شعرة ما بين التطرف الديني والتطرف السياسي
شعرة ما بين التطرف الديني والتطرف السياسي
مصطفى محمد غريب
على ما يبدو أن هناك فهماً خاطئاً ومشكلة قائمة أمام الكثيرين ممن يعتقدون أن هناك فاصل حديدي أو كونكريتي بين التطرف الديني والتطرف السياسي ومن هناك يقع الكثيرون في خطأ الاستنتاج أحياناً فيفصلهما معتمداً على التسمية والشكل ، لكن الذي يجب أن لا يغيب عن البال بأن التطرف الذي يعتمد في أكثرية الأحيان على العنف الفكري والجسدي فإنه في مجال الدين يتبع في أكثرية خطواته السياسة التي يراها مناسبة لتنفيذ الأهداف والوصول إلى نهاية الطريق لاستلام السلطة السياسية، فتراه يتنوع بممارسته ما بين العقيدة والشريعة وفي نهاية المطاف فانه يسعى بكل جهده إلى تحقيق أهدافه عن طريق ممارسة السياسة ثم يتغير التكتيك حسب الطلب فتقوم السياسة بواجب الممارسة بواسطة الدين ومن هذا المنطلق يحلو للحكام والسياسيين الذين يهيمنون على مقاليد السلطة في أكثرية الدول العربية والإسلامية أن يستخدموا الدين الإسلامي شرطاً لنهج سياسي مبني على إلغاء الآخر وعدم الاعتراف بحقوقه التي يجب أن تراعى وتمنح له دون منّة آو معروف، وباستخدام الدين الذي يصر أكثرهم على أن يكون في مقدمة دساتيرهم بأن الشريعة الإسلامية مصدر لجميع الدساتير والقوانين الوضعية والإسلام دين الدولة، وبهذا يفرض وبقوة القانون الوضعي هذا التطبيق وأية محاولة للاعتراض ستجد تهمة الإلحاد أو الكفر أو العداء للإسلام أو العمالة والارتباط بالأجنبي "عدو للإسلام" الذي لهم معه معاهدات وعلاقات تجارية ودبلوماسية واسعة، وكذلك من التهم الرائجة التي تصل في بعض الدول إلى تهمة الخروج عن الإسلام أو ما يسمى " الردة " التي يكون قصاصها القتل بالطرق المتبعة بواسطة القوانين أو دونها من قوانين الجماعات الإرهابية السلفية والأصولية، وبهذا نجد أن كلاهما الحكام والمنظمات الإرهابية يستخدما الدين لفرض واقع سياسي مخطط له وسرعان ما ينتقل هذا الاستخدام إلى نوع من السياسة التي تختلف كلياً عن الشريعة الإسلامية من حيث الجوهر ولكن تستخدم الدين لأهدافها ومصالحها ونهجها السياسي، وبهذا تتضح الشعرة التي تكاد أن تكون غير مرئية بين التطرف الديني أو استخدام الدين لأغراض سياسية وبين التطرف السياسي الذي يستخدم الدين لكي يمرر نهجه وصولاً إلى أهدافه ومصالحه، وهذا الأمر ينجر على أكثرية أحزاب الإسلام السياسي ولنا في تجربة العراق خير برهان، فقد تشكلت جميع الأحزاب الدينية ببرنامج ديني وقسماً منه طائفي، لكننا بعد الاحتلال وسقوط النظام رأيناها كيف انتقلت ببرامجها لتكون أحزاباً سياسية بواجهة دينية أو طائفية وتمارس العنف الحكومي وأحياناً تطرفها في ملاحقة من يعترض على سياستها ونهجها واستخدمت العنف حتى بالضد من حلفاء لها شاركوها في العمل قبل وبعد سقوط النظام البعثصدامي ألعنفي الذي كان رائداً في تغيراته من الليبرالية إلى الإيمانية وبالعكس.
إن قضية التطرف قضية قديمة لو دققنا في التراث الإسلامي فقد امتلئ بالعنف مبرراً الخروج عن الإسلام أو الاتهام بالكفر والزندقة، واستخدمت نزعة الدجل الديني من قبل البعض من الدجالين الذين زوروا الأحاديث النبوية لتمرير أهدافهم كما استخدمت السياسة لتسييس الطائفية للدين وبهذا وخلال الحقب التاريخية اللاحقة فالتطرف الديني مستمر ما دامت هناك نسبة عالية من التخلف والأمية والفقر، وهنا نجد أن المنظمات الإرهابية والمليشيات المسلحة التي تأسست على النهج الطائفي تستخدم الدين والطائفية لتنفيذ أهدافها السياسية وصولاً إلى السيطرة على السلطة السياسية وقد استخدمت العنف بكل أشكاله وصوره من الذبح البشري والاغتيالات والتفجيرات المحرمة حتى في جميع الأديان والأعراف الإنسانية وليس فقط في الدين الإسلامي فحسب، ولم يتأخر أي تنظيم إرهابي أو الميليشيا الطائفية من استخدام العنف في تصفية المخالفين بالرأي والفكرة وبواجهات دينية، كما أنها استخدمت العنف والتطرف بالضد من الأديان الأخرى كالمسيحية والآزيدية والصابئة والكاكائية وبالضد من أماكن عباداتهم بحجة أنهم أعداء للإسلام وهم لا يدفعون الجزية ويبررون جرائمهم ويحمونها بالنصوص الدينية لا بل أحياناً باستخدام آيات من القرآن الكريم، كما كان المتطرف الأصولي المسيحي يستخدم الكثير من النصوص الإنجيلية لتبرير تطرفه وقد تابعنا اعتراف المتطرف في تفجيرات وقتل الأبرياء في دولة النرويج، ويستعمله المتطرفون اليمينيون من اليهود بالاعتماد على البعض من النصوص الموجودة في التلمود والكتب القديمة بالضد من الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة في 1967، وكل جهة منهم كي يصل إلى أهدافه السياسية يُحمل المخالفين بالرأي والعقيدة الخروج عن تعاليم الله وسننه، ففي الماضي يقتل على الخازوق أويحرق بالنار أو يعدم بطرق غريبة لا إنسانية، أما اليوم فالقتل بواسطة الطائرات والدبابات والأسلحة الحديثة والمفخخات والتفجيرات والاغتيالات بكاتم الصوت ثم التغييب في السجون لسنوات طويلة، أي تمازج الإرهاب والتطرف الحكومي مع الإرهاب والتطرف عند المنظمات الإرهابية السلفية والأصولية واليمينية.
ونصل إلى الاستنتاج التالي بعد هذه النبذة القصيرة بأن ألامية والجهل والفقر والعوز هم المكان الطبيعي الذي يستغله المتطرفون الدينيون مادام ذلك يتقبل أفكارهم وتطرفهم الديني والسياسي وتتحمل الأنظمة العربية السياسية أيضاً مسؤولية انتشار التطرف بشقيه بسبب الأوضاع المعيشية الرديئة للأكثرية من الشعب وحجب الحريات والممارسة الديمقراطية وفسح المجال أمام التطرف تحت غطاءات دينية للتنافس السياسي فتصبح العشوائية في التنظيم بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي إلى استمرار ظاهرة التطرف وتوسعها بدلاً من المساهمة في توضيح العلاقة وجعل الدين قضية روحانية وفصله عن السياسة وبالتالي فصل الدين عن الدولة للجم ظاهرة التطرف الديني ولجم تحركاته السياسية العنفية ومحاولاته الحثيثة للوصول السلطة وإقامة الدولة الدينية التي لا يمكن أن تنفصل عن النهج السياسي لهذه المجموعات وبالتالي التزاوج مع القوانين الوضعية التي قد تتناقض مع البعض من أحكام الشريعة والدين، وهنا يظهر التناقض في التخطيط العشوائي للاقتصاد والعلاقات الاجتماعية بدون وجود أية حلول لتنظيم العلاقة ما بين الدين والسياسة الذي ينتج من ورائه التطرف والعنف وهذا ما نراه ونلمسه في الدول العربية والإسلامية وما اطلعنا عليه أبان القرون والوسطي في أوربا والتمازج ما بين الكنيسة والدين والسلطات الملكية الإقطاعية السياسية وإخضاع القرارات لتأثيرات الكنيسة دينياً ثم استغلالها من قبل السلطات السياسية المركبة.
لا يمكن فصل التطرف الديني والسياسي عن بعضهما إلا شكلاً، فالاثنان يستخدمان الاسلوب العنفي والتصفيات الفكرية والجسدية ويكمل احدهما الآخر في عرف القادة من كلا الطرفيين واللعب على الوعي الجماهيري البسيط الذي يجاهدا في كسبه والتأثير عليه واستخدامه للمصالح الحزبية الضيقة تحت حجج دينية أو سياسية ووفق رؤى تعتمد على التخدير من خلال الوعود الدينية والدنيوية، وبسبب ضعف الوعي الاجتماعي الذي أريد منه البقاء على ضعفه للسيطرة على الجماهير نفسها وتحويلها من صراعها ضد الاستغلال الطبقي ونضالها من اجل الحريات والحقوق المدنية ومن اجل ترسيخ مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى صراعها الفئوي الضيق، وقد يكون التطرف الطائفي جزء من هذا التحويل، ولهذا يجاهدان التطرف الديني والتطرف السياسي على إبعاد هذه الجماهير عن ممثليها الحقيقيين الذين يهدفون إلى تعميق الوعي الاجتماعي وتوضيح الطريق بإضعاف النهج اليميني الطائفي والتطرف العنفي وتوجيه الجماهير نحو جادة الصواب، ومن هذا المنحى فان التطرف الديني والسياسي يحملان العداء المستفحل ضد القوى الوطنية والديمقراطية والاشتراكية ويكافحان بالضد منهما ومن انتشار الأفكار المتنورة في المجتمع.