بها على الملحدين قاعدة التفكر في المصنوع يدلّ على بعض صفات الصانع؛ لأن كل شيء يُوجد في المصنوع يدلّ على قدرة أو علم أو خبرة، أو حكمة عند الصانع.
ومن هنا نعلم أن التفكر في المخلوق يدلّ على بعض صفات الخالق.
إذا علم هذا فإنه يقال لمن أنكر وجود اللَّه – تعالى – وربوبيته: تفكر في خلقك ونفسك، وانظر مبدأ خلقك من نطفة، ثم علقه، ثم مُضغة، ثم عظاماً، فكُسيت العظام لحماً، حتى صرت بشراً كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة، أما يضطرك هذا التفكر والنظر إلى الاعتراف بالرب القادر على كل شيء، وأحاط علمه بكل شيء، الحكيم في كل ما خلقه وصنعه وأتقنه؟ فلو اجتمع الخلق كلهم على النطفة التي جعلها اللَّه مبدأ خلق الإنسان على أن ينقلوها في تلك الأطوار المتنوعة، أو يحفظوها في ذلك القرار المكين، ويجعلوا لها سمعاً وبصراً وعقلاً وقوىً باطنة وظاهرة، وينموها هذه التنمية العجيبة، ويركبوها هذا التركيب المنظم، ويرتبوا الأعضاء هذا الترتيب المحكم، فهل في اقتدارهم وفي استطاعتهم وعلومهم أن يصلوا إلى ذلك؟ ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ ( ).
ولا شك أن العاقل المنصف إذا تفكر في ذلك دلّه وأوصله إلى الاعتراف بعظمة الخالق، وقدرة القادر، وحكمة الحكيم، وخبرة الخبير، وعلم العليم.
وهذا دليل عقلي تضطر فيه العقول الصحيحة إلى معرفة ربها وعبوديته( )،﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ ( )، ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ( ).
المبحث الرابع: الأدلة الحسية المشاهدة
من الأدلة التي تدل على وجود اللَّه – تعالى – وربوبيته، وأنه الخالق لكل شيء المستحق للعبادة، الأدلة التي يسمعها الناس ويشاهدونها ويلمسونها، وهي على نوعين:
النوع الأول: إجابة اللَّه – تعالى – للدعوات في جميع الأوقات، فلا يُحصي الخلق ما يُعطيه اللَّه للسائلين، وما يُجيب به أدعية الداعين، ويرفع به كرب المكروبين، فتحصل المطالب الكثيرة بأسباب دعاء بعض العباد لربهم، والطمع في فضله والرجاء لرحمته، وهذا برهان مُشاهد محسوسٌ، لا ينكره إلا مُكابرٌ( ).
فكم خرج المؤمنون يطلبون – بقلوب وجلةٍ تائبةٍ – من ربهم أن يسقيهم الغيث، فكانت الإجابة على الفور في كثير من الأحيان، فيأتي الغيث إلى المدينة أو القرية التي خرجت تدعو ربها، والقرى أو المدن التي بجوارها لا يأتيها بشيء، وكم رأى المضطرون تفريجاً لحالة الكرب بدعائهم( )﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ... ﴾ ( )، وعلى هذا يشهد مئات الملايين من المسلمين، ومن رأى هذه الإجابات من المنصفين في مشارق الأرض ومغاربها.
فمن الذي سمع دعاء المستغيثين فأجابهم، فأنشأ السحاب وأنزل المطر؟! هل هو وثن لا يقدر على فعل شيء؟! أم طبيعة صمّاء لا تملك إرادة ولا تدبيراً، أم أن العدم الذي أنشأ وصمم، وأوجد وكوَّن، وقدَّر وأتقن، وسمع فأجاب، وهو العدم الذي لا وجود له؟!!
والحقيقة أن ذلك كله شاهد يتحدث إلى العقول البشرية أن لها ربّاً حكيماً قادراً سميعاً بصيراً مجيباً( )، فعن أنس أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة، ورسول اللَّه × يخطب، ثم قال: يا رسول اللَّه هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع اللَّه أن يُغيثنا، فرفع رسول اللَّه × يديه، ثم قال: ((اللَّهم أغثنا، اللَّهم أغثنا، اللَّهم أغثنا)). قال أنس: ولا واللَّه ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا واللَّه ما رأينا الشمس سبتاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول اللَّه × قائم يخطب، فقال: يا رسول اللَّه، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع اللَّه يمسكها عنَّا، فرفع رسول اللَّه × يديه، ثم قال: ((اللَّهم حوالينا ولا علينا، اللَّهم على الآكام والظَّرَاب وبُطُونِ الأودية ومنابت الشجر))، فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس))( ).
وهذا الحديث آية من آيات اللَّه تدل على وجوده، وأنه القادر على كل شيء، وقد حصل هذا للمسلمين كثيراً، ولهذا قال الشاعر:
وكم أصاب المسلمين من جفافٍ
فنفروا ثقالهم مع الخفاف
وطلبوا من الإله الفرجا
فحققوا الفوز ونالوا المخرجا
فهل طبيعة أجابت أم وثن
أم أنه السميع كشَّاف المحن( )
وما زالت إجابة الداعين أمراً مشهوداً إلى يومنا هذا لمن صدق مع اللَّه، وأتى بشروط الإجابة.
النوع الثاني: معجزات الأنبياء الحسية، وهي آيات يُشاهدها الناس أو يسمعون بها، وهي من أعظم البراهين القاطعة على وجود مرسلهم؛ لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر، يجريها اللَّه – تعالى – تأييداً لرسله، ونصراً لهم.
ومن أمثلة ذلك: آية موسى × حين أمره اللَّه – تعالى – أن يضرب بعصاه البحر، فضربه فانفلق اثني عشر طريقاً يابساً، والماء بينها كالجبال، قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ ( ).
ومن آيات عيسى × أنه كان يُحيي الموتى، ويُخرجهم من قبورهم بإذن اللَّه، قال تعالى: ﴿وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ( )، ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي﴾ ( ).
ومن آيات محمد × انشقاق القمر، فقد طلبت منه قريش آية، فأشار إلى القمر، فانفلق فرقتين، فرآه الناس حقيقة في عهده ×، قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ ( ).
وهذه الآيات المحسوسة تدل دلالة قاطعة على وجود اللَّه – تعالى -( ).
المبحث الخامس: الأدلة الشرعية
طريق الهداية الكاملة هو ما جاء عن اللَّه – تعالى – أو عن رسله عليهم الصلاة والسلام، وهي تجمع بين الأدلة النقلية والعقلية، وهي من أعظم الأدلة التي تهدي لمعرفة اللَّه – تعالى – والإيمان به وتبعث المهتدي بها إلى العمل المزكّي للنفس، والمهيئ له إلى سعادة الدارين، بخلاف الهداية العقلية وحدها، فإنها – وإن أنقذت صاحبها من القلق النفسي والحيرة الفكرية – لا تزكِّي نفسه، ولا تُقوِّم أخلاقه، ولا تهيئه لسعادة الدارين، ولا تُخرجه من دائرة الكفر حتى يؤمن بالأدلة الشرعية ويعمل بمقتضاها( ).
والكتب السماوية كلها تنطق بأن اللَّه هو الخالق لكل شيء، المستحق للعبادة، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح العباد، دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها، دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به( ).
ودلالة القرآن الكريم نوعان:
( أ ) خبر اللَّه الصادق، فما أخبر اللَّه – تعالى – به، أو أخبر به رسوله × فهو حق وصدق( )، ولا يمكن أن يكون في ذلك شيء مُناقض لدليل عقلي ولا سمعي( )، لأن ما أثبته السمع الصحيح لم ينفه العقل الصريح( )، والمعقول الصريح يوافق ما جاءت به الرسل ولا يناقضه( )، وكل ما عارض الشرع من العقليات فليس دليلاً صحيحاً( ).
( ب ) دلالة القرآن بضرب الأمثال، وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب، فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي شرعية لأن الشرع دل عليها وأرشد إليها وأثبتها، وعقلية لأنها تعلم صحتها بالعقل( )، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ( ).
ويمكن أن أقتصر في الأدلة الشرعية التي تثبت وجود اللَّه – تعالى – وأنه رب كل شيء ومليكه ومدبره، ويستلزم ذلك أنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه على ذكر طريقين( ).
الطريق الأول: توجيه اللَّه – تعالى – الأنظار والقلوب إلى ما في هذا الكون من مخلوقات عجيبة تبهر العقول، فقد بين – سبحانه – في كتابه الآيات الكونية الباهرة الدالة على وجوده – سبحانه – وكمال قدرته، وعظيم تدبيره، وإتقان صنعه، ومن ذلك عجائب خلق الإنسان وعناية اللَّه به، وبيانه – سبحانه – ما في عالم الحيوان من خلقه وتكوينه، وأجهزته، وتنويعه، وعالم النبات، وما فيه من غرائب وعجائب وسُنن تُحار فيها العقول، والرياح السيارة، وأعظم من ذلك كله توجيه الأنظار إلى خلق السماوات والأرض، والليل والنهار، وما في ذلك من آيات تدل على عظمة الخالق( ) قال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ( ).
والقرآن الكريم يزخر بالأدلة على هذا النوع.
الطريق الثاني: معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد أيد اللَّه الرسل – عليهم الصلاة والسلام – بالمعجزات الباهرة للعقول، والخارقة لسنن الكون وقوانين الحياة، ليستدلوا بها على صدق نبوتهم، وإثبات رسالتهم، فإذا ثبتت نبوة الرسل بقيام المعجزات علم أن هناك مرسلاً أرسلهم؛ لأن ثبوت الرسالة يستلزم ثبوت المرسل، والعلم بالإضافة يستلزم العلم بالمضاف إليه، فالمعجزات نفسها يعلم بها صدق الرسول المتضمن لإثبات من أرسله، والآيات الباهرة التي يستدل بها على إثبات الخالق تدل المعجزة كدلالتها وأعظم( ).
وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه.