حوار الحضارات.. وطأة السياسة وسقف الثقافة
حوار الحضارات.. وطأة السياسة وسقف الثقافة
دراسة لأحمد ثابت
نقطة الانطلاق هي أن التعرف على حضارة الآخر وإدراك منطلقاتها الأساسية يمثل أول شرط للحوار السليم بين الثقافات، وأنه إذا كان العرب والمسلمون يقومون فعلاً بهذه المحاولة التي تتسم بالحرص على الموضوعية وطلب الفهم السليم، فحري بمفكري الغرب وباحثيه وساسته أن يبادروا بشجاعة إلى محاولة التعرف المنفتح والموضوعي على الحضارة العربية الإسلامية، وذلك يتطلب التحرر من رؤى متحيزة تصور العرب والمسلمين كمجتمعات تميل إلى الجمود والعزلة والعنف تجاه الغرب. فهذا التصور غير المنصف يتأسس على انتفاء غير موضوعي للظواهر يجتزئ عددًا من الممارسات والتصورات العارضة والجزئية التي تمارسها وتعتنقها جماعات هامشية متطرفة من العرب والمسلمين، وحيث نشأت هذه الممارسات والتصورات غالب الأحيان في زمن الانحطاط والأزمة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية التي عانت منها المجتمعات العربية والإسلامية فيما مضى وما تزال تعاني منها الآن.
ومن الجدير بالذكر أن مثل هذه التصورات والممارسات تنعش وتشتد مع تصاعد الهجمات الإعلامية والسياسية والدعائية خصوصا بعد الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، تلك الهجمات التي تنظر إلى العرب والمسلمين باعتبارهم شعوبا ترفض الحداثة والتقدم وتنزع إلى العنف وكراهية الآخر. ومثلما تمثل حركات التعصب الديني الطائفي والفكري وكراهية الأجانب في مختلف الديانات والمجتمعات، بما فيها المجتمعات الغربية ذاتها، ظواهر هامشية لا تمثل سوى القلة، فإن هذه الحركات تخرج عن التيار العريض السائد في المجتمعات العربية والإسلامية، ذلك التيار الذي كان ولا يزال يتسم بالنزعة الإنسانية والتفكير العقلاني وسعة الصدر والسلوك المتسامح، ويؤمن بالتعدد الثقافي.
وتبرز هنا ضرورة أن يقوم حوار الثقافات على الاتصال المباشر بين الثقافات كأفضل سبيل لتوفير الاحترام الشامل للعلاقات التي يجب أن تبنى على الحقائق وتفاهم الأفراد وليس على النوع أو العرق أو الدين أو الطائفة، ذلك أن المعتقدات والخبرات والقيم التي تشترك فيها الشعوب التي لا يجمعها فكر واحد هي أكثر أهمية من الأفكار التي تسبب الانقسام وإثارة الكراهية بين مجتمعات العالم. ويمكن القول بأن العرب والمسلمين سواء كدول أو كأقليات تقطن المجتمعات الغربية صاروا يعنون بمواصلة السعي للحوار مع العالم كله بغرض إقناع غير العرب وغير المسلمين بأنهم جماعة من الناس ليسوا بالشواذ أو الغرباء عن العالم مثلما يبدو لبعض الناس. وفي مجال تأكيد أن التوتر والخلاف بين العرب والمسلمين وبعض القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وخصوصاً دوائر صناعة السياسة والقرار فيها، لا يعود بالأساس إلى دوافع دينية أو موروثات ثقافية بل كما يرى المفكر الأمريكي المعروف "جراهام فوللر": "إن الصدام الحضاري لا يدور حول عيسى المسيح أو كونفوشيوس أو النبي محمد بقدر ما يدور حول التوزيع غير العادل للقوة والثروة والنفوذ العالمي"(1).
ومن المهم ملاحظة أن الثقافات المعاصرة لا تعيش حالة من الجمود والسكون، بل تمر بحالة تغير وتطور تماشيا مع الواقع المجتمعي المتغير والمتحرك دوما بحكم ضرورات الأشياء. وهذا ما ينطبق على العرب والمسلمين الذين يمارسون منذ زمن ليس بالقليل حالة تأمل في الذات ووضعية نقد ذاتي وتحليل موضوعي لطرائق السلوك ولأنساق التفكير وللأوضاع والمشاكل. كما أن العديد من الموروثات والتقاليد العربية والإسلامية صارت عرضة للتقييم وإعادة النظر، يضاف إلى ذلك أن العرب والمسلمين صاروا أكثر إدراكًا لدور المؤثرات الخارجية على أوضاعهم الداخلية. ومن المأمول أن يبادر المثقفون والباحثون والساسة الغربيون بدورهم إلى إجراء عملية مراجعة وإعادة تأمل حول بعض الصور والتصورات الذهنية الشائعة لديهم عن العرب والمسلمين والموروثة عن عصور الصدام والتوتر، فمن المتوقع إلى حد كبير من الاطمئنان أن تؤدي هذه العملية إلى توسيع مساحة المشترك والاتفاق وتقليل محاور التناقض والاختلاف.
ويمكن القول بأن ما يدفع الحوار الثقافي العربي الأوربي والحور الأورمتوسطي بالذات، خطوات إلى الأمام، هو المبادرة إلى البحث عن المشترك الجامع بين الحضارات المعاصرة ككل والحضارتين الغربية والعربية الإسلامية، ذلك أنه إذا كان الحرص الشديد على تثبيت الانتماء الثقافي، والدفاع المستميت عن "الخصوصيات الثقافية" أمورا مفهومة ومشروعة تماما في عصر الغزوات والحروب ومحاولات الاستئصال الثقافي، فإن طبيعة المرحلة التي يجري فيها الحوار المعاصر بين الحضارات والتي يميزها وعي متزايد بالأخطار المشتركة التي تهدد مستقبل جميع الشعوب، ووعي مواكب له بالحاجة إلى إيجاد "أنساق سلوكية" تحتكم إليها تلك الشعوب عند الاختلاف... كل ذلك قد صار يتطلب توجيه الجهد الأكبر نحو البحث عن القواسم المشتركة والمصالح المشتركة، سعيا إلى وضع برنامج عمل موحد يتحقق به الاعتماد المتبادل، والمشاركة المتساوية لأبناء الحضارات المختلفة(2).
الآثار السلبية للفقر والمعاناة الإنسانية على حوار الحضارات
إن ما يحدث من إطلاق قوى السوق لجهة تحكمها في مختلف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وسعي القوى المسيطرة على عمليات العولمة إلى الضغط من أجل فتح الحدود أمام تدفقات السلع والخدمات ورؤوس الأموال مع تجاهل أهمية دور القيم الأخلاقية التي توجه هذه العمليات.. أدى بالفعل إلى ازدياد الأغنياء غنى والفقراء فقرًا وازدياد حدة المجاعات والمعاناة الإنسانية لما يقل عن مليار من البشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما أفضى إلى تصاعد الصراعات والنزاعات الاقتصادية. ومن الجدير بالذكر أن هذه العولمة العارية من أية قيود أخلاقية أو إنسانية والتي تحكم فيها وتوجهها الرأسمالية المتوحشة المهيمنة على الاقتصاد العالمي هي التي تخلق فجوات المتنامية بين من يملكون ومن لا يملكون بما يؤدي إلى تعميق التصورات المشوهة والعدائية بين الثقافات والحضارات والشعوب، وتزيد من إدراك الكثيرين المضارين من تأثيرات العولمة والتوحش الرأسمالي المعولم بأن العولمة تدعم من نزعات السيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية لدى القوى المهيمنة وعلى رأسها الاحتكارات عابرة القوميات والمجمع العسكري- الصناعي واليمين المحافظ الجديد الذي يحكم الآن في الولايات المتحدة.
ومن المعروف أن الفقر لا يقف عند حد الجوع بل يشتمل سوء التغذية، ومن المفارقات المثيرة أن ثورة المعلومات والهندسة الوراثية التي أدت إلى ارتفاع هائل في الإنتاج الزراعي والحيواني في كثير من دول العالم، وصار معها العالم متخما بالثروات، لم يقابلها جهد حقيقي للتغلب على مشكلات الجوع وسوء التغذية. ومن المهم هنا أن نتأمل في مغزى التشخيص الذي قدمه المفكر الفرنسي الشهير "بيير بورديو" لليبرالية الجديدة المحافظة من أنها سلاح فتاك، إذ تنذر بمجيء نوع من الحتمية الاقتصادية لن تجدي أية مقاومة في منعها، فهذه الليبرالية الجديدة مثل مرض الإيدز تدمر الجهاز المناعي لضحاياه، كما ذكر "بورديو" أيضا أن هذه القوانين الاقتصادية الجبرية تخفي وراءها سياسة محددة هي العمل على إلغاء السياسة نفسها، إذ تعهد إلى القوى الاقتصادية بالهيمنة الإجبارية مع تحريرها من كل رقابة ومن كل قيد، وفي الوقت نفسه الحصول على خضوع الحكومات والناس لتلك القوى الاقتصادية والاجتماعية التي أطلقت من عقالها. وأنه من دون مختلف قوى الإقناع الخفية فإن أشدها إثارة للاستياء هي تلك التي تمارس ببساطة عبر الأمر الواقع والنظام السائد(3).
إذ يموت مائة ألف شخص يوميا من الجوع أو سوء التغذية، كما يوجد أكثر من 850 مليون شخص يعانون بشكل مزمن وخطير من سوء التغذية، ذلك الذي تصفه منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) بـ"الجوع الفتاك" ولا تزيد حصتهم اليومية من الغذاء عن 300 سعر حراري، وهي لا تكاد تكفي لبقائهم على قيد الحياة، مع أن المعدل المتوسط المعقول هو 2700 سعر حراري.
ومن جانب آخر، يوجد تفاوت رهيب من حيث توزيع الثروة بين الأثرياء والفقراء؛ إذ أشارت إحصاءات الأمم المتحدة لعام 2002 إلى أن حوالي 20% فقط من سكان الكوكب يستحوذون على أكثر من 80% ويملكون أكثر من 80% من السيارات ويستهلكون 20% من الطاقة، بينما لا يحصل أكثر من مليار نسمة من الرجال والنساء والأطفال إلا على 1% فقط من الدخل العالمي (4). وقد انخفضت الدخول الحقيقية للأفراد في الواقع، بين عامي 1992 و2002، في 81 دولة إلى حد أن متوسط عمر الإنسان في بلد مثل رواندا انخفض إلى أقل من 40 عاما، وتراجع في أفريقيا جنوب الصحراء إلى 47 سنة. وعلى الرغم من أن دول العالم الثالث يعيش بها ما يزيد عن 85% من إجمالي سكان العالم لا تمثل في سوق الأدوية سوى نسبة 25% فقط، فعلى سبيل المثال، أنتجت مصانع الأدوية 1223 نوعا جديدا من الدواء بين عامي 1975 و1996، لم يزد ما يهتم منها بعلاج الأمراض الاستوائية سوى 11 دواء فقط(5)
وينبغي الإشارة هنا إلى خطر العقاب الاقتصادي الجماعي الذي يصل إلى حد الحرب الاقتصادية التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلية بصورة يومية على الشعب الفلسطيني في صور اقتلاع أشجار الزيتون وتجريف الأراضي الزراعية ومصادرتها لحساب إقامة سور الفصل العنصري بين إسرائيل وفلسطين وتدمير الورش والمشروعات الصغيرة ومنازل الفلسطينيين، فهذا الحصار الذي هو عبارة عن حصار وتجويع لشعب واقع تحت الاحتلال يستدعي ضرورة أن يشتمل الحوار الأور- متوسطي على دعوة عاجلة إلى توفير حماية دولية للشعب الفلسطيني، كما أن هذا الحصار الذي هو في الواقع حرب تجويع يؤثر بالسلب على الحوار الثقافي وعلى مقتضيات خلق تفاهم متبادل في سبيل سعي العرب والأوربيين إلى تغيير الصور السلبية المتبادلة.
هذا إلى جانب أن حرب التجويع هذه تتعارض تماما مع مبادئ وأحكام القانون الدولي الإنساني وخصوصا البروتوكول الثاني الذي أضيف إلى اتفاقيات جنيف بغرض حماية الشعوب خلال الحروب الدولية وغير الدولية، حيث تنص المادة الرابعة عشرة منه على ما يلي: "يحظر استخدام التجويع كأسلوب قتال ضد السكان المدنيين، ومن ثم يحظر مهاجمة أو تدمير أو نهب أو إتلاف أية سلع لا غنى عنها لبقاء الشعب المدني على قيد الحياة مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتج هذه المواد والزروع والماشية ومحطات وخزانات المياه وأدوات الري". كما تضمنت أحكام اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكولان الإضافيان لعام 1977 مبادئ جليلة وإنسانية مثل عدم جواز شن أية عمليات عسكرية ضد مدنيين، وحظر الترحيل الجماعي للشعوب الذي يتسبب في حدوث المجاعات، وضرورة توفير الاحتياجات الأساسية للسكان المدنيين بما في ذلك بطبيعة الحال الغذاء، مع العلم أن تعريف "المدنيين" يشمل اللاجئين والمهجرين والصحفيين. إن البحث عن المشترك وعن كل ما هو إنساني كأحد عوامل تحقق الحوار الحضاري بين العرب والأوربيين، يلزم معه أن يشتمل على ضرورة تصدي المثقفين والساسة والباحثين العرب والأوربيين لمحاولات القوى الاقتصادية والاجتماعية المسيطرة على العولمة فرض التوحيد والتنميط والتعميم اللامعقول للقيم والأذواق والاستهلاك، بغرض التوصل إلى اقتصاد ذي منحى إنساني يوجه تبعا للاحتياجات الأساسية لغالبية البشر.
لقد أكد العديد من الباحثين والمفكرين على حالة التعارض بين الديمقراطية وقوى السوق المنفلتة التي لا تعطي للناس الحق في المشاركة في اتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة بمستقبل البشرية، وفي ذلك ينوه المفكر الفرنسي المبدع "جاك أتالي" إلى أهمية أن تعترف الحضارة الغربية "بضرورة إيجاد حل وسط بين اقتصاد السوق وبين الآليات التي تتحكم في اتخاذ القرار الديمقراطي والسلطوي، وعلينا أن نكتشف الوسائل الكفيلة بإيجاد هذا الحل الوسط بدلاً من المغالاة في تمجيد عولمة القيم التي يصعب تطبيقها في مجتمعاتنا نحن- أي الغربيين- إلا بشكل محدود. إن على الأوربيين أن يتعلموا من الكفاءة الأمريكية، وعلى الأمريكيين أن يتعلموا من التضامن الأوربي. إن الحضارة الغربية يجب أن تتعلم الوقوف على قدميها على جانبي الأطلنطي. ويجب علينا أن نعلن على الملأ أن الحضارة الغربية يمكن أن تتعلم من الحضارات الأخرى أن المجتمع الصحيح يجب أن يكون قادرا على التعبير عن أوجه الاختلاف، وأيضا عن إقرار وجهة نظر جماعة ثابتة، وقد تختلف مع بعض جوانب الإسلام كما تطبق في بعض الدول الإسلامية، ولكن هذا لا يعني أننا لا نجد شيئا نتعلمه من المجتمعات الإسلامية، وفي الوقت الذي تحاول حضارات أخرى تقليد الغرب، ظهرت حركات في عدة أماكن تعارض القيم الغربية. في آسيا مثلاً يعارضون طريقتنا في الحياة الحضرية، ويفكر المخططون هناك في إعادة تنظيم المجتمع على نحو لا يركز على استعمال السيارات كما حدث في ماليزيا"(6).
ومن هنا تبرز الأهمية القصوى لتطعيم اتجاهات وتدفقات العولمة بالمبادئ الإنسانية والأخلاقية وفي صدارتها قيم العدل والمساواة، و"لذلك تظل الحاجة قائمة إلى منظومة أخلاقية تحرس النشاط الاقتصادي وتمنع كل صور العدوان على حقوق الآخرين ومصالحهم. وفي ظل العولمة التي تفرض نفسها يوما بعد يوم، تظهر الحاجة إلى قيم أخلاقية مشتركة يتوافق عليها أتباع الحضارات المختلفة، وهو ما يجعل الحوار بين الحضارات مدخلاً طبيعياً وضرورياً لتحقيق هذا التوافق"(7).
ضرورة الحوار الثقافي لتقليل الخلافات السياسية
تدرك المجتمعات العربية بعامة وحول حوض البحر المتوسط بخاصة الصعوبات الناجمة عن عدم توصل الاتحاد الأوربي حتى الآن إلى سياسة خارجية وأمنية موحدة أو متناسقة وخصوصا تجاه سبل التسوية الشاملة والعادلة للصراع العربي الإسرائيلي والصراع الفلسطيني الإسرائيلي ما يؤثر سلبا على الدور الفاعل والمأمول عربيا للاتحاد الأوربي في ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على إسرائيل من وقف حرب الإبادة الوحشية وجرائم الحرب التي تقترفها في حق الشعب الفلسطيني. كما يدرك العرب تأثيرات عمليات صياغة الدستور الأوربي الموحد وتوسيع الاتحاد الأوربي ليشمل دولاً من شرق أوربا، ولكن ينبغي على الاتحاد الأوربي أن يضطلع بمسئولياته السياسية والقانونية حتى ترتقي إلى وتتوافق مع تصاعد القوة الاقتصادية والتجارية والتقانية لأوربا عالميا، في مجال ضرورة إلزام إسرائيل بمبادئ القانون الدولي الإنساني وعلى رأسها اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكولان الملحقان بها لعام 1977.
ومن نافلة القول أن الحوار الحضاري على ضفتي المتوسط والساعي إلى البحث عن المشترك الإنساني والثقافي بين العرب والأوربيين يمكن أن يؤدي، عبر إعطاء الأهمية للحوار الثقافي الذي تعرض للإهمال حتى الآن ومنذ إعلان برشلونة في نوفمبر 1995، إلى تقليل الفجوة في المواقف السياسية وخصوصا تلك التي تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي وقضايا الأمن والاستقرار والهجرة والإرهاب. وربما لا توجد مبالغة في الاستنتاج بأن توافر تفهم للمشترك الإنساني قاد إلى حدوث ونجاح الوساطة الألمانية منذ ثلاثة أعوام بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، والتي أسفرت عن تبادل الأسرى ورفات المقاتلين بين الطرفين. ومن هنا تبرز وجاهة طلب تتقدم به المجتمعات والمنظمات غير الحكومية ومنظمات حقوق الإنسان في الدول العربية جنوب وشرق المتوسط أعضاء الشراكة الأور- متوسطية، ومفاده ضرورة أن تعيد الدول الأوربية أعضاء الاتحاد الأوربي والاتحاد نفسه النظر في القرار الذي سبق صدوره في أوائل عام 2002 باعتبار الحركات السياسية الفلسطينية لحركة فتح أو كتائب شهداء الأقصى تخوض مقاومة مشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقدس وغزة، وهي في ذلك تماثل في المشروعية حركات المقاومة اللبنانية ومن ضمنها حزب الله الذي تفاوضت معه ألمانيا وتوسطت بينه وبين الحكومة الإسرائيلية من أجل الإفراج عن الأسرى والمعتقلين.
على أن الحوار الثقافي كي يكون بناء وفعالاً في مجال تعزيز الجامع المشترك يجب ألا يكون خاليا من المضمون أو دائرا في الهواء، بل ينبغي أن يعالج قضايا أساسية من أهمها ضرورة تفهم دوافع الاضطراب الاجتماعي في حوض المتوسط والبحث عن سبل التغلب عليها، وفي صدارة هذه الدوافع (8):
1. المستويات المتدنية من التنمية الاقتصادية.
2. ارتفاع تكاليف المعيشة.
3. ارتفاع معدلات البطالة.
4. التهميش الاجتماعي للشباب والنساء والأطفال وتخفيض الدعم على السلع والاحتياجات البشرية الأساسية والحراك الاجتماعي إلى أسفل.
5. التوقعات الاستهلاكية المتزايدة في اقتصاد العولمة.
ومن شأن دفع الحوار الثقافي على ضفتي المتوسط أن يسهم في مزيد من تعرف وفهم الأوربيين للمواقف والرغبات والمشاعر والحقوق العربية التي تتماشى مع مبادئ القانون الدولي عموما والقانون الإنساني الدولي خصوصا. ويمكن لهذا الحوار الثقافي أن يؤدي إلى تقليل فجوة الخلاف بين الطرفين والذي أفضى حتى الآن إلى الفشل في إقرار ميثاق السلام والاستقرار الذي تمت صياغته في إطار الشراكة الأوربية- المتوسطية، وتعرض للتجميد والتأجيل إلى حين سماح الظروف السياسية بتطبيقه. وهناك حاجة ماسة في الواقع لكي لا يتوقف الدور الأوربي عند حدود المسئولية الإنسانية أو الجانب التنموي في العلاقات مع دول المتوسط العربية. هذا فضلاً عن الآثار السلبية لحصر اهتمام الجانب الأوربي، فيما يتصل بالأبعاد الاجتماعية والثقافية والإنسانية للشراكة، في موضوعات الديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم دور المجتمع المدني، على حساب قضايا أخرى لا تقل إلحاحا ولا أهمية مثل التعليم ونقل التكنولوجيا والشباب والحوار بين الثقافات. ويعود القصور في تنشيط البعد الثقافي من الحوار إلى عدم وجود إطار مؤسسي لتخطيط التعاون الثقافي ضمن الهيكل العام للشراكة.
دواعي ضرورة إقامة هيكل مؤسسي للحوار الثقافي
يمكن القول إن الحوار الثقافي يشتمل بالضرورة على طائفة واسعة من القضايا التي ينبغي أن تكون ذات اهتمام مشترك مثل حماية البيئة والتسامح والسلام والعدل ومواجهة الفقر والأمراض المستعصية والتنمية وإقامة مجتمع المعرفة والمعلومات والتفكير الحر الخلاق والقبول بالتعدد الثقافي، مع محاولة الابتعاد قدر الإمكان ولو مرحليا عن المسائل محل التناقض أو التعارض بين الدول العربية والأوربية المتوسطية، فمن الممكن إلى حد كبير أن يفضي البحث عن المشترك وتعميقه وبلورته في التناول الشجاع للقضايا محل الخلاف. ومن هنا فإن الحوار الثقافي بهذا المعنى يشتمل على وفي نفس الوقت يتجاوز الحوار الديني. ذلك أن الثراء الثقافي والمعرفي الذي يميز الحضارتين الأوربية الغربية والعربية الإسلامية إلى جانب سعة الصدر والقبول بالتعدد الثقافي من شأنه أن يسمح للطرفين، أبناء حضارات حوض البحر المتوسط قديما وحديثا، بمناقشة موضوعية ذات جوهر ثقافي معرفي بالأساس مثل قضية حريات الاعتقاد وما يرتبط بها من الحقوق الشخصية والمدنية. فالجدل المثار حول القرار الفرنسي المعروض على الجمعية الوطنية الفرنسية لا يقصد منه من جانب التيار الرئيسي المعتدل في المجتمعات العربية والإسلامية المساس بسيادة الدولة الفرنسية أو بتقاليدها الثقافية العلمانية، ومن ثم حق الدولة الفرنسية في صياغة وتطبيق ما تراه ملائما من تشريعات وقوانين، ولكن يمكن مناقشة الأمر في ضوء الفهم المؤكد من قبل المجتمعات العربية والإسلامية بأن الدولة الفرنسية تعمل دائما على المساواة القانونية والمجتمعية بين أبناء جميع الديانات، وكذلك في ضوء أن المبادئ الراسخة للثورة الفرنسية قد كلفت الحريات المدنية والشخصية للأفراد دون تمييز على أساس الأصل أو النوع أو العرق أو الدين...الخ.
وقد حان الوقت لتفعيل الحوار الثقافي الحضاري عبر المبادرة السريعة إلى تدشين الهيكل المؤسسي له تطبيقًا لمقررات ومقترحات المؤتمرات الوزارية الأور- متوسطية السابقة مثل المؤتمر الوزاري الرابع الذي عقد في مدينة فالنسيا الأسبانية في 22 و23 إبريل 2002، ففي هذا المؤتمر تقدمت المفوضية الأوربية باقتراح تأسيس "المؤسسة الأوربية- المتوسطية لدعم حوار الثقافات والحضارات" الذي ورد في الوثيقة الصادرة عن المفوضية لتنشيط عملية برشلونة، على أن تساهم في تمويلها دول الاتحاد الأوربي والمفوضية إلى جانب المساهمات الطوعية من دول جنوب المتوسط، وقد أقر مؤتمر فالنسيا هذا الاقتراح، وترك أمر الاتفاق على تفاصيله إلى اجتماعات لكبار المسئولين لدول عملية برشلونة.
وكان مؤتمر فالنسيا أقر خطة عمل الحوار بين الثقافات والتي تضمنت خمسة مبادئ تحتكم هذا الحوار- بناء على تصور مصري- هي:
- احترام التعددية والتباين والخصوصيات الثقافية.
- المساواة والاحترام المتبادل.
- تجنب التحيز والأفكار المسبقة.
- ألا يستهدف الحوار فهمًا أفضل للآخر فقط بل التوصل إلى حلول للمشاكل الملحة.
- ألا يكون الهدف النهائي للحوار هو تغير الآخر بل التعايش السلمي معه.
وقد حددت خطة العمل مجالات ثلاثة للحوار الثقافي؛ وهي: الشباب والإعلام والتعليم.
ولكن وللأسف لم تتخذ خطوات عملية حتى الآن في سبيل إعمال قرار إقامة "المؤسسة الأورمتوسطية للحوار بين الثقافات" التي تستهدف من الحوار التوصل إلى تمازج ثقافي بين دول حوض المتوسط، حيث لم تخرج مقررات كل من مؤتمر كريت الأورمتوسطي في مايو 2003 والمنتدى البرلماني الأورمتوسطي في نابولي في 2 و3 ديسمبر 2003 عن تزكية الاقتراح الخاص بإنشاء هذه المؤسسة، رغم أهمية الدور المنوط بها كإطار ملائم لإجراء حوار منتظم بين مختلف الدوائر الثقافية والفكرية، وكان قد تم في اجتماع نابولي مناقشة عدة عروض مقدمة من الدول المشاركة لاستضافة هذه المؤسسة، ورصدت المفوضية الأوربية في خطوة مشكورة، إبان مؤتمر كريت الوزاري في 26 و27 مايو 2003، مبلغ مليون يورو بصفة مبدئية لتمويل إنشاء هذه المؤسسة، ومن المهم أن تبادر دول جنوب المتوسط العربية وشرق الأوسطية إلى المساهمة المالية العاجلة في هذا التمويل. وكانت الجمعية البرلمانية التابعة لمجلس أوربا قد اتخذت القرار رقم 1313 في 28/1/2003 بخصوص تنشيط التعاون الثقافي بين أوربا ودول جنوب المتوسط والسعي إلى إزالة الصور النمطية المختزلة لدى كل طرف عن الطرف الآخر، كذلك تضمن القرار مسائل عملية مثل إعادة النظر في نظم التعليم وتنشيط تدريس اللغة العربية في أوربا في مقابل تشجيع تدريس اللغات الأوربية في دول جنوب المتوسط.
إن على الدول العربية المتوسطية من جانبها أن تدرك أنها مطالبة بإعادة النظر في بعض مواقفها وسياساتها من التسوية والصراع العربي الإسرائيلي والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كأن تبلور وبوضوح هذه المواقف والسياسات لجهة صياغة مواقف منسقة تبتعد عن التحرك الانفرادي في مجال التعامل مع إسرائيل، وخصوصا في قضايا التطبيع الاقتصادي والسياحي والتجاري مع إسرائيل وضرورة صياغة مواقف وأفكار منسقة متناغمة إلى حد كبير بشأن القضايا الجوهرية مثل الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية المحتلة وحق العودة للاجئين الفلسطينيين ووضعية مدينة القدس والحدود وطبيعة الدولة الفلسطينية، وهذا الأمر مطلوب بإلحاح قبل أن تطالب الدول العربية الاتحاد الأوربي بالتخلي عن سياسة الحياد السلبي تجاه سياسة القمع الوحشي الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.
يكتسب الحوار الشعبي عبر البرلمانات الأورمتوسطية أهميته في تكريس المشترك الثقافي والمعرفي بين دول حوض المتوسط، ويمثل تحويل المنتدى البرلماني الأورمتوسطي إلى الجمعية البرلمانية الأورمتوسطية خطوة مهمة في مجال تفعيل الحوار الثقافي. فقد كان من أبرز مقررات المؤتمر الوزاري الأورمتوسطي في نابولي في أوائل ديسمبر 2003 تأسيس الجمعية البرلمانية الأورمتوسطية والتي ستتيح قناة للاتصال المباشر مع ممثلي شعوب المنطقة. تتكون الجمعية من 240 عضوا برلمانيا منهم 120 من أعضاء البرلمانات القطرية لدول جنوب المتوسط، بينما الـ 120 عضوًا من دول الاتحاد الأوربي المتوسطية فسوف يتم اختيار 75 منهم من قبل البرلمانات الوطنية و45 عضوًا سيتم تعيينهم من جانب الاتحاد الأوربي. وتم الاتفاق على أن تعقد هذه الجمعية اجتماعًا واحدًا على الأقل في العام.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة -مصر
1- Graham E. Fuller and Ian O. Lesser, A Sense of Siege: the Geopolitics of Islam and the West, Boulder, Colo.: Westview Press, 1995
2- وردت هذه الأرقام على لسان عالم الاجتماع الشهير والخبير الدولي في شئون الغذاء السويسري "جون زيجلر" في حواره مع سوسن حسين، مجلة السياسة الدولية (القاهرة: مؤسسة الأهرام)، العدد 151، يناير 2003، ص ص 105، 107.
3- نفس المصدر، ص 109.
4- نفس المصدر، ص 107.
5- حوار جاك أتالي مع سوسن حسين، السياسة الدولية، العدد 144، إبريل 2001، ص127.
6- أحمد كمال أبو المجد، "هل تؤدي العولمة إلى صدام الحضارات؟.. حوار في دافوس حول الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية"، وجهات نظر، السنة 2، العدد 14، مارس 2000، ص 35.
7- نفس المصدر، ص 35.
8- أحمد عبد الله، "الأمواج العاتية: الاضطراب الاجتماعي في منطقة البحر المتوسط"، السياسة الدولية، العدد 151، يناير 2003، ص 211.
المصدر: إسلام اون لاين
المصدر: http://www.alwasatparty.com/article-10404.html