مقومـات و شـروط الحوار السوي بين الحضارات

مقومـات و شـروط الحوار السوي بين الحضارات
د. أبو يعرب المرزوقي *
تمهيـد

قصدنا من هذه المحاولة تجاوز العرضي من العوائق لتحديد العوائق الحضارية في ذاتها وبصرف النظر عن النسبة إلى الزمان وعن التقويم، أي العوائق التي تحول دون الحوار سواء أكان ذلك ضمن الحضارات أم بينها، أعني العوائق التي ليست من طبيعة تقنية أو طبيعية. فمن دون هذا التمييز لا يمكن تحديد مصدر العوائق الذي يخلصنا من كل الدعوات المخادعة لحوار بين الحضارات مغشوش، من جنس الدعوة إلى الحوار المسيحي الإسلامي المصحوبة بسعي الفاتيكان الدؤوب لاقتلاع الإسلام من أفريقيا، أو من جنس الدعوة إلى الحوار العربي - الإسرائيلي المصحوبة بسعي الأمريكان الدؤوب لاقتلاع الحصانة الروحية من الحضارة العربية الإسلامية.

صنّف محور الندوة الأول عوائق الحوار فقسّمها إلى ضربين: تاريخية نابعة من الماضي وراهنة قائمة في الحاضر، وهذه القسمة لا تساعد على علاج المشكل علاجاً يتجاوز العوائق العرضية التي تحضر وتغيب بحسب مؤثرات غير ذاتية للحضارات نفسها، ذلك أن المقابلة بين التاريخي والراهن سواء أأخذت بمعنى النسبة إلى الزمان (تاريخ = ماض / راهن = حاضر) أم بمعنى التقويم (تاريخي = ذو أثر على التاريخ / راهن – ذو رهان يعتد به) لا تميز بين صنفين متخارجين من العوائق، بل هي تشير إلى أمرين متطابقين. فعوائق الحوار التاريخية أو الماضية، لاجدوى من الحديث فيها إذا لم تكن راهنة الاعاقة. وراهن الاعاقة أو حاضرها لا يمكن أن يكون معيقاً بحق إذا لم يكن ذا جذور تاريخية، كما أنه لاجدوى من الحديث في عوائق الحوار الراهنة إذا لم تكن ذات أثر فعال في توجيه التاريخ، مثلما أن الحديث في عوائقه ذات الأثر التاريخي لاجدوى منه إذا لم تكن ذات رهان يعتد به. لذلك فالمقابلة بين التاريخي والراهن من الإعاقة ليست مقابلـة تمكّن من تحديد طبيعة العوائق الحائلة دون الحوار بين الحضارات، ولا من علاجها علاجاً يؤهل الأمة لتحقيق شروط الحوار السوي بين أبنائها شرطاً في الحوار الأدبي مع غي

ره

ا، لأن الحوار الحقيقي تحاور يستند ضرورة إلى التجاوب بمعنييه، أعني تبادل الجواب عن الأسئلة المتبادلة بين الأنداد والتفاهم بين ذوي الاعتراف المتبادل أحدهما بالآخر.

لذلك فسننطلق من تصنيف ضروب الحوار السوي بمقتضى طبيعته وغايته وأدواته وظرفه وقواعده لكي نتمكن من دراسة المقومات والشروط، ومن تحديد العوائق وكيفية تذليلها، ذلك أن تحديد مقومات الحوار مفهومياً يشترط - متقدماً عليه - الحصر الاستقرائي لضروبه بحسب آفاقه ومستوياته عقلاً، وبحسب قصوده ومستوياته عقداً، كما أن تحديد عوائقه وكيفية تذليلها يشترط متقدماً عليه تصنيف شروطه استقرائياً بحسب قصوده وظروفه عقلاً ونقلاً معاً بعد بيان اتحاد الأمرين. ونشير من البداية إلى أن التحليل يبين أن تحديد مقومات الحوار وشروطه بالعقل مجرداً يصل إلى نفس الأمور التي تستوجبها الدعوة إلى الحق كما حددها القرآن الكريم نظرياً وطبقها الرسول عليه الصلاة والسلام ممارسة، فيكون بحثنا بذلك مؤلفاً من مقالتين كلتاهما ذات فصلين: أولاهما لتصنيف الحوار عقلاً يوصل إلى العقد وعقداً يوصل إلى العقل، والثانية لتحديد المقومات والشروط، ونختم البحث بتصنيف العوائق وتذليلها:

المقالة الأولى: تصنيف ضروب الحوار

الفصل الأول:

تصنيف ضروب الحوار عقلاً بحسب آفاقه ومستوياته.

الفصل الثاني:

تصنيف ضروب الحوار عقداً بحسب قصده ومستوياته.

المقالة الثانية: المقومات والشروط

الفصل الأول: مفهوم الحوار ومقوماته الذاتية.

الفصل الثاني: شروط الحوار بحسب قصوده وظروفه.

الخاتمـة: تصنيف العوائق وتذليلها بحسب الشروط المسلوبة.

المقالة الأولى

تصنيف ضروب الحـوار عقـلاً وعقداً

الفصل الأول

تصنيف ضروب الحوار بحسب آفاقه ومستوياته

أو من العقـل إلى العقـد

ليست الحضارات ذوات عينية. لذلك فهي لا تتحاور إلا بممثليها الذين يحققون اللقاء بينها بالصراع أو بالحوار حول مجالات فعلها أو قيمها، فحوارها يكون بين ممثلين لا يتعينون إلا بتعين مستويات التواصل والتفاصل الممكنة بين البشر، سواء انتسبوا إلى نفس الجماعة أم إلى جماعات مختلفة، ومن ثم فاللقاء بين البشر سلبياً كان أو ايجابياً يقبل التصنيف استقرائياً بحسب ضروب مجالات فعلها والقيم التي تنتظم بها حياتهم ضمن حضاراتهم أو بينها:

١ - مجال الذوق وقيمتيه (الجميل والذميم). ٢ - مجال العمل وقيمتيه (الخير والشر). ٣ - مجال العلم وقيمتيه (الصدق والكذب). ٤ - مجال التوجيه وقيمتيه (الحر والمضطر). ٥ - مجال الوجود العام وقيمتيه (الشاهد والجاحد).

ومن البديهي ألا تلتقي الحضارات بما هي كتل غير مخلقة، لكنها تمثل «أفقاً ما» أو «إطاراً ما» يجري فيه اللقاء بين المتحاورين في هذه المستويات بعضها أو كلها، جزئيها أو كليها، إطاراً يدور فيه الحوار حول موضوع ينتسب إلى أحد مستويات تعينها هذه، ويمكن لهذا الأفق أن يتحول إلى كل هلامي ملتبس وغير مخلق لعدم التمييز بين المستويات فيؤدي في غالب الأحيان إلى عدم التفاهم، ومن ثم إلى الصدام بين الحضارات لا إلى الحوار بينها، فالحضارات بما هي جمل هلامية تكون متنافية بالطبع لأنها تؤدي عندئذ إلى خلط القيم وتسلط الغاصب من المتكلمين باسمها دون أهلية، واللقاء الفعلي بين الحضارات لا يحصل حقاً إلا بحسب أمور جزئية أو كلية تنتسب إلى هذه المستويات التي تكون موضوعاً لحوار بين متحاورين كلاهما أهل للحوار في ذلك المستوى حواراً يمكن أن يتجاوز الحدود الحضارية، أعني محاورين غير مغتصبين لحق الكلام باسم هذه المستويات، عندئذ يكون حوارهما حواراً يقبل التغير بتغير الحلول التي يقدّمها التاريخ الفعلي لقضايا الإنسان الكونية المتعالية على الزمان والمكان، فيتخلص من سلطان التقليد واتباع الآباء وينفي هذا التعالي التعين الحصري في الأشكال الحضارية المختلفة سو

اء أكانت خاصة بالأجيال المختلفة من الحضارة الواحدة أو بالحضارات المختلفة إلا بما هي أفق نسبي يجري الحوار في إطاره. وأذن فلا إمكان للحوار بين الحضارات إذا لم يتقدم عليه الحوار ضمن كل واحدة منها بين ممثلي هذه المجالات ذوي الأهلية للحوار حول موضوعات منها وحول قيمها حواراً يميز بين تعيناتها الحاصلة وقابلياتها الممكنة في تحصيل مثالها الكلي.

لكن الحضارات بوصفها أفقاً جمعياً وإطاراً للمتحاورين قد تحدّ من كلية هذه المجالات وقيمها بتحديد مواقف المتحاورين وعلاجهم لموضوعات الحوار لكونها معرضة لضربين من التصور: فهي قد تعتبر «أفقاً مطلقاً» يقتصر على الأفق الجمعي ويتحدد به ولا يتعالى عليه فتصبح حيزاً منغلقاً يحول دون السعي الدائب لتجاوز الجزئي إلى الكلي، وتقريب حاصل الواقع من ممكن المثال. وقد تعد أفقاً نسبياً يتضمن بالطبع الميل إلى أفق أسمى منه متجاوزاً له لكونه سعياً دائباً نحو المثال، سعياً مشدوداً إلى أفق كلي هو أفق القيم المتعالية التي لاترد إلى الأفق الجمعي مهما بلغ من كمال… وتبين التجربة التاريخية أن الاقتصار على الأفق الجمعي الحائل بالطبع دون الحوار السوي بين الحضارات له صيغتان متلازمتان عرفتهما كل الحضارات، بما في ذلك حضارتنا رغم عدم انسجام ذلك مع عقيدتها:

أولاهما: تنسب المطلق فتزعم أنه قابل للتعين في النسبي تعيناً يجعل الحضارات كليات عينية ممثلة لتحقق الروح الكلي كما هو الحال في نظرية أرواح الشعوب التي صاغتها الفلسفة الهيجلية أكثر الصياغات صراحة لتفسر بها تاريخ الإنسانية.

والثانية: تطلق النسبي بنفي المطلق كما هو الحال في نظرية مراحل العقل التي صاغتها الفلسفة الوضعية أكثر الصياغات صراحة لتفسر بها تاريخ الإنسانية.

وكلتا الصيغتين ملازمة للأخرى رغم أن أولاهما مصدرها تحريف الفكر الفلسفي، والثانية مصدرها تحريف الفكر العلمي، ذلك أن إطلاق الأفق الحضاري الجمعي واحد سواء أحصل بنفي التعالي نفياً يجعل الآفاق الجمعية مطلقة لنفي كل ما يتعالى عليها (تحريف الفكر العلمي) أم بتحييثه فيها تحييثاً يرد الأفق الكلي إلى الأفق الجمعي نفياً لكل ما يتعالى عليه (تحريف الفكر الفلسفي) وأساس الموقفين واحد: أنه تحريف الفكر الديني تحريفاً يؤدي إلى القول بالحلول، حلول الكلي في الجزئي والمطلق في النسبي سواء أكان الجزئي والنسبي عامّين، أعني العالم والطبيعة، أم خاصّين، أعني المجتمع والتاريخ، ولايمكن للحوار في هذه الحالة أن يكون سوياً لكونه حواراً كاذباً بالطبع، فذو العقل لا يمكنه أن يصدق نفسه في ظنها المطلق أو أن الخالق قد حل فيها، لذلك فإنه ليس من الإفراط القول إن هذا الموقف الحلولي، رغم صياغته الحديثة في الهيكلية والوضعية، ليس إلا إدباراً أو نكوصاً إلى الموقف العرقي البدائي الذي بمقتضاه كانت الشعوب البدائية تنفي الإنسانية عن غير سلالتها ظناً منها أن من لا يتكلم لغتها متوحش أو أعجم، نكوصاً تحول إلى عقيدة دينية جعلت قبيلة بدائية تتصور نفسها شعباً مختار

اً بل تدعي البنوة للرب.

لذلك فاللقاء بين الحضارات يكون في كلتا الحالتين التحريفيتين الفلسفية والعلمية كصياغتين متلازمتين للتحريف الديني لقاء بين عوالم منغلقة، لكأن الحضارات جزائر لا يتم التواصل بينها إلا من خلال تسالبها، خلافاً لما تدعو إليه الآية الكريمة: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم. فلا يمكن تنسيب المطلق بتحييثه في الجزئي من دون إطلاق الجزئي إطلاقاً يؤدي إلى التنافي الجدلي الذي هو عنف رمزي يؤسس لعنف مادي (الهيجلية) لكونه يجعل كل واحد منها روحاً عدمية، ولا يمكن نفي المطلق من دون إطلاق بعض الجزئيات التي عوضته إطلاقاً يؤدي إلى التنافي التقني الذي هو عنف مادي يؤسس لعنف رمزي (الوضعية) لكونه يجعل كل واحد منها طاقة عدمية، ولا فرق بين العدميتين إلا بكون الأولى تنطلق من السلب الروحي لتذهب إلى السلب المادي، والثانية تعكس الأمر فتنطلق من السلب المادي لتذهب إلى السلب الروحي. وقد اجتمع السلبان ضربين من الاجتماع لا يختلفان إلا بهذا التقابل وفيهما تتجسد العولمة الحالية بما هي جوهر التعيين التاريخي للتحريف الديني، في المادية الجدلية التي تذهب من عملية تنسيب المطلق الهيجلية

إلى عملية إطلاق النسبي الوضعية، وفي الرأسمالية البراغماتية التي تذهب من عملية اطلاق النسبي الوضعية إلى عملية تنسيب المطلق الهيجلية.

وفي هاتين الحالتين أصبحت الصلات السلمية الممكنة بين الشعوب المختلفة ممتنعة لكون الحضارات صارت بهذا المفهوم آفاقاً متنافية بالطبع وحائلة دون أي لقاء حواري سلمي فوجودها المتساوق يصبح ممتنعاً من غير الصراع الدامي وتوازن الرعب استناداً إلى منطق التنافي الجدلي أو التسالب التقني. ووجودها المتوالي يصبح مشروطاً تحققه بنفي خالفها لسالفها وابتلاعه، ولا عجب فالموقفان: الذي ينسب الأفق المطلق بتحييثه في أرواح الشعوب، والذي يطلق الأفق النسبي بنفي ما يتعالى عليه، متلازمان. إنهما صورتان من الموقف الحلولي أعني من تحريف الدين الذي لا يفصل بين الأفقين: الجمعي والمتعالي عليه. فتحريف العلم الوضعي مشروط بالقول بالحلولية الخاصة أو بوحدة الوجود التاريخية: حلول الرب في الإنسان، والشيوعية والرأسمالية جمعتـا بين التحريفين الفلسفي والعلمي المستندين إلى التحريف الديني الأصلي، أعني الحلولية، فكانتا تحقيقها الفعلي في تصدير الوجودين الطبيعي والاجتماعي بنفس الآليات العولمية السياسية الأيديولوجية الغالبة على الأولى. والاقتصادية التقنية الغالبة على الثانية. والمعلوم أن كلتا هاتين العقيدتين لا يمكن ألاّ تصبح سارية المفعـول في الوجودين دون

أن تكون مصحوبة بهيمنة دولة مطلقة ذات أجهزة بوليسية واستعلامية وعسكرية تستبعد الجميع دون استثناء بمن فيهم المواطنين المنتسبين إليها قبل غيرهم بهمجية عارية في الأولى، وبهمجية مبطنة في الثانية.

لذلك فإن أول معيار لتصنيف الحوار يستند إلى طبيعة الأفق الذي يحدد مناخ الحوار، فهذا الأفق يكون شهودياً يؤمن بتعالي الأفق الكلي على الأفق الجمعي أو جحودياً يوحد بين الأفقين، إما بنفي الأول أو يتحييثه في الثاني، وطبيعة الأفق ستقدم فعلها على القصد العام المحدد لضروب الحوار التي تمكن منها أدوات التواصل الإنسانية في المجالات التي أحصيناها بالاستقراء، وبهذا المعيار يمكن أن نقسم الحوار إلى جنسين:

١ - جنس الحوار القائل بتعالي أفق الحوار على الأفق الجمعي أو الحضارة، وهو جنس الحوار الوحيد الذي يمكن اعتباره سوياً. ولنطلق عليه اسم «الحوار الاستخلافي» لكونه يعتبر الأفق الحضاري مشدوداً بأفق يتعالى عليه فيؤمن بأن الإنسان ليس إلا خليفة.

٢ - جنس الحوار القائل بعدم تعالي أفق الحوار على الأفق الجمعي، إما بتصور المتعالي حالاً فيه أو بنفي المتعالي أصلاً، وهو الحد الذي إذا بلغه موقف المحاور صار حواره غير سوي، ولنطلق عليه اسـم «الحوار الحلولي» لكونه يعتبر الأفق الحضاري مطلقاً لا يتعالى عليه شيء فيزعم المطلق قد حل في الإنسان.

ويقبل هذان الجنسان التقسيم بفروق نوعية هي ضروب التقويم الخمسة التي أشرنا إليها. فتكون أنواع الحوار بحسب مجالاته أو مستوياته خمسة في كلا الجنسين بعدة ضروب التقويم التي تقبل أن تكون هي بدورها موضوعاً للحوار، مثـل الموضوعات المنتسبة إلى المجالات أو المستويات: الذوقي وقيمتيه والخلقي وقيمتيه والمعرفي والجهوي وقيمتيه والوجودي وقيمتيه.

الفصل الثاني

تصنيف ضروب الحوار بحسب قصوده ومستوياته

أو من العقـد إلى العقـل

يمكننا أن نستأنف تصنيفنا من رأس لنواصل تدقيقه، فبوسعنا الآن أن نحدد معيار الفصل بين الجنسين، أعني طبيعة أفق الحوار الذي يحقق التبالغ تحديداً أتم بالانطلاق من منبع آخر غير أفق الحوار عامة ومستوياته فلا نذهب من العقل إلى العقد، بل نعكس فنذهب من العقد إلى العقل، أعني من قصد الحوار ومستوياته تحديداً لقيمته الروحية الدينية، فالحوار الحقيقي تفاهم يصل بين طرفين. لذلك فهو لا يمكن أن يقع إلا بأدوات تتصف كلها بخاصية أداة التبالغ الرمزي، أعنى قدرتها على التغيير المتقدم على التمييز بين الإفادة الخبرية والإفادة الإنشائية بقصديهما الممكنين: الحقيقي والمزيف، لذلك فالتفاهم الحواري يتجاوز معايير أجناس الخطاب إلى معيار أصلها المتقدم عليها، المتقدم خاصة على الفصل بين الخطاب الخبري والخطاب الإنشائي، أعني إلى معيار الحقيقي والمزيف بما هما قيمتان للتبالغ عامة، فالإنشائي من القول لا يخلو من القصد الخبري لكونه تبالغاً تعبيرياً، فهو يعبر عن ذاته بالمطابقة أو عدم المطابقة معها حيث تصاحب الإشارة العبارة ومن ثم فهو يخبر عنها، كما أن الخبري من القول لا يخلو من القصد الإنشائي لكونه تبالغاً تعبيرياً كذلك، فهو يعبر كذلك عن ذاته بالمطابقة أو

عدم المطابقة معها، لكونه إنشاء إشارياً مع كونه خبراً عبارياً، وإذاً فللخبر بعد إنشائي يحدد قصده الحقيقي، أو المزيف من خلال حقيقة تعبيره أو زيفه، إذ الإنشاء مع كونه تعبيراً عن الذات، إخبار عنها كذلك، وإذاً فالحق والزيف يقاس في الخبر ببعده الإنشائي تعبيراً عن الذات ويقاس في الإنشاء ببعده الخبري إخباراً عنها، ولهذه العلة كان النفاق أو عدم المطابقة بين الذات باطناً، وتعبيرها ظاهراً أكبر علامات الكفر وأكثرها دلالة.

تلكما هما قيمتا الحوار المتقدمتان على المقابلة بين الخبر والانشاء، والمؤسستان لقيمة الحوار بخاصية التبالغ التعبيري الذي يجري خلاله، ويتبين ذلك خاصة في أفضل وضعية تبين حقيقة هذه الخاصية عندما تكون مقصورة على التزييف، حتى عند الصدق الموضوعي الذي يستهدف الخداع الذاتي كأن يقدم أحد أفراد الاستعلامات معلومات صادقة للعدو لطمأنته بالحصول على ثقته من أجل الغدر به، فالتمويه الدبلوماسي والاستعلامي يستعملان فنّيات الخداع بسلاح التبالغ التعبيري خبرياً كان أو إنشائياً، وذلك ما نعنيه بمعيار التبالغ الذي يتقدم على التمييز بينهما، أعني مستوى الحقيقة والتزييف اللذين يتصف بهما الخبر والإنشاء صادقين كانا أو كاذبين، لذلك إن قصد التواصل الحواري بين البشر يقبل أحد القصدين الممكنين لأدوات التواصل الرمزي بينهم أداء لوظائفها: الحقيقي والمزيف في الخبر والإنشاء على حد سواء، وفي حالتي الصدق والكذب وإذاً فوراء فعلي الإنشاء والخبر يوجد القصد أو النية التي تصحبهما فتجعلهما حقيقيين يستهدفان الحق إيماناً بتعاليه على كل تعين جمعي أو مزيفين يستهدفان الباطل ظنا أن التعين الجمعي مستوف للقيم المتعالية.

لذلك فمعيار حقيقة التبالغ التعبيري وزيفه غاية يناظر معيار الفصل والوصل بين الأفقين الكلي والجمعي بداية، وإذا كنا قد حددنا بمعيار الأفق أجناس الحوار بما هو حدث وجودي يقبل الفصل عن التقويم، فإننا نحددها بمعيار القصد بما هي حدث وجودي متحقق لا يعرى عن التقويم، وهذا التحديد الثاني يجعل الحقيقي من الحوار أمراً تكون فيه القيم السالبة عرضية (الجمال والخير والصدق الحرية والشهود) فكل من يعتمد على معيار المطابقة في المعرفي فيركز على علاقة الرمز بالموضوع مقصوراً عليها ويهمل علاقته بالذات يدعي أمرين كلاهما ممتنع وهو بذلك يجعل الحوار مستنداً بالطبع إلى تراجع القوى لا إلى تراجع الحجج الأمر الأول هو العلم المحيط بالمعلوم أو تحريف الفكر الفلسفي (الهيجلية) والأمر الثاني هو المعلوم المقصور على العلم أو تحريف الفكر العلمي (الوضعية).

وكلا التحريفين سيان، فهما يعودان إلى التوحيد بين الأفقين أي إلى نفي التعالي نفياً يحصر الوجود في الإدراك بلغة ابن خلدون. فالعلم عندئذ لا يبقى اجتهاداً بل يصير علماً مطلقاً إمّا لحلول المطلق فيه، أو لنفي كل مطلق عداه، أعني في الحالتين لاقتصاره على الأفق الجمعي، وذلك هو التحريف الديني الجوهري، أعني نظرية شعب الله المختار (كما يتبين من مفهوم الدين الوضعي في فلسفة «أوغست كونت» الذي يوله رجالات العلم الوضعي اهتماماً فيكون منهم شبه مجمع للحواريين). لذلك فإن رفض الاقتصار على معيار المطابقة بين العلم والمعلوم استناداً إلى رفض القول بالعلم المحيط يؤدي إلى رفض الحلين الحلوليين وتعويضهما بدل الاستخلاف الذي يجعل الأفق الجمعي مشدوداً إلى أفق متعال عليه يكون العلم بمقتضاه علماً اجتهادياً معياره الوحيد بذل الوسع معرفياً مع صدق القصد خلقياً.

وإذاً فالحوار يكون حقيقياً شهودياً أو مزيفاً جحودياً بحسب قصده، وقد أسلفنا أنه يكون استخلافياً وحلولياً بحسب أفقه، ويتطابق الأمران، فالأفق يحدد صفات الحوار وجودياً، والقصد يحددها قيمياً، ولكل منهما خمسة مستويات بعدة مجالات: (البعد الوجودي) التقويم = (البعد القيمي) مع تقابل الترتيب بين الجوهري والعرضي فيهما، فالقيم الموجبة جوهرية في الحوار الشهودي وعرضية في الحوار الجحودي، والقيم السالبة جوهرية في الحوار الجحودي وعرضية في الحوار الشهودي، ولولا هذه الخصيصة لما أمكن أن يكون هذا المعيار ممكناً من تحديد وجود الأجناس التي ستنقسم إلى الأنواع عند اعتباره أفقاً للحوار خلال العلاج الذاهب من العقل إلى العقد، ثم ممكناً من تحديد قيمة الأنواع على أرضية الأجناس عند اعتباره قصداً للحوار خلال العلاج الذاهب من العقد إلى العقل، وسواء أذهبنا من الوجود إلى القيمة أم من القيمة إلى الوجود فإن الحصيلة الواحدة تطابق قول الوجود التام = (الفلسفة الاستخلافية) وقول القيمة = (الدين الاستخلافي) الاسميين في دعوتهما إلى ضرورة تجاوز الأفق الجمعي إلى الأفق الكلي للتحرر من المواقف العرفية التي تكررت مرتين إحداهما باسم شعب الله المختار في الدين

الحلولي (اليهود) والثانية باسم شعب الله المختار في الفلسفة الحلولية (الألمان).

فبما كان هذا المعيار محدداً عقلياً (أي من الوجود إلى القيمة) لأفق الحوار يكون فاصلاً بين الجنسين لكونه متقدماً على كل حوار، وبما هو محدد عقدياً (أي من القيمة إلى الوجود) لقصد الحوار يكون فاصلاً لفرعي كل نوع من الأنواع الخمسة التي ينقسم إليها كلا الجنسين، ذلك أن كل نوع منها مضاعف بحسب قصد التواصل طلباً للحقيقة والعمل بها من أجل المصادقة التي مبدؤها الإيمان والتواصي بالحق والعمل الصالح والتواصي بالصبر، أو طلباً للباطل من أجل المخادعة التي مبدؤها نفي التواصيين، إذ أن الاستخلاف يتضمن بالطبع مرحلة التخلص من الحلول الممكن بما هو نسيان يرمز إليه القرآن الكريم بالخسر الذي هو الرد إلى أسفل سافلين. فتصبح العدة عشرة ضروب: خمسة شهودية حقيقية في أفق استخلافي يحدد الكونية الإسلامية التي هي دعوة للحوار مفتوحة بلا حد، بدايتها التعايش وغايتها التعارف، وخمسة جحودية مزيفة في أفق حلولي يحدد العولمة الحالية التي هي دعوة للحرب مفتوحة بلا حد وغايتها هي بدايتها أعني التعايش المحكوم بتوازن الرعب.

لذلك كان التقابل بين الجنسين، لحسن حظ الإنسان، ليس تقابلاً مطلقاً فللحوار مفهوم شامل يصل بينهما عندما ننطلق من الدعوة المفتوحة للحوار بلا حد أعني من الرسالة الإسلامية، ومن ثم فلا بد من وجود خيط يصل بينهما يجعل الأدنى قابلاً لأن يكون بداية ينبغي التخلص منها والأسـمى غاية ينبغي الوصول إليها، فالجحود المطلق والتزييف التام مستحيلان وإلا لفقدت الدعوة إلى الحق كل إمكان وكل مبرر فإذا كان النسيان نفياً لامكان التذكر مطلقاً بات التذكير لغواً، فحتى في الأفق الحلولي يكون طلب الباطل والتزييف الغالب على الحوار ممتنعاً من دون قدر من طلب الحق إذ علم الباطل للعمل به يقتضي علم الأدوات على حقيقتها لئلا يفقد مفعوله حتى وإن كان أساسه تزييف الغايات، فمخادعة الغير الناجعة مشروطة بعدم مخادعة الذات لكون مخادعة الذات أفضل الوسائل لمساعدة الغير عليها، أما طلب الحق فهو غني عن المخادعة حتى في الأدوات فضلاً عنه في الغايات، ذلك أن الجزء الضئيل من طلب الحق في البحث عن الباطل الأفعل يبين في النهاية أن الحيلة في ترك الحيلة كما يقول الرسول (عليه السلام) مما يجعل مصادقة الذات الحقيقية تتمثل في عدم مخادعة الغير لكون الغير الذي نخادعه لن يبقى دا

ئماً قابلاً للانخداع.

فخداعنا قد يعلمه سلاحنا فيشتد ساعده ويرهبنا، لذلك فإن الوصل بين الأفقين يمكن أن يكون من خلال المكر الأفضل الذي يتغلب على المكر الأرذل، الجهاد الاجماعي الذي يجعل صراع القومي أداة للتحرر من الباطل لتحقيق شروط الحوار السوي، لذلك كانت الدعوة الإسلامية مبنية على حاجة الحق للقوة العادلة التي تكون مجرد أداة لتحرير الإنسان من الحلولية وتبصيره بالأفق المتعالي، أو الأفق المبين الذي يكون الله فيه بالحق غير ضنين، لذلك فكل دعوة للحوار تظنه بديلاً من تصدي الحق للباطل بالقوة الخادمة للحق ليست دعوة للحوار السوي، بل هي تخاذل واستسلام للموقف الحلولي الذي يكون فيه الحوار للخداع فيلغي آخر مقومات الصمود.

وهكذا فقد أوصلتنا عملية التصنيف العقلي الخالص إلى نتائج من الصعب عدم الانتباه إلى تطابقها مع المعاني الجوهرية التي يستند إليها الحوار في التصور الإسلامي بضربيه، فللحوار كما يحدده الإسلام مفهوم شامل بدايته التعايش وغايته التعارف، والثاني حوار تام والأول حوار ناقص، والحوار الناقص الذي يمكن أن يعد بداية للحوار بمفهومه الشامل هو حوار التعايش بين البشر الذين لم يدركوا بعد وحدتهم الأصلية في الأخوة الآدمية، ومن اجل تحقيق شروط هذا الإدراك بكل وسائل الجهاد التي يعد الحوار أحد سبلها لكونه بداية الدعوة إلى الحق والحوار التام الذي يمكن أن يعد غاية للحوار بمفهومه الشامل هو حوار التعارف بين البشر الذين أدركوا وحدتهم الأصلية في الأخوة الآدمية المتعالية على الأشكال الحضارية. ومن أجل تعميق هذه الأخوة بكل وسائل الاجتهاد الذي يعد الحوار سبيله الرئيسية لكونه عين التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وبذلك يتبين أن الحوار بمفهومه الشامل يتألف من بداية وغاية يربط بينهما قابلية البداية للتطور بفضل الانشداد إلى الغاية عندما يوجد من يسعى إلى القيام بواجب الرسالة الهادية أعني الجهاد الإسلامي بكل وسائله سلميها وحربيها.

١ - الحـوار التام: هو الذي يصل بين مجالي التعامل البشري النظري (الاستخلاف النظري بفرعيه المجرد والمطبق) والعملي (الاستخلاف العلمي بفرعيه المجرد والمطبق) وصلاً يطابق بينهما مطابقة دالة على الحقيقة وهو لا يحصل في أتم صوره إلا بين المؤمنين، وفيه يكون طلب الحقيقة في المجال النظري مستنداً إلى ما يمكن تسميته بالاجتهاد الاجماعي، أو التواصل بالحق من أجل معرفة الحقيقة والقيم بكل أصنافها ويكون العمل بها في المجال العملي مستنداً إلى ما يمكن تسميته بالجهاد الاجماعي، أو التواصي بالصبر من أجل العمل بالقيم بجميع أصنافها لتحقيقها، ذلك أنه يمكن أن نرضى بالحد الأدنى عندما يكون الحوار بين الملل المختلفة لتحقيق أدنى درجات الحوار وخاصة في المجال النظري بين النخب على الأقل، لكننا لايمكن أن نقنع بغير أقصى درجاته بين المؤمنين وخاصة في المجال العملي بين الناس جميعاً، وذلك هو أسمى درجات الحوار، إنّه التواصل الحواري الذي يقصد الكشف عن الحقيقة لتحقيق المصادقة بين المتحاورين ولنسمّه حواراً شهودياً، ذلك أن هذا الحوار لا يدعي العلم المحيط لقوله بتعالي المطلق ونفي تعينه في النسبي، وقد حدد القرآن الكريم مبدأه وأساسه فأطلق عليه اسم ا

لإيمان وشرحه بكونه التواصي بالحق المصحوب بالعمل الصالح الذي شرحه بكونه التواصي بالصبر شـرطين في الاستثناء من الخسر أو الرد إلى أسفل سافلين، أعني الاستثناء من تحريف الفطرة التي أتى الإسلام لإرجاعها إلى سلامتها بتحقيق شرطيه لذلك كان من الضروري أن يكون الإسلام الدين الخاتم إذ هو قد بلغ الكلية المطلقة التي تتجاوز الأقوام إلى الإنسانية بل وتتجاوز الإنسانية إلى كل المخلوقات حيها وجامدها.

٢ - الحـوار الناقـص: هو الذي يفصل بين مجالي التعامل البشري النظري والعملي فصلاً يزيل التطابق بينهما (وتلك هي علامة الزيف أو النفاق) ويكون عادة بين غير المؤمنين، إنه التواصل الحواري الذي يقصد التعمية عن الحقيقة لتحقيق المخادعة بين المتحاورين ولنسمه حواراً جحودياً، وهو قد يصبح مطلق الجحود إذا لم يكن بداية مشدودة إلى الغاية فيصبح بداية بلا غاية، ذلك أن هذا الحوار يدعى العلم المحبط لقوله بتعين المطلق في النسبي أو بنفيه، لذلك فلا يحق للمؤمنين استعماله بهذا الإطلاق حتى مع الأعداء لتنافي أخلاق الغدر مع الإيمان، فالمكر المباح بل وحتى المكر الواجب في الحروب مع الأعداء لا يكون غادراً ولا مخادعاً لكونه يستهدف الحيلولة دونهما، ولولا ذلك لما نسبه الله إلى نفسه، لذلك كانت حضارتنا حضارة تضع قوانين إنسانية للتعايش بين الملل وللعلاقات الدولية حتى في حالة الحرب.

وبذلك يتبين أن جوهر الدعوة الدينية السليمة من التحريف عامة والرسالة الإسلامية خاصة يتمثل في الحوار المتواصل بين كل أبناء آدم لتحقيق رسالة الاستخلاف، لذلك كان الإسلام دعوة دائمة للحوار مع أهل الأديان الأخرى من منطلق البحث المشترك عن الحقيقة للعمل بها وإرجاء الفصل المطلق بينهم إلى يوم الدين، وتلك هي علة مقابلتنا في بعض محاولاتنا السابقة بين العولمة الجحودية والكونية الشهودية، فالمطلوب ليس حواراً بين الحضارات بل حوار بين البشر لتجاوز ما تتنافى به الحضارات سعياً إلى تحقيق الأخوة الإنسانية ذلك أن الحوار الحقيقي لا يجري بين الحضارات ولا ضمنها بل هو حوار بين البشر يتوسط ما في الحضارات من صبو إلى التجاوز الذاتي نحو ما يتعالى عليها، لذلك فقد اعتبر القرآن الكريم التعدد الحضاري والعقدي مقصوداً ومراداً لكونه شرط واجب التدافع من أجل الامتحان لمعرفة من يعمل بالتواصيين، لكن الحوار التام الذي هو واقع بين المؤمنين يمكن أن يصبح مثالاً أعلى للحوار بين الملل المختلفة عندما تصبح غايتها طلب الحقيقة والعمل بها مثل المؤمنين: التواصي بالحق والتواصي بالصبر كما أن الحوار الناقص الذي هو واقع بين الملل المختلفة يمكن أن يصبح مثال

اً أدنى بين المؤمنين عندما يحيدون عن طلب الحقيقة مثل غير المؤمنين، كما هي حالنا الآن: عدم التواصي بالحق وعدم التواصي بالصبر.

ولما كان ضربا الحوار قابلين للحصول في الملة الواحدة إذ قد ينحط حوار التعارف إلى مجرد حوار للتعايش عندما يبتعد طرفا الحوار المؤمنين عن التواصيين أو بين الملل المختلفة، إذ قد يسمو حوار التعايش إلى مستوى حوار التعارف عندما يقترب طرفا الحوار غير المؤمنين من التواصيين، بات من الواجب أن نعتبر الضربين درجتين من مفهوم أشمل للحوار يكون حوار التعايش بدايته وحوار التعارف غايته، والحوار بهذا المعنى الأشمل هو عينه جوهر الدعوة الدينية بدرجاتها المختلفة التي اكتملت في الرسالة الخاتمة، لذلك كانت الدعوة الإسلامية الأداة التي تحرر الإنسان من الرد إلى أسفل سافلين لتحقيق الاستثناء منه، أعني العودة إلى التقويم الأحسن الذي تمثله الفطرة الإنسانية أساس الأخوة أو وحدة البنوة لآدم التي هي مناط اجتباء الله للإنسان نفياً لنظرية الشعب المختار، أعني للنظرية العرقية التي تنفي كل إمكانية للحوار بما في ذلك درجته الدنيا، والحصيلة أن للحوار مدلولين.

١ - جحودي ناقص لكون الحقيقة والعمل بها فيه ليسا مطلوبين لذاتهما بل هما من أجل الباطل والعمل به.

٢ - وشهودي تام لكون الحقيقة والعمل بها فيه مطلوبين لذاتهما وليسا من أجل الباطل والعمل به.

فأما الناقص فهو حوار المخادعة وهو الحوار الجامع بين متناقضين هما مصادقة الذات لمخادعة الغير تسليماً بالتنافي المطلق بين البشر بمقتضى رد الأفق الكلي إلى الأفق الجمعي في الموقف الجحودي، وأما التام فهو حوار المصادقة المتحرر من الجمع بين متناقضين: مصادقة الذات لمصادقة الغير إيماناً بالأخوة الإنسانية في الموقف الشهودي، ولمـا كان كل من هذين الجنسين: التام والناقص ذا خمسة أنواع مضاعفة لكونهما يجريان حول موضوعات لا متناهية قابلة للتصنيف بحسب انتسابها إلى مجالات التقويم الخمسة مع التقويمات الخمسة نفسها بوصفها أنواع تلك الموضوعات وقابلة لأن تكون موضوعات من درجة أسمى، بات الحوار بين البشر قابلاً للحصر على النحو التالي: فبمقتضى الأفق يكون الحوار جنسين: الحلولي الذي ينفي التعالي والاستخلافي الذي يثبته، وبمقتضى أنواع التقويم يكون لكل جنس خمسة أنواع أعضاؤها لا متناهية العدد يضاف إليها الأنواع الخمسة، وبمقتضى القصد المناظر للأفق يكون كل منها حقيقياً للمصادقة أو مزيفاً للمخادعة بحسب كونه سعياً إلى كشف الحقيقة والعمل بها أو سعياً إلى التعمية عليها والعمل بعكسها في مناخين أو أفقين متقابلين تمام التقابل هما مناخ الشهود الاستخلاف

ي الذي يطلب الحق للمصادقة تواصياً بالحق والصبر بمقتضى الإيمان ومناخ الجحود الحلولي الذي يطلب الباطل للمخادعة تواصياً بالباطل والعجلة واليك هذه الأنواع من الحوار:

١ - الحوار حول موضوعات من مجال التقويم الجمالي مع التقويم الجمالي نفسه: تحديد الجميل والذميم في مجال من المجالات أو بصورة كلية.

٢ - الحوار حول موضوعات من مجال التقويم الخلقي مع التقويم الخلقي نفسه: تحديد الخير والشر في مجال من المجالات أو بصورة كلية.

٣ - الحوار حول موضوعات من مجال التقويم المعرفي مع التقويم المعرفي نفسه: تحديد الصادق والكاذب في مجال من المجالات أو بصورة كلية.

٤ - الحوار حول موضوعات من مجال التقويم الجهوي مع التقويم الجهوي نفسه: تحديد الحر والمضطر في مجال من المجالات أو بصورة كلية.

٥ - الحوار حول التقويم الوجودي حول موضوعات من مجال التقويم الوجودي مع التقويم الوجودي نفسه: تحديد الشهود والجحود في مجال من المجالات أو بصورة كلية.

إن الحضارة الأسمى ليست إذن هي الحضارة التي تدعي أن هذه القيم قد تعينت فيها دون سواها، بل هي الحضارة التي تعتبر تعالي ضروب القيم الخمسة على الجميع مقتضياً حواراً يتجاوز التعصب للأشكال الحضارية وتقليد الآباء فيطلب الحقيقة المتعالية عليها جميعاً لمعرفتها والعمل بها سواسية، لكون بني آدم أخوة تجمعهم الفطرة الواحدة التي قد تشوهها التحريفات الحضارية لكنها لا يمكن أن تطمسها، ولعل أفضل مثال من هذه الدعوة هو موقف القرآن الكريم من السنن السابقة التي يحتج بها أصحابها لرفض الحق، والمعلوم أن طلب الحقيقة دون ادعاء حيازتها هو المعرفة الاجتهادية التي استعاض الإسلام بها عن الإحاطة النظرية التي يزعمها السلطان الروحي المتعالي على الأشخاص، السلطة الدينية التي تدعي العصمة والوساطة بين الإنسان والعمل بالتمييز بين الحق والباطل. ويقتضي العمل الجهادي تبرئة الخطأ فيه بل واعتباره مأجوراً إذا توفرت شروطه التقنية والسياسية، وذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوسائله المشهورة.

المقالـة الثانـيـة

المقومات والشـروط

الفصل الأول

مفهوم الحـوار ومقوماته الذاتية

بيّنا في المقالة الأولى أن النتائج التي وصل إليها البحث من المنطلق العقلي إلى الغاية العقدية (الفصل الأول) هي عينها النتائج التي وصل إليها من المنطلق العقدي إلى الغاية العقلية (الفصل الثاني) فتمكنا من تمييز الأفقين والقصدين وحددنا الجسر الذي يمكن من الربط بينهما، وليس هذا الجسر إلا تصوراً أوسع للحوار لا يمكن من دونه أن تكون الرسالة الخاتمة دعوة عامة للحق تتجاوز كل الحدود الحضارية، فالحوار التام بإطلاق والحوار الناقص بإطلاق لا يكادان يوجدان في الواقع الفعلي، والحوار الواقع في الوجود الفعلي مفهوم أوسع لكونه دون الأولين إطلاقاً، لذلك فهو لا يكون إلا نسبياً يغلب عليه التوجه الاستخلافي أو التوجه الحلولي بحسب القائمين به وليس بحسب الانتساب الرسمي لهذه الحضارة أو تلك، فهو يحصل إما ضمن الحضارات الاستخلافية أو ضمن الحضارات الحلولية او بينهما، ومطلوبنا في هذه المحاولة هو هذا المفهوم الواسع من الحوار الذي يكون في بدايته أميل إلى الحلولية وفي نهايته أميل إلى الاستخلافية، ومن هذه البداية والغاية يتألف مفهوم الحوار الموجود بحق وجوداً يكون أميل إلى الاستخلاف أو إلى الحلولية، بحسب الاتصاف بصفات الاستخلاف أو الحلولية وليس بحس

ب مجرد الانتساب الرسمي لهذه الحضارة أو تلك لأن مفهوم كنتم خير أمة غير مفهوم «الشعب المختار» والمعلوم أن الميل إلى هذا الأفق أو ذاك أو قصده إليه هو الذي يحدد طبيعته وليس تحقق الأفقين فيه لامتناع الإطلاق في الحالتين:

١ - فالبداية يكون فيها طرفا الحوار منفصلين لكون الحوار بينهما لا يجري في إطار رهان واحد يتعالى على افقهما الحضاري بل في إطار الصدام بين رهانين متنافيين، إما باطلاق وعندئذ تكون البداية غاية لا يتجاوزها الحوار، أو باضافة لكون نفي الأفق المتعالي أو رده للأفق الجمعي ليس إلا نفياً رسمياً.

٢ - والغاية يصبح فيها طرفا الحوار متصلين لكون الحوار يصبح في إطار الرهان الواحد الرهان الذي يتعالى على الأفق الحضاري تجاوزاً للصدام بين الآفاق الجمعية المتعددة دون نفي للتعدد الذي هو شرط الاجتهاد أو الرهان الجمعي.

وبذلك يمكن الوصل بين البداية والغاية في معنى البداية الإضافي إلى الغاية وفي معنى الغاية، الوصل بينهما بمفهوم شامل لأن الفرق بين البداية والغاية عندئذ ليس إلا فرقاً نسبياً من المنظور الاستخلافي، وهو لا يصبح فرقاً مطلقاً إلا عند القائلين بالحلول العام أو الخاص اللذين يقفان عند حوار البداية نفياً لحوار الغاية بإطلاق الأفق الجمعي ونفي الأفق المتعالي عليه. ولما كان أساس عقيدة المسلمين الإيمان بأن بني آدم، حتى في أشد اللقاءات العدائية، لا يخلون من الانتساب إلى رهان روحي واحد أعني رهان منزلة الإنسان الذي كرمه الله، منزلته التي يدور الخلاف فيها حول طبيعة أداء الأمانة وشروطها، صار وصف الرسالة الإسلامية بالرسالة الخاتمة أمراً مفهوماً وبات تعدد الأشكال الدينية واختلافها أمراً نسبياً لايؤدي ضرورة إلى العداوة والبغضاء، بل هو شرط الاجتهاد الساعي إلى معرفة الدين الأصلي بداية قبل الرد إلى أسفل سافلين وغاية بعده، أعني دين الفطرة الساذجة قبل التحريف ودين الفطرة الواعية بذاتها بعد إصلاح التحريف.

فهذه الفطرة الإسلامية أمر مشترك لجميع الكائنات وخاصة للبشر الذين هم كلهم لآدم وآدم من تراب وتلك هي بذرة الكونية الإسلامية أو منزلة الاستخلاف التي هي عينها الأمانة التي حملها الإنسان. ويعني ذلك أن الانتساب الحقيقي إلى الاستخلاف أو إلى الحلولية يتجاوز الحدود الحضارية، فالأمر لا يتعلق بالانتساب السياسي الحضاري إلى هذه الملة أو تلك، بل المقصود هو الانتساب إلى الشهود أو إلى الجحود الموجودين عند البعض من كل الحضارات مع غلبة هذا الأفق في بعضها وذاك في بعضها الآخر، ذلك أن الشهود والجحود من الأمور التي لا تتعين إلا في الشعور والسلوك الفردي، أما الجماعة فليس لها شعور ولا سلوك إلا متوسط نخبها الممثلة المفتوحة، فيما هي كتلة هلامية لا توصف الجماعة بأي منهما إلا مجازاً تعميماً للوصف الغالب على نخبها الممثلة لحالات التقويم الخمسة، أعني النخب المبدعة في الفن والأخلاق والمعرفة والتوجيه (أي في التشريع) والوجود (أي في النظريات الوجودية العامة وهي الفلسفات الدينية المختلفة).

لكن وحدة البشر الأساسية أو الفطرة ذات القوة الأولى قابلة للنسيان أو للإفساد وهو المقصود بالرد إلى أسفل سافلين أو الخسر بعد التقويم الأحسن، لذلك فإنه ينبغي أن ندرس البداية بما هي مرحلة مؤقتة تفهم في ضوء الغايى لكونها توجهاً وسعياً لتحقيق الاستثناء من هذا الرد تحقيقاً للفطرة ذات القوة الثانية، فالبداية المفصولة عن الغاية - وهي قابلة لهذا الفصل عيناً إذا أمكن التوقف عندها بخلاف الغاية التي لا تقبل الفصل إلا ذهناً لكونها لا تحصل وجوداً من دون الغاية - كان الحوار فيها حواراً لايتجاوز طموحه شروط التعايش وتكون وظيفة الحوار فيها من جنس المفاوضات بين عدوين أعني حواراً ذا أسلوب دبلوماسي أو استعلائي غايته التواصل الخداعي وليس البحث عن التفاهم الحقيقي. إنه إذاً ضرب من الحرب المؤجلة بسلاح الخداع اللساني إلى حين حصول الفرصة للحرب الفعلية. أما إذا أخذت من حيث نسبتها إلى الغاية فإنها تكون بداية للسعي الذي أشرنا إليه، ومن ثم فهي جزء من الغاية والحوار بهذا المفهوم الشامل يتحدد بخمسة مقومات حللنا منها أربعة مثلت في مقومي الأفق أعني:

١ - مجال الحوار. ٢ - وموضوعه. وفي مقومي القصد أعني: ٣ - غايته. ٤ - وقانونه أو القاعدة التي يخضع لها.

ولم يبق إلا المقوم الخامس الذي لم نحلله لكونه هو الآصرة الرابطة بين ضربي الحوار التام والناقص، الآصرة التي أشرنا إليها في المقالة الأولى دون تدقيق أنها تقوم مدى الحوار أو الفسحة التي يجري فيها، كما سنرى.

ولما كانت هذه المقومات يتغير مضمونها بحسب كونها مقومة لحوار البداية المشدودة للغاية، ولحوار الغاية المبنية على البداية، بات تحديد مضمونها مستوجباً التمييز بين مقومات البداية المشدودة إلى الغاية ومقومات الغاية التي لا يمكن أن تكون مفصولة عن البداية إلا في التجريد الوهمي عند الجدوى. وعلينا الآن أن نحلل فسحة الحوار أو مداه، فهذا المقوم يمثل المحدد الأساسي للهامش الحواري بين ممثلي الحضارات ضمن إحداها أو بينها وخاصة في حد البداية. ويمكن أن نصوغ هذه الفسحة صياغة شبه رياضية لكونها ليست شأناً آخر غير العلاقة المتغيرة بين نسبتين: هما نسبة القوتين الماديتين ونسبة القوتين الروحيتين عند طرفي الحوار. إنها إذاً تناسب بين أربعة حدود، ولهذه العلاقة حدان لا يوجدان في التاريخ الفعلي إلا وجود الفكرة المحرجة أو الحدث الأسطوري: الاقتصار على النسبة المادية وحدها في حالة الحوار الجحودي والحلولي المطلق، والاقتصار على النسبة الروحية وحدها في حالة الحوار الشهودي والاستخلافي المطلق، لكن الموجود الفعلي منهما هو الاتجاه نحو ذاك الأفق أو هذا وذلك في الحوار الجاري في نفس الحضارة أو بين الحضارات.

ولو فرضنا الحدين موجودين بالفعل لأصبحت حالة السلم الدائمة أمراً حاصلاً، ولصار الحوار حقيقياً دائماً فيقع الاستغناء عنه، لذلك فغاية الاجتهاد الإجماعي الذي يستند إليه الجهاد الإجماعي بين المؤمنين يمكن تحديدها بالمثل إلى الحد من تأثير عامل القوة المادية والزيادة من تأثير عامل القوة المعنوية في العلاقات الاستخلافية لكون الإيمان يتجاوز حدود الملل، وهو ليس واحداً عند الجميع إلا بما هو مثال مطلوب وليس بما هو واقع حاصل. كما أن ذلك لو صح لأصبحت الحرب الدائمة أمراً حاصلاً كذلك، ولصار الحوار مزيفاً دائماً فيقع الاستغناء عنه، لذلك فغاية العلم المحبط المزعوم الذي يستند إليه الاقتتال الجماعي (التنافس الاقتصادي المتوحش الذي هو قتل غير مباشر) بين الكافرين يمكن تحديدها بالميل إلى الحد من تأثر عامل القوة المعنوية والزيادة من تأثير عامل القوة المادية في العلاقات بين البشر، لكننا لا يمكن أن نلغي النسبة الناتجة عن علاقة القوة المعنوية بين المتحاورين الموجودة حتى في الملة الحلولية لكون الكفران يتجاوز حدود الملل وهو ليس واحداً إلا بما هو تصور وليس بما هو واقع حاصل.

حالة السلم الدائمة من الأحلام حتى بين المؤمنين، إذ في دوامها تناقض يتمثل في نفي التدافع الامتحاني لمعرفة الحق والتنافس من أجل تحقيقه، والحرب الدائمة من الأوهام حتى بين الكافرين إذ في دوامها تناقض لكون القوى المتحاربة متناهية، ومن ثم فهي تفنى فتتوقف الحرب لو لم توجد هدفا لتجديدها. والفرق بين الحضارات هو إذاً فرق في التوجـه والقصد، فبعضها يجعل الحرب شذوذاً على قاعدة السلم وتلك هي الخاصية الغالبة على الحضارات الاستخلافية وبعضها يجعل السلم شذوذاً على قاعدة الحرب وتلك هي الخاصية الغالبة على الحضارات الحولية.

لذلك فالحوار يفترض دائماً هذه العلاقة بين ميزان القوة المادية وميزان القوة المعنوية رغم تقدم الأول عند الحلوليين وغلبته عليهم وتقدم الثاني عند الاستخلافيين وغلبته عليهم. ولولا هذه العلاقة المزدوجة لما وجدت فسحة للحوار أصلاً ويوجد التقديمان عندما يكون الصراع بين واحد من هؤلاء وواحد من أولئك، مع تعاكس في الترتيب، ذلك أن الحدين: حد بداية الحوار وحد نهايته، يحددهما قانون التناسب العكسي بين قوتي المتحاورين المادية والمعنوية، فميزان القوة المادي والروحي بين المتحاورين هو الذي يحدد الفسحة التي يجري خلالها الحوار، وبداية هذه الفسحة هي وجود حساب الربح والخسارة المادي عند الأقوى مادياً لكونه لا يشرع في قبول الحوار والتخلي عن منطق الحرب المطلق مع الأضعف مادياً إلا بمنطق المساومة للحفاظ على أكبر قدر منها، وإذاً فدلالة الحوار عند الأقوى مادياً الأضعف روحياً غيرها عند الأضعف مادياً الأقوى روحياً. أحدهما يحاور بالخداع دفاعاً عن الباطل والظلم، والآخر يحاور بالحقيقة دفاعاً عن الحق والعدل.

وليس معنى ذلك أن الأضعف مادياً ليس له حسـاب ربح وخسارة مادي، وأن الأقوى مادياً ليس له حساب ربح وخسارة معنوية، بل القصد هو أن كلاً منهما يستمد «مدى التحمل» من تراتب القوتين عنده، فمن استقوى بالمادة يكون أضعف روحياً ضرورة لأن مدى تحمله يقدر بالمنزلة التي يوليها للقيم المادية التي يريد الحفاظ عليها قبل أي شيء آخر، ومن استضعف بالمادة يكون أقوى روحياً لأن مدى تحمله يقدر بالمنزلة التي يوليها للقيم المعنوية التي يريد الحفاظ عليها قبل أي شيء آخر، وهذا من سنن الله التي لن تجد لها تبديلاً أو تحويلاً، لكن ذلك لا يعني أن الأقوى روحياً ينبغي أن يكون أضعف مادياً، إذ المؤمن الحقيقي ينبغي له الجمع بين القوتين بصريح أمر القرآن، ذلك أن القوة الروحية توصل ضرورة إلى القوة المادية، وضعف القوة المادية علامة من علامات ضعف الإيمان، فالعلاقة بين القوتين هي علاقة الغاية بالأداة: المادي أداة الروحي، وذلك هو معنى الاستقواء بالروح. أما القوة المادية فإنها لا تؤدي إلى القوة الروحية ضرورة لكون الأداة لا تولد الغاية ضرورة بخلاف الغاية، وما يؤدي إليه الاقتواء بالمادة ليس قوة روحية بل هو توظيف القيم الروحية وتحويلها إلى أداة خداع فلا تبقى

مطلوبة لذاتها. وقد وصف القرآن العظيم صفات قوة المؤمنين المعنوية فردها إلى عاملين هما: الإيمان وعلامته التواصي بالحق ثم العمل الصالح وعلامته التواصي بالصبر.

وهذا القانون الذي نصوغه في محاولتنا هو السر في انتصار الحق الحتمي حتى في حالة الضعف المادي، فضلاً عن انتصاره في حالة الجمع بين القوتين الروحية والمادية ويكفي مثالاً لذلك مقاومة جنوب لبنان الإسلامية وانتفاضة الشعب الفلسطيني وقبلهما ثورات المغرب العربي التحريرية.

أولاً - مقـومات حـوار البدايـة:

نبدأ بتحديد مقومات الضرب الأول أو مقومات بداية الحوار التي هي بالضرورة أمر سلبي لكونها حتى عند اكتمالها ليست إلا محاولة للتخلص من الرد إلى أسفل سافلين الذي هو علة الاقتتال من البشر فالضرب الناقص من الحوار أو بداية الحوار بمعناه الشامل يتقوم بعناصر سلبية كلها:

١ - موضوع الحوار: ازدواج الموضوع الذي يدور حوله الحوار: موضوع الحوار وقيمته التي تحدد درجة الاعتراف المتبادل من المتحاورين.

٢ - مجال الحوار: ضمن أفق أميل إلى الجحود منه إلى الشهود وإلى الحلولية منه إلى الاستخلافية.

٣ - فسحة الحوار أو مداه: التناسب بين النسبتين: ميزان القوتين الماديتين وميزان القوتين الروحيتين من المتحاورين.

٤ - غاية الحوار: ازدواج الغاية التي يسعى إليها الحوار: الخداع في الموضوع الثاني من أجل الأول

قانون الحوار: قاعدة واحدة خداع الخصم وجعله يفقد حذره منطق القنص.

ثانياً - مقـومات حـوار الغايـة:

إن مقومات الغاية كما أسلفنا لا تقبل الفصل عن مقومات البداية إلا في الذهن. وعندما تفصل فهي لا تحدد حواراً فعلياً، بل هي تحدد مجرد تصور مثالي لواجب ينافي واقعه. وهي عندئذ من الخدع التي يستعملها من لا يؤمن به، لذلك فهذا المثال الأعزل لا يعنينا، فنحن نريد أن نتحدث في مقومات الغاية عندما تكون في الوجود العيني لا في الوجود الذهني. ومن ثم فهي تشترط أن تتقدم عليها مقومات البداية المشدودة بهذه الغاية. فهذه المقومات هي مقومات الضرب التام من الحوار أو غاية المفهوم الأشمل للحوار. وهي معلومة عند كل من قرأ القرآن الكريم. فهي مقومات التعارف بين المؤمنين، مقوماته التي تنقسم إلى صنفين شارطين للاستثناء من الخسر أو الرد إلى أسفل سافلين أعني:

مقومات الإيمان والتواصي بالحق لمعرفته وتكون بالاجتهاد الإجماعي، لذلك فأسلوبها لا يمكن أن يكون إلا أسلوب البحث الصادق عن الحقيقة لكشفها المشترك: وذلك هو معنى التواصي بالحق.

مقومات العمل الصالح والتواصي بالصبر لتحقيقه وتكون بالجهاد الإجماعي. لذلك فأسلوبها لا يمكن أن يكون إلا أسلوب السعي الصادق لتحقيق الممكن منها في حدود التكليف أعني الوسع: وذلك هو معنى التواصي بالصبر. عندئذ يمكن أن يكون الحوار متقوماً من هذه الأبعاد:

١ - فموضوع الحوار لا يكون الخلاف حول تحديده، بل حول سبل البلوغ إلى الكمال فيه.

٢ - ومجال الحوار ليس هدنة التنافي بين البشر، بل هو الأخوة الإنسانية أعني خدمة رسالة واحدة.

٣ - وفسحة الحوار: ليست محددة بالتناسب العكسي بين موازين القوى عند طرفي الحوار، بل بالتكامل بين القوة المعنوية والمادية من أجل تحقيق شروط الأخوة الإنسانية.

٤ - وغاية الحوار: ليست منزلة المتحاورين، بل هي تعميق البحث في أفضل وجوه خدمة الهدف.

٥ - وقانون الحوار: قاعدة واحدة فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر. الغاشية / ٢١ـ٢٢.

الفصل الثاني

شروط الحوار بحسب قصوده وظروفه

١ - شروط حوار البدايـة:

كل امرئ يعلم أن غياب التراجح المادي بين الحضارات يجعل الاعتقاد في تراجحها المعنوي وهماً قد يؤدي إلى تنويم الضعفاء فيفقدهم الحصانة الروحية أعني عقيدة التفاضل الروحي الذي يستند إلى العقيدة الدينية أو أساس القوة المعنوية التي تزول بدوام الهزيمة في التاريخ الفعلي، والحوار في هذه الحالة لن يكون تنازلاً من الأقوياء لجبر خاطر الضعفاء بل هو حيلة حربية تستهدف نزع آخر حصاناتهم أعني عقيدة التفاضل الروحي أو أساس القوة المعنوية.

لذلك فالحوار ليس بديلاً يغني بالمثال عن الواقع بل هو جزء من الصراع الإنساني من أجل القيم لكون السعي إلى التكافؤ المادي جزءاً من التفاضل المعنوي، بل هو ثمرته الأساسية. ولولا ذلك لتخلى المسلمون عن الشروط المادية لتبليغ الرسالة الروحية ولامتنع عليهم تحقيق شرطي كونهم خير أمة أخرجت للناس، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يمكن للضعيف مادياً أن يأمر أو أن ينهى، وإذا فعل فلن يجد من يسمع أو يطيع، لذلك قال الإمام علي (كرم الله وجهه): «لا رأي لمن لا يطاع».

إن الإيمان الحق يستوجب إرث الأرض العادل ضرورة، لذلك فمن لم يرثها ليس مؤمناً بحق، لكن هذا المبدأ ليس كلي التعاكس، لأن غياب الشرطين يجعل عكسه جزئياً في الإيجاب وكلياً في السلب فليس كل ساند مؤمناً، لكن كل من ليس بساند ليس بمؤمن، ومن ثم فلا بد للمؤمن بحق من العمل على السيادة العادلة بأسبابها المادية الناتجة عن شروطها الروحية. وذلك هو معنى الصراع بين البشر من أجل تحقيق القيم وتقويم سعي الناس للقيام بهذا الواجب، واجب التدافع. ويتلو عن ذلك ضرورة أن المسلمين اليوم ليسوا مؤمنين بحق لكونهم مستضعفين في الأرض ما دام كونهم الأعلين مشروطاً بنص القرآن بكونهم مؤمنين (آل عمران ١٣٩) إنهم مثل الأعراب أسلموا ولما يؤمنوا.

إن الحوار التام من وجهة نظر الإسلام هو التعارف الذي يشترط الإبقاء على طلب الحقيقة والعمل بها، ومن ثم فلا بد من تحقيق شروطهما المادية والروحية، ويعني ذلك أنه لا بد من التنافس المادي مع الحضارات الأخرى بقصد غير قصد أصحابها، لكون ذلك أمراً ضرورياً لحماية قيم الحضارة الإسلامية ولا بد من التنافس الروحي معها بقصد غير قصد أصحابها للتبشير بهذه القيم تبشيراً يعتمد على النموذج الذي نقدمه أولاً، وعلى تحقيق شروط الأمر والنهي المسموعين أخيراً، لذلك فإن رفض الصراع باسم الحوار بين الحضارات الصراع الضروري للتدافع من أجل تحقيق القيم يعد هروباً من وجوب التنافسين المادي والروحي بينها في مستوى الأدوات والوسائل حماية للغايات التي تمثلها قيمها، ودلالة على فضل هذه القيم، فالتدافع شرط ضروري لتحقيق القيم.

٢ - شروط حوار الغايـة:

لما كانت الغاية لا تكون حقيقية إلا إذا تجاوزت الوجود الذهني إلى الوجود العيني، فإنه لا بد لها من تضمن شروط البداية التي تهدد دائماً بالبقاء حلولية بمجرد طريان الضعف على دعاة الغاية الاستخلافية، فلا يمكن للحوار الغاية أن يحصل من منطلق الضعف، لكوننا عندئذ لسنا متيقنين من صدق الدعوة. والأغرب من ذلك هو أن البداية لا تكون فعالة على المدى الطويل إلا بمقدار توفر شروط الغاية على الأقل في الداخل لكون القوة المادية وحدها ليست إلا هشيماً تذروه الرياح، لذلك فالأمة التي تخلو من الحوار التام في ما بين أبنائها لا يمكن لها أن تصمد في الحوار الناقص مع غيرها ومن باب أولى فهي أعجز من أن تصل إلى الحوار التام معه، ولما كان شرط الحوار بين المؤمنين هو شرط الحوار مع الملل الأخرى بات من الواجب أن نحدد هذا الشرط الأصلي وأن نحدد علة كونه شرطاً أو شرطاً أصلياً. فقد بينا أنه ينقسم إلى الإيمان أو التواصي بالحق وإلى العمل الصالح أو التواصي بالصبر، وليس التواصي بالحق إلا كناية عن الاجتهاد الإجماعي. وليس التواصي بالصبر إلا كناية عن الجهاد الإجماعي، لذلك فإنه يكفي أن نحدد هذين المفهومين تحديداً يحررهما من حصرهما في معنييهما الأصغرين حتى نتخلص

من أسباب انحطاط الأمة، انحطاطها الذي أفقدها شروط القيام المستقل والحر والقادر على محاورة الغير لكونه قادراً على محاورة الذات. ولنبدأ بآخرهما. فالعلم لا معنى له إلا بغايته أعني بالعمل. والعمل في مفهومه الإيماني ليس رمياً في عماية بل هو فعل على علم.

١ - شروط الجهاد الإجماعي: شروط الدفاع الحر والناجح عن العقيدة:

صار مفهوم الجهاد محصوراً في معنييه الأصغر والأكبر: فالأصغر المباشر هو الحرب والشهادة من أجل العقيدة، والأكبر المباشر هو مجاهدة النفس والقيام بالفرائض، وأصبح الأمران يقعان بمجرد التقيد بدورها في تبليغ الرسالة، والمعلوم أن الجهاد الأصغر قد كتب على جميع المسلمين بوصفه شرطاً أداتياً لحوار البداية أ و حوار التعايش: كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون. والمعلوم كذلك أن الجهاد الأكبر يمكن أن يعتبر شرطاً غائباً لحوار الغاية أو حوار التعارف ضمن الملة الإسلامية أو بينها وبين غيرها، لكون مجاهدة النفس أو القيام بالفروض تربية إسلامية تبلغ الرسالة بالنموذج ومكارم الأخلاق.

والسؤال هو: لماذا استعمل المسلمون صفة التفضيل استعمالاً يوحي بوجود معنيين آخرين يؤكدان هذين المعنيين الأداتي في البداية والغائي في النهاية؟ فالأصغر لا يقال بالقياس إلى الأكبر، إذ لا يمكن أن يعد الأكبر صغيراً، والأكبر لا يقال بالقياس إلى الأصغر، إذ لا يمكن أن يعد الأصغر كبيراً، وإذاً فلا بد أن يكون للجهاد معنيان آخـران، وقع إغفالهما إلى الآن هما: معناه الصغير ومعناه الكبير وسطين بين حديه الأقصيين الأصغر والأكبر.

فأما المعنى الصغير الذي يقاس إليه الأصغر فهو جماع شروط حصول الجهاد حصولاً يحول دون الشك أن يتطرق إلى تماسه عند حصوله إذا وجب القتال، أعني العمل الدائم لتحقيق شروط المناعة التي قد تغني عن الحاجة إلى الحصول الفعلي للجهاد الأصغر. وهذه الشروط هي كل المقومات المادية للمجتمع القادر، أعني ما يمكن حصره حصراً مستوفياً باعتباره شروط المناعة المنتسبة إلى مؤسستي قاعدة المجتمع. أعني المنشأة الاقتصادية والأسرة مؤسستيه اللتين تعود إليهما مناعته الاقتصادية والتربوية بمعناهما الإسلامي. ذلك هو الجهاد الصغير الذي من دونه لا يكون الجهاد الأصغر ممكناً إلا إذا حصرناه في الدعوات الجوفاء عند بعض الفقهاء الذين تجاوزهم العصر تجاوزاً جعلهم عاجزين حتى على فهم علة عدم وجود من يسمعهم.

وأما الجهاد الكبير الذي يقاس إليه الجهاد الأكبر فهو جماع شروط حصول الجهاد الأكبر حصولاً تاماً، فعلياً وليس إمكانياً فحسب، لكون الحاجة إلى الجهاد الأكبر ليست ظرفية خلافاً للحاجة إلى الجهاد الأصغر المشروط بعدوان من يمنع الحرية الدينية. فالحاجة إلى الجهاد الأكبر دائمة بالطبع لكونها هي التحرر الدائم من العدوان الأبدي للموقف الذي يرفض الحرية أعني العبودية لله وحده وطاعة الأمر الإلهي. وأبرز أشكال هذا العصيان هو الموقف الحلولي الذي هو مصدر الظن بإمكان الاستغناء عن العبادة لله واستبدالها بعبادة الدنيا والهوى. وهذه الشروط هي كل المقومات الرمزية للمجتمع المريد. أعني ما يمكن حصره حصراً مستوفياً باعتباره شروط المناعة المنتسبة إلى مؤسسي قمة المجتمع، أعني المدرسة والدولة في بعدهما العملي، مؤسستيه الفاعلتين بالنظر العامل عملاً لا تنفصل فيه المعرفة الدنيوية عن المعرفة الدينية بمعنى تطبيق الاجتهاد.

إن الجهادين المنسيين يمثلان الأساس الذي غاب في حضارتنا فحال دونها واعتماد الحوار بين أبنائها أساساً لتحقيق شروط الاجتهادين اللذين لم يبق منهما إلا الشكل الأجوف لغياب المضمون الحي الذي لا يكون إلا بحرية الإرادة جهاداً في تحقيق الأدوات من أجل الغايات بالاستناد إلى الحوار الفكري الحر للبحث والاكتشاف أولاً وللتطبيق والاستعمال أخيراً.

ولما كان الجهاد بمعناه الشامل غير هذه المعاني الأربعة فإنه ينبغي أن يكون الأصل الذي تتفرع عنه هذه المعاني تفرع المعلول عن العلة. ذلك أن شروط القدرة لامعنى لها من دون أن تكون دالة على إرادة تحررت من الطواغيت السلطانية (الحكام غير الشرعيين) ومن الأوثان العقدية (التقاليد البالية المنافية للإسلام الصافي)، إرادة لا سلطان عليها غير أمر الله ولا معبود لها سوى الله وتلك هي الثمرة الأساسية للإدراك الشهودي والمدلول العميق للجهاد ذلك هو الاستخلاف الإسلامي أو الجهاد المطلق في الحياة ببعديها الدنيوي والأخروي المتحدين بفروعه الأربعة التي وصفنا. وإذا كان مجال الجهاد الصغير هو المؤسسة الاقتصادية والأسرة، ومجال الجهاد الكبير هو المدرسة والدولة، فإن مجال الجهاد الأصغر هو استعمال ثمرات الجهاد في المجالين السابقين لتحقيق سلطان الحق على العالم، ومجال الجهاد الأكبر هو استعمالهما لتحقيق سلطانه على النفس مما يجعل مجال أصل الجهاد هو العبودية لله وحده أعني المعنى العميق للإسلام خاتماً للرسالات.

إن الجهاد الاستخلافي بهذه المعاني الخمسة لا يمكن أن يفهم إلا بوصفه نهاية الحاجة إلى سلطان روحي خارجي بمقتضى ختم الوحي ونفي الكنائس وبداية عموم الرسالة التي تستغني عمن يفرضها بالقوة، فالله نفسه مكلف بحفظها ولا يستأهل شرف الذب عنها إلا من كان مؤمناً بقيمها التي وصفنا، وإلا صار الجهاد مجرد قتال عديم الوظيفة والدلالة الروحيتين. وإذاً فالجهاد ليس إلا ثمرة الحرية الدينية وأداة تحقيقها تحقيقاً لا يُلجئ إلى الدفاع العنيف عنها إلا نادراً، لكون الإيمان التام يقتضي تحقيق شروط العزة التي تتحول إلى مهابة فتجعل من يحول دون تبليغ الرسالة الاستخلافية قليلاً لعلمه بتعذره. ولما كانت المجتمعات الحديثة تدعي التسليم بالمبدأ الإسلامي القائل بالحرية الدينية والداعي إلى وجوب حمايتها بات من الواجب تطبيق هذا المبدأ بكل شروطه، أعني عدم الاقتصار على جزئيه الأصغر والأكبر اللذين يصبحان عاجزين. وإنه لمن المفارقات أن يكون المبدأ القائل بالحرية الدينية مميز الإسلام الأساسي، وأن يؤول بعض الجهلة مبدأ الجهاد تأويلاً ينافيه داخل الملة وخارجها فيجعلونه مقصوراً على معنييه الأصغر والأكبر من دون شرطيهما الصغير والكبير، عندئذ يصبح الجهاد مقصوراً على

الاقتتال البدائي الذي لا يتجاوز الغزوات العاجزة للمتواكلين على التعبد التقليدي. الجهاد هو الاجتهاد لتحقيق شروط تبليغ الرسالة الإسلامية بالنموذج وبالتي هي أحسن لإبراز معاني الشهود الاستخلافي عندما يكون تحقيق الوسائل كافياً لحماية هذه الرسالة، لذلك فتحقيق الشروط يعد شرط صحة الشروط الغائبة، وإلا صارت ممارسة الجهادين الأصغر والأكبر مجرد رسم خال من معناه، فهما قد كانا منذ بدء الرسالة الإسلامية مشروطين بالجهاد الكبير والصغير اللذين لا يمكن أن يتحقق من دون تطبيقات الاجتهاد المعرفي أعني الأدوات الضرورية لتحقيق قيم الدين الإسلامي التي وصفنا.

وعندما يضطر المسلم غير باغ إلى معنى الجهاد الأصغر إذا حيل دونه وحرية ممارسة معناه الأكبر ثمرة لمعنييه الصغير والكبير فإنه يجد نفسه قادراً وإلا كان توكله اتكالاً وعمله ضلالاً ولو لم يكن ذلك هو القصد لما فهمنا صيغتي التفضيل. فالأكبر هو الغاية، والأصغر ليس إلا الوسيلة الدفاعية لإزالة الحوائل دون الغاية عندما لا يكون الصغير والكبير مغنيين عن الدفاع وقاية لا علاجاً، كذلك نفهم لجوء المسلمين الأوائل إلى الجهاد الأصغر مرغمين، ونفهم لم كان هذا الجهاد عندهم مقصوراً على الدفاع العلاجي أو الوقائي ومتوقفاً دائماً عندما يكفي منه لتحقيق الغرض دون وحشية أو انتقام. ففتح مكة يقوم أفضل دليل على الطابع الدفاعي الخالص للحرب، وكون النزعة التهديمية في الحروب ليست من شيم المسلمين. وليس من الصدفة أن تكون أول حضارة سنت قانوناً للحرب يبقيها في حدود خلقية لئلا يعود الإنسان إلى البربرية هي الحضارة الإسلامية.

أما الجهادان الكبير والصغير فإنهما قاعدتا الوجود الإسلامي وأساسا بقائه. فبفضل ضمان الشروط المادية للوجود القادر وضمان الشروط الرمزية للوجود المريد، نحقق أبعاد الوجود الحر الذي هو الوجود الاستخلافي. وذلك هو مضمون الرسالة الإسلامية للعالمين وبفضلها نكون خير أمة، فيحق لنا أن نشهد لهم أو عليهم، فلا نستأهل الشهادة إلا إذا وفرنا شروط كوننا خير الأمم فعلاً في وجودنا التاريخي. ولا أحد يستطيع أن يزعم أننا اليوم أمة خيرة فضلاً عن الزعم بأننا الأكثر خيراً: فلم يبق لنا من الاستخلاف إلا الاسم.

٢ - شروط الاجتهاد الإجماعي: حرية الفكر والتفرغ للقيام بشروطه.

حددنا شروط الجهاد الإجماعي أو التواصي بالصبر منطلقين من المقابلة بين الجهادين الأصغر والأكبر لإتمام المفهوم بإضافة معنيين آخرين هما الجهاد الكبير والجهاد الصغير. ثم أرجعنا هذه المعاني الأربعة إلى أصل واحد هو الإرادة الحرة أو الأمانة الاستخلافية. فلنحدد الآن شروط الاجتهاد الإجماعي أو التواصي بالحق قياساً إلى تحديد أركان مفهوم الجهاد.

فالمعلوم أن الاجتهاد الإجماعي عند الفقهاء يوصف بكونه الفقه الأصغر. وإن الاجتهاد الإجماعي عند أولي الأمر يسمى الفقه الأكبر. وبلغة العلوم الإنسانية يتعلق الأول بالقانون ويتعلق الثاني بالسياسة. ويمكن تطبيقاً لنفس المنطق أن نستنتج اجتهاداً إجماعياً صغيراً أو فقهاً صغيراً يكون الأول بالإضافة إليه أصغر، واجتهاداً إجماعياً كبيراً أو فقهاً كبيراً يكون الثاني بالإضافة إليه أكبر. فما هو الاجتهاد الإجماعي الصغير أو الفقه الصغير؟ إنه الاجتهاد الإجماعي في مجال العلوم النظرية التي تكون الأعمال الجارية في الجهاد الصغير تطبيقاً لثمراته، أعني العلوم الطبيعية التطبيقية بالنسبة إلى المنشأة الاقتصادية والعلوم الإنسانية التطبيقية بالنسبة إلى الأسرة التربوية. وما هو الاجتهاد الإجماعي الكبير أو الفقه الكبير؟ إنه الاجتهاد الإجماعي في العلوم النظرية التي تكون الأعمال الجارية في الجهاد الكبير تطبيقاً لثمراته، أعني العلوم الطبيعية النظرية، أو نظريات الطبيعة عامة بالنسبة إلى المدرسة في النظر العام، والعلوم الإنسانية النظرية أونظريات الشريعة عامة بالنسبة إلى الدولة في العمل العام.

ويمكن أن نحدد أصل الإجماع الاجتهادي الجامع بين هذه المعاني الأربعة بالقياس إلى أصل الاجتهاد الإجماعي الجامع لمعانيه الأربعة. فإذا كان الأصل هناك هو الإرادة الحرة التي من دونها لا معنى للاستخلاف لغياب الأدوات، فإن الأصل هنا هو العقل الحر الذي لا معنى من دونه لتحمل الأمانة لغياب الغايات بغياب شرط التكليف. أما مجالات هذه الاجتهادات الإجماعية فهي عينها مجالات الجهادات الإجماعية التي سبق فحددناها، إذ أن الجهاد الإجماعي مشروط بالاجتهاد الإجماعي.

وبذلك يتبين أن شروط الحوار بين المؤمنين عشرة: خمسة يتقوم بها الجهاد الإجماعي وخمسة يتقوم بها الاجتهاد الإجماعي، وهذه الشروط مشروطة بالحرية الإرادية والعقلية المؤسستين للحوار بين أبناء الأمة وشارطة لكل شروط الحوار مع غيرهم. وليست عوائق الحوار مع الغير إلا انعدام هذه الشروط مع الذات.

الخاتمـة

تصنيف العوائق وتذليلها بحسب الشروط المسلوبة

لا يحتاج تصنيف العوائق وبيان كيفية علاجها إلى عناء كبير، بعدما حددنا الشروط ورتبناها. فهي مبدئياً بعدة الشروط وبترتيبها لكونها ليست إلا سُلوبها. وعلاجها العوائق يتمثل مبدئياً في تحقيق الشروط سلباً يمنع الحوائل دونها وإيجاباً بالقيام بما تتطلبه والسلوب نوعان بحسب الأفق والقصد، كما بينا في تصنيف ضروب الحوار.

١ - عوائق الحوار العملية:

أ - ففي الحضارة الحلولية: تنتج العوائق عن التوحيد بين الأفقين وقصد التزييف اللذين يردان ما تعتبره الحضارة الاستخلافية جهادين أصغر وأكبر في خدمة غايات سامية إلى أداتين لما يماثل ما اصطلحنا على تسميته بالجهادين الكبير والصغير، ومعنى ذلك أن استعمال القوة والسيادة على النفس يصبحان أداتين من أجل المنشأة والاقتصاد والأسرة والتربية والمدرسة والتعليم والدولة والسياسة التي صارت جميعها أدوات لا غاية لها إلا خدمة الأخبار الدنيوية التي لا يرون فوقها من أخبار. فالكلي الذي حل عندهم في الجزئي أو المطلق الذي حل في النسيي يجعل المثال الأعلى عندهم مقصوراً على عبادة الدنيا والهوى: ومن الأمثلة على ذلك الحروب الاستعمارية والتنافس بين القوى الاستعمارية في غزو الأسواق واستعباد البشر.

ب - أما في الحضارة الاستخلافية: فتنتج العوائق عن عدم تحقيق ما يستوجبه التفريق بين الأفقين وقصد الحق. فالجهادان الكبير والصغير اللذان هما الأداتان الضروريتان للجهادين الأصغر والأكبر انعدما أو كادا، ومعنى ذلك أن المنشأة والاقتصاد والأسرة والتربية والمدرسة والتعليم والدولة والسياسة لم تصبح أدوات ناجعة في خدمة الأخبار الأخروية أعني في مجاهدة الجحود ومجاهدة النفس لتحقيق غايات تتعالى على الأخبار الدنيوية لكون الكلي والمطلق لا يحلان في الجزئي والنسبي، لكن الفصل بين الأفقين قد ينتهي إلى نفي الأفق المتعالي عليه بأمس التمحض للأفق المتعالي: وعندئذ الجهاد بمعنييه الأصغر والأكبر عاجزان لكون الغايات من دون الأدوات تصور أجوف لا يمكن من الفعل في الدنيا فعلاً يعد للآخرة إرث الأرض العادل، أعني المشدود إلى التعالي هو العلامة الأصدق عن الإيمان الحقيقي.

٢ - عوائق الحوار النظرية:

١ - نفس الأمر في الحضارة الحلولية حيث تنتج العوائق عن اعتبار ضروب المعرفة مجرد أدوات لخدمة الأغراض الدنيوية. ومعنى ذلك أن العلم النظري والعملي وما بعدهما ليست إلا حيلاً من أجل الغايات الدنيوية التي ليس فوقها غايات تتعالى عليها.

٢ - نفس الأمر في الحضارة الاستخلافية حيث تنتج العوائق عن عدم تحقيق الاجتهادين الصغير والكبير والاقتصار على الاجتهاد الأصغر والأكبر اللذين يتحولان إلى تعبد عاجز لا يحقق الغايات التي تتعالى على الأخبار الدنيوية.

والحصيلة أن عوائق الحوار جنسان كلاهما مضاعف:

١ - الأول بنوعيه هو الجنس الغالب على الاستخلافيين حيث تتمثل العوائق في ظن الغايات قابلة للاستغناء عن الأدوات في المجالين النظري والعملي، أعني في ظنهم حوار الغاية ممكناً من دون حوار البداية، فيصبح الإيمان كلمة فاقدة لمعناها أعني أن الإيمان يفقد مدلوله الذي هو التواصي بالحق طلباً لعلمه، ويصبح العمل الصالح كلمة فاقدة لمعناها أعني أن العمل الصالح يفقد مدلوله الذي هو التواصي بالصبر طلباً لعمله بأسبابه. ويصبح الاستخلاف مرادفاً للضعف المادي والخنوع فلا يبقى أي إمكان للحوار لا في ما بيننا ولا بيننا وبين غيرنا لكوننا لا يمكن أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر إذا كنا غير مسموعين.

٢ - والثاني بنوعيه هو الجنس الغالب على الحلوليين حيث تتمثل العوائق في ظن الأدوات قابلة للاستغناء عن الغايات المتعالية التي استبدلت بغايات متدانية في المجالين النظري والعملي، أعني في ظنهم حوار البداية ممكناً من دون حوار الغاية. فيصبح النظر تواصياً بالباطل ويصبح العمل تواصياً بالعجلة. ويصبح الحلول مرادفاً للضعف الروحي والتجبر المادي، فلا يبقى أي إمكان للحوار لا في ما بينهم ولا بينهم وبين غيرهم لكونهم لا يؤمنون إلا بتوازن الرعب حتى فيما بينهم ويسمون ذلك حرية التنافس الخاضع لمبدأ البقاء للأصلح.

الهوامش والتعليقات

المقالـة الأولـى:

[١] - أضفنا إلى مجالات التقويم الثلاثة التقليدية (النظر والعمل والذوق) مجالين آخرين هما مجال التوجيه (المتعلق بجهات الوجود التي هي قيمه) ومجال الأفق (المتعلق بشهود الوجود او جحوده). وقد حاولنا تعليل هذه الإضافة في كتابي آفاق النهضة العربية (دار الطليعة بيروت ١٩٩٩) والأفق المبين في شروط نهضة المسلمين (تحت الطبع دار الفكر دمشق).

[٢] - انظر هيكل

 Hegel. Fenomenologia dello spririto, Testo tedesco a fronte, A cura di:

 Wincenzo Cicero, Rusconi, ٢. ed. marzo ١٩٩٩ pp. ١٠٣١ - ١٠٣٢

 So wie der einzelnegottliche Mensch einen ansichseiended Water, und nur eine wirkliche Mutter hat, so hat auch der allgeneine gottliche Mensch, die Gemeinde, ihr eignes Tun und Wissen zu ihrem Vater, zu ihrer Mutter aber die ewige Liebe, die sie nur fuhlt, nicht aver in ihrem Bewusstsein als wirdlichen unmittel baren Gegenstand anschaut. ١ hre Versohnung ist dager in ihrem Herzen, aber mit ihrem Bewusstsein noch entzweit, nud ihre Wirklichkeit noch gebrochen. Was als das Ansich oder die Seite der rienen Vermittlung, in ihr Bewusstsein tritt, ist die genseits liegende Versohnung, was aber als gegenwartig, als die seite der unmittelbarkeit und des Daseins, ist die Welt, die ihre verklarung noch zu gewarten hat. Sie ist wohl ansich versohnt mit dem wesen, und nom wesen wird wohl gewusst, dass es den Gegenstand nicht mehr als sich entfremdet erkennt, sondern in seiner Liebe als sich gleich. Aber fur das sellostbewusstsein hat diese unmittelbare Gegenwart noch nicht Geistsgestalt. Der Geist der Gemeinde ist so i

n seinem unmillelbaren Bewusstsein getrennt von seinem religiosen, das zwar es ausspricht. dass sie ansich nicht getrennt seien, aber ein Ansich, das Nicht realisiert. oder noch nicht ebenso absolutes Fursichsein geworden>

وهكذا فمثلنا أن الإنسان الإلهي الشخصي (أي المسيح) له أب موجود في ذاته وليس له إلا أم ذات وجود فعلي، فإن الإنسان الإلهي الكلي يكون فعله وعلمه الذاتيان أباه، أما أمه فهي الحب الخالد الذي يقتصر على الإحساس به دون أن يدركه في وعيه موضوعاً حقيقياً مباشراً، لذلك بالمصالحة Versohnung بين وجهيه هذين (الممثل لهما بالأب والأم: أعني الواقع الفعلي أو التاريخ والمثال أو الله) توجد في قلبه لكنها مصالحة منفصلة عن وعيه، إذ وجوده الفعلي ما يزال متشفياً. فما يظهر في وعيه أمراً في ذاته أعني وجه التوسط الخالص، يكون مصلحاً موجوداً في العالم الآخر. أما ما له صفة الوجود الحاضر بصفة وجه المباشرة والوجود الفعلي فإنه العالم الذي عليه أن ينتظر تصعيده Verklarung (ليطابق الحقيقة الأخروية التي ينفيها هيجل معتبراً إياها مجرد وهم إذا ظنت غير المثال المتحقق في الواقع التاريخي الفعلي). وهذا الإنسان الإلهي الكلي متصالح في ذاته مع الجوهر ويدرك من الجوهر ما يجعله يعترف بأن ذاته لم تبق مفصولة عن الموضوع بل هي في الحب مثله. لكن هذا الحاضر المباشر ليس له بعد في الوعي هيئة روحية Geistesgestalt إن روح الجماعة Geist de Gemeinde تكون بهذه الصورة منفصلا

ً وعيها المباشر عن وعيها الديني الذي لا يعبر عن كونها منفصلة في ذاتها بل المنفصل عنده هو أمر في ذاته Ansich لم يتحقق أو هو أمر لم يصبح بعد لذاته مطلقاً Absolutes Fursichsein).

[٣] - انظر دور كايم Emile Durkheim. Textes, E. de Minuit, Col. Le sens commun. t. ٢. pp ٢٣ - ٢٤ وخاصة هذه العبارة لكن القوى الخلقية الوحيدة الأسمى من التي نحدها عن الشخص الإنساني في العالم القابل للملاحظة هي القوى التي تنتج عن تجميع القوى الشخصية في المجتمع وبالمجتمع: إنها القوى الخلقية الجميعة:

Or. les seules forces morales superieures a celles de l’individu humain aue l’on rencontre dans le monde observable sont celles qui restltent du groupement des forces individuelles, de leur synthese dans et par la societe: ce sont les forces collectives).

[٤] - المائدة ١٨ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه…. لعل التنافس على عقيدة الشعب المختار قد بلغت ذروتها في الصراع بين النازية والصهيونية.

[٥] - الحجرات ١٣.

[٦] - لما كان النظام الاشتراكي قد تحقق في البلاد المتخلفة اقتصادياً خلافاً لما تقتضيه النظرية الشيوعية التي تشترط بلوغ النظام الرأسمالي ذروته للنقلة منه إلى ما يتجاوزه، فإن العولمة التي تلائمه ستكون عولمة الدعوة إلى تحقيق مثل هذا التقدم وليس التقدم نفسه الذي صارت هذه الدعوة نفياً لآليات تحقيقه الفعلية، لذلك فقد كانت آليات العولمة الشيوعية سياسية أيديولوجية بالأساس وفشلت بما هي عولمة تقنية اقتصادية: إنها عولمة الأحزاب العالمية وليست عولمة الشركات العالمية، وذلك هو معنى الذهاب من العنف الرمزي للجدل إلى العنف المادي للتقنية التي انحصرت في التصنيع الحربي الذي لا يراعي الحذر العلمي والخلقي الضرورين بحجة الدفاع عن هذه العولمة العقدية، لذلك فإن التلويث الصناعي الناتج عن التهور والتسرع في استثمار النظريات العلمية الطبيعية دون احترام لشروط الحياة المادية السوية للمواطنين يمثلان أهم الأخطار التي تهدد مستقبل الإنسانية. ولما كانت الشيوعية قد سعت إلى جعل عامل التزييف الأيديولوجي العامل الأفعل، وكان هذا العامل ليس فعالاً بذاته خاصة عندما يكون مقصوراً على مجرد الدعاية الفجة والمباشرة مثلما هو الشأن في المذاهب الدينية البدائ

ية، فإنها قد احتاجت مثلها إلى العنف السياسي الذي يقتضي تغول الدولة وأجهزتها السرية، وإذا بالشيوعية تتحول إلى مذهب ينبني على ما يدعي أنه أتى لتخليص الإنسانية منه: الأيديولوجيا التي يدعي أنه أتى ليخلص الإنسانية منها بالحقيقة العلمية والتسلط السياسي الذي يدعي تخليصها منه يجعل الدولة مجرد تسيير للشأن المادي بدلاً من التسلط على البشر.

[٧] - لما كان النظام الرأسمالي قد تحقق في البلاد المتقدمة اقتصادياً فإن آليات العولمة التي تلائمه ستكون اقتصادية تقنية، أعني آليات التقدم الاقتصادي والتقني نفسه وليس آليات التبشير به والدعوة إليه، لذلك فقد كانت هذه الآليات اقتصادية تقنية بالأساس: انها عولمة الشركات العالمية وليست عولمة الأحزاب العالمية. لكن ما قلناه عن ذهاب هذه العولمة من العنف المادي التقني إلى العنف الرمزي العقدي يبقى صحيحاً. فهذه العولمة تستعمل العنف الرمزي أعني عاملي الإشهار والإعلام الموجهين توجيهاً لا يراعي الحذر العملي والخلقي الضروريين بحجة الدفاع عن العالم الحر، لذلك فإن التلويث الرمزي الناتج عن هذا التهور والتسرع في استثمار النظريات العلمية الإنسانية دون احترام لشروط حياة المواطنين الروحية يمثلان أهم الأخطار التي تهدد مستقبل الإنسانية، ومن ثم فقد جمع كلا النظامين نفس الاليات. لكن العولمة الشيوعية تميزت بكونها التعين الأمثل لمفاعيل العولمة المادية فيهما كليهما. والعولمة الرأسمالية تميزت بكونها التعين الأمثل لمفاعيل العولمة الرمزية فيهما كليهما. فحاجة الرمز الشيوعي تنفي عنه الفاعلية وتخلف التقنية الشيوعية تثبت لها التوحش التلويثي الما

دي. فكان ذلك أهم مميزاتها. وتقدم التقنية الرأسمالية يضفي عليها بعض اللين، ولطافة الرمز الرأسمالي تجعله أكثر خطراً على وجود الإنسان الروحي لكونه يستعمل التقنيات اللا مباشرة المؤثرة في اللا وعي مثل الفنون والاشهار والإعلام التي هي كلها فنون توظف لخدمة العولمة الاقتصادية والهيمنة السياسية. فكان ذلك أهم مميزاتها.

[٨] - يتصور بعض السطحيين أن العولمة بمعنييها، وخاصة العولمة الرأسمالية التي هي الوحيدة التي نجحت وصمدت إلى حد الآن، مجرد تسلط البلدان التي ظهرت فيها على بقية البشر، لكن من ينظر في ما أسلفنا في الهامشين السابقين يعلم أن أهل هذه البلدان هم بأنفسهم ضحايا لهذه العولمة، فجميع البشر ضحايا لضروب هذه الآليات الأربع: الاستعمال الفج للآليات الرمزية، والمادية، والاستعمال الخبيث لهما. ولعل أخطر أدوات العنف الخبيث هي سر قوة العولمة الرأسمالية: تحويل كل الوجود الاجتماعي إلى الميسر والمضاربات الاقتصادية، ورهن الحريات بسياسة القرض التي تجعل الجميع سجناء الرفاه المادي بالارتهان الذي يقتضيه القرض والربا.

[٩] - وللقدرة على التسمية دلالتان في القرآن الكريم، فهي في معنى أول التسمية المستمدة من الأسماء التي علمها آدم (عليه السلام). وهي في معنى ثان: إن هي إلا أسماء سمّاها المشركون وآباؤهم. وواضح أن الأولى تتعلق بما أطلقنا عليه اسم الأفق الكلي، والثانية تتعلق بما أطلقنا عليه اسم الأفق الجمعي، ذلك أن علاقة الاستخلاف بالقدرة على التسمية بمعناه الأول بالتقابل مع التسمية بمعناها الثاني أمر واضح في القرآن الكريم. فالتسمية الثانية هي التسمية الجحودية خاصة وهي تتعلق باختلاق الشركاء لرب العالمين والتسمية الأولى هي الحجة الأساسية التي يستند إليها استنهال الإنسان الاستخلاف. أعني قدرته على تسمية الأشياء بالأسماء التي علمه الله إياها كلها. ولما كانت أسماء الأشياء ممتنعة الحصول حتى عندما يكون كلها متناهياً إذا قصد به حملتها، بات المقصود أسماءها الكلية لا جملة أسمائها كلها بدلاً من الأسماء، وهو غير الجملة وإذاً فهو الكلي، والأسماء الكلية هي كليات الأسماء. وعندما لا تكون هذه الكليات مجرد أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم فإنها تعني المسميات الحقيقية فيكون الأمر الذي علمه آدم هو الأفق الكلي الذي يختلف عن الأفق الذي سماه الآباء.

[١٠] - هيجل:

Hegel. Die Vernunft in der Geschichte. Herausgegcben von G. Lasson. Verlag F. Meiner. Leipzig ١٩٢٠. s. ٨٨. Wenn das gottliche Wesen nicht das wesen von Mensch und Natur ware. so ware es cben ein Wesen. das nichts ware…

لو لم تكن ذات الله هي ذات الطبيعة والإنسان لكانت لا شيء.

[١١] - انظر لمزيد المعلومات حول مفهوم العلاقة بين الإدراك والوجود فصلي التوحيد والمنطق من الباب السادس من «مقدمة ابن خلدون» وتحليلاتنا لهذا المفهوم في كتابي «آفاق النهضة» و «الأفق المبين».

[١٢] - انظر هيجل ودعواه حول ما يشبه اختصاص الألمان برسالة الفلسفة نظير اختصاص اليهود بالدين:

G. W. F. Hegel, Vorlesungen uber die Gesxhichte der philosophie. Werke ١٨ stw. F / M. ٣. Auflage ١٩٩٦, s. ١٢ (Wir haben den hoheren Beruf von der Natur erhalten. die Bewahrer dieses heiligen Feuers zu sein. wie der eumolpidischen Familie zu Athen die Bewahrung der eleusinischen Mysterien, den lnselbewohnern von Samothrake die Erhaltung und pflequng eines hoheren Gottesdiestes (aufgetragen). wie fruher der Weltaeist die und Pfleauna eines hoheren Gottesdiestes (aufaetraaen). wie fruher der Weltaeist die judische Nation (fur) das hoschste Bewusstsein sich aufgesqart hatte, dass er aus ihr als ein neuer Geist hervorainae).

فضرورة التمييز بين مفهوم الشعب المختار وبين مفهوم كنتم خير أمة. فالشعب المختار مفهوم عرقي لكونه محدداً ومحصوراً في جماعة يعنيها: مبدأ كونها مكلفة بمهمة ليس مشروطاً بالصفات التي تحددها المهمة، كما هو الشأن في مفهوم كنتم خير أمة. وإذاً فالأول مفهوم لا تحدده الوظيفة بل تتحدد به إذ هي تنحصر فيه. والثاني بالعكس منه تحدده الوظيفة. لذلك فآية كنتم خير أمة تشرط هذا الكون بالشرطين المواليين لـ كنتم خير أمة أخرجت للناس لكأنها تتضمن (لأنكم) تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. والدليل القاطع على ذلك هو الآية ١٠٤ من آل عمران: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. وليس خلاف الرسول محمد (ص) مع اليهود والنصارى إلا محاولة تخليص الإنسانية من مفهوم (الشعب المختار) لإرجاعها إلى مفهوم كنتم خير أمة… لذلك كانت الآيات الفاصلة بين آية كنتم خير أمة وآية فلتكن منكم أمة خمس آيات تتعلق بضلال أصحاب القول بالشعب المختار. فالتحريف يتمثل في قلب العلاقة: فبدلاً من أن تكون الهداية (هاد يهود هداية أو هوداً) المرادفة للإسلام علامة التكليف بمهمة صار التكليف بالمهمة محصوراً في قوم سموا أنفس

هم يهوداً من دون هداية. لكن المسلمين ليسوا قوماً يتحددون بأمر آخر قبل تكليفهم بهذه المهمة بل القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي عينها علامة الانتساب إلى الإسلام، فلا يسمى مسلماً إلا من قام بها، ومن ثم فالمخاطب هنا ليس جماعة متقدمة على الاتصاف بهذه الصفات بل هي جماعة مفتوحة ينتسب إليها كل من اتصف بهاتين الصفتين: لا وجود لشعب معين يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقصوراً عليه. ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما القصد الموحد بين الفكرين الديني والفلسفي فإن التحدد به يفيد رفض نظرية الشعب المختار في الدين والفلسفة معاً.

[١٣] - والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

[١٤] - حدد ابن خلدون في مقدمته مفهومين مضاعفين للاستخلاف: الاستخلاف النظري وفرعه الأول هو النظر الخالص (معرفة الأسباب) وفرعه الثاني هو النظر المطبق (تسخير الطبيعة) والاستخلاف العملي وفرعه الأول هو العمل الخالص (حب التأله أو السيادة) وفرعه الثاني هو العمل المطبق (الجاه). انظر لمزيد التوضيح شرحنا لهذين المفهومين الخلدونيين في خاتمة رسالتنا منزلة الكلي في الفلسفة العربية، نشر كلية العلوم الإنسانية، تونس ١٩٩٤.

[١٥] - لماذا جمعنا بين هذين المفهومين اللذين يعتبران عادة مصدرين من مصادر التشريع الفقهي؟ العلة في ذلك مضاعفة. فالفصل بين المصدرين أو الأصلين فصل لا معنى له، لكون الاجتهاد لا يكون مقبولاً إلا إذا كان متصفاً بما يضمن له الإجماع على الأقل الإجماع الشكلي المتعلق بقواعد استنباط الحكم. وتلد هي علة التمييز بين الرأي المذموم والاجتهاد المحمود. الاجتهاد لا يكون إلا عمل مدارس أو مذاهب وليس هو فردياً رغم كونه في عملية تحصيله العينية أمراً فردياً. كما أن الإجماع لا معنى له إذا لم يكن ثمرة اجتهاد: فالمجمعون على أمر غير موافق للأصول المتفق عليها في فن من الفنون لا يعتد بإجماعهم، ومن ثم فالإجماع يفترض الاجتهاد والاجتهاد يفترض الإجماع، لذلك فهما أصل واحد ينظر إليه من منطلق آلية الوصول إلى ثمرته فيسمى اجتهاداً، أو من ثمرته فيسمى إجماعاً. لكن الحجة الأهم هي كون الاجتهاد لا يمكن أن يكون إلا إجماعياً. فعند القول بالحقيقة المطابقة يصبح الحديث عن الاجتهاد والإجماع أمراً فاقداً لمعناه، فعلمك عندئذ ليس اجتهاداً بل هو حقيقة مطلقة وهو غني عن الإجماع لكونك عندما تكون قادراً على العلم المطلق، فأنت لا تحتاج إلى التأكد من علمك بمقارنته ب

علم الآخرين. الاجتهاد إذاً لا يكون حقيقياً إلا إذا نفينا قدرة الإنسان على العلم المحيط واستبدلنا معيار المطابقة مع الموضوع بمعيار المطابقة مع القواعد الجماعية لما يجمع الناس في عصر على أنه الصواب في هذا الفن أو ذاك. انظر لمزيد التوضيح فصل الشروط من المقالة الثانية.

[١٦] - انظر لمزيد التوضيح حول الجهاد الإجماعي فصل الشروط من المقالة الثانية.

[١٧] - آيات المكر كثيرة لكن أوضحها دلالة الآية الدالة على النسبة الوجودية (الرعد ٤٢: فلله المكر جميعاً). والآية الدالة على النسبة القيمية (آل عمران ٥٤: خير الماكرين).

[١٨] - من أمثلة الدعوة الإسلامية إلى البحث المشترك عن الحقيقة ما ورد في سورة آل عمران وخاصة مثال المباهلة.

[١٩] - حللنا هذا الأمر في كتابنا آفاق النهضة العربية ومستقبل الإنسان في مهب العولمة.

[٢٠] - الآيات التي تعلل التدافع بالامتحان كثيرة. لكن أوضح آيات تعليل التدافع دلالة الآية التي تعلل التدافع بضرورة القضاء على الفساد في الأرض، أي بإزالة عوائق إصلاحها (البقرة ٢٥١) والآية التي تعلله بحماية الحرية الدينية بالتدافع (الحج ٤٠).

[٢١] - الأعراف ٣٥.

المقالـة الثانيـة:

[١] - الاسراء ٧٠.

[٢] - صنفنا النخب الممثلة في آفاق النهضة العربية بحسب تصنيف المجالات القيمية والمؤسسات الاجتماعية التي يخالف منها كل مجتمع بصرف النظر عن درجة تطوره لكوننا نهتم بالظاهرة الاجتماعية اهتماماً يشبه الاهتمام بالظاهرة الحية: ما يعنينا هو الكلي فيها وليس الخصوصيات التي هي غير مهمة بخلاف ما يتصور أصحاب المقابلات بين الحين والآخر حيث يصبح اللحن صفات عرضة تميزنا عن غيرها ويصبح الآخر صفات عرضة تميزه عنا فلا يبقى بيننا وبينه أي صلة جوهرية لكان وحدة الإنسان النوعية ووحدة الحضارات الناتجة عنها وبصفتها التحقيق المتدرج للغايات والأدوات التي يتعين فيها الوجود الإنساني الكلي ليست هي الأساس في الوجود الاجتماعي بصرف النظر عن الاختلافات العرضية. لذلك فكل من يلح على الفروق العرضية بين البشر لا يعد استخلافياً بل هو حلولي.

[٣] - قانون التناسب: إذا فرضنا فريقين متصارعين فإن كلاً منهما يدخل الصراع بقوتين مادية وروحية، ومن كان جامعاً للقوتين الأكبرين يكون الغالب. لكن إذا لم تتعادل القوى فإن الغلبة تكون دائماً للأقوى روحياً. والأقوى روحياً هو الذي يصمد إلى أن تهترئ القوة المادية التي عند الخصم مع التحقيق المتدرج للشروط المادية التي تنجز الغلبة وذلك في خلال الحوار التعايشي. أما في حوار التعارف فإن الصدام المادي يزول ولا يبقى إلا الحوار في مستوى القوة الروحية حيث يكون الجامع بين الفريقين طلب الحق لوجه الله والعمل به: وذلك هو التواصي بالحق أو الإيمان والتواصي بالصبر أو العمل الصالح. وبذلك يكون التناسب بين النسبتين على النحو التالي: قوة مادة ١: قوة روحية ١ = قوة مادية ٢: قوة روحية ٢.

[٤] - الأنفال ٦٠.

[٥] - وردت آية الرهبانية في (سورة الحديد) خلال الحديث عن المنافقين بالقياس إلى مفهوم الجهاد الأصغر. ومن ثم فهي ذات صلة مباشرة بالنفاق في الجهاد الأكبر لكونها تتعلق بتوظيف الدين وباستعمال المنافق، لذلك فلها صلة مباشرة بما ورد في (سورة آل عمران) من حديث عن توظيف الدين وتحريفه لخدمة رجال الدين الذي يؤلهون أنفسهم أو الأنبياء لخلق سلطة روحية وذلك هو جوهر التحريف بمعنى تزييف كتاب الله وادعاء ما ليس منه منه، لذلك فالرهبانية التي هي اعتزال الحياة الدنيا وأسبابها قل أن يوفيها أحد حقها. ومن ثم فأغلبها نفاق بل هي ذروة النفاق الديني حسب هذه الآية وإلا لما اعتبر الله أكثرهم فاسقين.

[٦] - المثال الأعلى الذي ليس له أدوات تحصيلية مثال أعزل والمثال الأعلى الأعزل يتنافى مع الدعوة الدينية التي تعتبر الرسالة عملاً يحقق القيم وليست مجرد دعوة قولية. وليس الهدف الأول من القصص القرآني إلا بيان أن جميع الرسالات الدينية قد كانت عملاً لتحقيق القيم أعني أنها من جنس الرسالة الإسلامية.

[٧] - آيات الأمر بالجهاد الأصغر أو القتال عند وجوبه كثيرة. وتكفي آية البقرة ٢١٦ لإثبات هذا الواجب عند توفر شروطه في المكلف.

[٨] - يعجب أغلب الفقهاء الذين يتصدرون الكلام باسم الدين في الهوائيات من عدم تأثير دعوتهم في الرأي العام وخاصة دعوتهم إلى الجهاد التي واكبت استفاقة الشعب الفلسطيني لضرورة الدفاع الحقيقي عن حقوقه بالأفعال وعدم الاقتصار على الأقوال أو الحوار المغشوش، فهم يتصورون الجهاد تصوراً بدائياً ومباشراً يحصره في مجرد التنادي للقتال يوم القتال ظناً أن ما يشبه فرع القبائل وهبتها يمكن أن يكون قتالاً مناسباً لعصرنا. لكأنهم لا يعلمون أن إعداد المحارب الكفء اليوم يتطلب عقوداً فضلاً عن إعداد العالم والباحث والفني الذي يسهم في الحرب أكثر من المحارب الذي ليس هو في الأخير إلا الجزء المباشر من أدوات الجهاد الأصغر. والأدهى من ذلك أنهم ما زالوا يتصورون الدعوة الدينية للجهاد الأكبر قابلة لأن تحصل بوسائل غير وسائل العصر. فكلامهم متردد بين الاستغباء بالتحريض البدائي والاستبلاه بالتفنن الفقهي الذي لا يسمن ولا يغني، خاصة والحياة في المجتمعات الإسلامية لم تعد منتظمة بحسب الفقه لا في المعاملات ولا في العبادات، لقد جعلوا أسمى الأديان وأقربها إلى الدين الطبيعي لقوله بالفطرة أقل الأديان تأثيراً في الحياة الروحية السامية حصراً إياه في التعبد الأع

زل الذي يورث الهوان والحزن متناسين الآية الكريمة ١٣٩ من آل عمران: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين فصاروا يحصرون الدعوة في الدعاء مثل قواعد العجائز لكأنهم لا يعلمون أن هذه الآية صحيحة طرداً أو عكساً: فنحن نكون الأعلين إذا كنا مؤمنين ونكون الأسفلين إذا لم نبق مؤمنين، وعلامة هذه المعادلة هي الهوان والحزن، لذلك فأسباب العلو هي الأسباب التي تزيل الهوان والحزن. والآية تعتبر العلو معادلاً للإيمان لتلازمهما التشارطي، فالهوان سببه انعدام الأدوات في خدمة الغايات والحزن سببه التحسر على عدم الاستعداد الذي يثبته حصول نتائج الهوان.

[٩] - الاجتهاد في المعرفة الدنيوية اجتهاد في معرفة أدوات المعرفة الدينية لكون تطبيقها هو شرط تحقيق القيم الإسلامية. والاجتهاد في المعرفة الدينية اجتهاد في معرفة غايات المعرفة الدنيوية، لذلك فنظام المعرفة المؤسسي ينبغي أن يتضمن مستويين: البحث العلمي التطبيقي والبحث العملي الخاص. والأول يوجد في كل المؤسسات الجوامع أعني المؤسسة الجامعة للمنشآت الاقتصادية والمؤسسة الجامعة للأسر والمؤسسة الجامعة للمدارس والمؤسسة الجامعة لمؤسسات الدولة والمؤسسة الجامعة لمؤسسات المعبد، وكنا قد بينا أن المجتمع الاستخلافي فدرالية ذات ضروب خمسة: فدرالية تربوية (الأسر أو القبائل بالمعنى التي يتحدث عنها القرآن للتعارف) وفدرالية اقتصادية (الشركات الاقتصادية) وفدرالية تعليمية (المدراس الفكرية والفنية والإبداعية في كل المجالات القيمية) وفدرالية سياسية مدنية (الأحزاب) وفدرالية دينية روحية (الفرق المذهبية).

[١٠] - حللنا هذه الاشكالية في كتابنا (الأفق المبين) في شروط نهضة المسلمين.

[١١] - ذلك أن كل العلوم الطبيعية هدفها الأداتي هو تيسير عملية الإعالة التي جعل المجتمع الإنساني لحلها. أما هدفها الغائي فهو الفراغ للعلم من أجل العلم أعني معرفة خلق الله وتدبره. وهذا الفراغ متعذر إذا لم يتمكن الإنسان من حل إشكالات الوجود الدنيوي: فالدنيا لا تكون مطية للآخرة إلا إذا لم تشغل الإنسان بإلحاح الحاجة. فخلافاً لما يتصور المتصوف لا يعد العزوف عن الدنيا أداة للتخلص منها بل هو ربما أقوى الدواعي للتشبث بها، كما أن هدف العلوم الإنسانية الأداتي هو تيسير عملية التربية، بمعناها الحقيقي أعني تحقيق الوجود السوي جسدياً ونفسياً وعقلياً وروحياً. لذلك فهي تشترط تطبيقات العلوم الطبيعية لحل مشكل الإعالة والهدف الغائي واحد: معرفة خلق الله لتدبره والاستمتاع بمعرفة أسرار الإرادة الإلهية في الوجود الشاهد استعداداً لمعرفة أسراره في الوجود الغائب.

[١٢] - ما يحتاج إلى تفسير هو مفهوم الشريعة والعمل العام: فالعلوم الإنسانية النظرية هي علوم الشريعة بمعنى كون الشريعة هي كل ما أضافه الإنسان لمقومات وجوده الطبيعي وليست التشريعات القانونية فحسب. إنها السنن التي ينتظم بحسبها الوجود الجماعي للجماعات الإنسانية: وذلك هو معنى العمل العام ومنه النشاط المعرفي الذي هو أحد الأعمال العامة في المجتمعات الإنسانية. وطبعاً فمن مدلول الشريعة الحصري في التشريع ما هو منزل ومنه ما هو وضعي. والفرق بين الأمرين اعتقادي وليس معرفياً. ذلك أن المنزل شريعة بما هو حدث وجودي وليس موصوفاً بكونه منزلاً إلا من حيث الاعتقاد في التحكم المصلحي النفعي الذي يخلو من التسديد الغائي، لكن الإسلام يعتبر إرادة الجماعة من إرادة الله. لذلك فالشرع الوضعي يمكن أن يعتبر منزلاً بصورة غير مباشرة: من حيث الأساس الجماعي إذا كان فعلاً معبراً عن الإرادة الجماعية بمؤسسات ممثلة فعلاً والشرع المنزل يمكن أن يعتبر وضعياً بصورة غير مباشرة: من حيث كونه لا يتحقق إلا بما قد صار مطابقاً للإرادة الجماعية ومن حيث هو لا يطبق إلا بمقدار فهمه عند الجماعة.

[١٣] - ذلك أن أصل التكليف هو العقل الحر من الأوهام الذي تنبني عليه الإرادة الحرة من عوائق الاختيار: الأولى للرؤية التصورية والثانية للعزيمة التحقيقية.

[١٤] - تعد العوائق الحضارية كلها سلوباً لأنها ناتجة عن عدم توفر شروط الحوار السوي العملية والنظرية، فأما العملية فهي شروط الندية الجوهرية بين المتحاورين، أو إن شئنا الشروط التي من دونها لا يقع الاعتراف المتبادل بين المتحاورين: إنها إذن شروط تتعلق بعلاقة القوة بين المتحاورين، القوة المادية والقوة المعنوية. وأما النظرية فتتعلق بشروط الندية الظرفية المتمثلة في الكفاءة الفنية عند ممثلي الطرفين المتحاورين. ويمكن أن نسمي المستوى الأول مستوى التغالب الوجودي الذي يتجاوز الأدوات إلى الغايات وهو المستوى الذي يعتبره ابن خلدون متعلقاً بغريزة حب التأله عند الإنسان أو الشعور بالوجود السيد، حيث تنقرض الأمة المغلوبة، وهذا الشعور يشارك الإنسان فيه الحيوانات الشريفة مثل السباع التي لا تسافد إذا غلبت، والثاني مستوى التغالب العرضي وهو لا يتجاوز الأدوات إلا إذا صار التوازن بينها عند الطرفين ملغياً للندية الجوهرية. وعندئذ تبدأ الغلبة في مستوى الأدوات في التحول إلى تقويض للغايات التي تصبح عزلاء لانعدام شروط تحقيقها وشروط الدفاع عنها، ومن علامات هذا الشروع في الانتقال من الانقلاب الأداتي إلى الانقلاب الغائي العلامة التي يؤكد عليها ا

بن خلدون أيما توكيد: علامة التقليد الشكلي، فالتقليد يبدأ في الأدوات التي تحصر فيها الغايات فتنتهي الحضارة المغلوبة حتى وإن بقي أصحابها لكونهم يصبحون متكلمين باسم الحضارة الغالبة ظناً أن جوهر الحضارة في الحالتين حضارتهم المغلوبة والحضارة الغالبة التي تبنوها مقصوراً على هذه الأدوات التي نقلوها دون إدراك لصلتها بالغايات التي لم يفهموها بحيث أن كل الاستخلافيين المقلدين للأدوات دون علم بصلتها بالغايات أصبحوا حلوليين من حيث لا يعلمون، لذلك فأنت تراهم يتصورون الدين لا يكون إلا من جنس الدين المسيحي: الدين للغايات العزلاء (دون أدوات مادية) والدولة للأدوات البتراء (دون غايات روحية) وعندئذ يصبح الاجتهاد مقصوراً على الأصغر والأكبر الفاقدين لشروطهما والمعنى.

[١٥] - ميزنا بين العوائق الحضارية والعوائق الطبيعية (مثل كون البشر لا يستطيعون التواصل إلا بتوسط أدوات رمزية تقبل نقل الصدق والكذب معاً، ومن ثم فهي قد تستعمل لاخفاء الحقيقة بدلاً من كشفها) وركزنا بحثنا على الأولى لأن الثانية ليست معيقة ما دامت مشتركة بين المتحاورين.

* - مفكر وباحث من تونس
المصدر: http://www.azarshab.com/Default.asp?Page=ViewData&Dir=Mohazerat&File=04

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك