دعوة أهل البدع
دعوة أهل البدع
تأليف
خالد بن أحمد الزهراني
قدم له معالي الشيخ
صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
قرأه وقدم له فضيلة الشيخ
صالح بن عبدالله الدرويش
القاضي بالمحكمة الكبرى بالقطيف
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رده على الأخنائي:
(وأهل السنة والعلم والإيمان يعرفون الحق ويتبعون سنة الرسول ويرحمون الخلق ويعدلون فيه ويعذرون من اجتهد في معرفة الحق فعجز عن معرفته وإنما يذمون من ذمه الله ورسوله وهو المفرط في طلب الحق لتركه الواجب والمتعدي المتبع لهواه بلا علم لفعله المحرم فيذمون من ترك الواجب أو فعل المحرم ولا يعاقبونه إلا بعد إقامة الحجة عليه... إلخ).
الفتاوى (27/238)
وقال رحمه الله:
([أهل البدع]... يكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها، وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله فيتبعون الحق ويرحمون الخلق).
الفتاوى (3/279)
وقال رحمه الله:
(فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقًا كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض).
منهاج السنة (5/157)
تقديم معالي الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد تصفحت الكتاب المسمى: (دعوة أهل البدع) لمؤلفه الشيخ: خالد بن أحمد الزهراني، فوجدته والحمد لله كتابًامفيدًا في موضوعه، واضحًا في أسلوبه، شيقًا في عرضه، مدعمًا بالأدلة من الكتاب والسنة والنقول عن الأئمة،فأرجو الله أن ينفع به ويكتب الأجر لمؤلفه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
كتبه
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
تقديم فضيلة الشيخ القاضي
صالح بن عبد الله الدرويش
الحمد لله رب العالمين، الآمر خلقه بعبادته أجمعين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، المبعوث رحمة للأولين والآخرين...
أما بعد:
فإن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والناظر في دعوته، وكيفية تبليغه لدين الله تعالى، يجد أنه صلى الله عليه وسلم استفاد من كافة الوسائل الممكنة والمتاحة في عصره، فكتب الكتب والرسائل إلى الملوك والسلاطين، واهتم بالشعر والشعراء، ووجههم لنصرة الدعوة والذب عنها.
وصارع صلى الله عليه وسلم غيره لأجل الدعوة إلى الله تعالى، وهذا من تسخير الرياضة وجعلها وسيلة للدعوة إلى الله تعالى.
وقد خرج صلوات الله وسلامه عليه بنفسه الشريفة لأجل الدعوة إلى الله، فحضر مجامع الكفار واجتماعاتهم ونواديهم، وكان يغشاهم في مجالسهم، ويستغل المواسم التي يجتمعون لها من كل مكان ليباشر دعوتهم.
كما حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وسائر أمته من بعدهم على القيام بهذا الواجب العظيم، فقال صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية)( ).
وقال لابن عمه الخليفة الراشد علي رضي الله عنه: (لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم)( )، وتأمل الإطلاق في كلمة "رجل" حيث دخل فيها أي رجل من أي جنس كان.
وقد أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)) [آل عمران:110] "والمعروف" لفظ عام يشمل كل معروف في الشريعة، وكذلك "المنكر" يشمل الكفر والشرك وما دونها من كبائر الذنوب، وكذا ما دون الكبائر من الصغائر، وكذلك أصغر الصغائر من اللمم.
وهذا العموم يظهر أيضًا في سائر النصوص في الدعوة إلى الله تعالى، كما في قوله: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)) [آل عمران:104] وفي قوله سبحانه: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)) [النحل:125] فقد أمر الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام بأن يدعو كل من خالف الصراط المستقيم للرجوع إلى الحق والتمسك به والتزامه الصراط المستقيم، والنصوص في هذا كثيرة معلومة.
أيها القارئ الكريم.. لقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم النصوص السابقة على عمومها، متأسين في ذلك بمعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقوا ينشرون الإسلام في الشرق والغرب، حتى أسلم عامة أهل الشام والعراق على أيديهم وكذلك فارس (إيران)، وكذا أهل مصر والسودان وشمال إفريقية، حتى أصبحت جميع تلك الديار من قلاع الإسلام وحصونه.
وكان من أهم أسباب هداية تلك الديار حُسن خلق الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم -مع النصر والغلبة والتمكين والسيطرة على المغلوب- في غاية التواضع والورع والخوف من الله تعالى؛ لم تسيطر عليهم نشوة النصر، وبريق الذهب، وارتفاع القصور، وجمال النساء المترفات المتنعمات.
هذا هو ما فهمه الصحابة من عموم الأدلة في الدعوة إلى الله سبحانه، وهذا ما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ويقوم به، وهو القدوة عليه الصلاة والسلام.
وقد وردت في كتب أهل العلم كثير من الأقوال في التغليظ على المخالف وهجره والتحذير من سوء خاتمته، فينبغي أن تدرس كل الأقوال مجتمعة، ولا بد من الجمع بينها والنظر فيها، وفي أحوال تلك الأقوال وأوقاتها، ولقد اجتهد فضيلة الشيخ/ خالد بن أحمد الزهراني في بحث تلك المسائل والنظر فيها، فأجاد -وفقه الله- وأفاد، فجزاه الله خيرًا ووفقه للبر والرشاد.
• وقبل أن أتركك أيها القارئ الكريم مع الكتاب أود التنبيه على أمور:
أولًا: لا بد من دراسة القرآن الكريم والنظر في قصص الرسل عليهم السلام في دعوتهم لأقوامهم وأخذ الدروس والعبر منها؛ فهذا كليم الله موسى عليه السلام يتلقى من ربه الأمر الصريح الواضح بلين الخطاب مع من؟ مع فرعون الطاغية، الذي بلغ من جبروته وطغيانه وعدوانه أن قال لقومه: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)) [النازعات:24] ومع ذلك يقول الله تعالى لنبيه موسى وأخيه هارون رضي الله عنه: ((قُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)) [طه:44].
ثانيًا: لابد للمسلمين عامة والدعاة على وجه الخصوص من الاهتمام بدراسة سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فهي مدرسة العلم والدعوة والصبر والجهاد.
فهذا رسول قريش، وهو عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا حليمًا، يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعرض عليه أمورًا مقابل أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الله ـ، فينصت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا فرغ من كلامه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفرغت يا أبا الوليد؟).
قال: نعم. قال: (اسمع مني) قال: أفعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) [فصلت:3] فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فلما سمع بها عتبة أنصت لها وألقى بيديه خلفه أو خلف ظهره معتمدًا عليهما ليسمع منه، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجدها ثم قال: (سمعت يا أبا الوليد؟) قال: سمعت. قال: (فأنت وذاك)( ).
فهذا الرجل جاء لإقناع الرسول صلى الله عليه وسلم بترك الدعوة! وهو مشرك ومع ذلك يستمع له النبي صلى الله عليه وسلم منصتًا لكلامه ولا يقاطعه! حتى إذا فرغ من كلامه قال له صلى الله عليه وسلم: أفرغت أبا الوليد؟ ثم يطلب منه الاستماع إليه كما استمع هو، فيتلو عليه آيات من كلام الله تعالى.
فهذا درس في أدب الحوار: أن تستمع من الطرف الآخر، وأن تُسمعه ما عندك بأدب وحُسن قصد، وهو إرادة الهداية له.
وقد جادل النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب بالتي هي أحسن ممتثلًا قول ربه تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) [العنكبوت:46] واشتد معهم في النقاش إلى درجة المباهلة( ). قال الله تعالى: ((فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)) [آل عمران:61].
ثالثًا: الحذر من الكلام على الله بغير علم، ومن ذلك تحجير رحمة الله تعالى، والقول بأن الله لا يغفر لفلان! أو القول بأن الفئة الفلانية لا تهتدي أو أنهم لا يمكن أن يتوبوا من باطلهم هو من التقول على الله بغير علم، وقد قال تعالى: ((وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)) [النحل:116].
رابعًا: يخطئ كثير من الشباب والمبتدئين في طلب العلم بخلط المفاهيم الشرعية، ومن ذلك: عدم تفريقهم بين عقيدة الولاء والبراء وبين حُسن الخلق في التعامل مع الآخر، سواء كان الآخر من الكافرين كفرًا أصليًا أو مرتدًا أو مبتدعًا، وهذه المسألة يطول فيها الكلام، ولكني أختصر لك المسألة في كلمات، مستمدًا العون من الله ـ، فأقول:
النبي صلى الله عليه وسلم هو إمامنا وقدوتنا في عقيدة الولاء والبراء، فهو أشد الناس عداوة للكافرين، وأشدهم صلى الله عليه وسلم حبًا للمسلمين، وهو قدوتنا في أخلاقه وتعاملاته وتصرفاته وأقواله وأفعاله على الإطلاق؛ فانظر -رعاك الله- هديه وحلقه في ذلك؛ فإنك لا تجده صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الكفار من أهل السباب والشتيمة، ولم تحفظ الدنيا عنه موقف استهزاء أو سخرية من أحد منهم، بل قال صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعندما سألته: (قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك)( ).
فهذه قصة من قصص كثيرة مشابهة، وليس هذا من الولاء، فالولاء يعني المحبة والنصرة، فلا يلزم من حسن الخلق والمعاملة الولاء.
والواجب على المسلم أن يتحلى بآداب الإسلام كلها، نعم جاءت نصوص وآثار في المخالفين ولكنها وردت في مواضع ومسائل محددة ينبغي أن تدرس بعناية، وأحيلك أيها القارئ الكريم على كتاب العلامة شهاب الدين القرافي المالكي رحمه الله( ) الموسوم بكتاب (الفروق)؛ فإنه من أجل الكتب وأنفعها وأحسنها، فقد عقد فصلًا نفيسًا لبيان " الفرق بين الأمر بعدم ولاية الكفار والأمر ببر أهل الذمة منهم والإحسان إليهم " فقال رحمه الله: «عقد الذمة يوجب حقوقا علينا لهم لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام. وكذلك حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة... وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة وتعين علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب ولا تعظيم شعائر الكفر فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع وصار من قبل ما نهي عنه في الآية وغيرها، ويتضح ذلك بالمثل فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا والقيام لهم حينئذ ونداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لرفع شأن المنادى بها هذا كله حرام وكذلك إذا تلاقينا معهم في الطريق وأخلينا لهم واسعها ورحبها والسهل منها وتركنا أنفسنا في خسيسها وحزنها وضيقها كما جرت العادة أن يفعل ذلك المرء مع الرئيس والولد مع الوالد والحقير مع الشريف فإن هذا ممنوع لما فيه من تعظيم شعائر الكفر وتحقير شعائر الله تعالى وشعائر دينه واحتقار أهله...وأما ما أمر به من برهم ومن غير مودة باطنية فالرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم وإطعام جائعهم وإكساء عاريهم ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا منًا بهم لا خوفًا وتعظيمًا والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله ومن العدو أن يفعله مع عدوه فإن ذلك من مكارم الأخلاق فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل لا على وجه العزة والجلالة منا ولا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا وتكذيب نبينا صلى الله عليه وسلم وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا واستولوا على دمائنا وأموالنا وأنهم من أشد العصاة لربنا ومالكنا عز وجل ثم نعاملهم بعد ذلك بما تقدم ذكره امتثالا لأمر ربنا عز وجل وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم لا محبة فيهم ولا تعظيما لهم ولا نظهر آثار تلك الأمور التي نستحضرها في قلوبنا من صفاتهم الذميمة لأن عقد العهد يمنعنا من ذلك فنستحضرها حتى يمنعنا من الود الباطن لهم والمحرم علينا خاصة»( ).
فأوصيك أخي الكريم بالرجوع إليه؛ فهو من أنفس ما كتب في هذا الباب.
وأذكرك أخي بآية جليلة عظيمة عليك أن تنظر فيها وتتأمل في دلالاتها، قال تعالى: ((وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) [العنكبوت:8] فتأمل في قيام الوالدين على حمل ولدهما على الكفر وبذل غاية الجهد لكي يشرك ويكفر بالله، ومع ذلك ويأمره الله عز وجل بالإحسان إليهما في قوله: ((وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)) [لقمان:15] وانظر إلى دقائق وأسرار كلمة ((مَعْرُوفًا)) [لقمان:15] ودلالاتها!!
خامسًا: يعيش كثير من طلبة العلم والدعاة ساعاتهم الحاضرة، لا ينظرون في التاريخ ليأخذوا منه العظة والعبرة، ولا ينظرون كذلك إلى المستقبل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء حفر الخندق يبشّر أصحابه بكنوز كسرى وقيصر، وهي نظرة مستقبلية؛ ولها أمثالها، والله عز وجل يقول عمن مضى: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ)) [يوسف:111] فيقرأ الواحد في التاريخ ويعتبر بمن مضى من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم؛ ومن الإسماعيلية الذين سادوا شمال إفريقية وحكموا العباد والبلاد، وألزموا الناس بمذاهبهم ونحلهم الفاسدة؛ وكان لهم وجود حكومي قوي، بينما كان أثرهم الشعبي ضعيفًا! قتلوا العلماء ونشروا مذهبهم بالقوة، ولكن الله القدير يسّر زوال دولتهم على يد القائد الفذ صلاح الدين الأيوبي، فظهر مذهب أهل السنة والجماعة، وتتابعت قوافل المهتدين على مر العصور والقرون؛ وهكذا كثير من القساوسة النصارى، والحاخامات والكهنة اليهود، والسحرة، وكذا الإسماعيلية والرافضة والصوفية وغيرهم وغيرهم؛ كثير منهم يهتدون ويتوبون ويؤوبون بفضل الله ورحمته، وتنقلب محاربتهم للحق إلى حرص على اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياك أخي القارئ من الداعين إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سادسًا: يستعجل بعض الدعاة قطاف الثمار؛ بينما الهداية من الله ـ، فليس علينا إلا بذل الجهد، يقول ـ: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) [القصص:56].
فعلى الدعاة تحري سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه والتمسك بها، والدعوة إليها بالحكمة والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، والقصد إبراء الذمة، والقيام بالواجب وطلب الأجر من الله الكريم.
ومن هذا القيام بدعوة المخالفين لأهل السنة والجماعة المنحرفين عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واعلم أن القيام بدعوتهم فيه القيام برد شبهاتهم وأكاذيبهم، بخلاف الرد المجرد من الدعوة، والقيام بدعوتهم يتضمن دراسة أحوالهم وكذلك كتبهم، ومعرفة نقاط الضعف والقوة عندهم، وكذلك يتطلب الأمر النظر في مخططاتهم ومشاريعهم، وعاداتهم واختلافاتهم، والخلاصة.. أن القيام بدعوتهم أوسع وأشمل وأعم من مجرد الرد عليهم والتحذير من بدعهم.
فالواجب دعوة المخالفين لأهل السنة والجماعة على اختلاف مذاهبهم ونحلهم وبدعهم لما ذكرنا آنفًا.. وقد أفاد مؤلف الكتاب - وفقه الله وسدده - في بيان هذا وأجاد.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
أملاه:
صالح بن عبد الله الدرويش
القاضي بالمحكمة الكبرى بالقطيف
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:102].
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) [النساء:1].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) [الأحزاب:70].
أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى هي المهمة التي ابتعث الله من أجلها رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وهي المهمة التي حملها من بعده أصحابه وأتباعه رضوان الله عليهم، فقد حملوا مشعل الهداية والنور، ودعوا إلى دين ربهم تبارك وتعالى كل من ضل عن الصراط المستقيم، لم يفرقوا في هذا بين عربي وعجمي، أو حر وعبد، بين عبدة الأوثان وبين عبدة الصلبان أو النيران، بل شملت هذه الرحمة التي حملوها كل البشر، فقد كانوا أتباع المبعوث رحمة للعالمين، من قال عنه ربه تبارك وتعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107]. ومن قال سبحانه وتعالى عنه: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)) [سبأ:28].
وكان ممن توجه إليهم هؤلاء الصحب الكرام رضي الله عنهم بالدعوة والإرشاد المخالفون لأهل السنة والجماعة من أهل البدع وغيرهم؛ حرصًا منهم رضوان الله عليهم على هداية الخلق ورحمة بهم، فها هو حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يرسله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لدعوة أول فرقة ظهرت في الإسلام- والتي قد حذّر منها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أشد التحذير- فيتجه إليهم ناصحًا شفيقًا، ومعلمًا ربانيًا، فيهتدي ويعود على يديه ألفان، وقيل: أربعة آلاف، وقيل: عشرون ألفًا( ).
ولكن هذه الدعوة -دعوة المخالفين- انحسرت في عصور المسلمين المتأخرة، فلم يقم بها إلا فئام من الناس، لا يكاد يسمع عنهم؛ ثم قيض الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة أن تستيقظ من سباتها بدعوة الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، والتي سرت في الناس سريان النار في الهشيم، بفضل الله ـ، ثم بفضل ما تحمله من الحق الذي يعلى ولا يعلى عليه.
فأقبل الناس على أمور دينهم يتعلمونها، ويعملون بها ويدعون إليها، وكان من أهم وسائل ذلك تأليف الكتب والرسائل في شتى المجالات والفنون.
وكان من ضمن تلك الكتب التي ألفت ما يتكلم عن البدعة وأحكامها، وأحوال أصحابها، ممن تنكبوا طريق السنة والجماعة.
وبالرغم من كثرة ما كتب في موضوع البدعة وما يتعلق بها من الأحكام( )، إلا أنه لم يؤلف كتاب مستقل في مسألة دعوة المخالفين، فظلت هذه المسألة على أهميتها واعتناء السلف بها متناثرة في كتب الأئمة المتقدمين والمتأخرين، لا يجمعها شيء.
ونظرًا لعلاقتي بدعوة بعض الفرق المخالفة لأهل السنة، ولما رأيته من حاجة هؤلاء الناس إلى الدعوة إلى الدين الحق، وحاجتهم إلى الدعاة الصادقين لينتشلوهم من ظلمات الجهل والانحراف، خصوصًا مع ما رأيته من إقبال على الحق لكل من تبين له وكان طالبًا له، وما رأيته وسمعته من بعض الدعاة الذين يثبطون عن الدعوة في هذا الجانب، متمسكين بأعذار واهية، ليس عليها برهان من كتاب الله عز وجل، أو من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهديه، كل هذا جعلني أستعين بالله سبحانه وأشرع في كتابة هذا البحث، والذي سوف أبين فيه- بإذن الله تعالى- مشروعية دعوة المخالفين لأهل السنة والجماعة، وأحكام هذه الدعوة، والمسائل التي تنبني عليها هذه الأحكام، مستدلًا لها بكتاب الله سبحانه وتعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبأقوال وأفعال الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم من الأئمة والعلماء-عليهم رحمة الله- على مر التاريخ، فما كان من صواب فبفضل الله ـ، وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان.
فهلا شمّرنا عن ساعد الجدّ، وقمنا بواجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ودعونا كل من استطعنا إبلاغه دين الله الحق، وتركنا الحجج الواهية والدعاوى الباطلة التي زخرفها بعضهم هربًا من القيام بهذا الواجب العظيم.
وفي الختام: أتقدم بالشكر لكل من ساهم وأعان على إتمام هذا الكتاب بإشارة أو فائدة أو تصويب؛ وأخص فضيلة الشيخ الدكتور/عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف، الذي تفضل بقراءة الكتاب وإبداء ملحوظاته وفوائده في كل فصول الكتاب؛ فجزاه الله خير الجزاء.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه.
وأسأله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يضعه في موازين حسناتي، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه/ خالد بن أحمد الزهراني
في شوال من عام 1423هـ
kzahrany@hotmail.com
0505848988
الفصل الأول
فضل الدعوة إلى الله تعالى
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم».
- قال ابن القيم رحمه الله: «مقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد».
فضل الدعوة إلى الله تعالى
الدعوة إلى الله تبارك وتعالى هي أعظم مهمات رسولنا ص، وهي وسيلة وسبيل لتحقيق توحيد الله تعالى، قال سبحانه: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)).
وقال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً))[الأحزاب:45-46].
وقال سبحانه: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125].
وقال تعالى: ((وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ)) [الحج:67].
وقال تعالى: ((وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [القصص:87].
وقال عز من قائل: ((قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ)) [الرعد:36].
وهي الميزة التي فضّل الله تعالى بها هذه الأمة على سائر الأمم؛ فقال تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110]، وقال تبارك وتعالى آمرًا بها وحاثًا عباده على القيام بها: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)) [آل عمران:104].
لذا كان الداعية إلى الله تعالى العامل بما يدعو إليه، من أحسن الناس قولًا، قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ))[فصلت:33].
بل إن الداعية له أجره من الله الكريم، وله كذلك أجر من دعاهم إلى الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئًا)( ).
والله سبحانه يحفظ أهل القرى من عذابه عامة بسبب وجود الدعاة المصلحين فيها، الذين يدعون إلى سبيل الله، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) [هود:117].
والدعوة بحمد الله ونعمته غير محصورة بوقت ولا مكان ولا طريقة ما دام أنها وفق الشريعة، وغير مخالفة لطريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله.
فمن جهة الوقت: هذا نوح عليه الصلاة والسلام يدعو قومه في الليل والنهار: ((قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا)) [نوح:5].
ومن جهة المكان: هذا يوسف عليه السلام يدعو في السجن: ((يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)) [يوسف:39].
ومن جهة الطريقة: هذا نوح أيضًا يدعو إلى الله ودينه بطرق متنوعة: ((ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)) [نوح:9].
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: «لا يتم التوحيد حتى يكمل العبد جميع مراتبه، ثم يسعى في تكميل غيره، وهذا هو طريق جميع الأنبياء، فإنهم أول ما يدعون قومهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهي طريقة سيدهم وإمامهم صلى الله عليه وسلم، لأنه قام بهذه الدعوة أعظم قيام، ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، لم يفتر، ولم يضعف، حتى أقام الله به الدين، وهدى به الخلق العظيم، ووصل دينه ببركة دعوته إلى مشارق الأرض ومغاربها، وكان يدعو بنفسه، ويأمر رسله وأتباعه أن يدعوا إلى الله وإلى توحيده قبل كل شيء؛ لأن جميع الأعمال متوقفة في صحتها وقبولها على التوحيد.
فكما أن على العبد أن يقوم بتوحيد الله، فعليه أن يدعو العباد إلى الله بالتي هي أحسن، وكل من اهتدى على يديه فله مثل أجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
وإذا كانت الدعوة إلى الله وإلى شهادة أن لا إله إلا الله فرضًا على كل أحد، كان الواجب على كل أحد بحسب مقدوره.
فعلى العالم من بيان ذلك والدعوة والإرشاد والهداية أعظم مما على غيره ممن ليس بعالم.
وعلى القادر ببدنه ويده، أو ماله، أو جاهه وقوله، أعظم مما على من ليست له تلك القدرة.
قال تعالى: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [التغابن:16]، ورحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين»( ).
الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد:
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة:
«الوجه الثلاثون بعد المائة: وهو قوله تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33] قال الحسن: (هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، فهذا حبيب الله، هذا ولي الله)، فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد، قال تعالى: ((لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)) [الجن:19]، وقال تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125].
جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن، هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية... إلخ»( ).
الدعوة إلى الله أعظم المراتب وأجلها عند الله:
يذكر الإمام ابن وضاح القرطبي رحمه الله في كتابه «البدع والنهي عنها» أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات فقال: (اعلم -أي أخي- أنما حملني على الكتاب إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس، وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدعة، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله بذلك وصاروا ببدعتهم مستترين.
فأبشر -أي أخي- بثواب ذلك، واعتد به أفضل حسناتك، من الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد.
وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا شيئًا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وجمع بين أصبعين»، وقال صلى الله عليه وسلم: «أيما داع إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة»، فمن يدرك أجر هذا بشيء من عمله؟!
وذكر أيضًا أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليًا لله يذب عنها، وينطلق بعلاماتها.
فاغتنم -يا أخي- هذا الفضل، وكن من أهله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن، وأوصاه، وقال: «لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك من كذا وكذا»)( ).
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «...ويكون عندك معلومًا أن أعظم المراتب وأجلها عند الله الدعوة إليه، التي قال الله: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33] وفي الحديث: (والله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم)( )»( ).
وقال رحمه الله مبينًا أن الدعوة إلى الله ودينه الحق وسنة رسوله واجبة: «..ويجب علينا تعلم أربع مسائل، الأولى: العلم؛ وهو: معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة؛ الثانية: العمل به؛ الثالثة: الدعوة إليه؛ الرابعة: الصبر على الأذى فيه، والدليل قوله تعالى: ((وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر:1-3] »( ).
وقال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن رحمه الله( ):
«...فإذا كان قد جرى في عهد النبوة من يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفّر أصحابه، فلا يبعد أن يجيء في آخر هذه الأمة من يقول بقولهم، ويرى رأيهم؛ والذين هاجروا إلينا وبايعونا ما ندري عن حقيقة أمرهم؛ وعلى كل حال: إذا عملتم بالتوحيد، وأنكرتم الشرك والضلال، وفارقتم البدع، فلا يلزمكم هجرة عن الوطن والمال؛ بل يجب عليكم الدعوة إلى الله، وطلب أدلة التوحيد في كتاب الله، وتأمل كلام الشيخ في مصنفاته، فإنه رحمه الله بيَّن وحقّق، والسلام»( ).
والدعوة إلى الله جهاد، وأكمل الخلق تكميلًا لمراتب الجهاد بفضل الله هو قدوتنا صلى الله عليه وسلم، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد:
«..فصل:
وأكمل الخلق عند الله من كمل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله؛ فإنه كمل مراتب الجهاد، وجاهد في الله حق جهاده، وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله عز وجل؛ فإنه لما نزل عليه: ((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)) [المدثر:4])) شمّر عن ساق الدعوة، وقام في ذات الله أتم قيام، ودعا إلى الله ليلًا ونهارًا، وسرًا وجهارًا، ولما نزل عليه: ((فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)) [الحجر:94] فصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم، فدعا إلى الله الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والأحمر والأسود، والجن والإنس.
ولما صدع بأمر الله، وصرَح لقومه بالدعوة، وناداهم بسب آلهتهم، وعيب دينهم؛ اشتد أذاهم له ولمن استجاب له من أصحابه، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه، كما قال تعالى: ((مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ)) [فصلت:43]، وقال: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ)) [الأنعام:112]، وقال: ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) [الذاريات:52] ».
إلى أن قال:
«فمن آمن بالرسل وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذوه، فابتلي بما يؤلمه. وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم، عوقب في الدنيا والآخرة، فحصل له ما يؤلمه، وكان هذا المؤلم له أعظم ألمًا وأدوم من ألم اتباعهم، فلابد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير إلى الألم الدائم. وسئل الشافعي رحمه الله: أيما أفضل للرجل، أن يمكّن أو يبتلى؟ فقال: (لا يمكّن حتى يبتلى). والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل، فلما صبروا مكّنهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول، فأعقلهم من باع ألمًا مستمرًا عظيمًا بألم منقطع يسير، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر.
فإن قيل: كيف يختار العاقل هذا؟ قيل: الحامل له على هذا النقد والنسيئة.
والنفس موكلة بحب العاجل.. ((كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ)) [القيامة:20]، ((إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا)) [الإنسان:27]. وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان مدني بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم، آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب، تارة منهم، وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة، ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم، أو سكوته عنهم، فإن وافقهم، أو سكت عنهم، سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم، فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم، فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا).
ومن تأمل أحوال العالم، رأى هذا كثيرًا فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هربًا من عقوبتهم، فمن هداه الله وألهمه رشده، ووقاه شر نفسه، امتنع من الموافقة على فعل المحرم، وصبر على عدوانهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت للرسل وأتباعهم، كالمهاجرين والأنصار، ومن ابتلي من العلماء، والعباد، وصالحي الولاة، والتجار، وغيرهم.
ولما كان الألم لا محيص منه ألبتة، عزّى الله سبحانه من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله: ((مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [العنكبوت:5]. فضرب لمدة هذا الألم أجلًا، لابد أن يأتي، وهو يوم لقائه، فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمَّل من الألم من أجله، وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه، ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل...»( ).
وقال أيضًا هذا الإمام الرباني رحمه الله:
«فصل: الموطن الثالث والعشرون من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: عند تبليغ العلم إلى الناس... لأنه موطن لتبليغ العلم الذي جاء به ونشره في أمته، وإلقائه إليهم، ودعوتهم إلى سننه وطريقته صلى الله عليه وسلم، وهذا من أفضل الأعمال وأعظمها نفعًا للعبد في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33]، وقال تعالى: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) [يوسف:108]، وسواء كان المعنى أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة، أو كان الوقف عند قوله: ((أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ)) [يوسف:108] ثم يبتدئ: ((عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) [يوسف:108] فالقولان متلازمان؛ فإنه أمره سبحانه أن يخبر أن سبيله الدعوة إلى الله، فمن دعا إلى الله تعالى فهو على سبيل رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو على بصيرة، وهو من أتباعه، ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله، ولا هو على بصيرة، ولا هو من أتباعه.
فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، وهم خلفاء الرسل في أممهم، والناس تبع لهم، والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزل إليه، وضمن له حفظه وعصمته من الناس، وهكذا المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه ولو آية، ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثًا. وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه»( ).
والدعوة إلى السنة أمر بالمعروف، وإنكار البدعة نهي عن المنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمان الشريعة، وبهما يحفظ الدين، وتستقيم العقائد والعبادات.
وللآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروط يجب أن تتوافر فيه، فيكون أمره بالمعروف معروفًا ونهيه عن المنكر كذلك.
قال شيخ الإسلام وشامة الشام ابن تيمية رحمه الله:
«...ولهذا قيل: (ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر) وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أو المستحبات، فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب، والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم الفساد والمفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته، لم يكن مما أمر الله به، وإن كان قد تُرك واجب وفُعل محرم؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباد الله وليس عليه هداهم، وهذا من معنى قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105].
والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات؛ لم يضره ضلال الضال، وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد. فأما القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وذلك أدنى أو أضعف الإيمان)( )، وقال: (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)( )، وقيل لحذيفة رضي الله عنه: (من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا)( )، وهذا هو المفتون الموصوف بأن قلبه كالكوز مجخيًا في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في الصحيحين: (تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير...)( ) الحديث، وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلًا لهذه الآية، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105] وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)( )...»( ).
وقال رحمه الله:
«...ومن الأمر بالمعروف كذلك الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة وغير ذلك، وأما المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله فأعظمه الشرك بالله، وهو أن يدعو مع الله إلهًا آخر كالشمس والقمر والكواكب، أو كملك من الملائكة، أو نبي من الأنبياء، أو رجل من الصالحين، أو أحد من الجن، أو تماثيل هؤلاء أو قبورهم، أو غير ذلك مما يدعى من دون الله تعالى أو يستغاث به أو يسجد له، فكل هذا وأشباهه من الشرك الذي حرمه الله على لسان جميع رسله.
ومن المنكر؛ كل ما حرمه الله؛ كقتل النفس بغير الحق، وأكل أموال الناس بالباطل، بالغصب أو بالربا أو الميسر، والبيوع والمعاملات التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وتطفيف المكيال والميزان، والإثم والبغي، وكذلك العبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.. وغير ذلك، والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»( ).
ويؤكد العلامة ابن القيم رحمه الله أن من أسباب فشو البدعة تقصير أهل الحق في إظهار السنة والهدى، فقال: «...ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال كان من أسبابه: التقصير في إظهار السنة والهدى»( ).
وهكذا بدعوة المخالفين لأهل السنة تظهر السنة وتموت البدعة، ويوقى العامة شرها، ويظهر ضعف حجة المخالف، ويذب عن حياض الدين، وينكشف ما يلبسه المخالفون على العامة، وبهذا يجتمع الناس على الهدى والاعتصام بحبل الله.. وهو المقصد الشرعي العظيم من دعوة المخالفين لأهل السنة والجماعة من أهل البدع.
الفصل الثاني
تعريف البدعة وخطرها وذم أهلها
- اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
- اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة.
- إن البدعة لا يقبل معها عبادة؛ من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات.
تعريف البدعة وخطرها وذم أهلها
تعريف البدعة لغة:
قال ابن فارس: «بدع: الباء والدال والعين أصلان: أحدهما: ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال، والآخر: الانقطاع والكلال، فالأول: قولهم: أبدعت الشيء قولًا أو فعلًا، إذا ابتدأته لا عن سابق مثال، والله بديع السموات والأرض، والعرب تقول: ابتدع فلان الركي إذا استنبطه، وفلان بدع في هذا الأمر، قال الله تعالى: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)) [الأحقاف:9] أي: ما كنت أول»( ).
وهذا المعنى الثاني الذي ذكره ابن فارس راجع إلى المعنى الأول، كما أشار إلى ذلك ابن الأثير حيث قال: «يقال: أبدعت الناقة إذا انقطعت عن السير بكَلاَل أو ظَلْع، كأنه جعل انقطاعها عما كانت مستمرة عليه من عادة السير إبداعًا، أي: إنشاء أمر خارج عما اعتيد منها»( ).
وقال الجوهري: «أبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال، والله تعالى بديع السماوات والأرض»( ).
وقال الطرطوشي: «أصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احتذي، ولا أُلِف مثله، ومنه قوله تعالى: ((بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [الأنعام:101] وقوله: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)) [الأحقاف:9] أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض»( ).
تعريف البدعة شرعًا:
اختلفت تعريفات العلماء للبدعة، وهذا الاختلاف يرجع إلى زيادة قيود وضوابط عند بعضهم لا يذكرها الآخر، فمن هذه التعريفات:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «البدعة ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة، من الاعتقادات والعبادات»( ).
وقال رحمه الله كذلك: «البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداءً من غير مثال سبق، وأما البدعة الشرعية فما لم يدل عليه دليل شرعي»( ).
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «المراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة»( ).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والمحدثات جمع محدثة، والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة، بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة، سواء كان محمودًا أو مذمومًا»( ).
وقال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: «ومعنى البدعة: شرع ما لم يأذن الله به، ولم يكن عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه»( ).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «ما أحدث في الدين على خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من عقيدة أو عمل»( ).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله عند كلامه عن البدعة المنصوص على ضلالتها من الشارع، وقد ذكر جملة أوصاف أنقل منها ما يتلاءم مع التعريف:
«كل أمر يتقرب إلى الله به، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل أمر لا يمكن أن يشرع إلا بنص أو توقيف، ولا نص عليه فهو بدعة، إلا ما كان عن صحابي، وكل ما ألصق بالعبادة من عادات الكفار وما نص على استحبابه بعض العلماء سيما المتأخرين منهم ولا دليل عليه، وكل عبادة لم تأت كيفيتها إلا في حديث ضعيف أو موضوع، وكل عبادة أطلقها الشارع وقيَّدها الناس ببعض القيود، مثل المكان أو الزمان أو صفة أو عدد»( ).
وقال الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي رحمه الله: «والبدعة شرعًا: هي التي أحدثت بعد الرسول على سبيل التقرب إلى الله، ولم يكن قد فعلها الرسول ولا أمر بها ولا أقرها ولا فعلتها الصحابة»( ).
ومن أجمع التعريفات وأحسن الضوابط للبدعة ما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله( ) حيث قال: «البدعة: عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه»، قال: «وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: البدعة: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية».
فقوله: «طريقة في الدين»: الطريقة والطريق بمعنى واحد: وهو ما رسم للسلوك عليه، وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها، وأيضًا فلو كانت مخترعة في الدنيا لم تُسَمَّ بدعة؛ كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.
وقوله: «مخترعة»: وهذا هو المقصود بالتعريف؛ لأن الطرائق في الدين منها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها، وهذه هي التي تدخل في البدعة، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين؛ كعلم النحو ومفردات اللغة وأصول الفقه وسائر العلوم الخادمة، فإنها وإن لم تكن موجودة في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع.
وقوله: «تضاهي الشرعية»: أي: تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك؛ بل هي مضادة لها من أوجه متعددة، كالتزام كيفيات وهيئات معينة دون إذن من الشارع بذلك.
وقوله: «يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى»: وهذا يخرج البدعة اللغوية الغير مذمومة؛ كالمخترعات الحديثة ونحوها مما لا يقصد به التعبد لله تعالى وليس فيه محذور.
ومن بيان التعريف الأول يتضح معنى التعريف الثاني الذي ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله إلا قوله: «يقصد بالطريقة الشرعية» ومعناه: أن الشريعة جاءت لمصالح العباد في عاجلهم وآجلهم، ليحصلوا الدارين على أكمل وجوهها، وهذا هو الذي يقصده المبتدع ببدعته؛ لأن البدعة إن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه، ليفوز بأتم المراتب في الآخرة، وإن تعلقت بالعادات فكذلك؛ لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها( ).
خطر البدعة والتحذير منها:
عقد الإمام الشاطبي رحمه الله بابًا في كتابه (الاعتصام) في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها، بين فيه خطر البدع وذمها من النقل والعقل.
أما النقل فمن وجوه:
أحدها: ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع في دين الله في الجملة:
* فمن ذلك قول الله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [آل عمران:7].
فهذه الآية من أعظم الشواهد، وقد جاء في الحديث تفسيرها:
فصح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)) [آل عمران:7] قال: (فإذا رأيتهم فاعرفيهم).
وصح عنها أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ)) [آل عمران:7] إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذي سمى الله؛ فاحذروهم)( ).
وجاء عن أبي غالب واسمه حزور( )؛ قال: (كنت بالشام، فبعث المهلب سبعين رأسًا من الخوارج، فنصبوا على درج دمشق، فكنت على ظهر بيت لي، فمر أبو أمامة، فنزلت فاتبعته، فلما وقف عليهم؛ دمعت عيناه، وقال: سبحان الله! ما يصنع الشيطان ببني آدم -قالها ثلاثًا- كلاب جهنم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء -ثلاث مرات- خير قتلى من قتلوه، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه.
ثم التفت إليَّ، فقال: أبا غالب! إنك بأرض هم بها كثير، فأعاذك الله منهم.
قلت: رأيتك بكيت حين رأيتهم؟!
قال: بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام!( ) هل تقرأ سورة آل عمران؟
قلت: نعم.. فقرأ: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)) [آل عمران:7] حتى بلغ: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)) [آل عمران:7]، وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ فزيغ بهم.
ثم قرأ: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)) [آل عمران:105] إلى قوله: ((فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [آل عمران:107].
قلت: هم هؤلاء يا أبا أمامة؟
قال: نعم.
قلت: من قِبَلِك تقول أو شيء سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال: إني إذًا لجريءٌ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا مرة، ولا مرتين.. حتى عد سبعًا.
ثم قال: إن بني إسرائيل تفرَّقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة تزيد عليها فرقة؛ كلها في النار، إلا السواد الأعظم.
قلت: يا أبا أمامة! ألا ترى ما فعلوا؟
قال: ((عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)) [النور:54]).
فقد ظهر بهذا التفسير أنهم من أهل البدع، لأن أبا أمامة رضي الله عنه جعل الخوارج داخلين في عموم الآية، وأنها تتنزل عليهم.
* ومن الآيات: قوله تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [الأنعام:153].
فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة، والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم، وهم أهل البدع، ليس المراد سبل المعاصي؛ لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقًا تسلك دائمًا على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات.
ويدل على هذا ما روى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال:
(خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطًا طويلًا، وخط عن يمينه وعن يساره، فقال: هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطًا عن يمينه ويساره، وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه.. ثم تلا هذه الآية: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)) [الأنعام:153] يعني:الخطوط ((فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) [الأنعام:153]).
قال بكر بن العلاء: «أحسبه أراد شيطانًا من الإنس، وهي البدع، والله أعلم».
* ومن الآيات: قول الله تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)) [النحل:9].
عن التستري( ): «((قَصْدُ السَّبِيلِ)) [النحل:9] طريق السنة، ((وَمِنْهَا جَائِرٌ)) [النحل:9] يعني: إلى النار، وذلك الملل والبدع».
* ومنها: قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) [الأنعام:159].
قال ابن عطية( ): «وهذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد».
* ومنها: قوله تعالى: ((وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)) [الروم:31] قُرئ: (فارقوا دينهم).
وفُسِّر عن أبي هريرة أنهم الخوارج، ورواه أبو أمامة مرفوعًا. وقيل: هم أصحاب الأهواء والبدع.
وجاء عن سفيان بن عيينة( ) وأبي قلابة( ) وغيرهما أنهم قالوا: «كل صاحب بدعة أو فرية ذليل»، واستدلوا بقول الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)) [الأعراف:152].
قال ابن عون( ): «وكان ابن سيرين يرى أن هذه الآية في أصحاب الأهواء: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)) [الأنعام:68]»( ).
الوجه الثاني من النقل: ما جاء في الأحاديث المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- فمن ذلك: ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)( ).
- وفي رواية لمسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)( ).
- وخرَّج مسلم عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)( ).
- وفي رواية: قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس؛ يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة)( ).
- وفي رواية للنسائي: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)( ).
- وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)( ).
- وروى الترمذي أيضًا وصححه، وأبو داود، وغيرهما عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة؛ ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذا موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)( ).
- وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! هل بعد هذا الخير شر؟
قال: نعم.
فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟
قال: نعم؛ وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟
قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.
فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: نعم؛ دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.
فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا.
قال: نعم؛ هم قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.
قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟
قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت: فإن لم تكن لهم إمام ولا جماعة؟
قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)( ).
- وفي حديث الصحيفة: (المدينة حرمٌ ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدِثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبلُ الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا)( ).
وهذا الحديث في سياق العموم، فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع، والبدع من أقبح الحدث، وهو وإن كان مختصًا بالمدينة؛ فغيرها أيضًا يدخل في المعنى( ).
- وفي (الموطأ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة، فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون... الحديث. إلى أن قال فيه: (فليُذادنَّ رجالٌ عن حوضي كما يُذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلمَّ، ألا هلمَّ، ألا هلمَّ. فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول: فسحقًا فسحقًا فسحقًا)( ).
حمله جماعة من العلماء على أنهم المخالفون لأهل السنة والجماعة، وحمله آخرون على المرتدين عن الإسلام.
- والذي يدل على الأول ما خرجه خيثمة بن سليمان( ) عن يزيد الرقاشي( ) قال: سألت أنس بن مالك، فقلت: إن هاهنا قومًا يشهدون علينا بالكفر والشرك، ويكذبون بالحوض والشفاعة، فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئًا؟
قال: نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بين العبد والكفر –أو الشرك- ترك الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك، وحوضي كما بين أيلة إلى مكة، أباريقه كنجوم السماء –أو قال: كعدد نجوم السماء- له ميزابان من الجنة، كلما نضب أمداه، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، وسيرده أقوام ذابلة شفاههم، فلا يطعمون منه قطرة واحدة، من كذب به اليوم؛ لم يُصِب منه الشراب يومئذ»( ).
- وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور -وفي رواية: فيه الهدى- من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلَّ). وفي رواية: (من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة)( ).
- وخرَّج الطحاوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل عابد شِرَّةً، ولكل شرِّةٍ فترة، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كان فترته إلى غير ذلك فقد هلك)( ).
الوجه الثالث من النقل: ما جاء عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في ذم المخالفين لأهل السنة والجماعة، وهو كثير:
فمما جاء عن الصحابة:
- ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه خطب الناس فقال: (أيها الناس! قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينًا وشمالًا).
وصفق بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: (إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم؛ أن يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا...)( ) إلى آخر الحديث.
- وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: (يا معشر القراء! استقيموا، فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، وإن أخذتم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا)( ).
- وعنه أيضًا: (أخوف ما أخاف على الناس اثنتان: أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون، وأن يضلوا وهم لا يشعرون)( ).
قال سفيان: (وهو صاحب البدعة).
- وأيضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)( ).
- وخرج عنه ابن وهب أيضًا أنه قال: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه بذهاب أهله، عليكم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقوامًا يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق)( ).
- وعنه أيضًا: (القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة)( ).
- وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: (لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به؛ إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ)( ).
- وعن ابن عمر: (صلاة السفر ركعتان، من خالف السنة كفر)( ).
- وعن ابن عباس أنه قال: (عليكم بالاستفاضة( ) والأثر، وإياكم والبدع).
- وخرج ابن وهب عنه أيضًا قال: (من أحدث رأيًا في كتاب الله، ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل)( ).
ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي الله عنهم:
- ما ذكر ابن وضاح عن الحسن قال: (صاحب البدعة لا يزداد اجتهادًا -صيامًا وصلاة- إلا ازداد من الله بعدًا)( ).
- وخرج ابن وهب عن إدريس الخولاني أنه قال: (لأن أرى في المسجد نارًا لا أستطيع إطفاءها، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها)( ).
- وعن الفضيل بن عياض: (اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين)( ).
- وعن عمرو بن قيس: (لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك)( ).
- وعن أبي قلابة: (لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون)( ).
- وذكر الآجري أن ابن سيرين كان يرى أسرع الناس ردة أهل الأهواء( ).
- وعن إبراهيم: (ولا تكلموهم؛ إني أخاف أن ترتد قلوبكم).
- وعن هشام بن حسان قال: (لا يقبل الله من صاحب البدعة صيامًا، ولا صلاةً، ولا حجًا، ولا جهادًا، ولا عمرةً، ولا صدقةً، ولا عتقًا، ولا صرفًا، ولا عدلًا).
- وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (كان يكتب في كتبه: إني أحذركم ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيدة).
- ومن كلامه الذي عني به وبحفظه العلماء وكان يعجب مالكًا جدًا، وهو أن قال: (سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده( ) سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من عمل بها مهتدٍ، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا)( )( ).
لكن هذه الآثار في النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء؛ إنما هي لمن خشي التأثر بهم، أو كان مأخذه غير دعوتهم أو الإنكار عليهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.. وسيأتي في فصل "فتاوى بعض أهل العلم في دعوة المخالفين" بيان هذه المسألة المهمة( ).
وأما الوجه الآخر فهو النظر والعقل:
قال الإمام الشاطبي رحمه الله -وهو أحسن من تكلم في شأن البدعة-:
أما النظر فمن وجوه:
أحدها: أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غير مستقلة بمصالحها؛ استجلابًا لها، أو مفاسدها؛ استدفاعًا لها.
والثاني: أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان؛ لأن الله تعالى قال فيها: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)) [المائدة:3].
فإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وإنه بقي منها أشياء يجب أن يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه؛ لم يبتدع، ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون( ): سمعت مالكًا يقول: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا).
والثالث: أن المبتدع معاند للشرع، ومشاق له؛ لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقًا خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، وأن الشر في تعديها... إلى غير ذلك؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فالمبتدع راد لهذا كله؛ فإنه يزعم أن ثم طرقًا أخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضًا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع، وهذا إن كان مقصودًا للمبتدع؛ فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين.
والرابع: أن المبتدع قد نزّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع، وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون، وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق؛ لم تنزل الشرائع، ولم يبق الخلاف بين الناس، ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام.
فهذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرًا ومضاهيًا للشارع، حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف بابًا، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع، وكفى بذلك.
والخامس: أنه اتباع للهوى؛ لأن العقل إذا لم يكن متبعًا للشرع؛ لم يبق له إلا الهوى والشهوة، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين».
وقال أيضًا:
«الوجه السادس: يذكر فيه بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة والمعاني المذمومة، وأنواع الشؤم:
وهو كالشرح لما تقدم أولًا، وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم في أثناء الأدلة.
فاعلموا أن البدعة لا يقبل معها عبادة، من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات، ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة، ويوكل إلى نفسه، والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام -فما الظن بصاحبها؟-، وهو ملعون على لسان الشريعة، ويزداد من الله بعبادته بعدًا، وهي مظنة إلقاء العداوة والبغضاء، ومانعة من الشفاعة المحمدية، ورافعة للسنن التي تقابلها، وعلى مبتدعها إثم من عمل بها، وليس له من توبة، وتلقى عليه الذلة والغضب من الله، ويبعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخاف عليه أن يكون معدودًا في الكفار الخارجين عن الملة، وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا، ويسود وجهه في الآخرة، ويعذب بنار جهنم، وقد تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه المسلمون، ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة»( ).
وقد فصَّل رحمه الله هذه النقاط بكلام جيد طويل.
الفصل الثالث
أنواع البدعة وأحوال أهلها
قال ابن تيمية رحمه الله:
«إن البدعة التي يعد الرجل بها من أهل الأهواء: ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة؛ كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة».
أنواع البدعة وأحوال أهلها
البدع ليست على مرتبة واحدة، فمنها البدعة الكفرية المخرجة من الملة، ومنها البدعة التي لا تخرج من الملة، ولكن صاحبها على خطر، ومنها البدعة العلمية، ومنها البدعة الاعتقادية، ومنها البدعة الحقيقية، ومنها البدعة الإضافية.
وهكذا تختلف مراتب البدع وتتفاوت، واختلاف مراتب البدع هو باختلاف متعلقاتها، وهذه المتعلقات تنحصر في:
1- مسائل الأصول ومسائل الاجتهاد.
2- القواعد والأصول الاعتقادية والعملية، والفروع الاعتقادية والعملية.
3- الضروريات والحاجيات والتكميليات.
4- الكليات والجزئيات.
5- البدع الحقيقية والإضافية.
6- البدع التي يظهر مأخذها والتي يشكل مأخذها( ).
وباختلاف هذه المتعلقات تختلف مرتبة البدعة، وتختلف طريقة التعامل مع الواقع في البدعة والحكم عليه، ولا بد من مراعاة هذه الفروق والاختلافات والمراتب.
ومن خلال هذه المتعلقات يمكن تقسيم البدع إلى: صغرى وكبرى، ويرجع ما سبق إلى كونه إما أن يكون بدعة صغرى أو بدعة كبرى.
وقد قرر الشاطبي رحمه الله انقسام البدع إلى بدعة كبيرة وصغيرة، بتقرير ماتع من وجوه.
فقال:
«ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة، نخرج عنها الثلاثة -يقصد الوجوب والاستحباب والإباحة- فيبقى حكم الكراهية وحكم التحريم، فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين: فمنها بدعة محرمة، ومنها بدعة مكروهة، وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات، لا تعدو الكراهة والتحريم، فالبدع كذلك، هذا وجه.
ووجه ثان: أن البدع إذا تؤمل معقولها؛ وجدت رتبها متفاوتة:
- فمنها ما هو كفر صراح؛ كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن؛ كقوله تعالى: ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا)) [الأنعام:136]، وقوله تعالى: ((وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ)) [الأنعام:139]، وقوله تعالى: ((مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ)) [المائدة:103]، وكذلك بدعة المنافقين، حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال، وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح.
- ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر، أو يختلف: هل هي كفر أم لا؟ كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة.
- ومنها ما هو معصية، ويتفق عليها، ليست بكفر؛ كبدعة التبتل، والصيام قائمًا في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع.
- ومنها ما هو مكروه، كما يقول مالك في إتباع رمضان بست من شوال، وقراءة القرآن بالإدارة، والاجتماع للدعاء عشية عرفة، وذكر السلاطين في خطبة الجمعة -على ما قاله ابن عبد السلام الشافعي...- وما أشبه ذلك.
فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة.
ووجه ثالث: أن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات، فإن كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر، وإن وقعت في التحسينيات فهي أدنى رتبة بلا إشكال، وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين.
ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمِّل، ولا يمكن في المكمِّل أن يكون في رتبة المكمَّل؛ فإن المكمِّل مع المكمَّل في نسبة الوسيلة مع المقصد، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد؛ فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والمخالفات.
وأيضًا: فإن الضروريات إذا تؤملت؛ وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه:
فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين، ولذلك تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين، فيبيح الكفر الدم، والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين.
ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس، ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص، فالقتل بخلاف العقل والمال.. وكذلك سائر ما بقي.
وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب، فليس قطع العضو كالذبح، ولا الخدش كقطع العضو.
وإذا كان كذلك؛ فالبدع من جملة المعاصي، وقد ثبت التفاوت في المعاصي، فكذلك يتصور مثله في البدع، فمنها ما يقع في الضروريات، أي: أنه إخلال بها، ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات، ومنها ما يقع في رتبة التحسينيات»( ).
وقال أيضًا في وجه آخر:
«أن البدع تنقسم إلى: ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية، ومعنى ذلك: أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليًا في الشريعة؛ كبدعة التحسين والتقبيح العقليين، وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارًا على القرآن، وبدعة الخوارج في قولهم: لا حكم إلا الله... وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعًا من فروع الشريعة دون فرع؛ بل تجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية، أو يكون الخلل الواقع جزئيًا، إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض؛ كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك: التثويب ضلال، وبدعة الأذان والإقامة في العيدين، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين... وما أشبه ذلك، فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلًا لها.
فالقسم الأول إذا عُدَّ من الكبائر؛ اتضح مغزاه، وأمكن أن يكون منحصرًا داخلًا تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة، ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة مخصوصًا به لا عامًا فيه وفي غيره، ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد، فلا قطع على أن جميعها من واحد، وقد ظهر وجه انقسامها»( ).
وقال أيضًا:
«غير أن الكلية والجزئية قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية، كما أن التأويل قد يقرب مأخذه وقد يبعد، فيقع الإشكال في كثير من أمثلة هذا الفصل، فيعد كبيرة ما هو من الصغائر، والعكس، فيوكل النظر فيه إلى الاجتهاد»( ).
وقد اشترط الشاطبي شروطًا لكون البدعة صغيرة، إذا انتفى شرط منها صارت هذه البدعة كبيرة؛ فقال رحمه الله:
«وإذا قلنا: إن من البدع ما يكون صغيرة، فذلك بشروط:
أحدها: أن لا يداوم عليها؛ فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه؛ لأن ذلك ناشئ على الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، ولذلك قالوا: (لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار)( )، فكذلك البدعة من غير فرق...
والشرط الثاني: أن لا يدعو إليها؛ فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة، ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها، فيكون إثم ذلك كله عليه؛ فإنه الذي أثارها وسبب كثرة وقوعها والعمل بها؛ فإن الحديث الصحيح قد أثبت أن كل من سن سنة سيئة؛ كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا، والصغيرة مع الكبيرة إنما تفاوتها بحسب كثرة الإثم وقلته، فربما تساوي الصغيرة من هذه الوجه الكبيرة أو تربي عليها.
والشرط الثالث: أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس، أو المواضع التي تقام فيها السنن وتظهر فيها أعلام الشريعة.
فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدي به أو ممن به الظن؛ فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام.
والشرط الرابع: أن لا يستصغرها ولا يستحقرها وإن فرضناها صغيرة؛ فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب»( ).
إلا أن الذي يظهر من كلامه رحمه الله أن هذه الشروط متعلقة بحجم الإثم الذي يلحق صاحب البدعة، وليس الكلام عن حجم هذه البدعة في نفسها.
والحكم على صاحب البدعة يكون بحسب نوع البدعة الواقع فيها ومرتبتها، مع النظر إلى حال هذا الشخص وما عرض له من شبهة أو تأويل، وكذلك درجته ومرتبته في العلم والسنة.. إلى اعتبارات أخرى ينبغي مراعاتها عند الحكم على الواقع في البدعة.
متى يكون الرجل -أو الطائفة- مفارقًا لأهل السنة:
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء: ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، فإن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا: أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة»( ).
وقال الشاطبي:
«وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات؛ إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعًا، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية؛ لأن الكليات نص من الجزئيات غير قليل، وشأنها في الغالب أن لا تختص بمحل دون محل، ولا بباب دون باب.
وأما الجزئي فبخلاف ذلك، بل يعد وقوع ذلك من المبتدع له؛ كالزلة والفلتة، وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين، حيث قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مضلون). ولكن إذا قرب موقع الزلة؛ لم يحصل بسببها تفرق في الغالب، ولا هدم للدين، بخلاف الكليات»( ).
وقال شيخ الإسلام:
«ومما ينبغي أيضًا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.. إلى أن قال: ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولًا يفارقون به جماعة المسلمين يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك.. إلى أن قال: بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه، وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتل مخالفه دون موافقه؛ فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات، ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع الخوارج المارقون...»( ).
رواية المخالف وحكم قبولها:
ومما يلحق هذا مسألة رواية المخالف، فإن كثيرًا من العلماء يفرقون في هذه المسألة بين المخالفين باعتبار بدعتهم، وباعتبار نشاطهم وتحمسهم لهذه البدعة، فيفرقون بين صاحب البدعة المكفرة وصاحب البدعة المفسقة، وبين الداعية للبدعة وغير الداعية.
قال الإمام النووي: «قال العلماء من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: المبتدع الذي يكفر ببدعته لا تقبل روايته بالاتفاق»( ).
وقال المعلمي( ): «لا شبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام لم تقبل روايته؛ لأن من شرط قبول الرواية الإسلام»( ).
ثم لو كانت البدعة غير مكفرة فينظر فيها؛ فيفرق بين البدعة الصغرى والبدعة الكبرى، ويفرق كذلك بين من أوقعته بدعته في استحلال الكذب، وبين من كانت بدعته بعيدة عن استحلال الكذب.
قال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي الشيعي: «أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته.
وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي وقال: كان غاليًا في التشيع. وقال السعدي: زائغ مجاهر.
فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحدُّ الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلًا من هو صاحب بدعة؟
وجوابه: أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى؛ كغلو التشيع( ) أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.
ثم بدعة كبرى؛ كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، وأيضًا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلًا صادقًا ولا مأمونًا؛ بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذه حاله؟! حاشا وكلا.
فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم، هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية، وطائفة ممن حارب عليًا رضي الله عنه، وتعرض لسبهم، والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضًا، فهذا ضال معثَّر، ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلًا، بل قد يعتقد عليًا أفضل منهما»( ).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: «وذهبت طائفة من أهل العلم إلى قبول أخبار أهل الأهواء الذين لا يعرف منهم استحلال الكذب، والشهادة لمن وافقهم بما ليس عندهم فيه شهادة»( ).
وقال النووي رحمه الله: «ومن لم يكفر قيل: لا يحتج به مطلقًا، وقيل: يحتج به إن لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه»( ).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: «ورد شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء»( ).
وقال رحمه الله: «العلماء كلهم متفقون على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر طوائف أهل القبلة...
حتى إن أصحاب الصحيح كالبخاري لم يرو عن أحد من قدماء الشيعة، مثل عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، وعبد الله بن سلمة، وأمثالهم، مع أن هؤلاء من خيار الشيعة، وإنما يروى عن أصحاب الصحيح حديث علي عن أهل بيته؛ كالحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد الله بن أبي رافع، أو عن أصحاب عبد الله بن مسعود؛ كعبيدة السلماني، والحارث بن قيس، أو عمن يشبه هؤلاء. وهؤلاء أئمة النقل ونقاده من أبعد الناس عن الهوى، وأخبرهم بالناس، وأقولهم بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم.
والبدع متنوعة، فالخوارج مع أنهم مارقون يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، واتفق الصحابة وعلماء المسلمين على قتالهم، وصح فيهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه رواها مسلم في صحيحه، روى البخاري ثلاثة منها - ليسوا ممن يتعمد الكذب؛ بل هم معروفون بالصدق، حتى يقال: إن حديثهم من أصح الحديث، لكنهم جهلوا وضلوا في بدعتهم»( ).
وقال ابن حجر ضمن حديثه عن حكم رواية المخالف وأقوال العلماء فيها: «وقيل: يقبل مطلقًا إلا إن اعتقد الكذب»( ).
ويقول السيوطي معلقًا على كلام النووي: «وقيل: يحتج به إن لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه»: «سواء كان داعية أم لا، ولا يقبل إن استحل ذلك»( ).
ويقول المعلمي في حكم رواية المخالف: «...وأنه إن استحل الكذب، فإما أن يكفر بذلك، وإما أن يفسق، فإن عذرناه فمن شرط قبول الرواية الصدق، فلا تقبل روايته»( ).
فإن كان المخالف خارجًا عن الأصناف السابقة -أي: لم يكن من أصحاب البدع المكفرة الكبرى، ولم يكن ممن يستحل الكذب- فقد وقع خلاف بين العلماء في قبول روايته وعدمه.
قال ابن الصلاح رحمه الله: «اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفر في بدعته: فمنهم من رد روايته لأنه فاسق ببدعته، وكما استوى في الكفر المتأول وغير المتأول، يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول، ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه، سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن، وعزا بعضهم هذا إلى الشافعي لقوله: «أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم».
وقال قوم: تقبل روايته إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولا تقبل إذا كان داعية. وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء. وحكى بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه خلافًا بين أصحابه في قبول رواية المبتدع إذا لم يدع إلى بدعته، وقال: أما إذا كان داعية فلا خلاف بينهم في عدم قبول روايته.
وقال أبو حاتم بن حبان البُستي أحد المصنفين من أئمة الحديث: «الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبةً، لا أعلم بينهم فيه خلافًا».
وهذا المذهب الثالث أعْدَلُها وأوْلاها، والأول بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة. وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول. والله أعلم»( ).
فالتفريق بين الداعية وغير الداعية هو قول الأكثر كما تقدم؛ بل نقل ابن حبان الإجماع على هذا القول، وإن كانت دعوى الإجماع غير صحيحة.
وممن نقل عنه هذا القول عبد الله بن المبارك رحمه الله، على ما روى الخطيب بسنده إلى علي بن الحسن بن شقيق قال: «قلت لعبد الله بن المبارك: سمعت من عمرو بن عبيد؟ فقال بيده هكذا، أي كثرة، قلت: فلم لا تسميه وأنت تسمي غيره من القدرية؟ قال: لأن هذا كان رأسًا»( ).
وهذا القول يروى عن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله، فقد روى الخطيب عنه أنه قال: «من رأى رأيًا ولم يدع إليه احتمل، ومن رأى رأيًا ودعا إليه فقد استحق الترك»( ). وروى البيهقي عنه أنه قال: «يكتب العلم عن أصحاب الأهواء وتجوز شهادتهم ما لم يدعوا، فإذا دعوا إليه لم يكتب عنهم، ولم تجز شهادتهم»( ).
وممن قال بهذا القول الإمام أحمد رحمه الله: روى الخطيب بسنده إلى أبي داود سليمان بن الأشعث قال: قلت لأحمد بن حنبل: «يكتب عن القدري؟ قال: إذا لم يكن داعيًا»( ).
وفي طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى عن جعفر بن محمد قال: قلت: «يا أبا عبد الله! تحدث عن أبي معاوية وهو مرجئ؟ قال: لم يكن داعية»( ).
قال البغوي: «سئل أحمد بن حنبل: يكتب عن المرجئي والقدري وغيرهما من أهل الأهواء؟ قال: نعم. إذا لم يكن يدعو إليه، ويكثر الكلام فيه، فأما إذا كان داعيًا فلا»( ).
وروي هذا القول عن الإمام مالك رحمه الله على ما روى ابن عبد البر عنه أنه قال: «لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه معلن السفه، وصاحب هوى يدعو إليه، ورجل معروف بالكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجل له فضل وصلاح لا يعرف ما يحدث به»( ).
قال ابن عبد البر رحمه الله: «وقد ذكرنا هذا الخبر عن مالك من طرق في كتاب التمهيد».
وقد عزا الخطيب إلى الإمام مالك القول برد رواية المخالف مطلقًا على ما تقدم، والقول برد رواية المخالف الداعية دون من لم يكن داعية هو المشهور عنه عند المحققين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه، بخلاف الساكت»( ).
وقال العلامة عبد الرحمن المعلمي: «فأما غير الداعية فقد مر نقل الإجماع على أنه كالسني؛ إذا ثبتت عدالته قبلت روايته، وثبت عن مالك ما يوافق ذلك، وقيل عن مالك: إنه لا يروى عنه أيضًا، والعمل على الأول»( ).
قال البغوي في شرح السنة:
«وكذلك اختلفوا في رواية المبتدعة وأهل الأهواء، فقبلها أكثر أهل الحديث، إذا كانوا فيها صادقين، فقد حدث محمد بن إسماعيل عن عباد بن يعقوب الرواجني، وكان محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: حدثنا الصدوق في روايته المتهم في دينه عباد بن يعقوب!!
واحتج أيضًا البخاري في الصحيح بمحمد بن زياد الألهاني، وحزيز بن عثمان الرحبي، وقد اشتهر عنهما النصب، واتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بأبي معاوية محمد بن خازم الضرير، وعبيد الله بن موسى، وقد اشتهر عنهما الغلو.
وأما مالك بن أنس فيقول: لا يؤخذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في حديث الناس، وإن كنت لا تتهمه بأن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. ذكر هذا الاختلاف في قبول رواية هؤلاء الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه.
وسئل أحمد بن حنبل: يكتب عن المرجئ والقدري وغيرهما من أهل الأهواء؟ قال: نعم. إذا لم يكن يدعو إليه، ويكثر الكلام فيه، فأما إذا كان داعيًا فلا»( ).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: «ولهذا لم يكن في كتبهم الأمهات، كالصحاح والسنن والمسانيد، الرواية عن المشهورين بالدعاء إلى البدع، وإن كان فيها الرواية عمن فيه نوع من بدعة، كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية؛ وذلك لأنهم لم يدعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم، ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه بخلاف من أخفاها وكتمها، وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته، ومن هجره أن لا يؤخذ عنه العلم ولا يستشهد»( ).
وكذلك أيضًا مما يتفرع عن اختلاف البدع ومراتبها: باب العقوبات والتعزيرات للمخالفين لأهل السنة والجماعة، فقد جاءت آثار كثيرة عن السلف في عقوبة المخالفين بعقوبات مختلفة؛ من حبس وضرب وجلد ونفي وتغريب وإهانة وهجر.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في القدرية: (لو رأيت أحدهم لأخذت بشعره)( ) وقال: (لو رأيت أحدهم عضضت أنفه)( ).
وقيل لنافع: (إن هذا الرجل يتكلم في القدر.. فأخذ كفًا من حصى فضرب بها وجهه)( ).
ويروى عن سالم بن عبد الله رحمه الله أنه فعل ذلك برجل جاءه فقال له: (رجل زنى، فقال سالم: يستغفر الله ويتوب إليه، فقال الرجل: الله قدّره عليه؟ فقال سالم: نعم. ثم أخذ قبضة من الحصى فضرب بها وجه الرجل، وقال: قم)( ).
وعن مالك بن أنس رحمه الله قال: «القرآن كلام الله عز وجل. وكان يقول: من قال: القرآن مخلوق، يوجع ضربًا ويحبس حتى يموت»( ).
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: «سألت أبي عن رجل ابتدع بدعة يدعو إليها، وله دعاة عليها، هل ترى أن يحبس؟ قال: نعم. أرى أن يحبس وتكف بدعته عن المسلمين»( ).
وجاء عن أبي الحسن اللخمي رحمه الله -من أئمة المالكية- أنه سئل عن قوم من الإباضية سكنوا بين أظهر المسلمين وبنوا مسجدًا يجتمعون فيه بحلق ويظهرون مذهبهم، فأجاب: «إذا أظهر هؤلاء القوم الذين ذكرت مذهبهم، وأعلنوه، وابتنوا مسجدًا يجتمعون فيه وصلوا العيد بناحية عن المسلمين بجماعة: فهذا باب عظيم يخشى منه أن تشتد وطأتهم، ويفسدوا على الناس دينهم، ويميل الجهلة ومن لا تمييز عنده إليهم، فوجب على من بسط الله قدرته أن يستتيبهم مما هم عليه، فإن لم يرجعوا ضربوا وسجنوا، ويبالغ في ضربهم، فإن أقاموا على ما هم عليه فقد اختلف في قتلهم، وأما هدم المسجد الذي بنوه فحق، وجميع ما يتألفون فيه كذلك...»( ).
وفي المقابل هناك آثار أخرى عن السلف تختلف عما ذكر..
قال أبو داود: قلت لأحمد: «لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء، فنكتب إلى خراسان نقرئهم السلام؟ قال: سبحان الله لماذا لا تقرئهم؟».
وفي رواية قال: قلت لأحمد: «نكلمهم؟ قال: نعم. إلا أن يكون داعيًا ويخاصم فيه»( ).
بل وجاء عن الإمام أحمد رحمه الله كما بوب ابن مفلح الحنبلي رحمه الله في كتابه الماتع الآداب الشرعية فقال: «فصل في حظر حبس أهل البدع لبدعتهم: قال المروذي: سألت أبا عبد الله عن قوم من أهل البدع يتعرضون ويكفرون؟ قال: لا تتعرضوا لهم، قلت: وأي شيء تكره من أن يحبسوا؟ قال: لهم والدات وأخوات!
قلت: فإنهم قد حبسوا رجلًا وظلموه، وقد سألوني أن أتكلم في أمره حتى يخرج، فقال: إن كان يحبس منهم أحد فلا، ثم قال أبو عبد الله: هذا جارنا حبس ذلك الرجل فمات في السجن، وأظن أنه قال غير مرة: كيف حكى أبو بكر بن خلاد؟ فقلت له: قال: كنت عند ابن عيينة قاعدًا فجاء الفضيل فقال: لا تجالسوه -يعني لابن عيينة- تحبس رجلًا في السجن؟ ما يؤمنك أن يقع السجن عليه؟ قم فأخرجه، فعجب أبو عبد الله وجعل يستحسنه»( ).
وهذا الاختلاف في مواقف السلف تجاه المخالفين من جهة عقوبتهم والتنكيل بهم، يرجع إلى اختلاف البدع واختلاف أحوال أصحابها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن ذكر بعض عقوبات المخالفين: «وإذا عُرف أن هذا هو من باب العقوبات الشرعية؛ عُلم أنه يختلف باختلاف الأحوال؛ من قلة البدعة وكثرتها، وظهور السنة وخفائها، وأن المشروع قد يكون هو التأليف تارة والهجران أخرى. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقوامًا من المشركين ممن هو حديث عهد بالإسلام، ومن يخاف عليه الفتنة، فيعطي المؤلفة قلوبهم ما لا يعطي غيرهم.
قال في الحديث الصحيح: (إني أعطي رجالًا وأدع رجالًا، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، أعطي رجالًا لما جعل الله في قلوبهم من الهلع والجزع، وأدع رجالًا لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب)( ).
وقال: (إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكبه الله على وجهه في النار)( ) أو كما قال.
وكان يهجر بعض المؤمنين، كما هجر الثلاثة الذي خلفوا في غزوة تبوك؛ لأن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، فيستعمل الرغبة حيث تكون أصلح، والرهبة حيث تكون أصلح.
ومن عرف هذا تبين له أن من رد الشهادة والرواية مطلقًا من المخالفين لأهل السنة والجماعة المتأولين فقوله ضعيف، فإن السلف قد دخلوا بالتأويل في أنواع عظيمة، ومن جعل المظهرين للبدعة أئمة في العلم والشهادة لا ينكر عليهم بهجر ولا ردع، فقوله ضعيف أيضًا، وكذلك من صلى خلف المظهر للبدع والفجور من غير إنكار عليه ولا استبدال به من هو خير منه مع القدرة على ذلك، فقوله ضعيف، وهذا يستلزم إقرار المنكر الذي يبغضه الله ورسوله مع القدرة على إنكاره، وهذا لا يجوز، ومن أوجب الإعادة على كل من صلى خلف كل ذي فجور وبدعة فقوله ضعيف، فإن السلف والأئمة من الصحابة والتابعين صلوا خلف هؤلاء وهؤلاء لما كانوا ولاة عليهم، ولهذا كان من أصول أهل السنة: أن الصلوات التي يقيمها ولاة الأمور تصلى خلفهم على أي حالة كانوا، كما يحج معهم ويغزى معهم»( ).
هجر المخالف:
ومما يتعلق بهذا الباب قضية مهمة لا بد من معرفة القول الفصل فيها، خصوصًا في هذه الأزمان، وهي: قضية الهجر، وهو: الإعراض عن المخالف وعدم مجالسته وترك مكالمته وعدم السلام عليه وترك الدخول عليه، وهذه القضية قضية لا بد من معرفة المقاصد الشرعية لها؛ حتى يمكن التعامل معها بالطريقة الصحيحة.
مشروعية الهجر:
الهجر أمر مشروع عند الحاجة إليه (قد يستحب وقد يجب)، والأدلة على مشروعية الهجر عند الحاجة إليه كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.
أولًا: من القرآن:
1) قول الله تعالى: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68]، ففي هذه الآية دلالة على تحريم مجالسة أهل البدع والأهواء وأهل الكبائر والمعاصي.
قال القرطبي رحمه الله: «في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج، وأتباعهم، لهم أن يخالطوا الفاسقين، ويصوبوا آراءهم تقية، وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله: قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمنًا كان أو كافرًا، قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو، وكنائسهم، والبيع ومجالسة الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. ثم ذكر بعض الآثار عن السلف في هجر المبتدعة»( ) اهـ.
2) قوله تعالى: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)) [النساء:140].
قال القرطبي رحمه الله ما محصله:
«فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: ((إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)) [النساء:140]، فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى...
وروى جويبر عن الضحاك قال: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة»( ).
3) قوله تعالى: ((وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ)) [هود:113].
قال القرطبي رحمه الله:
«الصحيح في معنى هذه الآية: أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة، وقد قال حكيم -أي: طرفة بن العبد-:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول فيها في: آل عمران، والمائدة، وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار، والله أعلم»( ).
4) قول الله تعالى: ((لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)) [المجادلة:22].
قال القرطبي رحمه الله:
«استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية، وترك مجالستهم، قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية، وعادهم في الله، لقوله تعالى: ((لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) [المجادلة:22] قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان»( ).
ثانيًا: من السنة النبوية:
1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم)( ).
2) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذي يقولون: لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)( ).
3) حديث الصحيفة المشهور عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين...) الحديث( ).
4) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف: يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)( ).
5) حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [آل عمران:7]. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله؛ فاحذرهم)( ).
6) الأحاديث المتكاثرة في هجر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المعاصي حتى يتوبوا، ثبت ذلك في وقائع متعددة، رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: كعب بن مالك، وابن عمرو روى حديثين، وعائشة، وأنس، وعمار، وعلي، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم رضي الله عنهم.
فقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم لما تخلفوا عن غزاة تبوك، واستمر هجرهم مدة خمسين ليلة، حتى آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله عليهم( ).
وهجر صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها قريبًا من شهرين لما قالت: (أنا أعطي تلك اليهودية) تعني صفية رضي الله عنها( ).
وهجر صلى الله عليه وسلم صاحب القبة المشرفة بالإعراض عنه حتى هدمها( ).
وهجر صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله عنه بتركه صلى الله عليه وسلم رد السلام عليه؛ لملابسته الخلوق حتى غسله( ).
وهجر صلى الله عليه وسلم رجلًا بالإعراض عنه؛ لأنه كان متخلقًا بخلوق( ).
وهجر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا رأى في يده خاتمًا من ذهب حتى طرحه، وكان هجره له بالإعراض عنه( ).
ونحوه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه( ).
وهجر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا بترك رد السلام عليه؛ وذلك لأن عليه ثوبين أحمرين( ).
تطبيق الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم لهذه السنة النبوية:
وقد أخذ الصحابة رضي الله عنهم بالهجر في مواضع.
فهجر عمر رضي الله عنه زياد بن حدير لما رأى عليه طيلسانًا وشاربه عافية، إذ سلم زياد فلم يرد عليه عمر السلام حتى خلع الطيلسان وقص شاربه( ).
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يعتقل أصحاب النرد غدوة ونحوها، وينهى عن السلام عليهم( ).
وهجر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلًا رآه يخذف بعدما أعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الخذف، وقال: (والله لا أكلمك أبدًا)( ).
وهجر عبد الله بن المغفل رضي الله عنه رجلًا يخذف في نحو ذلك، وهجر شيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتىً كان يخذف( ).
وهجر عبادة بن الصامت رضي الله عنه معاوية رضي الله عنه في مخالفته له في مسألة ربوية، وقال عبادة: (أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن رأيك! لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة)، ولما خرج شكاه إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: لا إمرة لك عليه، واحمل الناس على ما قاله؛ فإنه هو الأمر( ).
ونحو هذه الرواية وقعت لأبي الدرداء مع معاوية رضي الله عنهما( ).
وهجر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلًا رآه يضحك في جنازة، فقال: والله لا أكلمك أبدًا( ).
ثالثًا: الإجماع:
حكاه جماعة، منهم: القاضي أبو يعلى، والبغوي، والغزالي.
قال القاضي أبو يعلى رحمه الله:
«هو إجماع الصحابة والتابعين»( ).
وقال البغوي رحمه الله بعد حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: «وفيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه، فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم براءتهم، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم»( ).
وقال الغزالي رحمه الله:
«وطرق السلف قد اختلفت في إظهار البغض مع أهل المعاصي، وكلهم اتفقوا على إظهار البغض للظلمة والمبتدعة، وكل من عصى الله بمعصية متعدية منه إلى غيره»( ).
وقال ابن عبد البر رحمه الله:
«وأجمع على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه؛ فإن كان ذلك فقد رخص له في مجانبته وبعده، ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية»( ).
وقال أيضًا في الاستدلال من حديث كعب بن مالك وهجر النبي صلى الله عليه وسلم له هو والمسلمون:
«وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع الكلام معه، وقد حلف ابن مسعود رضي الله عنه أن لا يكلم رجلًا رآه يضحك في جنازة »( ).
المقاصد الشرعية للهجر:
يمكن تلخيص المقاصد الشرعية للهجر في الآتي:
1- أن الزجر بالهجر عقوبة شرعية للمهجور، فهي من جنس الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وأداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تقربًا إلى الله تعالى بواجب الحب فيه ـ.
2- بعث اليقظة في نفوس المسلمين من الوقوع في هذه البدعة وتحذيرهم.
3- تحجيم انتشار البدعة.
4- قمع المخالف وزجره، ليضعف عن نشر بدعته، فإنه إذا حصلت مقاطعته، والنفرة منه؛ بات كالثعلب في جحره( ).
5- وأيضًا من المقاصد الشرعية: تنبيه المخالف على خطئه؛ ليستشعر مخالفته للمسلمين، فيتوب ويرجع عن بدعته.
ضوابط الهجر الشرعية( ):
مما ينبه عليه في هذا المجال أن هجر المخالف إنما هو من باب القرب والعبادات، ولذا فلا بد من شرطي القبول، وهما:
1- الإخلاص:
وهو ميزان الأعمال في باطنها، فلا بد أن يقصد الهاجر للمخالف النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين، وأن يقصد سد باب البدعة، وزجر صاحبها ليعود إلى السنّة من غير أن يلتبس ذلك بمقاصد أخرى، حيث يدخل حظ النفس والهوى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: (وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرًا غير مأمور به كان خارجًا عن هذا)( ).
2- المتابعة، وهي ميزان الأعمال في ظاهرها.
هجر المخالف له ضوابط تقوم على قاعدة رعاية المصالح ودرء المفاسد، يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله:: «مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد»( ).
وحتى يتحقق السبب الموجب للهجر لا بد من التأكد من عدة أمور:
1- التأكد والتثبت من وجود البدعة، فلا يكفي بالشائع والمنقول عن فلان، بل لا بد من التثبت بسماع قوله أو رؤية فعلته أو كتابته.
2- أن تكون البدعة مما اتفق على بدعيتها، فلا يهجر في المسائل التي اختلفت آراء العلماء في بدعيتها.
3- بلوغ الحجة للمبتدع، وفهمها، وزوال مانع الجهل، وارتفاع الشبهة، وانقشاع الغفلة( ).
ويمكن تلخيص الضوابط الشرعية للهجر في ضابطين:
الأول: مراعاة المصلحة والمفسدة.
الثاني: أن العقوبة تكون على قدر الجرم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المسلك الحق في الهجر: «فإن أقوامًا جعلوا ذلك عامًا، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات.
وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية؛ بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا، فهم بين فعل المنكر أو ترك المنهي عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به، فهذا هذا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه. والله سبحانه أعلم»( ).
ويقول الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني: «سياسة الولاء والبراء لا تستلزم معاداة أي فئة من الفئات الإسلامية، أو أي طائفة من الطوائف الإسلامية، ولكن يجب أن تعامل كل واحدة منها في حدود قربها أو بعدها من العقيدة الصحيحة، أو من التمسك بالإسلام الصحيح ككل، والمعاداة لا تأتي إلا في حالة اليأس من صلاحها وهدايتها، فهنا يأتي ما هو معروف بالبغض في الله، أما ابتداءً فلا ينبغي للمسلم أن يعادي أحدًا من الطوائف الإسلامية ولو كانت مخالفة لعقيدته»( ).
فباعتبار اختلاف مرتبة البدعة من الإثم هو من عدة جهات( ):
من جهة كونها كفرًا أو غير كفر:
فالمكفرة مثل: البابية، والبهائية، والقاديانية، وغير المكفرة مثل عامة البدع في العبادات حقيقية كانت أو إضافية( ).
ومن جهة كون صاحبها مستترًا بها أو معلنًا لها، أظهرها فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم؛ فإنه ليس شرًا من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، هذا وهم في الدرك الأسفل من النار( ).
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فلهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع والداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترًا بمعصيته أو مسرًا لبدعة غير مكفرة فإن هذا لا يهجر، وإنما يهجر الداعي إلى البدعة؛ إذ الهجر نوع من العقوبة وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولًا وعملًا»( ).
ومن جهة كونها حقيقية أو إضافية.
فالبدعة الحقيقية: هي البدعة التعبدية المحدثة استقلالًا كصلاة الرغائب، وليست بدعة إضافية، ومثل صلاة القدر، وصلاة الألفية ليلة النصف من شعبان، وبدع الموالد، والأعياد الحكومية، وعيد غدير خم لدى الشيعة.. وهكذا.
والبدعة الإضافية: هي الأمر المبتدع مضافًا إلى ما هو مشروع أصلًا بزيادة أو نقص.
مثاله: الدعاء الجماعي بعد الصلاة، فالدعاء مشروع، وجعله جماعيًا بدعة مضافة لم يرد بها النص، وبناء العبادات على التوقيف. وسجود الشكر جماعة، واتخاذ التبليغ خلف الإمام سنة راتبة مع عدم الحاجة إليه.. وهكذا.
ومن جهة كونها بينة أو مشكلة:
أي: كونها ظاهرة المأخذ، فهي بدعة متمحضة كبدع المآتم والموالد، وصلاة الرغائب...
أو بدعة فيها احتمال لاشتباه مأخذها، مثاله: القنوت في صلاتي العشاء والصبح، فإنه كان ثم نسخ، وبقي المشروع فيها عند النوازل، وشبهة الخلاف لا تصيره مشروعًا راتبًا.
والحقيقة أن هذا الوجه صوري لا حقيقي؛ إذ البدع مشكلة المأخذ يلحق بها من الإشاعة والتعصب ما يجعلها بينة. والله أعلم( ).
ومن جهة اجتهاده فيها أو كونه مقلدًا:
فالمجتهد: مخترع للبدعة، فالزيغ أمكن في قلبه من المقلد، وإن كان كل منهما موزورًا، لكن إثم من سن سنة سيئة أعظم وزرًا. والله أعلم( ).
ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه:
أما الإصرار عليها فيجعلها من باب الدعوة إليها، فيكون داعية معلنًا لها.
وأما عدم الإصرار فهو من باب كونها فلتة، وزلة عالم، إذا كانت منه ثم لم يعاودها( ).
ويختلف باختلاف حال المخالف وما فيه من خير وشر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير، تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته.
هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة...»( ).
وفرق بين عالم تشربت نفسه بالبدع، لكنه لم يختلط بعلماء أهل السنة، ولم يتلق عنهم، وبين عالم تلقى عن المبتدعة فنالت منه منالًا، ثم خالط أهل السنة وعلماءهم وجاورهم مدة بمثلها يحصل برد اليقين، بل يكون عاشرهم عشرات السنين، ثم هو يبقى على مشاربه البدعية يعملها، ويدعو إليها، ويصر عليها، فهذا قامت عليه الحجة أكثر، واستبانت له المحجة فما أبصر. فهو من أعظم خلق الله فجورًا وغيضًا على أهل السنة. فالأول في تأليف قلبه وتودده للرجوع إلى السنة مجال. أما الثاني فلا والله، بل يتعين هجره، ومنابذته وإبعاده، وإنزال العقوبات الشرعية للمخالفين عليه، وأن يهجر ميتًا كما هجر حيًا، فلا يصلي أهل الخير عليه، ولا يتبعون جنازته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حق بعض العصاة المظهرين لفجورهم:
«وأما إذا أظهر الرجل المنكرات، وجب الإنكار عليه علانيةً، ولم يبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكنًا من ذلك من غير مفسدة راجحة.
وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتًا، كما هجروه حيًا، إذا كان في ذلك كف لأمثاله من المجرمين، فيتركون تشييع جنازته، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على غير واحد من أهل الجرائم، وكما قيل لسمرة بن جندب( ): إن ابنك مات البارحة، فقال: لو مات لم أصل عليه. يعني: لأنه أعان على من قتل نفسه، فيكون كقاتل نفسه، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه. وكذلك هجر الصحابة الثلاثة الذين ظهر ذنبهم في ترك الجهاد الواجب حتى تاب الله عليهم، فإذا أظهر التوبة أظهر له الخير..»( ).
وفرق في حال المهجور بين القوي في الدين وبين الضعيف فيه، فإن القوي يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين، كما في قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم( ).
وكذلك بالنسبة للأماكن:
«ففرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر بالبصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك»( ).
وهذا على ما أفتى به الأئمة أحمد وغيره بناءً على هذا الأصل: رعاية المصالح الشرعية.
«ويختلف باختلاف الهاجرين أنفسهم في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم»( ).
فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت مشروعية هجر المخالف قائمة على أصلها، وإن كانت القوة والكثرة للمخالفين -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فلا المخالف ولا غيره يرتدع بالهجر، ولا يحصل المقصود الشرعي؛ لم يشرع الهجر، وكان مسلك التأليف، خشية زيادة الشر.
وهذا كحال المشروع مع العدو: القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح( ).
ويقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة، فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، فكل مؤمن وإن كان فاسقًا فإنه يحرم هجره ما لم يكن في الهجر مصلحة فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه، لأن الهجر حينئذ دواء، أما إذا لم يكن فيه مصلحة أو كان فيه زيادة في المعصية والعتو، فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة»( ).
وفي هذه الأزمان عظمت الفتنة وانتشرت البدعة، فأضحى أهل البدع رموزًا في بعض البلاد.. يُعلون بدعتهم ويُعْلنون بها.
وفي بعض البلاد إن ضعفت السنة في ديارهم ظهرت البدعة؛ وإن قويت السنة تلاشت البدعة. وغير خاف على البصير الخبير بمآخذهم تأليفهم الكتب الدعائية لمذاهبهم، حتى فتنوا بعض الجهلة في عقائدهم، كما أنهم مُكِّن لهم فأدخلوا بدعهم في كل بيت من خلال الفضائيات والمجلات، وكل ما استطاعوا إليه سبيلًا.
والواقع اليوم شاهد على ما نقول! فهل يترك الأمر وكأن شيئًا لم يكن؟! أم أنه تتحتم الدعوة إلى الحق والسنة كلٌّ بحسبه، وتشتد الحاجة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصحيح العقائد، واستنفار الإمكانات للتصدي للباطل وأهله؟!!
مناظرة المخالفين لأهل السنة والجماعة(*):
وقريب من قضية الهجر قضية مناظرة المخالفين ومجادلتهم:
فإن مناظرة أهل الباطل ودحض شبههم قد جاء مدحه والحث عليه في كتاب الله تعالى، كما قال تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125]، وامتن الله على إبراهيم بإتيانه له الحجة، كما قال تعالى: ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)) [الأنعام:83]، وقد حكى الله سبحانه وتعالى عدة مناظرات بين أهل الحق وأهل الباطل، ومن ذلك: مناظرة إبراهيم لقومه كما في سورة الأنعام، ومناظرة موسى لفرعون كما في سورة الشعراء وغيرها.
وقد جاء عن السلف جواز المناظرة والمجادلة في بعض الأحيان.
فقد قال كثير من أئمة السلف: «ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا فقد كفروا»( ).
وقال عمر بن عبد العزيز: «رأيت ملاحاة الرجال تلقيحًا لألبابهم»( ).
وورد أيضًا في المقابل ذم المجادلة والخصومة في الدين.
قال الله تعالى: ((مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)) [غافر:4].
وقال: ((وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)) [الشورى:35].
ومن السنة أدلة كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها: (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)( ).
قال النووي رحمه الله: «الألد: شديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي، وهما جانباه؛ لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر، وأما الخصم: فهو الحاذق الخصومة، والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق أو إثبات باطل، والله أعلم»( ).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)) [الزخرف:58])( ).
وقد جاء عن السلف ما يدل أيضًا على ذم المجادلة والخصومة في الدين.
قال عبد الرحمن بن مهدي: «أدركت الناس وهم على الجملة، يعني لا يتكلمون ولا يخاصمون»( ).
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد: «أدركنا أهل الفضل والفقه من خيار أولية الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، وحذرونا مقاربتهم أشد التحذير»( ).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: «أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين»( ).
وقال الإمام البغوي: «واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه»( ).
ولكن هذا كله -أي: المدح والذم- لا يرجع إلى ذات الجدل والمناظرة، وإنما هو راجع إلى تحقق أهداف المناظرة وشروطها وآدابها.
أولاً: المقصود الشرعي لمناظرة المخالفين ومجادلتهم:
1) دعوة المخالفين وإيصال الحق إليهم، وإقناعهم ببطلان ما هم عليه من البدع.
2) الذب عن الدين، وتصفيته مما يلبس به المخالفين وما يشوبون به نصوصه من التحريفات والتأويلات.
3) حماية العامة من الوقوع في البدع، وتحصينهم من الشبهات وبيانها وبيان الرد عليها.
4) فضح المخالفين وتعرية باطلهم؛ لئلا يلتبس على الناس.
5) جمع الناس على كلمة سواء؛ لأن المسلمين مأمورون بالاعتصام بحبل الله، ولا يمكن اجتماعهم على غيره أصلًا، ففي نفي زغل البدعة تقدم نحو تحقيق هذا المقصد الشرعي العظيم.
وبناء على هذه المقاصد الشرعية ينبني الحكم على المناظرة والمجادلة، فمتى توافرت هذه المقاصد وتحققت كانت هذه المناظرة شرعية محمودة، ومتى انتفت هذه المقاصد ولم تتحقق كانت هذه المناظرة مذمومة.
ولهذا وضع العلماء ضوابط تميز المناظرة المحمودة عن المذمومة، وهي التي يكون عنها الكلام فيما يأتي.
ثانيًا: ضوابط المناظرة:
العلم: فلابد لمن يناظر المخالفين ويجادلهم من العلم، وقد ذم الله الجدال بغير علم فقال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ)) [الحج:3]، وقال: ((هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ))، وذكر الشاطبي عن أبي فروخ أنه كتب إلى مالك بن أنس: أن بلدنا كثير البدع، وأنه ألف لهم كلامًا في الرد عليهم. فكتب إليه مالك يقول له: «إن ظننت ذلك بنفسك، خفت أن تزل فتهلك، لا يرد عليهم إلا من كان ضابطًا عارفًا بما يقول لهم، لا يقدرون أن يعرجوا عليه، فهذا لا بأس به، وأما غير ذلك، فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ فيمضوا على خطئه، أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تماديًا على ذلك»( ).اهـ.
1) ألا يناظر إلا من يطمع في هدايته وانتفاعه:
قال ابن عون رحمه الله: «سمعت محمد بن سيرين ينهى عن الجدال، إلا رجلًا إن كلمته طمعت في رجوعه»( ).
إلا أنه يراعى في هذا بعض المقامات التي تتطلب المناظرة ولو لم يرج رجوع هذا المخالف وهدايته، وهذا كما لو طلب المناظرة أمام الملأ، كما يجري الآن على شاشات الفضائيات والإنترنت، وكان في ترك مناظرته خذلان للسنة وظهور للبدعة، وربما أدى ترك مناظرته إلى اغترار الناس به، وظنهم أنه على حق، وأن من ترك مناظرته على باطل.
ومن ذلك ما جرى في زمن الإمام أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الحافظ، عندما قام رجل من الإسماعيلية الباطنية، وطلب مناظرة الأمير (وشمكير) فانتدب الأمير للمناظرة الحافظ أبا بكر الإسماعيلي، وكان هذا في مجمع الناس، فناظره الحافظ فبهته( ).
وقال الإمام أحمد: «قد كنا نأمر بالسكوت، فلما دعينا إلى أمر ما كان بدٌ لنا أن ندفع ذلك ونبين من أمره ما ينفي عنه ما قالوه، ثم استدل لذلك بقوله تعالى: ((وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125] »( ).
وقد سئل الإمام ابن بطة( ) عن السائل يسأل العالم عن مسألة من الأهواء الحادثة يلتمس منه الجواب أيجيبه أم لا؟ فقسَّم رحمه الله السائلين إلى ثلاثة أنواع، يهمنا منهم هنا النوع الثاني الذي قال عنه: «ورجل آخر يحضر في مجلس أنت فيه حاضر، تأمن فيه على نفسك، ويكثر ناصروك ومعينوك، فيتكلم بكلام فيه فتنة وبلية على قلوب مستمعيه ليوقع الشك في القلوب؛ لأنه هو ممن في قلبه زيغ، يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة والبدعة، وقد حضر معك من إخوانك وأهل مذهبك من يسمع كلامه، إلا أنه لا حجة عندهم على مقابلته، ولا علم لهم بقبيح ما يأتي به، فإن سكت عنه لم تأمن فتنته بأن يفسد بها قلوب المستمعين وإدخال الشك على المستبصرين، فهذا أيضًا مما ترد عليه بدعته وخبيث مقالته، وتنشر ما علمك الله من العلم والحكمة، ولا يكن قصدك في الكلام خصومته ولا مناظرته، وليكن قصدك بكلامك خلاص إخوانك من شبكته، فإن خبثاء الملاحدة إنما يبسطون شباك الشياطين ليصيدوا بها المؤمنين، فليكن إقبالك بكلامك، ونشر علمك وحكمتك وبشر وجهك وفصيح منطقك على إخوانك ومن قد حضر معك لا عليه، حتى تقطع أولئك عنه، وتحول بينهم وبين استماع كلامه، بل إن قدرت أن تقطع عليه كلامه بنوع من العلم تحول به وجوه الناس عنه فافعل»( ).
2) أن يستخدم الأسلوب المناسب، ويحذر من كون المناظرة داعية للمبتدع في الإيغال في بدعته.
3) أن تكون المناظرة بغية الوصول إلى الحق وبيانه مع الإخلاص لله تعالى فيها، وأن تجتنب المقاصد السيئة، ومن هذه المقاصد السيئة: المجادلة بقصد دحض الحق ورده؛ كما قال تعالى: ((وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)) [غافر:5].
ومنها: أن يكون القصد منها هو مجرد المجادلة والعناد، كما أخبر الله تعالى عن كفار قريش في قوله: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) [الزخرف:57].
ومن مقاصد الجدال المذمومة أيضًا: أن يكون المراد به إظهار العلم والفطنة والذكاء، وقوة الحجة، مراءاةً للناس وطلبًا للدنيا، فكل هذه المقاصد تفسد ثواب المجادلة، وتبطل أجرها ولو كانت في حق؛ لأنها لم يرد بها وجه الله تعالى، وإنما أريد بها حظ النفس( ).
5) ألا تكون هذه المناظرة سببًا لظهور المخالفين، وفتحًا للباب لهم ليتطاولوا على السنة وأهلها.
يقول الإمام اللالكائي مبينًا ما جنته مناظرة المخالفين من جناية على المسلمين، مقارنًا بين حال المخالفين في عصر السلف الأول، وما كانوا عليه من ذل وهوان، وبين حالهم بعد فتح باب المناظرات معهم عند بعض المتأخرين، وما أصبح لهم بسبب ذلك من صيت وجاه حتى أصبحوا أقرانًا لأهل السنة في نظر العامة يقول رحمه الله:
«فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة، يموتون من الغيظ كمدًا ودردًا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلًا، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقًا، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلًا، حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه في الحجج، وبلغوا من التدقيق في اللجج، فصاروا أقرانًا وأخدانًا، وعلى المداهنة خلانًا وإخوانًا، بعد أن كانوا في الله أعداءً وأضدادًا، وفي الهجرة في الله أعوانًا، يكفرونهم في وجوههم عيانًا، ويلعنونهم جهارًا، وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين»( ).
الفصل الرابع
تكفير المخالفين لأهل السنة والجماعة
- التكفير العام لا يلزم منه تكفير المعين، والتبديع العام لا يلزم منه تبديع المعين.
تكفير المخالفين لأهل السنة والجماعة
القول في تكفير المخالفين لأهل السنة والجماعة على اختلاف مراتب بدعتهم، أو عدم تكفيرهم، أمر لم تخلُ منه كتب ومصنفات السلف رحمهم الله تعالى؛ لأهمية الأمر وعظمه وخطورته، فهو متعلق بديانة مسلم، والله يقول: ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) [النساء:94]، ومن أجمع ما رأيت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول:
«وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين، قالا: أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا: إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام وهم الزنادقة.
وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة، فعلى قول هؤلاء يكون كل طائفة من المبتدعة الخمسة اثنا عشر فرقة، وعلى قول الأولين يكون كل طائفة من المبتدعة الأربعة ثمانية عشر فرقة.
وهذا يبنى على أصل آخر: وهو تكفير أهل البدع، فمن أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم، فإنه لا يكفر سائر أهل البدع؛ بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله: (هم في النار) مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره، كما قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا)) [النساء:10].
ومن أدخلهم فيهم فهم على قولين:
منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المستأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين.
وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء وغيرهم- خلافًا عنه أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة.
ومنهم من لم يكفر أحدًا من هؤلاء، إلحاقًا لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا: فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحدًا بذنب، فكذلك لا يكفرون أحدًا ببدعة.
والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهمية المحضة الذين ينكرون الصفات، وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم ولا يرى ولا يباين الخلق، ولا له علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة؛ بل القرآن مخلوق، وأهل الجنة لا يرونه كما لا يراه أهل النار، وأمثال هذه المقالات.
وأما الخوارج والروافض ففي تكفيرهم نزاع وتردد عن أحمد وغيره.
وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال»( ).
إلا أن إطلاق التكفير على هذه الأصناف من المخالفين ينبغي أن يراعى فيه عدة أمور، من ذلك ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله خاتمًا وملخصًا هذه المسألة التي أشكلت على كثير من الناس، إذ يقول:
«وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين: أحدهما: أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقًا، فإن الله منذ بعث محمدًا وأنزل عليه القرآن وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف: مؤمن به، وكافر به مظهر الكفر، ومنافق مستخف بالكفر، ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفار، وبضع عشر آية في المنافقين، وقد ذكر الله الكفار والمنافقين في غير موضع من القرآن؛ كقوله: ((وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ)) [الأحزاب:1]، وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)) [النساء:140]،وقوله: ((فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) [الحديد:15]، وعطفهم على الكفار ليميزهم عنهم بإظهار الإسلام، وإلا فهم في الباطن شر من الكفار، كما قال تعالى: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)) [النساء:145]، وكما قال:((وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)) [التوبة:84]، وكما قال: ((قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)) [التوبة:53].
وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق، فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية؛ فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، وأول من ابتدع الرفض كان منافقًا، وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق، ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم.
ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنًا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، وقد يكون مخطئًا متأولًا مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين.
والأصل الثاني: أن المقالة تكون كفرًا؛ كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما هو الرب تعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم »( ).
فيجب التفريق بين الكفر والكافر.. فليس كل من تلبس بالكفر وقع الكفر عليه، وكذا ليس كل من وقع في البدعة وقعت البدعة عليه. فالتكفير العام لا يلزم منه تكفير المعين، والتبديع العام لا يلزم منه تبديع المعين، قال شيخ الإسلام رحمه الله:
«وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها»( ).
وقال رحمه الله أيضًا:
«وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: أن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك، ويمتحنونهم، ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم، حتى إنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: أن القرآن مخلوق، وغير ذلك، ولا يولون متوليًا ولا يعطون رزقًا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله ترحم عليهم، واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك. وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم، بين له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء، والصلاة خلفهم»( ).
ويجمع لنا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ضوابط عدم الحكم بتكفير المتأول في الدين من المخالفين فيقول:
«فمن كان قد آمن بالله ورسوله، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلًا، إما أنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها»( ).
ويقول ابن حزم رحمه الله: «فصح أنه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر، فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله تعالى أن يعتقده في نحلة، أو فتيا، أو عمل ما شاء الله تعالى أن يعمله، دون أن يبلغه في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخلاف ما اعتقد، أو قال، أو عمل، فلا شيء عليه أصلًا حتى يبلغه؛ فإن بلغه وصح عنده فإن خالفه مجتهدًا فيما لم يبن له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة، كما قال عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد)( )»( ).
وقد أوضح هذه القاعدة الشيخ حافظ حكمي رحمه الله، وذلك حينما تكلم على أهل البدع المكفرة كالجهمية والقائلين بخلق القرآن، فقال: «ولكن هؤلاء منهم من علم أن عين قصده هدم قواعد الدين وتشكيك أهله فيه، فهذا مقطوع بكفره، بل هو أجنبي عن الدين من أعدى عدو له، وآخرون مغررون ملبس عليهم، فهؤلاء إنما يحكم بكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم، وإلزامهم بها»( ).
* وأما المجتهد المخطئ فلأهل السنة طريقة في التعامل معه تختلف عن طريقة تعاملهم مع من استبان أنه من أهل الأهواء، يقول شيخ الإسلام في بيان منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع المخطئ المجتهد:
«ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم، لا في الأصول ولا في الفروع»( ).
والمنفي هنا الإثم مع اجتهاده، لا إقراره على خطئه.. فتنبه رعاك الله!! إذ أن الحكم بالتأثيم لا بد فيه من التثبت والتيقن، بخلاف التنبيه على الخطأ؛ فإنه يكتفى فيه بصدور الخطأ، ولهذا فرق شيخ الإسلام بين مقام التأثيم والجرح ورد الشهادة، وبين مقام تبيين الخطأ والتحذير منه، فقال رحمه الله:
«ما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح في عدالته ودينه، فإنه يشهد به إذا علمه الشاهد به بالاستفاضة، ويكون ذلك قدحًا شرعيًا، كما صرح بذلك طوائف الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية، وغيرهم، في كتبهم الكبار والصغار، صرحوا فيما إذا جرح الرجل جرحًا مفسدًا أنه يجرحه الجارح بما سمعه منه، أو رآه، واستفاض، وما أعلم في هذا نزاعًا بين الناس، فإن المسلمين كلهم يشهدون في وقتنا في مثل عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وأمثالهما من أهل العدل والدين بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة، ويشهدون في مثل الحجاج بن يوسف، والمختار بن أبي عبيد، وعمرو بن عبيد، وغيلان القدري، وعبد الله بن سبأ الرافضي، ونحوهم من الظلم والبدعة بما لا يعلمونه إلا بالاستفاضة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه مُر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا؛ فقال: وجبت، ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًا؛ فقال: وجبت وجبت، قالوا: يا رسول الله! ما قولك: وجبت وجبت؟ قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا، فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض)( )، هذا إذا كان المقصود تفسيقه لرد شهادته وولايته.
وأما إذا كان المقصود التحذير منه واتقاء شره، فيكتفى بما دون ذلك، كما قال عبد الله بن مسعود: (اعتبروا الناس بأخدانهم)، وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلًا يجتمع إليه الأحداث فنهى عن مجالسته، فإذا كان الرجل مخالطًا في السير لأهل الشر يحذر عنه»( ).
وقال رحمه الله كذلك:
«وهذا فصل الخطاب في هذا الباب، فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك: إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع، كان هذا هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله ألبتة؛ خلافًا للجهمية المجبرة، وهو مصيب بمعنى: أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافًا للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم؛ بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب»( ).
ويقول رحمه الله مبينًا أنه قد يكون من المخالفين لأهل السنة والجماعة من هو معترف ومقر بعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم في الباطن والظاهر:
«ويوجد بعض ذلك في أهل البدع ممن هو مقر بعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، لكن اشتبه عليه بعض ما اشتبه على هؤلاء، فاتبع المتشابه وترك المحكم؛ كالخوارج وغيرهم من أهل الأهواء..» إلخ( ).
وأيضًا مما ينبغي التنبه له في هذا المقام: أنه يجب التفريق بين العامي من أهل البدع الذي تلقى البدعة ممن نظرها له وسكبها في رأسه وجعل لها مكانًا في عقله، وبين ذاك المُجادل عن البدعة والداعي إليها بشبهاته وتقريراته..
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله:
«إن لفظ (أهل الأهواء) وعبارة (أهل البدع)، إنما تطلق حقيقة على الذين ابتدعوها، وقدموا فيها شريعة الهوى؛ بالاستنباط، والنصر لها، والاستدلال على صحتها في زعمهم، حتى عد خلافهم خلافًا، وشبههم منظورًا فيها، ومحتاجًا إلى ردها والجواب عنها؛ كما نقول في ألقاب الفرق من المعتزلة والقدرية والمرجئة والخوارج والباطنية ومن أشبههم بأنها ألقاب لمن قام بتلك النحل ما بين مستنبط لها وناصر لها وذاب عنها؛ كلفظ (أهل السنة)؛ إنما يطلق على ناصريها، وعلى من استنبط على وفقها، والحامين لذمارها.
ويرشح ذلك أن قول الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا)) [الأنعام:159] يشعر بإطلاق اللفظ على من جعل ذلك الفعل الذي هو التفريق، وليس إلا المخترع أو من قام مقامه، وكذلك قوله تعالى: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا)) [آل عمران:105].
وقوله: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ)) [آل عمران:7]، فإن اتباع المتشابه مختص بمن انتصب منصب المجتهد لا بغيرهم.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم)( )، فأقاموا أنفسهم مقام المستنبط للأحكام الشرعية، المقتدى به فيها؛ بخلاف العوام، فإنهم متبعون لما تقرر عند علمائهم؛ لأنه فرضهم، فليسوا بمتبعين للمتشابه حقيقة، ولا هم متبعون للهوى، وإنما يتبعون ما يقال لهم كائنًا ما كان، فلا يطلق على العوام لفظ أهل الأهواء حتى يخوضوا بأنظارهم فيها، ويحسنوا بنظرهم ويقبحوا.
وعند ذلك يتعين للفظ: (أهل الأهواء، وأهل البدع)، مدلول واحد، وهو: من انتصب للابتداع ولترجيحه على غيره، وأما أهل الغفلة عن ذلك، والسالكون سبيل رؤسائهم بمجرد التقليد من غير نظر؛ فلا.
فحقيقة المسألة أنها تحتوي على قسمين: مبتدع ومقتد به.
فالمقتدي به كأنه لم يدخل في العبارة بمجرد الاقتداء؛ لأنه في حكم المتبع.
والمبتدع هو المخترع، أو المستدل على صحة ذلك الاختراع، وسواءٌ علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر في العلم، أو كان من قبيل الاستدلال العامي؛ فإن الله سبحانه ذم أقوامًا فقال: ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)) [الزخرف:22]، فكأنهم استدلوا إلى دليل جملي، وهو الآباء، إذ كانوا عندهم من أهل العقل، وقد كانوا على هذا الدين، وليس إلا لأنه صواب، فنحن عليه؛ لأنه لو كان خطأ لما ذهبوا إليه.
وهو نظير من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلاح، ولا ينظر إلى كونه من أهل الاجتهاد في الشريعة أو من أهل التقليد، ولا إلى كونه يعمل بعلم أو بجهل.
ولكن مثل هذا يعد استدلالًا في الجملة من حيث جعل عمدة في اتباع الهوى اطراح ما سواه، فمن أخذ به فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله، ودخل في مسمى أهل الابتداع، إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر في الحق إن جاءه، ويبحث ويتأنى، ويسأل حتى يتبين له الحق فيتبعه، والباطل فيجتنبه.
ولذلك قال تعالى ردًا على المحتجين بما تقدم: ((قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ)) [الزخرف:24]، وفي الآية الأخرى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)) [البقرة:170]، فقال تعالى: ((أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ)) [البقرة:170]، وفي الآية الأخرى: ((أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)) [لقمان:21]، وأمثال ذلك كثير.
وعلامة من هذا شأنه أن يرد خلاف مذهبه بما قدر عليه من شبهة دليل تفصيلي أو إجمالي، ويتعصب لما هو عليه؛ غير ملتفت إلى غيره، وهو عين اتباع الهوى، وإذ ظهر اتباع الهوى؛ فهو المذموم حقًا، وعليه يحصل الإثم، فإن من كان مسترشدًا، مال إلى الحق حيث وجده، ولم يرده، وهو المعتاد في طالب الحق، ولذلك بادر المحققون إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تبين لهم الحق.
فإن لم يجد سوى ما تقدم له من البدعة، ولم يدخل مع المتعاصيين، لكنه عمل بها:
فإن قلنا: إن أهل الفترة معذَّبون على الإطلاق إذا اتبعوا من اخترع منهم؛ فالمتَّبعون للمبتدع إذا لم يجدوا محقًا مؤاخذون أيضًا.
وإن قلنا: لا يعذَّبون حتى يُبعث لهم الرسول وإن عملوا بالكفر؛ فهؤلاء لا يؤاخذون ما لم يكن فيه محقٌ، فإذ ذاك يؤاخذون من حيث إنهم معه بين أحد أمرين: إما أن يتبعوه على طريق الحق فيتركوا ما هم عليه، وإما أن لا يتبعوه؛ فلا بد من عنادٍ ما وتعصبٍ، فيدخلون إذ ذاك تحت عبارة (أهل الأهواء) فيأثمون»( ).
ويقول الغزالي رحمه الله: «الثالث: المبتدع العامي الذي لا يقدر على الدعوة ولا يخاف الاقتداء به، فأمره أهون، فالأ¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬¬ولى أن لا يقابل بالتغليظ والإهانة، بل يتلطف به في النصح، فإن قلوب العوام سريعة التقلب، فإن لم ينفع النصح وكان في الإعراض عنه تقبيح لبدعته في عينه، تأكد الاستحباب في الإعراض، وإن علم أن ذلك لا يؤثر فيه لجمود طبعه ورسوخ عقده في قلبه، فالإعراض أولى؛ لأن البدعة إذا لم يبالغ في تقبيحها شاعت بين الخلق وعم فسادها...» إلخ( ).
ويقول أيضًا رحمه الله:
«...لذلك ترى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان... [ثم استثنى حالة من هذا فقال]:
إلا إذا كان نشؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب، فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره؛ بل الهوى والتعصب وبغض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه، ويمنعه من إدراك الحق، حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء ويعرفك بالعيان أن الحق مع خصمك؟ لكره ذلك خيفة من أن يفرح به خصمه، وهذا هو الداء العضال الذي استطار في البلاد والعباد، وهو نوع فساد أثاره المجادلون بالتعصب...» إلخ( ).
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة حينما تحدث عن كثرة المخالفين لأهل السنة والجماعة في زمانه، وأن مرد ذلك إلى الجهل وقرر أنهم معذورون بذلك فقال: «وهؤلاء الأجناس وإن كانوا كثروا في هذا الزمان فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل ويغفر الله له ما لم تقم الحجة عليه، كما في الحديث المعروف: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صيامًا ولا حجًا ولا عمرة إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، ويقولون: أدركنا آباءنا هم يقولون: لا إله إلا الله، فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار)( )»( ).
ويفرق شيخ الإسلام بين علماء المخالفين وبين جهالهم فيقول: (ولهذا فإن كل من كان أعرف بباطن المذهب وحقيقته كان أعظم كفرًا وفسقًا..)( )، إلى أن قال: (وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء، ولا يفهمونه فهؤلاء تجد فيهم إسلامًا وإيمانًا ومتابعة للكتاب والسنة)( ).
ويقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذابًا عن دعوته النقية، ورادًا كذب من حاول تشويهها بالزور والبهتان:
«وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه؛ فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله.
وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر؛ والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما؛ لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله؟! إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!!» إلخ( ).
بل ويقرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه قد يأتي من أفراد المخالفين ما يكون له اعتبار في نفسه في الجملة، فيشهد لهم بهذا الخير، ويعترف لهم بهذا الفضل، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
«وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارًا»( ).
بل ويفصل رحمه الله القول فيمن يتخذ من طرائقه البدعية مسلكًا للاستدلال على مسائل الشرع فيقول:
«وهذه الأمور يُسلمُ بسببها ناس، ويتوب بسببها ناس يكونون أضل من أصحابها، فينتقلون بسببها إلى ما هو خير مما كان عليه، كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس، قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيرًا مما كانوا، وإن كان قصد ذلك الرجل فاسدًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم)( )، وهذا كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي، فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل، وتقوى بها قلوب كثير من أهل الحق، وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها، والخير والشر درجات، فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه»( ).
واعجب معي من فطنة وذكاء وزكاء شيخ الإسلام وهو يقرر قاعدته السابقة بذكر مثال يقرب الأفهام، فيقول رحمه الله في عبد الله بن سعيد بن كلاب( ) في تصديه للمعطلة:
«وكان ممن انتدب للرد عليهم أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان له فضل وعلم ودين. ومن قال: إنه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصارى في المسلمين، كما يذكره طائفة في مثالبه، ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك؛ فهذا كذب عليه، وإنما افترى هذا عليه المعتزلة والجهمية الذين رد عليهم، فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى. وقد ذكر مثل ذلك عنهم الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية، وصار ينقل هذا من ليس من المعتزلة من السالمية، ويذكره أهل الحديث والفقهاء الذين ينفرون عنه لبدعته في القرآن، ويستعينون بمثل هذا الكلام الذي هو من افتراء الجهمية والمعتزلة عليه. ولا يعلم هؤلاء أن الذين ذموه بمثل هذا هم شر منه، وهو خير وأقرب إلى السنة منهم»( ).
الفصل الخامس
توبة المخالفين لأهل السنة والجماعة
- قال ابن تيمية رحمه الله: «الذي عليه السلف والأئمة، كالأئمة الأربعة وغيرهم أن توبة الرافضي تقبل كما تقبل توبة أمثاله من أهل البدع والمعاصي».
- توبة أهل البدع وغيرهم صحيحة مهما بلغت بدعهم وكبرت، فمتى ما توافرت فيها الشروط الداعية لقبولها وكانت صادقة؛ فإنها مقبولة عند الله تعالى.
توبة المخالفين لأهل السنة والجماعة
لاشك أن الله يقبل التوبة من عباده ما دام المرء في زمن المهلة، قال الله تعالى: ((أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [التوبة:104].
وقال جل وعلا: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53].
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره:
«هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر»( ).
وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)( ).
والمخالفون ما زالوا يتوبون ويؤوبون ويرجعون إلى الله تعالى وتحسن توبتهم، وقبل نقل نماذج من توبة بعض من كان على غير السنة، أود التنبيه على أمور مهمة:
الأول: رُوي حديث مفاده: (أن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة)( ).
إلا أن هذه الرواية ينازعها أمران:
1- أن بعض أهل الحديث طعن في رجال سندها، ومن ذلك ابن الجوزي في كتابه العلل المتناهية حيث قال:
«[باب منع التوبة عن صاحب البدعة]:
(211) أنا محمد بن ناصر، قال انبأنا علي بن عبد الرحمن بن عليك النيسابوري، قال أنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان الحنفي، قال: أنا أبو العباس محمد يعقوب، قال: أنا أبو عتبة أحمد بن الفرج، قال: أنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا محمد الكوفي، عن حميد الطويل، عن انس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة).
(212) طريق آخر: أنبانا علي بن عبد الله بن عطاء الإبراهيمي، قال: أنا عبد الله ابن محمد الأنصاري، قال: أخبرنا أبو يعلى الهروي، قال: أنا محمد بن صالح الأشج، قال: أنا داود بن إبراهيم العقيلي، قال: أنا بقية، قال: أنا محمد بن عبد الرحمن، عن حميد الطويل، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة).
قال المؤلف: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدار الطريقين على محمد بن عبد الرحمن الكوفي القشيري، قال ابن عدي: هو منكر الحديث مجهول، وهو من مشايخ بقية المجهول»( ) اهـ.
2- أن هناك زيادة مهمة جاءت عند الطبراني صححها العلامة الألباني( ) رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته).
ثم أيضًا قد أجاب أهل العلم عن هذا الإشكال الوارد في هذا الحديث من كون التوبة محجوبة عن أهل البدع بأجوبة، منها:
1) أن هذا الحديث من نصوص الوعيد التي لا تفسر عند أهل السنة لتبقى هيبة الزجر عن الابتداع، ومذهب أهل السنة أن كل ما توعد الله به العبد من العقاب فهو بشرط ألا يتوب، فإن تاب تاب الله عليه( ).
قال شيخ الإسلام:
«وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)) [النساء:10]، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار، لجواز ألا يلحقه الوعيد؛ لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع»( ).
2) أن أهل البدع على قسمين: منهم من يشرب البدعة وتخالط هواه، كما في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (...إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبَ بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)( )، فهؤلاء هم الذين تحجب عنهم التوبة، بمعنى أنه قلما أن يرجع عن هذه البدعة.
قال الشاطبي رحمه الله: «معنى هذه الرواية: أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق، وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم، حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها، على حد ما يداخل داء الكَلَب جسم صاحبه، فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا عرق ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء، وهو جريان لا يقبل العلاج، ولا ينفع فيه الدواء، فكذلك صاحب الهوى؛ إذا دخل قلبه، وأشرب حبه، لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه.
واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء؛ كمعبد الجهني، وعمرو بن عبيد وسواهما؛ فإنهم كانوا -حيث لقوا- مطرودين من كل جهة، محجوبين عن كل لسان، مبعدين عند كل مسلم، ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تماديًا على ضلالهم، ومداومة على ما هم عليه، ((وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)) [المائدة:41]»( ).
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الخوارج: (...يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه)( ).
وأما القسم الثاني فلا يكون كذلك، فهذا تكون توبته قريبة( ).
3) أن المبتدع يرى أن بدعته هذه دين، ويحسب أنه على هدى، ويظن أن رجوعه عن هذه البدعة هو رجوع عن الحق والدين، ولهذا قل أن يتوب منها، بخلاف صاحب المعصية الذي يعلم أنه على خطأ ومعصية، وأن فعله هذا مخالف للدين، فرجوعه وتوبته أقرب.
وكما قرر شيخ الإسلام رحمه الله أن أول التوبة هو العلم بأن الفعل سيئ، وهذا ما لا يدركه المخالف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: «...قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها، ومعنى قولهم: إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ولا رسوله، قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر؛ فإنه لا يتوب.
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ)) [محمد:17]، وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمً)) [النساء:64-66]، وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [الحديد:28]، وقال تعالى: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)) [البقرة:257]، وقال تعالى: ((قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [المائدة:15]، وشواهد هذا كثيرة فى الكتاب والسنة...» إلخ( ).
وقال كذلك رحمه الله:
«...وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات، وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب، تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار؛ فإن كثيرًا من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها، فعلم بالعلم العام أنها قبيحة كالفاحشة والظلم الظاهر، فأما ما قد يتخذ دينًا فلا يعلم أنه ذنب إلا من علم أنه باطل؛ كدين المشركين وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى، وكذلك البدع كلها.
ولهذا قال طائفة من السلف منهم الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها، وهذا معنى ما روي عن طائفة أنهم قالوا: إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه كما يتوب على الكافر، ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقًا فقد غلط غلطًا منكرًا، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه: ما دام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة؛ فإنه يتوب منها، كما يرى الكافر أنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة تبين له ضلالها وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله.
والخوارج لما أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، رجع منهم نصفهم أو نحوه، وتابوا، وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبد العزيز وغيره، منهم من سمع العلم فتاب، وهذا كثير...» إلخ( ).
الثاني: أن توبة المخالف مقبولة سواء كان هذا المخالف رافضيًا أو جهميًا أو قدريا... إلخ.
أو كان هذا المخالف داعية أو منظرًا أو مجتهدًا أو مستدلًا... إلخ، فكل هذه الأصناف تقبل توبتهم على الصحيح، ولا يفرق بين مخالف وآخر.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
«...وأما جنس الذنب فإن الله يغفره في الجملة، الكفر والشرك وغيرهما، يغفرها لمن تاب منها، ليس في الوجود ذنب لا يغفره الرب تعالى؛ بل ما من ذنب إلا والله تعالى يغفره في الجملة.
وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعًا، وفيها رد على طوائف، رد على من يقول: إن الداعى إلى البدعة لا تقبل توبته، ويحتجون بحديث إسرائيلي فيه: (أنه قيل لذلك الداعية: فكيف بمن أضللت؟) و هذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث وليسوا من العلماء بذلك؛ كأبي علي الأهوازي وأمثاله ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يحتج به وما لا يحتج به؛ بل يروون كل ما في الباب محتجين به، وقد حكى هذا طائفة قولًا في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم، وقد تاب قادة الأحزاب: مثل أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبى جهل وغيرهم، بعد أن قتل على الكفر بدعائهم من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلامًا وغفر الله لهم، قال تعالى ((قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)) [الأنفال:38]، وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم: (يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله)...» إلخ( ).
وقال رحمه الله:
«...وقولهم: إن توبة ساب الصحابة لا تقبل، وأنه مخلد في النار، خطأ؛ بل الذي عليه السلف والأئمة، كالأئمة الأربعة وغيرهم أن توبة الرافضي تقبل كما تقبل توبة أمثاله، والحديث الذي يروي: (سب صحابتي ذنب لا يغفر)، حديث باطل، لم يروه أحد من أهل العلم، ولو قدر صحته فالمراد به من لم يتب؛ فإن الله يأخذ حق الصحابة منه، وأما من تاب فقد قال الله تعالى: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) [الزمر:53]، وهذا في حق التائب، أخبر أنه يغفر جميع الذنوب، وساب الصحابة إذا كان يعتقد جواز ذلك فهذا مبتدع ضال كسائر الضلال، والحق في ذلك لله، كمن سب الرسول معتقدًا أنه ساحر أو كاذب، فإذا أسلم هذا قبل الله إسلامه، كذلك الرافضي إذا تبين له الحق وتاب قبل الله منه، وإن كان يقر بتحريم ذلك فهذا ظالم، كمن قذف غيره واغتابه، ومظالم العباد تصح التوبة منها، ويدعو لهم ويثني عليهم بقدر ما لعنهم وسبهم، فإن الحسنات يذهبن السيئات» اهـ( ).
وقال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله في كتابه الماتع الآداب الشرعية:
فصل في: [التوبة من البدعة المفسقة والمكفرة وما اشترط فيها]:
«ومن تاب من بدعة مفسقة أو مكفرة صح إن اعترف بها وإلا فلا، قال في الشرح: فأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها والرجوع عنها واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها، قال في الرعاية في موضع آخر: من كفر ببدعة قبلت توبته على الأصح، وقيل: إن اعترف بها وإلا فلا، وقيل: إن كان داعية لم تقبل توبته، وذكر القاضي في الخلاف في آخر مسألة: هل تقبل توبة الزنديق؟ قال أحمد في رواية المروذي في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد: ليست له توبة، إنما التوبة لمن اعترف، فأما من جحد فلا توبة له. وقال في رواية المروذي: وإذا تاب المبتدع يؤجل سنة حتى تصح توبته، واحتج بحديث إبراهيم التيمي أن القوم نازلوه في صبيغ بعد سنة فقال: جالسوه وكونوا منه على حذر.
وقال القاضي أبو الحسين بعد أن ذكر هذه الرواية وغيرها: فظاهر هذه الألفاظ قبول توبته منها بعد الاعتراف والمجانبة لمن كان يقارنه ومضى سنة، ثم ذكر رواية ثانية أنها لا تقبل، واختارها ابن شاقلا واحتج لاختياره بقوله عليه السلام: (من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)( )، وروى أبو حفص العكبري بإسناده عن أنس مرفوعًا: (إن الله عز وجل احتجب التوبة عن كل صاحب بدعة.
وقال الشيخ تقي الدين: وهذا القول الجامع للمغفرة لكل ذنب للتائب منه كما دل عليه القرآن والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم، وإن كان من الناس من استثنى بعض الذنوب، كقول بعضهم: إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنًا؛ للحديث الإسرائيلي الذي فيه: (فكيف بمن أضللت؟) وهذا غلط، فإن الله تعالى قد بين في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع. انتهى كلامه.
قال ابن عقيل في الإرشاد: الرجل إذا دعا إلى بدعة ثم ندم على ما كان، وقد ضل به خلق كثير، وتفرقوا في البلاد وماتوا؛ فإن توبته صحيحة إذا وجدت الشرائط، ويجوز أن يغفر الله له ويقبل توبته، ويسقط ذنب من ضل به بأن يرحمه ويرحمهم، وبه قال أكثر العلماء خلافًا لبعض أصحاب أحمد، وهو أبو إسحاق بن شاقلا، وهو مذهب الربيع بن نافع وأنها لا تقبل، ثم احتج بحديث الإسرائيلي وغيره، وقال: لا نمنع أن يكون مطالبًا بمظالم الآدميين، ولكن هذا لا يمنع صحة التوبة؛ كالتوبة من السرقة وقتل النفس وغصب الأموال صحيحة مقبولة، والأموال والحقوق للآدمي لا تسقط، ويكون هذا الوعيد راجعًا إلى ذلك، ويكون نفي القبول راجعًا إلى القبول الكامل، وقال: هو مأزور بإضلالهم، وهم مأزورون بأفعالهم، وقد تقدمت المسألة في أول فصول التوبة»( ) اهـ.
• بل قد قال أهل العلم المحققين بقبول توبة من تكررت ردته وظهرت زندقته إذا تاب إلى الله وأعلن صدق توبته.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
«...والفقهاء إذا تنازعوا في قبول توبة من تكررت ردته أو قبول توبة الزنديق فذاك إنما هو في الحكم الظاهر؛ لأنه لا يوثق بتوبته، أما إذا قدر أنه أخلص التوبة لله في الباطن فإنه يدخل في قوله: ((يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53]...» إلخ( ).
قال ابن قدامة رحمه الله( ) بعد أن ساق أقوال أهل العلم في حكم قبول توبة الزنادقة: «وفي الجملة فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا: من ترك قتلهم، وثبوت أحكام الإسلام في حقهم، وأما قبول الله تعالى لها في الباطن، وغفرانه لمن تاب وأقلع باطنًا وظاهرًا، فلا خلاف فيه، فإن الله تعالى قال في المنافقين: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)) [النساء:146]»( ).
فإذا كانت التوبة مقبولة لمن أشرك في الدعاء، وارتكب كبائر الذنوب؛ فإنها تقبل من المخالف، بل إن الآيات القرآنية أوضحت أن باب التوبة مفتوح للكفار والمشركين، كقوله تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:5].
وكقوله عز وجل: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المائدة:73].
فهذه أدلة تفيد إمكانية توبة المخالف وقبولها، وأن التائب الصادق يغفر الله له ذنبه ويعفو عنه.
الثالث: توبة المخالف الداعي إلى البدعة:
تقدم أن مذهب بعض العلماء بأن الداعي إلى البدعة لا توبة له( ).
لكن الصحيح والراجح هو أنه يمكن حصول توبة الداعي إلى بدعة وقبولها، فإن الله قد بين في كتابه أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع، فقد تاب الله على أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «.. وأيضًا فالداعي إلى الكفر والبدعة كان أصدّ من غيره، فذلك الغير يعاقب على ذنبه لكونه قبل من هذا واتبعه، وهذا عليه وزره، ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة، مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب من ذنبه لم يبق عليه وزره ولا ما حمله هو لأجل إضلالهم..»( ).
وذكر السفاريني قول طائفة من العلماء: «الرجل إذا دعا إلى بدعة ثم ندم على ما كان، وقد ضل به خلق كثير وتفرقوا في البلاد، وماتوا، فإن توبته صحيحة إذا وجدت الشرائط، ويجوز أن يغفر الله له ويقبل توبته، ويسقط ذنب من ضل به بأن يرحمه ويرحم به، قاله أكثر العلماء»( ).
فظهر بحمد الله جليًا صحة توبة المخالفين لأهل السنة والجماعة وغيرهم في الباطن من زنادقة وغيرهم مهما بلغت بدعهم وكبرت، وأن توبتهم متى ما توافرت فيها الشروط الداعية لقبولها وكانت صادقة فإنها مقبولة عند الله تعالى.
الرابع: نماذج من توبة المخالفين لأهل السنة والجماعة:
من طالع بعض كتب أهل العلم في التاريخ والتراجم وقف على قصص ونوادر في توبة المخالفين، وتركهم بدعهم ورجوعهم إلى السنة وجادة الطريق ولو في الجملة، وأسوق هنا بعض ذلك مثالًا فقط على حدوث ذلك وإمكانه، ولله الأمر من قبل ومن بعد وهو الغفور الرحيم.
1) توبة أربعة آلاف من الخوارج بعد أن ناظرهم ابن عباس رضي الله عنه، مع أن الخوارج من أصحاب البدع الغليظة، وقد ورد فيهم من الأحاديث ما لم يرد في غيرهم من الفرق، فهم كلاب النار، وهم الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وهم الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وبشر من قاتلهم أو قاتلوه بالجنة. ومع كل هذا فقد تاب منهم هذا الجم الغفير، وكانوا قبل ذلك على ضلالة يقاتلون عنها، ولم يقل أحد من الصحابة أن توبتهم غير مقبولة، أو أن التوبة محجورة عنهم.
2) توبة صبيغ بن عسل التميمي العراقي: فقد روى الدارمي( ): (أن صبيغًا جعل يسأل عمر أشياء من القرآن في أجناد المسلمين، حتى قدم مصر، فبعث به عمرو ابن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال: أين الرجل؟ فقال: في الرحل، قال عمر: أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الموجعة، فأتاه به، فقال عمر: تسأل محدثة، فأرسل عمر إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره وبرة، ثم تركه حتى برئ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برئ، فدعا به ليعود له، قال: فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلًا جميلًا، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت. فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت توبته، فكتب عمر أن يأذن للناس لمجالسته).
3) توبة يزيد بن صهيب الفقير وأصحابه ورجوعهم عن رأي الخوارج: روى ذلك مسلم في صحيحه في حديث طويل قال فيه يزيد الفقير: «كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالس إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال... فإذا هو قد ذكر الجهنميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله! ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: ((إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)) [آل عمران:192]..و((كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا)) [الحج:22] فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام؟ يعني الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم. فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج، ثم ذكر حديثًا طويلًا، ثم قال يزيد: فرجعنا، قلنا: ويحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد»( ).
4) توبة نعيم بن حماد: فيما رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء: أن نعيمًا كان يقول: «أنا كنت جهميًا، فلذلك عرفت كلامهم، فلما طلبت الحديث عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل» ولهذا وصف بأنه من أشد الناس على الجهمية، ووضع في الرد عليهم ثلاثة عشر كتابًا( ).
5) توبة عون بن عبد الله: وقع في الإرجاء بعد أن ناظره ناس منهم، ثم رجع عن الإرجاء وقال فيه:
لأول ما نفارق غير شك نفارق ما يقول المرجئونا( )
6) توبة محرز بن عبد الله أبو رجاء الجزري: قال السخاوي في فتح المغيث( ):
«...وقيل: إنه لا يروى لمبتدع مطلقًا، بل إذا استحل الكذب في الرواية والشهادة نصرةً، أي: لنصرة مذهب له أو لغيره ممن هو متابع له، كما كان محرز أبو رجاء يفعل حسبما حكاه عن نفسه بعد أن تاب من بدعته؛ فإنه كان يضع الأحاديث يدخل بها الناس في القدر».
7) توبة موسى بن حزام: قال ابن حجر رحمه الله: «...وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان في أول أمره ينتحل الإرجاء، ثم أعانه الله تعالى بأحمد بن حنبل فانتحل السنة وذب عنها، وقمع من خالفها مع لزوم الدين حتى مات»( ).
8) توبة الواثق بالله وابنه المهتدي بالله:
قال الفقيه الورع ابن قدامة المقدسي رحمه الله في كتابه التوابين:
«أخبرنا الشيخ الإمام العالم أبو الفرج عبدالرحمن بن علي ابن الجوزي قال: أخبرنا أبو منصور عبدالرحمن بن محمد القزاز وأبو السعود أحمد بن علي بن المجلي. قالا: أنا أحمد بن علي بن ثابت أنا محمد بن أحمد بن رزق أنا أحمد بن سندي الحداد قال: قرىء على أحمد بن المنيع وأنا أسمع قيل له: أخبركم صالح بن علي بن يعقوب الهاشمي قال: حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين، وجلس للنظر في أمور المظلومين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع عليها وينشأ الكتاب عليها وتحرر وتختم وترفع إلى صاحبها بين يديه، فسرني ذلك واستحسنت ما رأيت، فجعلت أنظر إليه، ففطن ونظر إليّ فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مرارًا ثلاثًا إذا نظر غضضت وإذا شغل نظرت.
فقال لي: يا صالح، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائمًا.
فقال: في نفسك منا شيء تريد -أو قال: تحب- أن تقوله؟
قلت: نعم يا سيدي.
فقال لي: عد إلى موضعك.
فعدت حتى إذا قام قال للحاجب: لا يبرح صالح.
فانصرف الناس ثم أذن لي فدخلت فدعوت له فقال لي: اجلس، فجلست.
فقال: يا صالح تقول لي ما دار في نفسك أو أقول أنا ما دار في نفسي أنه دار في نفسك؟
قلت: يا أمير المؤمنين ما تعزم عليه وتأمر به.
قال: أقول أنا إنه دار في نفسي أنك استحسنت ما رأيت منا.
فقلت: أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول القرآن مخلوق؟
فورد على قلبي أمر عظيم ثم قلت: يا نفس هل تموتين قبل أجلك؟ وهل تموتين إلا مرة؟ وهل يجوز الكذب في جد أو هزل؟
فقلت: يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلت.
ثم أطرق مليًا وقال: ويحك اسمع مني ما أقول، فوالله لتسمعن الحق.
فسري عني. فقلت: يا سيدي ومن أولى بقول الحق منك وأنت خليفة رب العالمين وابن عم سيد المرسلين؟
فقال: ما زلت أقول: إن القرآن مخلوق صدرًا من أيام الواثق حتى أقدم أحمد بن أبي دؤاد علينا شيخًا من أهل الشام من أهل أذنة، فأدخل الشيخ على الواثق مقيدًا، وهو جميل الوجه تام القامة حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورقّ له، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه. فسلم الشيخ فأحسن ودعا فأبلغ.
فقال له الواثق: اجلس فجلس.
فقال له: يا شيخ ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ابن أبي دؤاد يصبي ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق وعاد مكان الرقة غضبًا عليه.
قال الواثق: أبو عبدالله بن أبي دؤاد يصبى ويضعف عن مناظرتك أنت؟!
فقال الشيخ: هوّن عليك يا أمير المؤمنين ما بك، فائذن في مناظرته.
فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول.
قال: أفعل.
قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين فلا يكون الدين كاملًا حتى يقال فيه بما قلت؟
قال: نعم.
قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله إلى عباده هل ستر شيئًا مما أمره الله به في أمر دينهم؟
قال: لا.
فقال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: تكلم. فسكت فالتفت إلى الواثق فقال: يا أمير المؤمنين، واحدة؟
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله عز وجل حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)) [المائدة:3]، هل كان الله تعالى الصادق في إكمال دينه أو أنت الصادق في نقصانه، حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: أجب يا أحمد. فلم يجب، فقال الشيخ، يا أمير المؤمنين، اثنتان؟
فقال الواثق: اثنتان.
فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟
فقال ابن أبي دؤاد: علمها.
قال: فدعا الناس إليها؟ فسكت. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ثلاث؟
فقال الواثق: ثلاث.
فقال الشيخ: يا أحمد، فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن علمها وأمسك عنها كما زعمت ولم يطالب أمته بها؟
قال: نعم.
قال الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم؟
قال ابن أبي دؤاد: نعم.
فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين، قد قدمت القول إن أحمد يصبي ويضعف عن المناظرة يا أمير المؤمنين، إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة بما زعم هذا أنه اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم؟
فقال الواثق: نعم. إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلا وسع الله علينا. اقطعوا قيد الشيخ. فلما قطع القيد ضرب الشيخ بيده إلى القيد حتى يأخذه فجاذبه الحداد عليه فقال الواثق دع الشيخ يأخذه فأخذه فوضعه في كمه فقال له الواثق يا شيخ لم جاذبت الحداد عليه قال: لأني نوديت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا أنا مت أن يجعله بيني وبين كفني حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة، وأقول: يا رب سل عبدك هذا لم قيدني وروّع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي. وبكى الشيخ وبكى الواثق وبكينا. ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله. فقال الشيخ: والله يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كنت رجلًا من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجة.
فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت.
فقال له الواثق: تقيم قبلنا فننتفع بك وتنتفع بنا.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن ردّك إياي إلى الموضع الذي أخرجني عنه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عليك، وأخبرك بما في ذلك، أصير إلى أهلي وولدي فأكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك.
فقال له الواثق: فتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك.
فقال: يا أمير المؤمنين لا تحل لي، أنا عنها غني وذو مرة سوي.
فقال: سل حاجة.
فقال: أوتقضيها يا أمير المؤمنين؟
قال: نعم.
قال: تأذن أن يخلى لي السبيل الساعة إلى الثغر.
قال: قد أذنت لك. فسلم وخرج.
قال المهتدي بالله: فرجعت عن هذه المقالة وأظن أن الواثق رجع عنها منذ ذلك الوقت»( ).
9) توبة أبي الحسن الأشعري: قال الذهبي: «وكان عجبًا في الذكاء وقوة الفهم، ولما برع في معرفة الاعتزال كرهه، وتبرأ منه، وصعد للناس فتاب إلى الله منه، ثم أخذ يرد على المعتزلة ويهتك عوارهم»( ).
ومن العلماء من أفنى عمره في الكلام والفلسفة والمذاهب السفسطائية، ولكنه تداركه الله برحمة منه فألهمه التوبة ووفقه لها قبيل موته، معلنًا أن كتاب الله وسنة رسوله خير له من غيرهما.
10) فهذا أبو المعالي الجويني( ) يعلن أن ما كان عليه ضلال ووبال، فقد جاء في شذرات الذهب: «...ومن شعر أبي المعالي:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية آراء الرجال ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
وذكر المناوي في شرحه على الجامع الصغير( ) ما نصه: وقال السمعاني في الذيل: سمعت أبا المعالي -يعني إمام الحرمين- يقول: قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، ثم حلبت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق وهو يأمن التقليد، والآن رجعت من العمل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطفه وأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري على الحق وكلمة الإخلاص، وإلا فالويل لابن الجويني. انتهى بحروفه، ف رحمه الله ورضي عنه»( ).
وقال ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية:
11) «وكذلك الغزالي رحمه الله انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق، وأقبل على أحاديث الرسول، فمات والبخاري على صدره.
12) وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعًا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5].. ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)) [فاطر:10]، وأقرأ في النفي: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11].. ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)) [طه:110]، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
13) وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرساني: إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعًا كف حائر على ذقن أو قارعًا سن نادم( )
وكذلك قال أبو المعالي الجويني: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وهأنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور. وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي، وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يومًا فقال: ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟ أو كما قال، فقال: نعم. فقال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته...».
إلى أن قال رحمه الله:
«وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به، ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كان يقطع بها ثم تبين له فسادها، أو لم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم -إذا سلموا من العذاب- بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب.
والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كان طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله إذا قام من الليل يفتتح صلاته: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) أخرجه مسلم، توجه إلى ربه بربوبية جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إذ حياة القلب بالهداية»( ).
قال الحافظ الذهبي في كتابه الماتع سير أعلام النبلاء عند ترجمته لشيخ المالكية ابن الحداد المغربي رحمه الله:
14) «...وكان من رءوس السنة. قال ابن حارث: له مقامات كريمة، ومواقف محمودة في الدفع عن الإسلام، والذب عن السنة، ناظر فيها أبا العباس المعجوقي أخا أبي عبد الله الشيعي الداعي إلى دولة عبيد الله، فتكلم ابن الحداد ولم يخف سطوة سلطانهم، حتى قال له ولده أبو محمد: يا أبة! اتق الله في نفسك ولا تبالغ. قال: حسبي من له غضبت، وعن دينه ذببت. وله مع شيخ المعتزلة الفراء مناظرات بالقيروان، رجع بها عدد من المبتدعة»( ).
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:
15) «وفاة معز الدولة ابن بويه:
ولما كان ثالث عشر ربيع الأول منها توفي أبو الحسن أحمد بن بويه الديلمي الذي أظهر الرفض -ويقال له معز الدولة- بعلة الذرب، فصار لا يثبت في معدته شيء بالكلية، فلما أحس بالموت أظهر التوبة وأناب إلى الله عز وجل، ورد كثيرًا من المظالم، وتصدق بكثير من ماله، وأعتق طائفة كثيرة من مماليكه، وعهد بالأمر إلى ولده بختيار عز الدولة، وقد اجتمع ببعض العلماء فكلمه في السنة، وأخبره أن عليًا زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب، فقال: والله ما سمعت بهذا قط، ورجع إلى السنة ومتابعتها»( ).
وبنفس السياق قال ابن الجوزي رحمه الله:
«لما قيل لمعز الدولة (أحمد بن بويه) وكان رافضيًا يشتم صحابة رسول الله: إن عليًا -رضوان الله عليه- زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، استعظم ذلك!! وقال: (ما علمت بهذا) وتاب وتصدق بأكثر ماله، وأعتق مماليكه، ورد كثيرًا من المظالم، وبكى حتى أُغشي عليه»( ).
وقال الحافظ الذهبي في توبته كذلك:
«...وكان يتشيع، فقيل: تاب في مرضه، وترضى عن الصحابة، وتصدق وأعتق، وأراق الخمور، وندم على ما ظلم، ورد المواريث إلى ذوي الأرحام...» إلخ( ).
16) ويحكي الشيخ البكري قصته مع أحد علماء الهند فيقول رحمه الله: «كنت بجوار مسجد في الهند، وكان فيه مدرس إذا فرغ من تدريسه لعنوا ابن عبدالوهاب، وإذا خرج من المسجد مر بي. وقال: أَنا أُجيد العربية لكن أحب أَن أَسمعها من أَهلها، ويشرب من عندي ماءً باردًا.
فأَهمني ما يفعل في درسه، قال: فاحتلت بأَن دعوته وأَخذت (كتاب التوحيد) ونزعت ديباجته ووضعته على رف في منزلي قبل مجيئه، فلما حضر قلت: أَتأْذن لي أَن آتي ببطيخة؟
فذهبت، فلما رجعت إذا هو يقرأُ ويهز رأْسه فقال: لمن هذا الكتاب؟ هذه التراجم شبه تراجم البخاري، هذا والله نفس البخاري.
فقلت: لا أدري.
ثم قلت: أَلا نذهب للشيخ الغزوي لنسأَله– وكان صاحب مكتبة وله رد على جامع البيان- فدخلنا عليه فقلت للغزوي: كان عندي أَوراق سأَلني الشيخ من هي له؟ فلم أَعرف.
ففهم الغزوي المراد، فنادى من يأْتي بكتاب (مجموعة التوحيد) فأُتي بها فقابل بينهما فقال: هذا لمحمد بن عبدالوهاب. فقال العالم الهندي مغضبًا وبصوت عال: الكافر!
فسكتنا وسكت قليلًا. ثم هدأَ غضبه فاسترجع. ثم قال: إن كان هذا الكتاب له فقد ظلمناه.
ثم إنه صار كل يوم يدعو له ويدعو معه تلاميذه، وتفرق تلاميذ له في الهند وإذا فرغوا من القراءة دعوا جميعا للشيخ ابن عبدالوهاب»اهـ( ).
17) وجاء في كتاب طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة رحمه الله: «هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل القاضي، بهاء الدين أبو القاسم القفطي... تفقه على الشيخ مجد الدين القشيري، وقرأ على الشيخ شمس الدين الأصفهاني الأصول في قوص، ودخل القاهرة واجتمع بالشيخين: عزالدين بن عبدالسلام وزكي الدين المنذري، واستفاد منهما ورجع إلى بلده وانتفع به الناس وتخرجت به الطلبة، وولي قضاء إسنا وتدريس المدرسة المعزية بها.
وكانت إسنا مشحونة بالروافض؛ فإن كثيرًا منهم لم ينتقل عن اعتقاد المصريين، فقام في نصرة السنة، وأصلح الله به خلقًا وهمت الرافضة بقتله فحماه الله تعالى منهم، وترك القضاء أخيرًا واستمر على العلم والعبادة»( ).
* كما أنه أعلن توبته وهدايته كوكبة من علماء الإمامية في العصر الحاضر، فتمسكوا بالسنة جملة وحاربوا البدع وذموها، ودافعوا عن السنة ونصروها.. ومنهم:
آية الله العظمى (كما يسمونه) أبو الفضل البرقعي المتوفى عام (1412هـ)، الذي كتب كتابه (كسر الصنم) في هدم أكبر كتب المخالفين وتقويض أساسه، وله كتب ومقالات ورسائل كثيرة تدعو إلى السنة والتمسك بها، وتنفر من البدعة والشرك.
ومنهم: أحمد الكسروي، الذي ألف كتابه (الشيعة والتشيع) دافع فيه عن الإسلام الحق ومنهج آل البيت، وأن عقائد الشيعة منهما براء. فدفع حياته ثمنًا لذلك فاغتيل عام (1946م) في طهران رحمه الله.
ومنهم: محمد الياسري، الذي كتب كتبًا كثيرة ورسائل عديدة في التوحيد الحق الخالص من البدع والشركيات، فكانت حياته مقابل رفضه للشرك والبدعة وإعلانه التوحيد والسنة، فقتل أثناء رجوعه من صلاة الفجر عام (1997م).
ومنهم كذلك: آية الله العظمى (كما يسمونه) إسماعيل آل إسحاق (علامة خوئيني) الذي تعرض لابتلاءات كثيرة بسبب رفضه للغلو والخرافة، وتمسكه بالكتاب والسنة، فسجن وأهين، ولم يتوقف رحمه الله عن التأليف ونشاطه في الدعوة إلى الله إلى يوم وفاته التاسع من رجب عام (1421هـ) عن عمر ناهز ثلاثًا وستين سنة(*).
كل هؤلاء قادهم البحث إلى الحق والتمسك به، ورد الباطل وذمه والتحذير منه.. وكما قال تعالى: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) [القصص:56].
وإني لو راجعت كل ما كُتب حول وقوع توبة من كان على بدعة أو غير هدى لطال بي الحال، وأكتفي بهذا لعله يكون مثالًا على غيره. والله المستعان.
الفصل السادس
فتاوى بعض أهل العلم في دعوة المخالفين
قال الإمام ابن باز رحمه الله: «نوصي إخواننا جميعًا بالدعوة إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن؛ أمر الله سبحانه بذلك مع جميع الناس ومع المبتدعة إذا أظهروا بدعتهم، وأن ينكروا عليهم، سواء كانوا من الشيعة أو غيرهم».
فتاوى لبعض أهل العلم فيها الحث على دعوة المخالف
لأهل السنة والجماعة
لاشك أن العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم أحرص الناس على هداية الخلق إلى عبادة الله الواحد الأحد سبحانه، ونبذ الشرك وأهله، ومن تأمل كتاب الله تبين له هذا.
وسأذكر هنا فقط نماذج لما وقفت عليه من فتاوى لبعض أهل العلم ذوي البصيرة والفهم، يلمس فيها الداعية حرص هؤلاء العلماء على دعوة كل أحد إلى السنة والهداية والرشاد؛ سواء المسلم أو الكافر، السني أو المخالف، الموحد أو المشرك.
وسأترك القلم لهذه النماذج لعلها تفتح آفاقًا من الفهم والإدراك عند بعض الناس، والله المستعان..
الفتوى الأولى: جاء في فتاوى العلامة مفتي الديار السعودية محمد بن إبراهيم رحمه الله (2/224):
(543- هل يترك رفعهما لمصلحة راجحة أَحيانًا مع بيان السنة)
من محمد بن إبراهيم إِلى المكرم عبد الغفار بن محمد البلوشي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد وصل إِلينا كتابك الذي ذكرت فيه أَنكم ببلاد لا يستعملون رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه؛ لأَن مذهبهم حنفي، وجاء رجل منهم إِلى هذه المملكة وتعلم العلم وعرف هذه السنة وغيرها، ثم أَراد أَن يرجع إِلى بلاده ليدعو إِلى الله وينشر السنة بين قومه، ولكنه يخشى منهم لو يرونه يرفع يديه عند الركوع أَن لا يقبلوا منه بل يبدعوه ويفسقوه. وهو يحب أَن يدعو إِلى توحيد الله وطرح الخرافات والبدع.
فهل الأَولى أَن يترك سنة رفع اليدين لكي يقبلوا منه ما يدعو إِليه من أُمور التوحيد، أَو أَن يحيي تلك السنة ويدعوهم إِليها بقوله وفعله مع دعوته إِلى تحقيق التوحيد سواء قبلوا أَو لم يقبلوا؟
والجواب: لا يخفى أَن الشريعة الإِسلامية جاءت بتحصيل المصالح أَو تكثيرها، وتعطيل المفاسد أَو تقليلها. وأَن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وتفويت أَدنى المصلحتين لتحصيل أَعلاهما، وارتكاب أَدنى المفسدتين لدرء أَعلاهما.
إذا عرف هذا؛ فالدعوة إِلى تحقيق التوحيد الذي بعث الله به رسله وأَنزل به كتبه أَهم وأَولى؛ لأَن النبي صلى الله عليه وسلم مكث عشر سنين يدعو إِلى توحيد الله قبل فرضية الصلاة وغيرها من شرائع الإِسلام. ومع هذا فعلى هذا الرجل أَن لا يأْلو جهدًا في تقرير السنة ونشرها بين الناس بأَقواله عند كل مناسبة وبكل وسيلة، وأَن يتقي الله ما استطاع، ولو لم يفعلها فيما بينهم تأْليفًا لهم، فو الله لأَن يهدي الله به رجلًا واحدًا خير له من حمر النعم. والله الموفق.. والسلام.
مفتي الديار السعودية.
الفتوى الثانية: جاء في فتاويه رحمه الله (4/ 105):
(1082 – وللدعوة إلى الله وكشف الشبه عن الدين):
وهاهنا أمر هام يصح أن يصرف فيه من الزكاة، وهو إعداد قوة مالية للدعوة إلى الله ولكشف الشبه عن الدين، وهذا يدخل في الجهاد، هذا من أعظم سبيل الله.
فإن قام ولاة الأمر بذلك فإنه متعين عليهم، وهذا من أهم مقاصد الولاية التي من أجلها أمر بالسمع والطاعة لحماية حوزة الدين، فإذا أخل بذلك من جهة الولاة فواجب على المسلمين أن يعملوا هذا، لاسيما في هذه السنين، فقد كان في نجد في كل سنة يبذلون جهادًا لأجل التقوي به، فلو كان الناس يجمعون منه الشيء الكثير للدعوة إلى الله وقمع المفسدين بالكلام والنشر فإنه يتعين، وهؤلاء أهل البدع والفساد يعتنون بذلك.
وهنا مثال: الروافض يجمعون أموالًا عظيمة، ويرسلون إلى البلدان شخصًا أو أشخاصًا للدعوة إلى بدعهم، من ذلك ما جرى في مصر، حتى حصل من ذلك ما حصل من الوصول إلى التدريس في مذهب الرافضة المخذول في الأزهر، فإن القمي من علماء الرافضة هناك منذ عشر سنوات، أولًا دعا إلى مسألة تقريب المذاهب، فكان في مصر هيئة نحو عشرة أشخاص وسعوا فيما شاء الله، ثم إنه فشل في المسعى، ثم سعوا في طريق آخر وهو دفع الأموال إلى من له النفوذ، فدفعوا أموالًا كثيرة. أفلا يكون أشخاص يتبرعون ويجعلون حياتهم لذلك؟! وفقط هذا دليل واضح على ضعف الإيمان جدًا؛ فإن البلوى عمت، والناس نظرهم إلى ما يأخذون ولا نظرهم إلى ما يبذلون وينفقون، ثم بلوى التفكك والتباعد في القلوب الشيء الكثير.. ضعف نظر وضعف إيمان بالجامع. والموجود الآن أنه إذا وجد بين فلان وفلان شيء يسير جعله هو الشيء، يقول في عرضه، ويتتبع عوراته، ولو بعضها كذب، ويقول، ويقول.. وإلا فالعاقل يترك أشياء لأشياء؛ بل العقل يدل على أن مثل هذه ينبغي أن ترفض ولا يجعل لها موالاة ولا معاداة.
الفتوى الثالثة: جاء في فتاويه رحمه الله (11/135):
«...وأما كون بعض الناس تطاول بالطعن في مذهبنا وفي علماء نجد بسبب ذلك، فهؤلاء غير خاف ما يطعنون به علينا، يطعنون بإخلاصنا لعبادة الله وحده لا شريك له، وتجريدنا المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنكارنا البدع والخرافات، وصار لهم عند ذلك ضجات إثر ضجات، لكن الله بنعمته قيضكم لهم حتى بينتم لجهالهم المنهج القويم، ووضحتم لهم الصراط المستقيم، وأخذتم على أيديهم حتى أضحوا بذلك مستيقنين، وبمعرفتهم له وسلوكهم طريقه مغتبطين».
الفتوى الرابعة: جاء في فتاويه رحمه الله (13/164):
(4519- إزالة ما يجده الدعاة من البدع والمنكرات):
(من محمد بن إبراهيم إلى حضرة... المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فإنه بالنظر لقيام الداعي إلى الله (بركات بن محمد) بالتجول جهاتكم لبث الوعظ والإرشاد في القبايل التابعة لكم، نأمل الإحاطة بذلك، وتسهيل مهمة المذكور، ومساعدته بما تستطيعونه، ومن أهم ذلك إزالة ما يجده المذكور من البدع والمنكرات المخالفة للشرع، وهذا من التعاون على البر والتقوى، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضانه. والسلام عليكم ورحمة الله.
مفتي الديار السعودية ورئيس القضاة (ص/م 2010 في 5/8/1382هـ).
* فهذا العلامة رحمه الله يبين وبكل وضوح وجوب الدعوة ويحث عليها، في كل الأحوال، ولكل الناس من جهال ومخالفين، ويجعل هذا من التعاون على البر والتقوى، وأنه يجب بيان المنهج القويم للجهال والأخذ على أيديهم.
الفتوى الخامسة: جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم (10536):
س: إذا ولدت المرأة تأخذ معها حديدًا لمدة (40) يومًا ويعتقدون بهذا الحديد أنه يمنع عنهم شر الجن، ويعتقدون أن الحديد ينفعهم من دون الله، فهو الذي خلقهم أول مرة، ولقد وصلنا إلى جدال أنا وأمي وزوجتي، فما نصيحتكم لأمي وزوجتي؟ عسى أن تكون نصيحتكم بركة تحل هذه المشكلة التي حدثت في كل القبائل في ظفار، وأرجو نصيحة المسلمات اللاتي يعتقدن أن الحديد ينفع ويضر من دون الله، وأرجو نصيحة مهمة في الموضوع نفسه حتى أستطيع أن أدعو الناس إلى الطريق الصحيح، وكذلك الولد المختون يمكث نفس المدة التي تمكثها المرأة لا يصوم ولا يصلي ويأخذ الحديد معه لمدة (40) يومًا، وأريد نصيحة ودليلًا بأسرع وقت ممكن، جزاكم الله خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين.
ج: من أنواع الشرك الأكبر المخرج من دين الإسلام: تعليق الحديد ونحوه على المرأة النفساء والمختون لجلب النفع أو دفع الضرر، قال تعالى: ((وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [يونس:107] وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا في يده حلقة من صفر فقال: (ما هذه؟) قال: من الواهنة: فقال: (انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا)، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) رواهما أحمد، وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك). وقد أحسنت في نصيحتك لمن ذكر وعنايتك بإرشادهما إلى ترك هذه البدعة الشركية، جزاك الله خيرًا.
الفتوى السادسة: جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم (6154):
س: إنني أتحدث إلى أبي وأمي وبعض الناس المحيطين بي عن بعض البدع، كأمثال الصلاة في المساجد التي بها قبور، أو دعاء الأموات وما كان من هذا القبيل، ولكن معظم هؤلاء يقولون لي: إن العلماء يصلون في هذه المساجد ويرون الناس ولا يتحدثون، فهل تفهم أنت أكثر منهم؟ ولا فائدة معهم بأي شكل، وإن استطعت يقولون: إنا وجدنا آباءنا على هذا، فهل أنت الذي سوف يصلح الكون؟ ويعدون أن العلماء الكبار الذين يصلون في الحسين والسيدة زينب رضي الله عنهم، فأقول لهم: إن هؤلاء ليسوا بمصر، وإن كانوا بمصر فلا يصح دعاؤهم دون الله عز وجل أو النذر لهم، ولكن هيهات، كأنني أتحدث إلى أحجار، ويقولون لي: يا كافر، وأشياء كثيرة، ولا أدري ماذا أفعل مع أبي وأمي وأنت تعلم حقهم؟ وفي كل مرة تنهرني أمي، فأقول لها: إن السيد البدوي وأمثاله ناس لا يملكون شيئًا في ملك الله عز وجل، ولكن هيهات، تقول لي: إنهم أهل الله، وأشياء لا أستطيع قولها لكم من الشرك الأكبر، فماذا أفعل أكرمكم الله؟ أفيدوني أفادكم الله.
ج: أولًا: لا يجوز بناء المساجد على القبور، ولا تجوز الصلاة في المساجد التي بنيت على قبر أو قبور، ولا يجوز أن يدعو الإنسان الأموات؛ لجلب منفعة أو دفع مضرة، بل دعاؤهم والاستغاثة بهم شرك أكبر يخرج عن ملة الإسلام، والعياذ بالله.
ثانيًا: ليست الحجة في عمل العلماء وأقوالهم; لأنهم يخطئون ويصيبون، وكثير منهم مبتدع، وإنما الحجة في كلام الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة.
ثالثًا: عليك أن تستمر في دعوة والديك ومن حولكم إلى الحق، وأن تثبت عليه، وأن تصبر على الأذى فيه، عسى أن يهدي الله على يديك إلى الحق والصواب الكثير، ويكونوا عونًا لك بعد أن كانوا أعداء مناوئين يسخرون منك ويحقرونك، وترفق بالوالدين، وصاحبهما في الدنيا معروفًا؛ لقوله تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [لقمان:14] نسأل الله لك التوفيق والثبات على الحق، وأن يهدي الله بك والديك وغيرهما، إنه على كل شيء قدير.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن قعود عضو.
عبد الله بن غديان عضو.
عبد الرزاق عفيفي نائب رئيس اللجنة.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس.
الفتوى السابعة: السؤال الأول من الفتوى رقم (4299):
س: أنا أعيش في قرية أغلب سكانها مسلمون، ولكنهم يدعون غير الله عند نزول المصيبة والنازلة، وإن هؤلاء القوم يدعون ويعتقدون أن الأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين هم المقربون إلى الله، ونحن عصاة، فبذلك لسنا مؤهلين ولا مستحقين أن نسأل الله بلا وسيلة إليه من الأولياء أو الشهداء أو الصالحين، وهؤلاء القوم يدعون أن الأولياء يقربوننا إلى الله، وهم يسمعون دعاءنا بعد موتهم، فيشفعون لنا عند الله. أيضًا وهؤلاء القوم يقيمون الأعياد عند قبور الصالحين، ويسمونهم بالعروس أو النذر كما يقيم الكفار عند معابدهم. وليس في محلتي أحد يؤمن بعقيدة السلف إلا أنا وحدي، أنا منفرد في قريتي بعقيدتي السلفية، وكلما دعوتهم إلى عقائد السلفية وهم يردون علي بالقول: أنت مبتدع، وأنت وهابي، نسبة إلى الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإن كانت عقائد القوم هكذا فهل تجوز الصلاة خلفهم والاقتداء بهم للضرورة أم لا؟ أو الانفراد أفضل في هذه الحال؟ وهل يحل أكل ذبيحتهم أم لا؟
ج: من كان واقعه ما وصفت لا تجوز الصلاة خلفه ولا تصح لو فعلت؛ لأن أعماله شركية تخرجه من ملة الإسلام، ولا تؤكل ذبيحته؛ لأنه مشرك، لما ورد في ذلك من الأدلة الشرعية، ونسأل الله أن يثبتك على الحق، وأن يهديهم على يديك حتى يكون لك مثل أجورهم، ونوصيك بالاستمرار في دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى الحق بالوسائل الحسنة والأسلوب المؤثر الرقيق، والصبر على أذاهم، عملًا بقول ربنا عز وجل: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125]، وقوله سبحانه عن لقمان أنه قال لابنه: ((يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)) [لقمان:17]، وما جاء في معنى ذلك من الآيات والأحاديث.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن غديان عضو.
عبد الرزاق عفيفي نائب رئيس اللجنة.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس.
الفتوى الثامنة: الفتوى رقم (8308):
س: نفيدكم أنه يعيش كثير من إخواننا المسلمين أهل السنة على ساحل فارس، ويريدون أداء فريضة الحج، ولكنهم لا يستطيعون السفر مع أهل إيران؛ لكونهم من الشيعة، تحسبًا لما ينجم من مشاكل معهم في الطريق، وكذلك لا تسمح لهم حكومات الدول العربية المتاخمة لهم بالسفر من منافذها، فهل يجوز لهم أن يرسلوا نفقات حجهم إلى أقارب لهم بدولة أخرى ليحجوا عنهم؟ أفتونا مأجورين، مع التوضيح الكامل في الإجابة، وجزاكم الله خيرًا.
ج: الواجب عليهم أن يحجوا ولو مع الشيعة إذا كانوا مستطيعين للحج، وعليهم مع ذلك الحذر من شبهات الشيعة ومذهبهم الباطل، وإن تمكنوا أن ينصحوهم ويدعوهم إلى اعتناق مذهب أهل السنة وجب عليهم ذلك؛ لقول الله سبحانه: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125]، وغيرها من الآيات الدالة على وجوب الدعوة إلى الله سبحانه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أصلح الله حال الجميع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبدالله بن قعود عضو.
عبدالله بن غديان عضو.
عبدالرزاق عفيفي نائب رئيس اللجنة.
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز الرئيس.
الفتوى التاسعة: وفي فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السؤال الثامن والتاسع من الفتوى رقم (8897):
«...فالواجب نصيحة هؤلاء الملاحدة ودعوتهم إلى الحق، وتذكيرهم بمغبة كفرهم, وأن مصيرهم النار إن لم يؤمنوا بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبعوا ما جاء به, ولكم من الله الأجر العظيم وحسن العاقبة... » إلخ.
عبد الله بن قعود عضو.
عبد الله بن غديان عضو.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس.
* وتلحظ هنا -وفقني الله وإياك- كيف يوجه هؤلاء العلماء إلى دعوة المخالفين إلى السنة، واحتساب الأجر من الله، والصبر، فقولهم للسائل: (وقد أحسنت في نصيحتك لمن ذكر وعنايتك بإرشادهما إلى ترك هذه البدعة الشركية، جزاك الله خيرًا) فيه مديح لصنيعه، وكذا قولهم: (عليك أن تستمر في دعوة والديك ومن حولكم إلى الحق، وأن تثبت عليه وأن تصبر على الأذى فيه، عسى أن يهدي الله على يديك إلى الحق والصواب الكثير، ويكونوا عونًا لك بعد أن كانوا أعداء مناوئين يسخرون منك ويحقرونك)، وقولهم: (ونسأل الله أن يثبتك على الحق، وأن يهديهم على يديك حتى يكون لك مثل أجورهم، ونوصيك بالاستمرار في دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى الحق بالوسائل الحسنة والأسلوب المؤثر الرقيق، والصبر على أذاهم)، يحث السائل على الدعوة والصبر، واختيار الوسائل الحسنة والأسلوب المؤثر الرقيق، والرفق بهم والصبر على أذاهم.
وقولهم كذلك للسائلين: (وعليهم مع ذلك الحذر من شبهات الشيعة ومذهبهم الباطل، وإن تمكنوا أن ينصحوهم ويدعوهم إلى اعتناق مذهب أهل السنة وجب عليهم ذلك؛ لقول الله سبحانه: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125]، وغيرها من الآيات الدالة على وجوب الدعوة إلى الله سبحانه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فيه وجوب دعوة من خالف السنة وأظهر البدعة من الشيعة وغيرهم.
الفتوى العاشرة: جاء في فتاوى العلامة الفهامة الشيخ ابن باز رحمه الله وغفر له ما يلي:
توضيح عن فرقة الشيعة:
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم... وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد تلقيت كتابكم الكريم وفهمت ما تضمنه. وأفيدكم بأن الشيعة فرق كثيرة، وكل فرقة لديها أنواع من البدع، وأخطرها فرقة الرافضة الخمينية الإثني عشرية؛ لكثرة الدعاة إليها، ولما فيها من الشرك الأكبر؛ كالاستغاثة بأهل البيت، واعتقاد أنهم يعلمون الغيب ولاسيما الأئمة الاثني عشر حسب زعمهم، ولكونهم يكفرون ويسبون غالب الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، نسأل الله السلامة مما هم عليه من الباطل.
وهذا لا يمنع دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى طريق الصواب، وتحذيرهم مما وقعوا فيه من الباطل على ضوء الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة.
وأسأل الله لك ولإخوانك من أهل السنة المزيد من التوفيق لما يرضيه مع الإعانة على كل خير، وأوصيكم بالصبر والصدق والإخلاص، والتثبت في الأمور، والعناية بالحكمة والأسلوب الحسن في ميدان الدعوة، والإكثار من تلاوة القرآن الكريم، والتدبر في معانيه ومدارسته، ومراجعة كتب أهل السنة فيما أشكل من ذلك؛ كتفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي، مع العناية بحفظ ما تيسر من السنة؛ كبلوغ المرام للحافظ ابن حجر، وعمدة الأحكام في الحديث للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، ولا يخفى أنه يجب على الإنسان أن يسأل عما يشكل عليه في أمر دينه، كما قال تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [النحل:43]، وإليكم برفقه بعض الكتب، أسأل الله أن ينفعكم بما فيها، وأن يعم بنفعكم إخوانكم المسلمين، كما أسأله سبحانه أن يثبتنا وإياكم على الحق، وأن يجعلنا جميعًا من أنصار دينه وحماة شريعته والداعين إليه على بصيرة، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
صدرت الإجابة من مكتب سماحته في (22/1/1409هـ) برقم: (1/136).
الفتوى الحادية عشرة: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.. سلمه الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
لدي سؤال حيرني كثيرًا وأرغب من سماحتكم التكرم بالإجابة عليه بالتفصيل وجزاكم الله خيرًا.
السؤال: أنا فتاة مسلمة ملتزمة أعمل الخير وأتجنب الشر، إلا أنني لم أقم الصلاة؛ وذلك بسبب الحيرة، حيث إن الناس في العراق منقسمون إلى قسمين: قسم يدعى شيعة، والقسم الآخر يدعى سنة، وصلاة كل منهما تختلف عن الآخر، وكل منهما يدعي أن صلاته هي الأصح، وأنا إن صليت مع القسم الشيعي أو السني فإن الوسوسة لا تفارقني. لهذا أرجو أن تفيدوني عن الصلاة من الوضوء وحتى التسليم.
ج: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.. أما بعد:
فأسأل الله لك ولجميع أخواتك في الله التوفيق والهداية، وأوصيك أولًا بلزوم ما عليه أهل السنة والجماعة، وأن يكون الميزان ما قاله الله ورسوله، الميزان هو كتاب الله العظيم القرآن، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه وسيرته عليه الصلاة والسلام، وأهل السنة هم أولى بهذا، وهم الموفقون لهذا الأمر، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وعند الشيعة أغلاط كثيرة وأخطاء كبيرة، نسأل الله لنا ولهم الهداية حتى يرجعوا إلى الكتاب والسنة، وحتى يدعوا ما عندهم من البدعة، فنوصيك بأن تلزمي ما عليه أهل السنة والجماعة، وأن تستقيمي على ذلك حتى تلقي ربك على طريق السنة والجماعة.
أما ما يتعلق بالصلاة: فالواجب عليك أن تصلي وليس لك أن تدعيها؛ لأنها عمود الإسلام، والركن الثاني من أركانه العظيمة، والصواب ما عليه أهل السنة في الصلاة وغيرها، فعليك أن تصلي كما يصلي أهل السنة، وعليك أن تحذري التساهل في ذلك، فالصلاة عمود الإسلام، وتركها كفر وضلال، فالواجب عليك الحذر من تركها، والواجب عليك وعلى كل مسلم ومسلمة البدار إليها، والمحافظة عليها في أوقاتها، كما قال الله عز وجل: ((حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)) [البقرة:238]، وقال سبحانه: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) [النور:56]، فعليك أن تعتني بالصلاة، وأن تجتهدي في المحافظة عليها، وأن تنصحي من لديك في ذلك، والله وعد المحافظين بالجنة والكرامة قال عز وجل: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون:2] ، ثم عدد صفات عظيمة لأهل الإيمان، ثم ختمها بقوله سبحانه: ((وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [المؤمنون:11] ، وهذا وعد عظيم من الله عز وجل لأهل الصلاة وأهل الإيمان، وقال عز وجل في سورة المعارج: ((إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ)) [المعارج:23].
ثم عدد صفات عظيمة بعد ذلك، ثم قال سبحانه: ((وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)) [المعارج:35] فنوصيك بالعناية بالصلاة والمحافظة عليها( ).
الفتوى الثانية عشرة: كذلك من فتاويه قدس الله روحه:
السؤال الثاني: بماذا تنصحون الدعاة حيال موقفهم من المبتدعة؟ كما نرجو من سماحتكم توجيه نصيحة خاصة إلى الشباب الذين يتأثرون بالانتماءات الحزبية المسماة بالدينية.
الجواب: نوصي إخواننا جميعًا بالدعوة إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن؛ أمر الله سبحانه بذلك مع جميع الناس ومع المبتدعة إذا أظهروا بدعتهم، وأن ينكروا عليهم، سواء كانوا من الشيعة أو غيرهم، فأي بدعة رآها المؤمن وجب عليه إنكارها حسب الطاقة بالطرق الشرعية.
والبدعة: هي ما أحدثه الناس في الدين ونسبوه إليه وليس منه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)، ومن أمثلة ذلك: بدعة الرفض، وبدعة الاعتزال، وبدعة الإرجاء، وبدعة الخوارج، وبدعه الاحتفال بالموالد، وبدعة البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها.. إلى غير ذلك من البدع، فيجب نصحهم وتوجيههم إلى الخير، وإنكار ما أحدثوا من البدع بالأدلة الشرعية، وتعليمهم ما جهلوا من الحق بالرفق والأسلوب الحسن والأدلة الواضحة، لعلهم يقبلون الحق... إلخ.
الفتوى الثالثة عشرة: سؤال: إذا كان المدعوون متأثرين بثقافات معينة أو بمجتمعات معينة ما هو السبيل لدعوتهم؟
جواب: يبين لهم ما في المذاهب التي تأثروا بها والبيئة التي تأثروا بها من الباطل، ويبين لهم أن هذه المذاهب فيها كذا وكذا، ويوضح ما فيها من أنواع الباطل والبدع إذا كانت كذلك، ويبين لهم أن المرجع في جميع الأمور هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما حصلتم عليه من كذا وكذا وما تعلمتم من كذا وكذا وما تخلقتم به بسبب البيئة- الاختلاط- عليكم أن تعرضوا ذلك على الميزان الشرعي، مثل ما يعرض العلماء مسائل الفقه على الأدلة الشرعية، فما وافقها وجب أن يبقى، وما خالفها وجب أن يطرح، ولو كانت من عادات الآباء والأسلاف والمشايخ وغيرهم.
والخلاصة: أن الواجب التمسك بالخلق الصالح والسيرة الحسنة التي دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يتعصب لسيرة أبيه أو جده أو بيئته أو بيئة بلده؛ بل عليه أن يتمسك بالحق الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة.
الفتوى الرابعة عشرة: قال ابن باز في جواب عن حكم السفر للخارج والإقامة مع العوائل:
«...فالواجب على المسلمين الحذر من السفر إلى بلاد أهل الشرك إلا عند الضرورة القصوى، إلا إذا كان المسافر ذا علم وبصيرة، ويريد الدعوة إلى الله والتوجيه إليه، فهذا أمر مستثنى، وهذا فيه خير عظيم؛ لأنه يدعو المشركين إلى توحيد الله ويعلمهم شريعة الله، فهو محسن وبعيد عن الخطر؛ لما عنده من العلم والبصيرة، والله المستعان».
الفتوى الخامسة عشرة: س: متى تشرع مقاطعة المبتدع؟ ومتى يشرع البغض في الله؟ وهل تشرع المقاطعة في هذا العصر؟
ج: المؤمن ينظر في هذه المقامات بنظر الإيمان والشرع والتجرد من الهوى، فإذا كان هجره للمبتدع وبعده عنه لا يترتب عليه شر أعظم؛ فإن هجره حق، وأقل أحواله أن يكون سنة، وهكذا هجر من أعلن المعاصي وأظهرها أقل أحواله أنه سنة، أما إن كان عدم الهجر أصلح؛ لأنه يرى أن دعوة هؤلاء المبتدعين وإرشادهم إلى السنة وتعليمهم ما أوجب الله عليهم يؤثر فيهم ويزيدهم هدى، فلا يعجل في الهجر، ولكن يبغضهم في الله كما يبغض الكافر والعصاة، لكن يكون بغضه للكفار أشد، مع دعوتهم إلى الله سبحانه، والحرص على هدايتهم عملًا بجميع الأدلة الشرعية؛ ويبغض المبتدع على قدر بدعته إن كانت غير مكفرة، والعاصي على قدر معصيته، ويحبه في الله على قدر إسلامه وإيمانه، وبذلك يعلم أن الهجر فيه تفصيل، وقد قال ابن عبد القوي في نظمه المقنع ما نصه: هجران من أبدى المعاصي سنة، وقد قيل: إن يردعه أوجب وآكد، وقيل: على الإطلاق ما دام معلنًا، ولاقه بوجه مكفهر مربد.
والخلاصة: أن الأرجح والأولى النظر إلى المصلحة الشرعية في ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هجر قومًا وترك آخرين لم يهجرهم، مراعاة للمصلحة الشرعية الإسلامية، فهجر كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم لما تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر، هجرهم خمسين ليلة، حتى تابوا فتاب الله عليهم، ولم يهجر عبد الله بن أبي بن سلول وجماعة من المتهمين بالنفاق؛ لأسباب شرعية دعت إلى ذلك.
فالمؤمن ينظر في الأصلح، وهذا لا ينافي بغض الكافر والمبتدع والعاصي في الله سبحانه ومحبة المسلم في الله عز وجل، وعليه أن يراعي المصلحة العامة في ذلك، فإن اقتضت الهجر هجر، وإن اقتضت المصلحة الشرعية الاستمرار في دعوتهم إلى الله عز وجل وعدم هجرهم فعل ذلك، مراعاة لهديه صلى الله عليه وسلم.
فتاوى ابن باز.
الفتوى السادسة عشرة: ابن باز: حكم تارك الصلاة:
«...أما من جحد وجوبهما أو أحدهما، أو جحد وجوب الحج مع الاستطاعة، فهو كافر بالإجماع؛ لأنه مكذب لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الجحد. فالواجب عليك أن تبغضه في الله، ويشرع لك أن تهجره حتى يتوب إلى الله سبحانه، وإن اقتضت المصلحة عدم هجره لدعوته إلى الله وإرشاده لعل الله يمن عليه بالهداية فلا بأس»( ).
الفتوى السابعة عشرة: (34) الحكم الشرعي في فتاة شيعية يمنعها المأذون من عقد القران:
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرمة الآنسة ف. ح. ع. وفقها الله لما فيه رضاه، ويسر أمرها وأصلح شأنها آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلني كتابك المتضمن الإفادة أنك فتاة تبلغين الثالثة والعشرين من العمر، وأنكِ على مذهب الشيعة أتباع داود بوهراوان ممثل مرجع الطائفة المذكورة المقيم في كينيا، وأنه يمنع مأذون مدينة (ممباسا) من عقد قرانك، ورغبتك في بيان الحكم الشرعي في ذلك.
والجواب: لا ريب أن الواجب على المسئولين في جميع الطوائف المنتسبة للإسلام أن يلتزموا حكم الإسلام في جميع الأمور، وأن يحذروا ما يخالف ذلك، وقد علم من الشريعة الإسلامية أن الواجب على الأولياء تزويج مولياتهم إذا خطبهن الأكفاء؛ لقول الله سبحانه: ((وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) [النور:32].
ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) خرجه الإمام الترمذي وغيره.
وبناء على ذلك فإذا زوجك الأقرب من أوليائك على أحد أكفائك، فليس لممثل طائفة البهرة اعتراض عليك، ويكون النكاح بذلك صحيحًا إذا توافرت شروطه، وينبغي أن يكون ذلك بواسطة المحكمة الشرعية في (ممباسا) حتى لا يتأتى لممثل طائفة البهرة اعتراض على النكاح، وإذا صدر النكاح على الوجه المذكور فإن أولادك يكونون أولادًا شرعيين، ليس لطائفة البهرة ولا غيرهم حق في إنكار ذلك.
وإذا امتنع أقاربك من تزويجك على الكفء إرضاء لممثل طائفة البهرة، فإن ولايتهم تبطل بذلك، ويكون للقاضي الشرعي إجراء عقد القران لك على من خطبك من الأكفاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (السلطان ولي من لا ولي له)، والقاضي هو نائب السلطان، فيقوم مقامه في ذلك، والولي العاضل حكمه حكم المعدوم.
هذا ونصيحتي لك ولأمثالك ترك الانتساب لمذهب البهرة أو غيره من مذاهب الشيعة؛ لكونها مذاهب مخالفة للطريقة المحمدية الإسلامية من وجوه كثيرة، فالواجب تركها والانتقال عنها إلى مذهب أهل السنة والجماعة، السائرين على مقتضى الكتاب والسنة، ومنهج سلف الأمة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وأسأل الله أن يهدي هذه الطائفة وغيرها من الطوائف المنحرفة عن طريق الصواب، وأن يأخذ بأيديهم إلى طريق الحق، وأن يوفقنا وإياك وسائر المسلمين لما فيه النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته( ).
فهذا العلامة الإمام ابن باز رحمه الله رحمة واسعة يقول للسائل:
«...وهذا لا يمنع دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى طريق الصواب، وتحذيرهم مما وقعوا فيه من الباطل على ضوء الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة... وأوصيكم بالصبر والصدق والإخلاص والتثبت في الأمور، والعناية بالحكمة والأسلوب الحسن في ميدان الدعوة»، ويوصيه بالدعوة والإرشاد والصبر والصدق والعناية بالحكمة والأسلوب الحسن في الدعوة.
ويقول رحمه الله مبينًا الحق وداعيًا لمن أخطأ الطريق بالهداية والرجوع إلى الكتاب والسنة:
«وعند الشيعة أغلاط كثيرة وأخطاء كبيرة، نسأل الله لنا ولهم الهداية حتى يرجعوا إلى الكتاب والسنة، وحتى يدعوا ما عندهم من البدعة».
ويقول رحمه الله ناصحًا الذين تشبعت عقولهم بالخرافات والبدع التي تكاد تنتشر في البلاد العربية:
«ننصح الجميع بأن يتقوا الله عز وجل، ويعلموا أن السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة في عبادة الله وحده، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم والسير على منهاجه، فهو سيد الأولياء وأفضل الأولياء».
وهنا يوجه رحمه الله الدعاة وينصحهم حيال موقفهم من المخالفين، فيقول:
«نوصي إخواننا جميعًا بالدعوة إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن؛ أمر الله سبحانه بذلك مع جميع الناس ومع المبتدعة إذا أظهروا بدعتهم، وأن ينكروا عليهم، سواء كانوا من الشيعة أو غيرهم، فأي بدعة رآها المؤمن وجب عليه إنكارها حسب الطاقة بالطرق الشرعية».
ويقول رحمه الله ناصحًا ومحذرًا من السفر لبلاد المشركين:
«..إلا إذا كان المسافر ذا علم وبصيرة، ويريد الدعوة إلى الله والتوجيه إليه، فهذا أمر مستثنى، وهذا فيه خير عظيم؛ لأنه يدعو المشركين إلى توحيد الله ويعلمهم شريعة الله، فهو محسن وبعيد عن الخطر؛ لما عنده من العلم والبصيرة، والله المستعان»، فمن تأهل بالعلم والبصيرة والدعوة إلى الحق فهذا لايشمله النهي؛ لأنه على خير عظيم في دعوته إلى التوحيد وتعليم شريعة الله.
وقال رحمه الله مبينًا أن المصلحة تقضي أحيانًا بدعوة المخالفين لأهل السنة والجماعة وإرشادهم إلى السنة، وتعليمهم ما أوجب الله عليهم والتأثير فيهم، لعله يزيدهم هدى فلا يعجل في الهجر:
«...أما إن كان عدم الهجر أصلح لأنه يرى أن دعوة هؤلاء المبتدعين وإرشادهم إلى السنة وتعليمهم ما أوجب الله عليهم يؤثر فيهم ويزيدهم هدى؛ فلا يعجل في الهجر، ولكن يبغضهم في الله كما يبغض الكافر والعصاة، لكن يكون بغضه للكفار أشد، مع دعوتهم إلى الله سبحانه والحرص على هدايتهم، عملًا بجميع الأدلة الشرعية؛ ويبغض المبتدع على قدر بدعته إن كانت غير مكفرة، والعاصي على قدر معصيته، ويحبه في الله على قدر إسلامه وإيمانه، وبذلك يعلم أن الهجر فيه تفصيل...».
والخلاصة: أن الأرجح والأولى النظر إلى المصلحة الشرعية في ذلك..
فالمؤمن ينظر في الأصلح، وهذا لا ينافي بغض الكافر والمبتدع والعاصي في الله سبحانه، ومحبة المسلم في الله عز وجل، وعليه أن يراعي المصلحة العامة في ذلك، فإن اقتضت الهجر هجر، وإن اقتضت المصلحة الشرعية الاستمرار في دعوتهم إلى الله عز وجل وعدم هجرهم فعل ذلك مراعاة لهديه صلى الله عليه وسلم ».
ويقول رحمه الله في جوابه للفتاة الشيعية ناصحًا لها وموجهًا ومرشدًا ومشفقًا:
«هذا.. ونصيحتي لك ولأمثالك ترك الانتساب لمذهب البهرة أو غيره من مذاهب الشيعة؛ لكونها مذاهب مخالفة للطريقة المحمدية الإسلامية من وجوه كثيرة، فالواجب تركها والانتقال عنها إلى مذهب أهل السنة والجماعة، السائرين على مقتضى الكتاب والسنة، ومنهج سلف الأمة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وأسأل الله أن يهدي هذه الطائفة وغيرها من الطوائف المنحرفة عن طريق الصواب، وأن يأخذ بأيديهم إلى طريق الحق، وأن يوفقنا وإياك وسائر المسلمين لما فيه النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»( ).
الفتوى الثامنة عشرة: السؤال: ما حكم الله ورسوله في قوم يفعلون الأشياء التالية: يقولون في الأذان: (أشهد أن عليًا ولي الله) و(حي على خير العمل) و(عترة محمد) و(علي خير العتر)، وإذا توفي أحد منهم قام أقرباؤه بذبح شاة يسمونها (العقيقة) ولا يكسرون من عظامها شيئًا، ثم بعد ذلك يقبرون عظامها وفرثها، ويزعمون أن ذلك حسنة ويجب العمل به، فما موقف المسلم الذي على السنة المحمدية وله بهم رابطة نسب؟ هل يجوز له شرعًا أن يوادهم ويكرمهم ويقبل كرامتهم ويتزوج منهم ويزوجهم؟ علمًا بأنهم يجاهرون بعقيدتهم، ويقولون أنهم الفرقة الناجية، وأنهم على الحق ونحن على الباطل؟
الجواب:
«قد بين الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ألفاظ الأذان والإقامة، وقد رأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في النوم الأذان، فعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها رؤيا حق) وأمره أن يلقيه على بلال؛ لكونه أندى صوتًا منه ليؤذن به، فكان بلال يؤذن بذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفاه الله عز وجل، ولم يكن في أذانه شيء من الألفاظ المذكورة في السؤال.
وهكذا عبد الله بن أم مكتوم كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات، ولم يكن في أذانه شيء من هذه الألفاظ، وأحاديث أذان بلال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة في الصحيحين وغيرهما من كتب أهل السنة، وهكذا أذان أبي محذورة بمكة ليس فيه شيء من هذه الألفاظ، وقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم ألفاظه ولم يعلمه شيئًا من هذه الألفاظ، وألفاظ أذانه ثابتة في صحيح مسلم وغيره من كتب أهل السنة.
وبذلك يعلم أن ذكر هذه الألفاظ في الأذان بدعة يجب تركها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)( ) متفق على صحته، وفي رواية أخرى: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)( ) خرجه مسلم في صحيحه.. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبة الجمعة: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)، وقد درج خلفاؤه الراشدون ومنهم علي رضي الله عنه وهكذا بقية الصحابة رضي الله عنهم على ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الأذان، ولم يحدثوا هذه الألفاظ.
وقد أقام علي رضي الله عنه في الكوفة- وهو أمير المؤمنين- قريبًا من خمس سنين، وكان يؤذَّن بين يديه بأذان بلال رضي الله عنه، ولو كانت هذه الألفاظ المذكورة في السؤال موجودة في الأذان لم يخف عليه ذلك؛ لكونه رضي الله عنه من أعلم الصحابة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، وأما ما يرويه بعض الناس عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول في الأذان: (حي على خير العمل)، فلا أساس له من الصحة، وأما ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما وعن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنه وعن أبيه أنهما كان يقولان في الأذان: (حي على خير العمل)، فهذا في صحته عنهما نظر، وإن صححه بعض أهل العلم عنهما، لكن ما قد علم من علمهما وفقههما في الدين يوجب التوقف عن القول بصحة ذلك عنهما؛ لأن مثلهما لا يخفى عليه أذان بلال ولا أذان أبي محذورة، وابن عمر رضي الله عنهما قد سمع ذلك وحضره، وعلي بن الحسين رحمه الله من أفقه الناس، فلا ينبغي أن يظن بهما أن يخالفا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلومة المستفيضة في الأذان، ولو فرضنا صحة ذلك عنهما فهو موقوف عليهما، ولا يجوز أن تعارض السنة الصحيحة بأقوالهما ولا أقوال غيرهما؛ لأن السنة هي الحاكمة مع كتاب الله العزيز على جميع الناس، كما قال الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) [النساء:59].
وقد رددنا هذا اللفظ المنقول عنهما وهو عبارة (حي على خير العمل) في الأذان إلى السنة، فلم نجدها فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألفاظ الأذان، وأما قول علي بن الحسين رضي الله عنه فيما روي عنه أنها في الأذان الأول، فهذا يحتمل أنه أراد به الأذان بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما شرع، فإن كان أراد ذلك فقد نسخ بما استقر عليه الأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها من ألفاظ أذان بلال وابن أم مكتوم وأبي محذورة، وليس فيها هذا اللفظ ولا غيره من الألفاظ المذكورة في السؤال.
ثم يقال: إن القول بأن هذه الجملة موجودة في الأذان الأول -إذا حملناه على الأذان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم - غير مسلم به؛ لأن ألفاظ الأذان من حين شرع محفوظة في الأحاديث الصحيحة، وليس فيها هذه الجملة، فعلم بطلانها وأنها بدعة.
ثم يقال أيضًا: علي بن الحسين رضي الله عنه من جملة التابعين، فخبره هذا لو صرح فيه بالرفع فهو في حكم المرسل، والمرسل ليس بحجة عند جماهير أهل العلم، كما نقل ذلك عنهم الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد، هذا لو لم يوجد في السنة الصحيحة ما يخالفه، فكيف وقد وجد في الأحاديث الصحيحة الواردة في صفة الأذان ما يدل على بطلان هذا المرسل وعدم اعتباره. والله الموفق.
وأما ما تفعله الطائفة المذكورة إذا توفي أحد منهم قامت قرابته بذبح شاة يسمونها (العقيقة) ولا يكسرون عظمها، ويدفنون عظامها وفرثها، ويزعمون أن ذلك حسنة يجب العمل بها.
فالجواب عن ذلك: أن هذا العمل بدعة ولا أساس له في الشريعة الإسلامية، فالواجب تركه والتوبة إلى الله منه كسائر البدع والمعاصي، فإن التوبة إلى الله سبحانه تجب ما قبلها، وهي واجبة من جميع الذنوب والمعاصي ومن جميع البدع، كما قال عز وجل: ((وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [النور:31]، وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)) [التحريم:8] الآية، وإنما العقيقة المشروعة التي جاءت بها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ما يذبح عن المولود في يوم سابعه، وهي شاتان عن الذكر وشاة واحدة عن الأنثى، وقد عق النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين رضي الله عنهما، وصاحبها مخير: إن شاء وزعها لحمًا بين الأقارب والأصحاب والفقراء، وإن شاء طبخها ودعا إليها من شاء من الأقارب والجيران والفقراء، هذه هي العقيقة المشروعة، وهي سنة مؤكدة، ومن تركها فلا إثم عليه.
وأما قول السائل: ما موقف المسلم الذي على السنة المحمدية وله بهذه الطائفة رابطة نسب؟ هل يوادهم بمعنى يكرمهم ويكرمونه، ويتزوج منهم ويزوجهم، مع العلم بأنهم يجاهرون بعقيدتهم، ويقولون أنهم الفرقة الناجية، وأنهم على الحق ونحن على الباطل؟
فالجواب:
إذا كانت عقيدتهم هي ما تقدم في الأسئلة، مع موافقة أهل السنة في توحيد الله سبحانه وإخلاص العبادة لله وعدم الشرك به؛ لا بأهل البيت ولا بغيرهم، فلا مانع من تزويجهم والتزوج منهم، وأكل ذبائحهم، والمشاركة في ولائمهم، وموادتهم على قدر ما معهم من الحق، وبغضهم على قدر ما معهم من الباطل؛ لأنهم مسلمون قد اقترفوا أشياء من البدع والمعاصي لا تخرجهم من دائرة الإسلام، وتجب نصيحتهم وتوجيههم إلى السنة والحق، وتحذيرهم من البدع والمعاصي، فإن استقاموا وقبلوا النصيحة فالحمد لله، وهذا هو المطلوب، أما إن أصروا على البدع المذكورة في الأسئلة فإنه يجب هجرهم، وعدم المشاركة في ولائمهم حتى يتوبوا إلى الله ويتركوا البدع والمنكرات، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك الأنصاري وصاحبيه لما تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر شرعي. وإذا رأى قريبهم أو مجاورهم أن عدم الهجر أصلح، وأن الاختلاط بهم ونصيحتهم أكثر فائدة في الدين، وأقرب إلى قبولهم الحق، فلا مانع من ترك الهجر؛ لأن المقصود من الهجر هو توجيههم إلى الخير، وإشعارهم بعدم الرضا بما هم عليه من المنكر؛ ليرجعوا عن ذلك، فإذا كان الهجر يضر المصلحة الإسلامية، ويزيدهم تمسكًا بباطلهم ونفرة من أهل الحق؛ كان تركه أصلح، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم هجر عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، لما كان ترك هجره أصلح للمسلمين، أما إن كانت هذه الطائفة تعبد أهل البيت كعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، أو غيرهم من أهل البيت، بدعائهم والاستغاثة بهم وطلبهم المدد ونحو ذلك، أو كانت تعتقد أنهم يعلمون الغيب، أو نحو ذلك مما يوجب خروجهم من الإسلام، فإنهم والحال ما ذكر لا يجوز مناكحتهم ولا مودتهم، ولا أكل ذبائحهم، بل يجب بغضهم والبراءة منهم حتى يؤمنوا بالله وحده، كما قال الله سبحانه: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) [الممتحنة:4].
وقال عز وجل: ((وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)) [المؤمنون:117]، وقال عز وجل: ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)) [فاطر:13]، وقال تعالى: ((قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)) [النمل:65]، وقال سبحانه: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)) [الأنعام:59] الآية، وقال تعالى: ((قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:188].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا قول الله سبحانه: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان:34])، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وهو يدعو لله ندًا دخل النار)، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل: (أي الذنب أعظم؟ فقال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك..) الحديث. وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله من ذبح لغير الله)، والأحاديث الدالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده، وعلى تحريم الشرك به، وعلى أنه سبحانه مختص بعلم الغيب كثيرة جدًا.
وفيما ذكرناه مقنع وكفاية لطالب الحق إن شاء الله، والله ولي التوفيق، وهو الهادي لمن يشاء إلى سواء السبيل.
أما قول هذه الطائفة: أنهم الفرقة الناجية، وأنهم على الحق وغيرهم على الباطل، فالجواب عنه أن يقال: ليس كل من ادعى شيئًا تسلم له دعواه؛ بل لابد من البرهان الذي يصدق دعواه، كما قال الله سبحانه: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [البقرة:111]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء رجال وأموالهم..)، الحديث متفق على صحته من حديث عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قيل: من هي يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
فهذا الحديث وما جاء في معناه من الأحاديث الصحيحة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: يا رسول الله! من يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) - كلها تدل على أن الفرقة الناجية من هذه الأمة هم المتمسكون في عقيدتهم وأقوالهم وأعمالهم بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وقد دل كتاب الله الكريم على ما دلت عليه سنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، من أن الفرقة الناجية هم المتبعون لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسائرون على نهج أصحابه بإحسان رضي الله عنهم، قال الله عز وجل: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)) [آل عمران:31]، وقال سبحانه: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة:100]، فهاتان الآيتان الكريمتان دالتان على أن الدليل على حب الله هو اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في العقيدة والقول والعمل، وعلى أن أتباع أصحابه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان في العقيدة والقول والعمل هم أهل الجنة والكرامة، وهم الفائزون برضى الله عنهم ورضاهم عنه، ودخولهم في الجنات أبد الآباد، وهذا بحمد الله واضح لا يخفى على من له أدنى مسكة من علم ودين، والله المسئول أن يهدينا وسائر إخواننا المسلمين صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يجعلنا من أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بإحسان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين»( ).
* من فتاوى الشيخ العلامة محمد الصالح العثيمين رحمه الله:
الفتوى التاسعة عشرة: سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن الرافضة: هل يعتبرون كفرة؟ وكيف يكون تعامل المسلم معهم، لأنهم كثيرًا ما يظهرون الحقد والبغض لأهل السنة؟
فأجاب فضيلته: الرافضة كغيرهم من أهل البدع، إذا أتوا بما يوجب الكفر صاروا كفارًا، وإذا أتوا بما يوجب الفسق صاروا فساقًا، وإذا كان لشيء من أقوالهم القريبة من أقوال أهل السنة شيء من النظر، وصار محل اجتهاد، فهم فيه كغيرهم، فلا يمكن أن يجاء بجواب عام ويقال: كل الرافضة كفار، وكل الرافضة فساق، لابد من التفصيل والنظر في بدعهم، ويجب علينا أن ندعوهم إلى الحق، وأن نبينه لهم، وإذا كنا نعلم من أي فرقة هم، فعلينا أن نبين عيب هذه الفرقة، ولا نيأس، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل، ربما يهديهم الله على أيدينا، فيحصل لنا خير كثير، والإنسان الذي يهتدي بعد أن كان غير مهتد قد تكون فائدته للمجتمع أكثر وأكبر من الذي كان مهتديًا من الأول؛ لأنه عرف الباطل ورجع عنه، وبينه للناس، فيكون بيانه للناس عن علم( ).
الفتوى العشرون: س: رجل عاش مع الرافضة مدة من الزمن، وبعدها انتقل من عندهم إلى منطقة بعيدة، ولكنه وعدهم أن يزورهم، فهل يجوز له أن يفي بوعده لهم أم لا؟ وهل يجوز أن يسلم عليهم ويقبلهم ويجوز آكل طعامهم وشرب مائهم؟
الجواب: الواجب على الإنسان النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعامة الناس، هؤلاء الرافضة الذي يسكن معهم يجب عليه أولًا أن يناصحهم، ويبين لهم الحق، ويبين أن ما هم عليه ليس بحق، فإذا عاندوا ولم يتقبلوا الحق فإنه يتركهم ولا يجلس معهم؛ لأنهم مخالفون معاندون، وأما تركهم وما هم عليه من الضلال بدون النصيحة فهذا خلاف هدي النبي ص، وخلاف ما أمر به؛ فإن الواجب النصيحة أولًا، فإن هداهم الله للحق فهذا هو المطلوب، وإن لم يهتدوا وأصروا على ما هم عليه من الضلال فإنه يتركهم، ولا يجلس إليهم، ولا يزورهم إذا أبعد عنهم أو أبعدوا عنه( ).
* فهو هنا رحمه الله يبين أن الواجب دعوة ونصيحة الرافضة وبيان الحق لهم، وأن تركهم وما هم عليه من الضلال بدون النصيحة خلاف هدي النبي ص وخلاف ما أمر به، وأن الواجب النصيحة أولًا، فإن هداهم الله للحق فهذا هو المطلوب.
الفتوى الحادية والعشرون: جاء في فتاويه رحمه الله رحمة واسعة ما يلي:
س: فضيلة الشيخ في المناطق التي يكثر فيها الرافضة وقد يدخل بعضهم أحد المساجد فيصلي، فهل ننكر عليه ونخرجه من المسجد؟
الجواب: لا أرى أن تخرجوهم من المسجد؛ بل أرى أن تمكنوهم من المسجد ليصلوا، ولكن يجب عليكم أن تناصحوهم، وأن لا تيأسوا من هداية الله لهم؛ لأن الله عز وجل على كل شي قدير، وقد بلغني أنه -ولله الحمد- بدأ منهم أناس يتحررون من رق مذهبهم ويلتحقون بمذهب أهل السنة والجماعة( ).
* وهنا يبين رحمه الله ويرشد إلى نصيحة المخالفين، وأن لا نيأس من هدايتهم، فالله على كل شيء قدير، ويبشر الشيخ رحمه الله أن أناسًا من المخالفين يتركون بدعهم ومذاهبهم الفاسدة ويتمسكون بالسنة والحق.
الفتوى الثانية والعشرون: س: سؤال عن الرافضة وهم عندنا ينزلون إلى الأسواق ويصلون في المساجد هل يجوز لنا أن نطردهم من المساجد؟
الجواب: أنا لا أرى أن يطردوا من المسجد؛ بل يتركون يصلون لعل الله أن يهديهم، هم إذا دخلوا المساجد فيما أعرف يصلون مع الناس.
وإذا كانوا يصلون وحدهم خلف الجماعة؟
إذن يمنعون من الصلاة خلف الناس، ويقال: صلوا مع الناس، وأما طردهم من المساجد فلا أرى ذلك، وإذا كانوا لا يريدون الصلاة مع الجماعة يقال لهم: انتظروا إذا كنتم لا تريدون الصلاة مع الجماعة، انتظروا حتى يخرج الناس من المسجد وصلوا، مع محاولة أنكم تدعونهم إلى الحق، لا على السبيل الجماعي يمكن ألا يحصل فيه فائدة، لكن تنظرون إلى المهذب منهم الذي عنده وعي وتدعونه إلى بيوتكم وتتكلمون معه بإنصاف وعدل( ).
* وهنا هذا الإمام الرشيد رحمه الله يفتي في مسألة عارضة وينتهز الفرصة للتوجيه إلى دعوة المخالفين، والرفق واللين في دعوتهم؛ بل ودعوتهم إلى البيوت لاستضافتهم ودعوتهم بالعدل والإنصاف.
الفتوى الثالثة والعشرون: س: من المعلوم -يا شيخ- لديكم أنه يوجد عندنا في المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام كثير من الرافضة، ويدرسون معنا في المدارس كلها، فيسأل بعض المدرسين فيقول: هل يجب علي أن أعدل بينهم وبين الطلاب الذين هم من أهل السنة أم أقصر في حقهم ولا أعطيهم حقهم؟
الجواب: أولًا: أعجبني قولك: المدينة النبوية؛ لأن المشهور عند الناس (المنورة) والصواب: المدينة النبوية؛ لأن النور كان من مكة أيضًا قبل أن يكون في المدنية.
ثانيًا: الواجب على المدرس أن يحكم بالعدل، قال الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)) [النساء:135]، يعني: لا يحملكم بغض قوم على ألا تعدلوا ((اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)) [المائدة:8]، حتى قال العلماء: يجب على القاضي إذا تحاكم إليه خصمان أحدهما مسلم والثاني كافر أن يجلسهم منه مجلسًا واحدًا، لا يقول للمسلم: تعال هنا، والكافر اذهب هناك، يجعلهمًا جميعًا أمامه، وأن يعدل بينهما في الكلام، لا يغلظ الكلام على الكافر ويرفق الكلام للمسلم، لا يقول للمسلم: صبحك الله بالخير، ولا يقول للكافر، بل ليجعلهما سواء في باب المحاكمة؛ لأن هذا هو العدل.
فهؤلاء التلاميذ إذا قدموا أجوبتهم فليغض النظر عن كونه من هؤلاء أو أولئك، وليصحح على ما كان أمامه من قول، إن كان صوابًا فهو صواب وإن خطأ فهو خطأ، كما أنه لا يجوز أن ينظر إذا كان يعرف صاحب الجواب إلى حال الطالب من قبل؛ لأن بعض الناس أو بعض المدرسين يقدر درجات التلاميذ على حسب ما كان يعرفه منهم لا على حسب الجواب، وهذا خطأ وغلط، يجب أن يقدر الدرجات أو الترتيب على حسب ما رفع إليه الجواب النهائي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أقضي بنحو ما أسمع)، وكثيرًا ما يكون الطالب جيدًا فيتوهم في الجواب أو في السؤال، فيفهم السؤال على أنه أراد به السائل كذا، ويجيب على هذا الفهم، أو يتوهم في الجواب يظن جواب هذا السؤال هو كذا وكذا، وهو غلط، مثل أن يجيء في السؤال: كم أقسام الحديث؟ فيظن الطالب أن المراد كم أقسامه من حيث العدد، فيقول: متواتر وعزيز وغريب، ويوهم آخر أن السؤال عن مراتب الحديث من حيث الصحة، فيقول: صحيح وحسن وضعيف، والحسن إما لذاته أو لغيره، والصحيح إما لذاته أو لغيره.
المهم: أن الواجب على المدرس إذا قدمت له أوراق إجابة أن يصحح حسب الجواب، بقطع النظر عن المجيب، وكذلك في أثناء التدريس يجب أن يعدل بين التلاميذ مهما كان الأمر، وهو بهذه الطريقة يفتح آفاقًا بعيدة قد لا يدركها؛ لأن الخصم يفهم أنه لم يظلمه، فيرغب فيه ويقول: هذا منصف، هذا عدل، ويجره ذلك إلى أن يألفه ويقبل منه ما يقول.
ننصح إخواننا المدرسين في البلاد التي يختلط فيها أهل السنة وأهل البدعة أن يحاولوا بقدر المستطاع تأليف أهل البدعة وجذبهم إليهم؛ لأن الشباب لين العريكة سهل الانقياد، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم) يعني: شبابهم، يجتذبهم بذلك، لكن لو يعاملهم بالقسوة والآخرين باللين، أو يعاملهم بالتشديد والآخرين بالخفيف، أو يعاملهم بإسقاطهم وهم مجيبون صوابًا، فلا شك أن هذا يولد في قلوبهم بغضًا وكراهة، حتى لو أن الحق كان مع هذا الأستاذ( ).
* فهو هنا -ولله دره من فقيه- يوجه المعلم وغيره إلى العدل ولو مع المخالف، وأن هذا باب لترغيبه وتأليف قلبه، وينصح رحمه الله المدرسين الذين عندهم أخلاط من الطلاب أهل سنة وأهل بدع بتأليف قلوبهم وجذبهم إلى نفوسهم، واستغلال مرحلة الشباب عندهم؛ لأن الطالب فيها لين العريكة سهل الانقياد والتأثر، وأن الظلم والقسوة لهم ينفرهم، ويولد البغض والكراهة للمعلم ولو كان الحق معه!
الفتوى الرابعة والعشرون: س: فضيلة الشيخ كثرت الرافضة عندنا في السكن، وأصبح لهم بعض التحرك مع الطلاب الذين يأتون من خارج البلاد، يذهبون معهم إلى الأسواق ويباشرون حوائجهم، ولهم بعض الأنشطة، فما الحل معهم؟
الجواب: إذا كان لهؤلاء نشاط في الدعوة إلى بدعتهم؛ فليكن منكم نشاط أكبر في الدعوة إلى سنتكم؛ لأن الحق إذا قام به أهله فإن الله عز وجل يقول في كتابه: ((بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)) [الأنبياء:18]، لكن كوننا نرى نشاط أهل البدع في بدعتهم ولا سيما البدع الغليظة، ثم نسكت أو نقول ماذا نفعل؟ يعتبر هذا جبنًا، فإذا كان لهم دعوة فلتكن دعوتكم أنتم أكبر وأعظم؛ لأنكم على حق ومأجورون، وأما أهل البدع إذا دعوا إلى بدعتهم فهم آثمون مأزورون، عليهم الويل، وعليهم إثم كل من دعوه إلى هذه البدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
فأنا أحثكم أن يكون لكم نشاط أعظم، فإذا كانوا يبذلون درهمًا فابذلوا درهمين، وإذا كانوا يأتون إلى هؤلاء في بيوتهم ويدعونهم إلى أن يأتوا إليهم في البيوت فليكن نشاطكم في هذا أكثر وأعظم.
وكما قلنا فيما سبق فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطانا قاعدة نمشي عليها أن نعاملهم بمثل ما يعاملونا به( ).
* وهنا يوجه رحمه الله الدعاة أن يبذلوا أضعاف ما يبذل المخالفون لأهل السنة من الدعوة إلى مذاهبهم ونحلهم الباطلة، وأن أهل الحق يثابون في دعوتهم للحق والسنة، كما أن المخالفين والدعاة إلى الباطل آثمون مأزورون في دعوتهم.
الفصل السابع
وسائل دعوة المخالفين
- تأليف الكتب والرسائل - إلقاء الدروس والمحاضرات - الحوار العلمي - الهدية النافعة - الحوار على الشبكة العنكبوتية...
- هذه وغيرها وسائل مفيدة في دعوة أهل البدع إلى التمسك بالسنة.
وسائل دعوة المخالفين
لاشك أن من استشعر أهمية أمر سعى لتحقيقه، واستفرغ جهده لنيل مراده منه، وهذا في أمر الدين والدنيا على السواء، ولا سواء! فإنه ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33]، فأمرُ الدعوة إلى الله -كما بيّنا في أول الكتاب- أمر عظيم، وفيه من الأجور لمن وُفق للإخلاص والمتابعة ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وهو أهل الفضل والإحسان.
وإن من المهم هنا أن نوجز القول في وسائل الدعوة التي تفيد في إيصال الحق لمن ضل عنه من المخالفين، والذين نحسب أن ليس بينهم وبين الحق إلا دعوة داعٍ موفق مسدد، وقبل ذكر هذه الوسائل لابد من تحديد صفات الداعية الموفق الناجح الذي يصلح لدعوة الناس عمومًا ودعوة المخالفين خصوصًا؛ إذ أن مجال الدعوة ليس لكل أحد؛ بل لابد من توفر صفات وشروط في الداعية، وإلا كان إفساده أعظم من إصلاحه، ولا شك أن من أهم، بل هو أساس الدعوة: الداعية الواعي الذي توجد فيه الصفات التالية:
الأولى: أن يكون الداعية على علم فيما يدعو إليه:
وهو العلم الصحيح المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل علم يتلقى من سواهما يجب أن يعرض عليهما أولًا، فإما أن يكون موافقًا أو مخالفًا. فإن كان موافقًا قبل، وإن كان مخالفًا وجب رده على قائله كائنًا من كان.
وأما الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل، والدعوة على جهل ضررها أكبر من نفعها؛ لأن هذا الداعية قد نصب نفسه موجهًا ومرشدًا، وإذا كان جاهلًا فإنه بذلك يكون ضالًا مضلًا والعياذ بالله، ويكون جهله هذا جهلًا مركبًا، والجهل المركب أشد من الجهل البسيط.
والدعوة إلى الله بغير علم خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه؛ لأن الدعوة بعلم هي أمر الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [يوسف:108] ( )، فقال: ((أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)) [يوسف:108]، أي: أن من اتبعه صلى الله عليه وسلم فإنه لابد أن يدعو إلى الله على بصيرة لا على جهل، وذلك بأن يكون عالمًا بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجبًا وهو في شرع الله غير واجب، فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرمًا وهو في دين الله غير محرم، فيحرم على عباد الله ما أحله الله لهم...
الثانية: أن يكون الداعية صابرًا في دعوته:
صابرًا على ما يدعو إليه.. صابرًا على ما يعترض دعوته.. صابرًا على ما يعترضه من الأذى، فهذه ثلاثة أنواع من الصبر:
الأول: أن يكون صابرًا على الدعوة، أي: مثابرًا عليها، لا ينقطع عنها ولا يمل منها، بل يكون مستمرًا في دعوته إلى الله بقدر المستطاع، وفي المجالات التي تكون الدعوة فيها أنفع وأولى وأبلغ.
الثاني: أن يكون صابرًا على ما يعترض دعوته من معارضات ومجادلات؛ لأن كل إنسان يقوم داعيًا إلى الله عز وجل لابد أن يعارض: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا)) [الفرقان:31].
فيجب على الداعية أن يصبر على ما يعترض دعوته، حتى لو وصفت تلك الدعوة بأنها خطأ أو أنها باطل، ما دام أنه يدرك ويعلم أنها موافقة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليصبر على ذلك.
الثالث: أن يكون الداعية صابرًا على ما يعترضه من الأذى؛ لأن الداعية لابد أن يؤذى إما بالقول وإما بالفعل، وليكن قدوته في ذلك رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم؛ فقد أوذوا بالقول والفعل، وتأمل في هذا قوله سبحانه: ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)) [الذاريات:52].
ولهذا لما قال الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا)) [الإنسان:23]، كان من المتوقع أن يقول الله: فاشكر نعمة الله على تنزيل هذا القرآن، ولكن الله قال له: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)) [الإنسان:24]، إشارة إلى أن كل من قام بهذا القرآن لابد أن يناله ما يناله من الأمور التي تحتاج إلى صبر عظيم.
فعلى الداعية أن يكون صبورًا، وأن يستمر حتى يفتح الله له، وليس من الضروري أن يفتح الله له في حياته؛ بل إن المهم أن تبقى دعوته بين الناس ناصعة متبوعة، فليس المهم هو الشخص ولكن المهم هو الدعوة، فإذا بقيت دعوته ولو بعد موته، فإنه حي، قال الله عز وجل: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)) [الأنعام:122].
ففي الحقيقة أن حياة الداعية ليس معناها أن تبقى روحه في جسمه فقط؛ بل أن تبقى مقالته حية بين الناس، وانظر إلى قصة أبي سفيان مع هرقل، وكان قد سمع بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا أبا سفيان فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن ذاته، ونسبه، وما يدعو إليه، وأصحابه، فلما أخبره أبو سفيان عما سأله عنه قال له هرقل له: (إن كان ما تقول حقًا فسيملك ما تحت قدمي هاتين)( ).
وقد ملك النبي صلى الله عليه وسلم ما تحت قدمي هرقل بدعوته لا بشخصه؛ لأن دعوته أتت على هذه الأرض، واكتسحت الأوثان والشرك وأصحابه، وملكها الخلفاء الراشدون بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ملكوها بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وبشريعة النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي عند تفسيره لقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ)) [الكهف:6]: «وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ، والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك فهو خارج عن قدرته.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)) [القصص:56]، وموسى عليه السلام يقول: ((قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي)) [المائدة:25] الآية، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)) [الغاشية:22]...»( ).
الثالثة: الحكمة:
فيدعو إلى الله بالحكمة، وما أَمَرَّ الحكمة على غير ذي الحكمة! فلا بد من الدعوة إلى الله بالحكمة، ثم بالموعظة الحسنة، ثم الجدال بالتي هي أحسن لغير الظالم، ثم الجدل بما ليس أحسن للظالم.. فالمراتب إذن أربع. قال الله تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) [النحل:125]، وقال تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)) [العنكبوت:46].
والحكمة هي: إتقان الأمور وإحكامها، بأن تنزل الأمور منازلها، وتوضع في مواضعها.
يقول الشيخ الدكتور سعيد بن علي القحطاني بعد أن ساق مواقف بعض السلف في الحكمة في الدعوة إلى الله.. قال: «فهذه المواقف الحكيمة في الدفاع عن الكتاب والسنة، وذم الكلام وأهله، والرد عليهم بأسلوب الحكمة، يدل دلالة واضحة على حكمة الشافعي رحمه الله.
ومما يدل على حكمته أيضًا أن الله تفضل عليه وهدى على يديه كثيرًا من أهل الكلام فتركوا باطلهم، وأقبلوا إلى علم الكتاب والسنة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم» اهـ( ).
لكن ليس من الحكمة أن تتعجل وتريد من الناس أن ينقلبوا من حالهم التي هم عليها إلى الحال التي كان عليها الصحابة بين عشية وضحاها؛ فإن من أراد ذلك فهو سفيه العقل، بعيد عن الحكمة؛ لأن حكمة الله عز وجل تأبى أن يكون هذا الأمر، ويدلك على هذا: أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ينزل عليه الكتاب، نزل عليه الشرع متدرجًا حتى استقر في النفوس وكمل.
فلابد من التأني ومراعاة التدرج في التأثير على المخالف مخالفًا كان أو غيره: وذلك بجذبه إلى الحق شيئًا فشيئًا، ولا يُستعجل في ذلك، خاصة إذا عرفنا أن كثيرًا من أهل البدع قد تلبس بها منذ الصغر، ونشأ في وسط الابتداع، والبيئة تؤثر على هؤلاء، كما قال تعالى: ((وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ)) [النمل:43].
وفي حديث معاذ، رضي الله عنه، حينما بعثه النبي ص إلى اليمن ما يدل على أهمية التدرج في الدعوة والتغيير والإصلاح، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (إنك ستأتي قومًا أهل كتاب..)( ).
ومما يؤيد ذلك ما ذكره الغزالي في كتابه الإحياء بأن المخالف يرى نفسه على الحق، ويرى المنازع له على الباطل، قال: «إذ المبتدع محق عند نفسه، والمحق مبتدع عند المبتدع، وكل يدعي أنه محق وينكر كونه مبتدعًا»( ).
ويؤيده أيضًا ما ذهب إليه علماء الاجتماع من أن «كل فكر يختلف عن الفكر الآخر، باختلاف المنشأ والعادة والعلم والغاية، وهذا الاختلاف طبيعي في الناس، وما كانوا قط متفقين في مسائل الدين والدنيا، ومن عادة صاحب كل فكر أن يحب تكثير سواد القائلين بفكره، ويعتقد أنه يعمل صالحًا ويسدي معروفًا، وينقذ من جهالة، ويزع من ضلالة... والمخلص في فكر ما إذا أخلص فيه يُناقش بالحسنى ليتغلب عليه بالبرهان لا بالطعن وإغلاظ القول وهجر الكلام، وما ضر صاحب الفكر لو رفق بمن لا يوافقه على فكره ريثما يهتدي إلى ما يراه صوابًا ويراه غيره خطأ أو يقرب منه»( ).
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذا فقال: «فيربَّى الرجل على المقالة، وينشأ عليها صغيرًا، فيتربى قلبه ونفسه عليها، كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد، ولا يعقل نفسه إلا عليها، ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه، وأن يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال، ويصعب عليه الزوال... ولا يعلم مشقة هذا على النفوس إلا من زاول نقل رجل واحد عن دينه ومقالته إلى الحق»( ).
فليكن همّك زرع الخير وبذر الحق في النفوس، ولا تنتظر إعلان الهداية إلى سفينة النجاة من البداية( ).
الرابعة: أن يتخلق الداعية بالأخلاق الفاضلة:
بحيث يظهر عليه أثر العلم في معتقده، وفي عبادته، وفي هيئته، وفي جميع سلوكه، حتى يمثل دور الداعية إلى الله، أما إذا كان على العكس من ذلك فإن دعوته سوف تفشل، وإن نجحت فإن نجاحها يكون قليلًا.
وقد ذكر شيخ الإسلام أن أمر المخالفين وغيرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يحتاج إلى أدبين، فقال رحمه الله: «فعليك هنا بأدبين:
أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة ظاهرًا وباطنًا في خاصتك وخاصة من يطيعك.
الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدعُ إلى ترك منكر يفعل ما هو أنكر منه، أو يترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه... وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في السنن من ذلك، أو الأمر به، ولعل حال الكثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة»( ).
ولعل مقصود شيخ الإسلام هنا أن الذي ينهى عن البدع المتعلقة بالعبادة كالذكر الجماعي عليه أن يكون متمسكًا بالعبادات الشرعية والسنن، حتى يكون قدوة في إظهار العبادات الشرعية.
أما من ينهى عن العبادات البدعية ويكون مقصرًا في العبادات الشرعية؛ فإن هذا التقصير قد يجعل الناس يقبلون على الأول الذي يقوم بالعبادات التي فيها بدعة مكروهة، ويتركون المُنكر لتلك العبادات؛ لما يرونه من تقصيره في عمل السنن والعبادات المشروعة.
فلا بد أن يسبق دعوة الداعية في مجتمع صنع مكانة له بعبادته وخلقه وصدقه وإحسانه للناس ليكون هذا علمًا عليه.
الخامسة: التفريق بين البغض في الله وكراهة المنكر وبين أداء الحقوق والواجبات وحسن الخلق:
لأن بعض الدعاة إذا رأى قومًا على منكر قد تحمله الغيرة وكراهة هذا المنكر على أن لا يذهب إلى هؤلاء، ولا ينصحهم، وهذا خطأ، وليس من الحكمة أبدًا؛ بل الحكمة أن تذهب وتدعو وتُبلِّغ، وتُرغِّب وتُرهِّب.
وإذا كان الداعية المسلم لا يمكن أن يدعو هؤلاء، أو يذهب إليهم لدعوتهم إلى الله فمن الذي يدعوهم؟ أيدعوهم من هو مثلهم؟ أم يدعوهم قوم لا يعلمون؟
وسيأتي –قريبًا- لزوم أمر المخالف بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإرشاده إلى الحق.
السادسة: أن يكون قلب الداعية منشرحًا لمن خالفه:
لاسيما إذا علم أن الذي خالفه حسن النية، وأنه لا يخالفه إلا بمقتضى قيام الدليل عنده؛ فإنه ينبغي للإنسان أن يكون مرنًا في هذه الأمور، وأن لا يجعل من هذا الخلاف مثارًا للعداوة والبغضاء، إلا إذا كان المخالف معاندًا، بحيث يبين له الحق ولكنه يصر على باطله؛ فإن هذا يجب أن يعامل بما يستحق أن يعامل به من التنفير عنه وتحذير الناس منه؛ لأن هذا تبيّنت معاندته وعداوته، حيث بُيّن له الحق فلم يمتثل( ).
الوسائل المعينة على دعوة المخالفين
سأشير هنا فقط إشارات إلى بعض الوسائل المعينة في دعوة المخالفين، وقد استقيتها من كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومن كلام أهل العلم، وهي أيضًا من واقع وتجارب شتى آتت ثمارها، فنسأل الله التوفيق والسداد:
أولاً: إعطاؤهم حقوقهم والإقرار لهم بها:
فقد شرع الإسلام حقوقًا للمسلمين، تُعطى لكل مسلم، وإن كان فاسقًا أو مبتدعًا بدعة غير مكفرة، ومن وسائل دعوة المخالفين الإقرار لهم بهذه الحقوق وإعطاؤهم إياها؛ فإن هذا مما يجذبهم ويقربهم، ومن أهم تلك الحقوق:
1- لزوم أمر المخالف بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإرشاده إلى الحق، وإبلاغه الحجة، وتفهيمه إياها بالحسنى والحكمة.
وقد حوت صفحات هذا الكتاب كثيرًا من الأدلة والبراهين على هذا الحق، ومما يذكر أيضًا هنا ما قام به أئمة أهل السنة والجماعة من دعوة للمخالفين وإرشادهم إلى منهج الحق والصواب.
ومما يؤيد ذلك ما قام به الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما بعث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج لدعوتهم وإقامة الحجة عليهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (فدخلت على قوم لم أر قومًا أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلنة من آثار السجود، فدخلت فقالوا: مرحبًا بك يا بن عباس، لا تحدثوه.
وقال بعضهم: لنحدثنه.
قال: قلت: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله ص وختنه وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله ص معه؟
قالوا: ننقم عليه ثلاثًا.
فقلت: ما هن؟
قالوا: حكَّم الرجال في دين الله، وقال: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)) [الأنعام:57]!
قال: قلت: هذه واحدة، وماذا أيضًا؟
قالوا: فإنه قاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين ما حلّ قتالهم، ولئن كانوا كافرين لقد حلّ قتالهم وسبيهم!
قال: قلت: وماذا أيضًا؟
قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فلئن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين!
قال: قلت: أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟
قالوا: وما لنا لا نرجع؟!
قال: أمَّا حكَّم الرجال في أمر الله؛ فإن الله تعالى قال في كتابه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)) [المائدة:95]، وقال في المرأة وزوجها: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)) [النساء:35]، وصيَّر الله ذلك إلى حكم الرجال، فناشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم أفضل أو حكم أرنب ثمنه ربع درهم، وفي بضع امرأة؟
قالوا: على هذا أفضل.
قال: أخرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
قال: فأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم، أَتَسْبُون أمكم عائشة؟ فإن قلتم: نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم تترددون بين ضلالتين. أخرجت من هذه؟
قالوا: بلى.
قال: وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو، وقال رسول الله ص: (اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: وما نعلم أنك رسول الله، لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. فقال: اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي، واكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو).
ورسول الله ص أفضل من علي. أخرجت من هذه؟
قالوا: اللهم نعم)( ).
وبعد هذه المحاورة المقنعة التي استعمل فيها عبد الله بن عباس الأدلة المقنعة من كتاب الله وسنة رسوله ص وعبارات بعيدة عن الغلظة والشدة، مع حرص على هدايتهم، كانت النتيجة أن رجع منهم ألفان، وقيل: أربعة آلاف، وقيل: عشرون ألفًا.
ومن ذلك أيضًا ما قام به الإمام أحمد رحمه الله من دعوة للمخالفين وإرشاد لهم، ومن ذلك إرشاده لموسى بن حزام، الذي كان ينتحل الإرجاء، فاهتدى إلى منهج أهل السنة والجماعة وذب عنها ولزمها حتى مات( ).
ومما يدل على هذا أيضًا ما قرّره الفقهاء في حالة خروج طائفة من المسلمين بتأويل محتمل، وقامت بتنصيب إمام، وامتنعت عن طاعة إمام العدل أنَّ على الإمام أن يبعث إليهم فيسألهم: ما تنقمون؟ فإن ذكروا مظلمة أزالها عنهم، وإن لم يذكروا مظلمة بيّنة دعاهم إلى طاعته، فإن امتنعوا فإنه يدعوهم إلى المناظرة، فإن امتنعوا عن المناظرة أو ناظروا وظهرت الحجة عليهم فأصروا على بغيهم يقاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته( ).
وهكذا دأب أهل السنة والجماعة على إقامة الحجة على المخالفين من خلال أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ومناظرتهم، ومن أشهر هذه المناظرات، مناظرة عبد العزيز الكناني لبشر المريسي، ذلك أنه لما انتشر في بغداد عاصمة الخلافة العباسية القول بخلق القرآن، وعَظُمَ أمر البدعة فيها، وعلى رأسهم بشر المريسي، تحرك عبد العزيز الكناني من بلاده مكة وتوجه إلى بغداد؛ لمناظرته، وإقامة الحجة عليه.
وقد أورد ابن الوزير رحمه الله هذه المسألة حينما قال: «فإن قيل: هل السكوت عن المبتدعة لازم، خوفًا من التفرق؟
قلنا: أما بيان بدعهم وكفُّ شرهم على الوجه المشروع فواجب ومستحب، وأما المراء الذي يظن فيه المفسدة دون المصلحة فلا خير منه»( ).
2- الإقرار له بالإسلام.
وهذا إذا كانت المخالفة غير مكفِّرة، وإذا كان المخالف جاهلًا أو متأولًا تأويلًا سائغًا، فقد مضى أن هؤلاء يعذرون ولا يكفرون، ويلزم على هذا الإقرار لهم بالإسلام فهم مسلمون، وإن كانت فيهم بدعة، وهم أقرب إلى المسلمين من الكفار واليهود والنصارى، وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: «كل من كان مؤمنًا بما جاء به محمد ص فهو خير من كل من كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة، سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم، فإن اليهودَ والنصارى كفارٌ كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول ص لا مخالف له لم يكن كافرًا به، ولو قدر أنه كفر فليس كفره مثل كفر من كذَّب الرسول ص »( ).
ويعقب الشيخ محمد عبد الهادي المصري على ذلك بقوله: «وأهل السنة والجماعة يفرقون بين المبتدعة من أهل القبلة مهما كان حجم بدعتهم، وبين من علم كفره بالاضطرار من دين الإسلام كالمشركين، وأهل الكتاب، وهذا في الحكم الظاهر على العموم، مع علمهم أن كثيرًا منهم منافقون وزنادقة في الباطن»( ).
ومن الأدلة على الإقرار للمخالفين بالإسلام أن علي بن أبي طالب ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يكفروا الخوارج وأقروا لهم بالإسلام، وعاملوهم معاملة المسلمين.
3- عدم ظلمهم.
وهذا حق من حقوق المسلم على أخيه، فإذا كان الإسلام ينهى ويحرم ظلم اليهود والنصارى من أهل الذمة، فمن باب أولى عدم ظلم المسلم الذي لم يخرج ببدعته من الإسلام، ونصره على من يظلمه، والدفاع عنه، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام رحمه الله وهو ينهى عن إيذاء المخالفين له، ويدعو إلى إكرامهم ونصرتهم: «وإني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين- فضلًا عن أصحابنا- بشيء أصلًا، لا باطنًا ولا ظاهرًا، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلًا، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه، ولا يخلو الرجل: إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا أو مخطئًا، أو مذنبًا، فالأول مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه مغفور له، والثالث فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين... وتعلمون أنا جميعًا متعاونون على البر والتقوى، واجب علينا نصر بعضنا البعض أعظم مما كان وأشد... وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي... وأهل القصد الصالح يشكرون على قصدهم، وأهل العمل الصالح يشكرون على عملهم، وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم»( ).
وقد ظهر موقف الشيخ عليه رحمة الله في تعامله مع المخالفين في زمنه، ومن ذلك أن السلطان محمد قلاوون كان مقرِّبًا لشيخ الإسلام ومحبًا له، وفي إحدى السنين خرج السلطان للحج، فأخذ السلطنة الملك المظفر ركن الدين بيبرس تلميذ الصوفي نصر المنبجي، وكان نصر هذا معاديًا لشيخ الإسلام، ومن أتباع ابن عربي الصوفي، وسبب العداء أن شيخ الإسلام كان يبين ضلال ابن عربي.
فلما تولى بيبرس سعى بعض علماء المبتدعة لاستصدار فتوى بقتل شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن ما لبث أن عاد السلطان محمد قلاوون، واستعاد الملك من بيبرس، فقرَّب شيخ الإسلام، ثم أخرج له فتوى أولئك بقتله؛ لأنه كان حانقًا عليهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ففهمت مقصوده، وأنَّ عنده حنقًا شديدًا عليهم لمَّا خلعوه وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حلٍّ من حقي ومن جهتي»( ).
فكان القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك: «ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نُبقِ ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا»( ).
ومثال آخر على تعامل شيخ الإسلام مع المخالفين، ففي مرة اعتدى أهل البدعة على الشيخ فضربوه، ولما علم تلامذته ومحبّوه جاءوا إليه مسرعين، فأرادوا أن يثأروا للشيخ، فمنعهم الشيخ، وقال: «هذا لا يحل. فقالوا: هذا شيء لا نصبر عليه. قال لهم الشيخ: إما أن يكون الحق لي، أو لكم، أو لله، فإن كان الحق لي فهم في حل منه، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني وتستفتنوني فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله إنه يأخذ حقه إن شاء كما شاء.
فقالوا له: هذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم؟
قال: هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه.
قالوا: فتكون أنت على الباطل وهم على الحق؟
فإذا كنت تقول أنهم مأجورون فاسمع منهم ووافقهم على قولهم.
فقال لهم: ما الأمر كما تزعمون؛ فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين، ففعلوا ذلك باجتهادهم، والمجتهد المخطئ له أجر»( ).
4- قبول كلام المخالف إن كان حقًا وموافقًا للشرع.
فإن أهل السنة والجماعة يقبلون الحق من كل من جاء به، وفي ذلك يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: (تلقَّ الحق إذا سمعته؛ فإن على الحق نورًا)( ).
وقال ابن تيمية رحمه الله: «والله أمرنا أن لا نقول إلا الحق، وأن لا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني- فضلًا عن الرافضي- قولًا فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق»( ).
وقال ابن القيم رحمه الله: «اقبل الحق ممن قاله وإن كان بغيضًا، ورد الباطل على من قاله وإن كان حبيبًا»( ).
وقرر أنه لا يردُّ كل قول من أخطأ جملة، بل لا بد من تمييز الحق من الباطل، فقال: «فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات»( ).
وقال أيضًا: «.. فإن كل طائفة معها حق وباطل، فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحق، ورد ما قالوه من الباطل، ومن فتح الله له بهذه الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب، ويسر عليه من الأسباب»( ).
ونجد أن الرسول ص وهو قدوتنا في هذا الأمر، قبل الحق من اليهودي، حيث روت قتيلة بنت صيفي الجهنية قالت: (أتى حَبْر من الأحبار رسول الله ص، فقال: يا محمد، نعم القوم أنتم، لولا أنكم تشركون.
فقال رسول الله ص: سبحان الله! وما ذاك؟!
قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة.
قالت: فأمهل رسول الله ص شيئًا، ثم قال: إنه قد قال، فمن حلف فليحلف بربِّ الكعبة.
قال: يا محمد، نعم القوم أنتم، لولا أنكم تجعلون لله نِدًَّا.
قال: سبحان الله! وما ذاك؟!
قال: تقولون: ما شاء الله وشئت.
قال: فأمهل رسول الله ص شيئًا، ثم قال: إنه قد قال، فمن قال: ما شاء الله، فليفصل بينهما ثم شئت)( ).
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: «بل كما تشهدون لوليكم فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، فلو كان كافرًا أو مبتدعًا فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله؛ فإن هذا ظلم للحق»( ).
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن من ليست لديه قدرة على تمييز الحق أو الباطل من كلام المخالفين ينهى عن قراءة كتبهم أو سماع مقالتهم، حتى لا يشتبه عليه الحق بالباطل والبدعة بالسنَّة.
5- الدعاء لهم بالهداية، والصلاة على موتاهم.
يقرر شيخ الإسلام جواز الصلاة على المبتدعة ممن لا يكفر ببدعته ولا يخرج من الإسلام، فقال وهو يتحدث عن صلاة النبي ص على المنافقين قبل أن ينهى: «...فكان ذلك دليلًا على أن كل من لم يعلم أنه كافر في الباطن جازت الصلاة عليه والاستغفار له، وإن كانت فيه بدعة، وإن كانت له ذنوب، وإذا ترك الإمام وأهل العلم والدين الصلاة على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور زجرًا عنها لم يكن ذلك محرِّمًا للصلاة عليه والاستغفار له»( ).
ثم استشهد بأن الإمام أحمد رغم ما لاقاه من ظلم الجهمية، القائلين بخلق القرآن، وحبسه، وتعذيبه، إلا أنه دعا للخليفة وغيره ممن ضربه، وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع( ).
وحينما كتب شيخ الإسلام كتابًا إلى الشيخ نصر المنبجي أكثر فيه من الدعاء والثناء عليه، فجاء فيه: «من أحمد ابن تيمية إلى الشيخ، العارف، القدوة، السالك، أبي الفتح نصر، فتح الله على باطنه، وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشريعته»، ثم يمضي شيخ الإسلام في الدعاء والثناء فيقول: «فالشيخ أحسن الله إليه قد جعل فيه من النور والمعرفة الذي هو أصل المحبة والإرادة...»( ).
وكان هذا الثناء والدعاء مقدمة طيبة لبيان خطأ الصوفية القائلين بالاتحاد والحلول، وبيان بطلان ذلك، كل ذلك في عبارة ليِّنة، وبراهين ساطعة، مبتعدًا عن أساليب الإثارة، مهتديًا بقوله تعالى: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)) [طه:44].
ويستنبط الشيخ محمد عبد الهادي المصري هذه القاعدة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام أهل السنة والجماعة فيقول: «أهل السنة والجماعة يدعون لأهل البدع بالهداية ما لم يعلم كفرهم»( ).
6- التعاون معهم وفق منهج أهل السنة والجماعة.
والمراد هنا التعاون مع المخالفين الذين لم يخرجوا من الإسلام، وهناك ضوابط تضبط هذا التعاون حتى لا يتهاون متهاون أو يفرط أحد، وهذه الضوابط كالتالي( ):
أ) أن يكون التعاون مع المخالف في المجالات التي لا خلاف فيها، أي في دائرة الحق الذي يقبله الشرع، والخير الذي يحبه الله من علم وجهاد ودعوة، كما قال ابن القيم رحمه الله: «..فإن كل طائفة معها حق وباطل، فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحق ورد ما قالوه من الباطل، ومن فتح الله له هذه الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب، ويسَّر عليه من الأسباب»( ).
ب) مراعاة المصلحة والمفسدة عند التعاون مع المخالف.
فإذا كان التعاون مع المخالف يؤدي إلى حصول مصلحة أعظم من مفسدة بدعته، أو درء مفسدة أكبر من مضرة بدعته تعيّن التعاون معه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «.. فإذا تعذَّر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرًا من العكس»( ).
ج) ألا يتخذ المخالف هذه المعاونة ذريعة لنشر بدعته، أو يؤدي إلى رجحان قوته على قوة أهل السنة والجماعة.
د) مراعاة ضوابط الهجر، المتقدم ذكرها، مع ضوابط التعاون هذه.
ولا يظن ظانٌ أن في إقرار التعامل مع المخالفين الذين لم يخرجوا من الإسلام، أن في ذلك إقرارًا على بدعتهم أو تفضيلًا لهم، وإنما بيان لمنهج الإنصاف والعدل عند أهل السنة والجماعة، وإيضاح لهذه الطريقة الشرعية للتعامل مع المخالفين التي يتحقق بها الاجتماع على الحق والاتباع للشرع، مع درء البدع وإغلاق المنافذ أمامهم، وتأليف قلوب المخالفين وبذل النصيحة لهم.
ثانيًا: الحوار والمناظرة والجدل:
ورد في القرآن الكريم مصطلح الجدل ومرادفاته كالمراء والتحاج في آيات كثيرة، فالجدل ومشتقاته ورد إحدى وعشرين مرة، والتحاج ورد ثلاث عشرة مرة، والمراء ثمان عشرة مرة.
وإذا أُطلقت هذه المصطلحات فإنها تشير إلى المعنى المذموم في الجدل والمراء، كقوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)) [البقرة:258].
وقوله: ((وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) [الشورى:16].
وقوله: ((أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)) [الشورى:18].
وقوله: ((وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)) [غافر:5].
وقد وردت أحاديث تذم الجدال والمراء، منها قوله ص: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا)( ).
وقوله ص: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)( ).
وقال الحسن البصري، رحمه الله: (إياكم والمراء؛ فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته).
وإنما نهي عنه لما يؤدي إليه من إثارة الضغائن والأحقاد، ويوغر الصدور بين المتحاورين، وهذا هو المراء والجدل المذموم.
وأما المراء والجدل المحمود فقد قيده القرآن بالتي هي أحسن؛ ليميزه عن الجدل المذموم، وفي ذلك إشارة إلى إباحته والندب إليه إذا قيد بهذا القيد.
قال تعالى: ((وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125].
وقال تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [العنكبوت:46].
ويقرر ابن القيم رحمه الله مشروعية مناظرة أهل الكتاب ووجوبها في أحوال، وذلك عند إيراده للفوائد المستقاة من قصة قدوم وفد نجران عليه صلى الله عليه وسلم، فيقول: «ومنها: جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليولِّ ذلك إلى أهله، وليخلِ بين المطي وحاديها، والقوس وباريها»( ).
فإذا كان هذا حكم مناظرة أهل الكتاب، فمن باب أولى أن يكون الحكم كذلك في المخالفين لأهل السنة والجماعة.
وهناك أساليب شرعية في الحوار والمناقشة والعرض يجب الالتزام بها حتى يكون الحوار والجدال ممدوحًا، ويمكن بيان هذا بما يلي:
1- أن يكون قصدنا وغايتنا هداية المخالف، وتأليف قلبه لا تنفيره، وهذا لا يتم إلا بإخلاص القصد، كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم، إن لم يقصد منه بيان الحق وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحًا، وإذا غلظ في ذم بدعة أو معصية، كان قصده بيان ما فيها من الفساد، ليحذر العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرًا، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان، لا للتشفي والانتقام»( ).
2- استعمال القول اللين، والعبارات الحسنة، تنفيذًا لقوله تعالى: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)) [طه:44]، فالله يأمر موسى وهارون رضي الله عنه أن يستخدما اللين في القول مع فرعون؛ لأن ذلك أدعى إلى تذكرته وخشيته، وأقرب إلى انتفاعه وهدايته.
وهذه هي طبيعة النفس البشرية تنجذب إلى القول اللين، ويسهل قيادها إلى الحق بذلك، أما مع الجفاء والغلظة والشدة في العبارات فلا يجنى إلا النفرة والفتور وإيغار الصدور وانغلاق القلب عن سماع الحق والهدى( ).
ومما يؤيد هذا ما ذكره الشاطبي نقلًا عن أبي حامد الغزالي، رحمهما الله، حيث يؤكد أن العنف في الرد على المخالفين وأصحاب المقالات الباطلة يؤدي إلى معاندتهم وتمسكهم بباطلهم، قال: «أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جهلة أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدِّي والإدلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها»( ).
فانظر إلى آثار العنف والشدة، وما تحدثه من تمسك أهل الباطل بباطلهم ونفرتهم عن الحق وأهله، وصدق الله في قوله لموسى حينما بعثه وأخاه إلى فرعون، فقال لهما: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)) [طه:44].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «(فصل) وإذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب ثقة عند الإنسان، جاز له أن يستطبه...» إلى أن قال رحمه الله: «وإذا وجد طبيبًا مسلمًا فهو أولى، وإن لم يجد إلا كافرًا فله ذلك، وإذا خاطبه بالتي هي أحسن كان حسنًا»( ).
فعلى المحاور والمجادل أن يتحلى بأخلاق الداعية من التلطف بالقول، واستعمال العبارات التي تفتح قلب المخالف، والابتعاد عن احتقاره أو تحديه، وأن يكلمه بروح الناصح المشفق المخلص.
وقد أشار ابن الوزير إلى ذلك فقال: «الكلام في المحاضرات والمراسلات والمناظرات والمحاورات وإن تفاوتت مراتبه، وطالت مساحبه، وتباينت تراكيبه، وتنوعت أساليبه، فمسالكه المستجادة أربعة مسالك، ولا يليق التعدي إلى وراء ذلك:
المسلك الأول: الدعاء إلى الحق بالحكمة البرهانية والأدلة القطعية، وهي أجل المراتب وأرفعها وأقطعها للتشعيب وأنفعها..»( ).
وذكر مسلك الجدلية، والخطابية، والوعظية، وقسم المسلك الأخير إلى نوعين: التأليف والترغيب، والتخويف والترهيب.
ثم تحدث عن الأول فقال: «أما النوع الأول: وهو نوع التأليف والترغيب، فهو الدعاء إلى الحق بالملاطفة وضرب الأمثال وحسن الخلق ولين القول وحسن التصرف في جذب القلوب وتمييل النفوس..»( ).
ثم ذكر صورًا من استعمال الرسول صلى الله عليه وسلم اللين والتيسير والترغيب، مثل نهيه صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن انتهار الأعرابي الذي بال في ناحية من المسجد وقوله: (إن منكم منفرين)( )، ومع الذي وقع على زوجته في رمضان، والمقرين بالزنى، وكذلك مع اليهود حينما قالوا له: (السام عليكم)، فلم يلعن أحدًا ولا شتمه بل نهى عن شتمهم ولا عبس في وجه أحد منهم، ولا انتهره؛ إيناسًا للقلوب وتأليفًا وتنشيطًا للنفوس وترغيبًا.
ثم قال: «فجدير بمن انتصب في منصب الفتيا أو ترقى إلى مرتبة التدريس وتهيأ للرد على الجاهلين، والدعاء إلى سبيل رب العالمين، أن يكون مقتفيًا لرسوله صلى الله عليه وسلم عاملًا بما قال الله من الدعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة»( ).
وبين رحمه الله متى تستعمل الشدة في الإنكار والزجر والتخويف، وأن هناك شروطًا وقيودًا لاستعمال الشدة فقال: «واعلم أن للزجر والتخويف بالألفاظ الغليظة شروطًا أربعة:
شرطين في الإباحة وهما: أن لا يكون المزجور محقًا في قوله أو فعله، وأن لا يكون الزاجر كاذبًا في قوله، فلا يقول لمن ارتكب مكروهًا: يا عاصي، ولا لمن ارتكب ذنبًا لا يعلم كبره: يا فاسق، ولا لصاحب الفسق من المسلمين: يا كافر ونحو ذلك.
وشرطين في الندب، وهما: أن يظن المتكلم أن الشدة أقرب إلى قبول الخصم للحق، أو إلى وضوح الدليل عليه، وأن يفعل ذلك بنية صحيحة، ولا يفعله لمجرد داعية الطبيعة».
وأشار إلى أن استعمال الشدة إنما يكون في بعض المواضع القليلة، وأن الغالب على هدي المرسلين والمصلحين هو جانب اللين والحكمة، قال رحمه الله: «ولا شك أن صفة اللطف والرفق والرحمة هي الغالب القوي في الكتب السماوية، والأحوال النبوية، ومن ثم تمدح الله تعالى بأنه وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وبأن رحمة الله سبحانه وسعت كل شيء، وليس في وعده لأهل الصلاح بكتابتها التي هي بمعنى إيجابها لهم ما ينفي سعتها لغيرهم( )، بل هي لهم واجبة ولغيرهم واسعة»( ).
ولا يعني ذلك المداهنة وإخفاء الحق أو تحسين الباطل أو الرضا بالبدعة، وإنما المقصود الحرص على هداية المخالف ورجوعه إلى الحق، وهذه الثمرة لا تكون بالفظاظة والشدة، قال تعالى: ((وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)) [آل عمران:159]، وقال عباد بن خواص في رسالته لأهل العلم، بعد أن بيَّن خطر البدعة، ونعى على المخالفين وضلالهم بترك سنة الرسول ص في كلام طويل: «ولا تعيبوا البدع تزينًا بعيبها؛ فإن فساد أهل البدع ليس بزائد في صلاحكم، ولا تعيبوها بغيًا على أهلها؛ فإن البغي من فساد أنفسكم، وليس ينبغي للمطبِّب أن يداوي المرضى بما يبرئهم ويمرضه، فإنه إذا مرض اشتغل بمرضه عن مداواتهم، ولكن ينبغي أن يلتمس لنفسه الصحة ليقوى بها على علاج المرضى، فليكن أمركم فيما تنكرون على إخوانكم نظرًا منكم لأنفسكم، ونصيحة منكم لربكم، وشفقة منكم على إخوانكم، وأن تكونوا مع ذلك بعيوب أنفسكم أعنى منكم بعيوب غيركم»( ).
يقول الشيخ الدكتور عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف: «كان الرد على المخالف يأخذ مسلكًا دعويًا يراد به دعوة المخالف إلى اتباع الحق والدليل، مع رحمته والإحسان إليه.
ومن ذلك قصة الشيخ أحمد بن عيسى (ت:1319هـ) مع التاجر التلمساني، كما حكاها الشيخ محمد نصيف قائلًا:
"كان الشيخ أحمد ابن عيسى يشتري الأقمشة من جدة من عبد القادر التلمساني أحد تجار جدة بمبلغ ألف جنيه ذهبًا، فيدفع له منها أربعمائة، ويقسط عليه الباقي، وآخر قسط يحل ويستلم التلمساني إذا جاء إلى مكة للحج من كل عام، ثم يبتدئون من أول العام بعقد جديد، ودام التعامل بينهما زمنًا طويلًا، وكان الشيخ أحمد بن عيسى يأتي بالأقساط في موعدها المحدد لا يتخلف عنه ولا يماطل في أداء حقه، فقال له التلمساني: إني عاملت الناس أكثر من أربعين عامًا فما وجدت أحسن من التعامل معك - يا وهابي- فيظهر أن ما شاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين. فسأله الشيخ أن يبين له هذه الشائعات، فقال: إنهم يقولون: إنكم لا تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحبونه. فأجاب الشيخ أحمد بقوله: سبحانك هذا بهتان عظيم!!
إن عقيدتنا ومذهبنا أن من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير فصلاته باطلة، ومن لا يحبه فهو كافر، وإنما الذي ننكره نحن- أهل نجد- هو الغلو الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه كما ننكر الاستعانة والاستغاثة بالأموات، ونصرف ذلك لله وحده.
ثم يقول الشيخ محمد بن نصيف: قال الشيخ التلمساني: فاستمر النقاش بيني وبينه في توحيد العبادة ثلاثة أيام حتى شرح الله صدري للعقيدة السلفية، أما توحيد الأسماء والصفات الذي قرأته في الجامع الأزهر فهو عقيدة الأشاعرة وكتب الكلام مثل السنسوية وأم البراهين وشرح الجوهرة وغيرها، فلهذا دام النقاش فيه بيني وبين الشيخ ابن عيسى خمسة عشر يومًا، بعدها اعتنقت مذهب السلف، فعلمت أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم بفضل الله نعالى، ثم بحكمة وعلم الشيخ أحمد بن عيسى.
ثم إن الشيخ التلمساني أخذ يطبع كتب السلف.. وصار من دعاة عقيدة السلف. قال الشيخ محمد نصيف: فهداني الله إلى عقيدة السلف بواسطة الشيخ عبد القادر التلمساني، فالحمد لله على توفيقه"»( ).
وانظر القصة بكاملها في كتاب: علماء نجد للبسام (1/156–158)
وإن المتتبع لقضية الحوار والجدال بالتي هي أحسن في القرآن الكريم تتضح له بعض القواعد المهمة التي تؤدي إلى الخروج بنتائج إيجابية من الحوار( ).
ومن أهم هذه القواعد ما يلي:
1- البدء من نقطة التقاء( ):
كل إنسان ولو كان كافرًا أو مخالفًا لا يعدم نقطة خير في قلبه، يبدأ بها المسلم فيدخل منها، ثم ينميها، لذا فليُبتدأ الحوار بالأمور المسلمة بين المتحاورين والمتفق عليها، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: ((وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) [العنكبوت:46].
وقوله تعالى: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [آل عمران:64].
ولا شك أن هناك عدة نقاط بيننا وبين أصحاب البدع المفسقة غير المكفرة، بل هناك نقاط التقاء مع أصحاب البدع المكفرة، فليبدأ من هذه الأرضية المشتركة.
2- محاولة إثارة العاطفة، وإظهار الخوف عليهم، ومحض النصيحة لهم( ):
ليس المقصود من الحوار تبكيت الخصم وإلجامه وإحراجه، وإظهار الأستاذية والتفوق، وتسفيه رأيه أمام الآخرين، وإنما المقصود هدايته إلى الحق وجذبه إليه، ولهذا كان الرسل والأنبياء يظهرون شفقتهم على قومهم والحرص على ما فيه خير لهم، وهذا ما يظهر في دعوتهم لقومهم.
قال تعالى عن نوح عليه السلام: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) [الأعراف:59].
وقال تعالى عن شعيب عليه السلام: ((قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ)) [هود:88].
وما أجمل محاورة إبراهيم عليه السلام لأبيه، قال تعالى: ((يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)) [مريم:43].
وتأمل كلام مؤمن آل فرعون: ((وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)) [غافر:39].
والأمثلة كثيرة جدًا، فليحرص أهل السنة والجماعة على اتباع هذه القاعدة القرآنية ليستميلوا قلوب المخالفين بإظهار الحرص عليهم، والخوف عليهم، ومحض النصيحة لهم، عند ذلك ستكون النتيجة إيجابية، وسوف يبدأ المخالف يراجع نفسه ورأيه، وهذه بداية الهداية بإذن الله.
3- التذكير بنعمة الله، والتنبيه إلى آيات الله في الأنفس والآفاق( ):
قد يغفل المحاور عن استشعار نعم الله وفضل الله عليه، فيغتر بعقله وفهمه ورأيه، وعند ذلك يكون تذكيره بالله وبفضل الله وآلاء الله موقظًا له من تلك الغفلة، وفي ذلك تهيئة له لقبول الحق والإذعان للصواب.
وقد أوضح القرآن هذه القاعدة من خلال دعوة الرسل لأقوامهم، قال تعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام: ((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) [الأعراف:69].
وقال تعالى: ((قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)) [المؤمنون:84].
وقال تعالى: ((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)) [النمل:59].
4- الدعوة إلى إعمال النظر والفكر، والانعتاق من تقليد الآباء والزعماء:
إن صاحب الفكر المنحرف يظل حبيسًا في دائرة الفكرة التي آمن بها ونشأ عليها، مُبتعدًا عن إعمال عقله وفكره فيما يعتقده أو يؤمن به، ولو أعمل عقله وفكره لاكتشف ما عليه من الباطل، وحينئذٍ يسهل قياده إلى الحق.
وهذا أسلوب القرآن مع الخصوم، قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)) [سبأ:46].
5- عرض منهج أهل السنة والجماعة مؤيدًا بالأدلة الشرعية، والبراهين العقلية، والأنوار الروحانية، ودعوته إليه قبل التعرض إلى بيان ما عليه من الباطل والبدعة، من غير إثارة أو استفزاز له، والبعد قدر الإمكان عن الأسماء والمصطلحات المثيرة، والتركيز على الحقائق.
وقد بين هذه القاعدة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله مستدلًا بقوله تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)) [سبأ:46].
فقال: «وهكذا أيضًا صاحب البدعة من المسلمين لا نهاجمه ببيان بدعته وذمها؛ ولكن نبين له السنة أولًا، ثم إذا استقرت السنة في نفسه سهل علينا أن نبين معايب بدعته، كما لو دعونا مثلًا رافضيًا من الرافضة، كوننا نهاجمه من الأول ونقول: أنت تسب الصحابة، وأنت تلعن أبا بكر وعمر، وأنت تقول: القرآن فيه نقص، وأنت تقول: أولياؤنا أفضل من الأنبياء، وأنت تقول: أن أئمتنا يديرون الكون وما أشبه ذلك، هذا سينفر؛ لأنه يعتقد أن هذا دين، ومعلوم أن سب دين الإنسان لا يطيقه إنسان.
ولكن نبين له أولًا الحق، فإذا استقر في نفسه بعد ذلك نبين له ما كان عليه من قبل، وما يلحق به من ذم.
ولهذا لا نرى الآن ما يفعله بعض الناس بالنسبة للرافضة من العنف والإساءة إليهم قبل أن يدعوهم للحق؛ لأن بعض الناس إذا رأى هذه البدع التي يبتدعونها في الصلاة، ولا يسجدون إلا على شيء أصله من الأرض، وما أشبه ذلك ربما يركلها برجله، أساء إلى هذا الرجل، هذا الرجل عامي، ويعتقد أن هذا دين، وأن الصلاة لا تصح إلى على شيء من الأرض، فإذا فعلت به هكذا، كيف تريد أن يقبل منك»( ).
6- تلمس مواطن الخير ومنابع النور بين ظلمات الجهل والبعد عن الحق عند المخالف، مع عدم التعجل، فمن أكثر الطرق يوشك أن يفتح له( ).
ثالثًا: تأليف الكتب والرسائل والمطويات:
وإلقاء الدروس والمحاضرات، وعقد اللقاءات والندوات في الرد على أهل الأهواء والبدع، وبيان خطئهم وزللهم وبعدهم عن الصواب الموافق للكتاب وصحيح السنة، وذلك بالأسلوب السهل المبسط القريب من فهم العامة، والمقرون بالشفقة عليهم ورحمتهم والنصح لهم.
ولنتأمل- أخي القارئ الكريم- قول ابن حجر الهيتمي في مقدمة كتابه الصواعق المحرقة؛ فإنه عندما كان يرجو هداية بعض أهل البدع بقراءة هذا الكتاب أجاب إلى ذلك، غير متوانٍ ولا متخاذل، يقول رحمه الله: «أما بعد؛ فإني سئلت قديمًا في تأليف كتاب يبين حقية خلافة الصديق، وإمارة ابن الخطاب رضي الله عنهما، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجناب، فجاء بحمد الله أنموذجًا لطيفًا، ومنهاجًا شريفا، ومسلكًا منيفًا، ثم سئلت قديمًا في إقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمائة بالمسجد الحرام؛ لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة، أشرف بلاد الإسلام، فأجبت إلى ذلك رجاء لهداية بعض من زل قدمه عن أوضح المسالك»( ).
رابعاً: توجيه المحاضرات والكلمات لمن تصله من المخالفين يقينًا:
كالمعلم لتلاميذه، والرئيس لمرؤوسيه، والطبيب لمرضاه، والجار لجاره، وزميل العمل لزميله، وصاحب السفر لصاحبه... إلخ، وذلك بالنصح لهم وتوجيههم ومخاطبتهم بالعقل والنقل، وكم من حالات هداية كانت على هذا السبيل وبسبب هذا النهج.
خامسًا: الهدية:
إهداؤهم ما يفيدهم من علم نافع يبصرهم بالصواب، ويبين لهم خطأ بدعتهم، وما أسهل هذا على كل أحد يريد هداية الناس والنصح لهم! فتقديم كتيب صغير أو شريط نافع، أو دلالة على موقع في الإنترنت، لهو كفيل بتغيير حال المدعوين إن أراد الله هدايتهم وشرح صدورهم للحق والسنة.
مع إهداء من تتوسم فيه الخير وتعرف فيه الأخلاق الحميدة والسجايا النبيلة هدية عامة في بدء دعوته، لعلها تفتح آفاقًا وطريقًا لقلبه، فيقبل ما بعدها من النصح والإرشاد والحق.
سادسًا: المشاركة في مواقع الحوار في الشبكة العنكبوتية:
واستخدامها منبر دعوة للحق، والرد على شبهات المخالفين، والذب عن معتقدات أهل السنة، ولكن هذا يحتاج من صاحبه قدمًا راسخة في العلم على الأقل فيما يدعو إليه، وخبرة كافية في الحوار ومواطن الكر والفر فيه، كما يحتاج صاحبه لخُلقٍ عال وسجايا نبيلة، تدعو المحاور له لقبول الحق الذي عنده حال ظهوره، وعليه التنبه لمسالك المخالفين وطرائقهم الملتوية في الحيدة عن الحوار.
سابعًا: التأثير المباشر لمن ملك الأهلية من خلال شاشات الرائي والفضائيات:
ببث الاعتقاد الصحيح، وتوجيه كلمات النصح والإرشاد، فلعلها تصادف توفيقًا من الله في قلب مستمع لها، فتقوده للهداية والتوفيق في الدنيا والآخرة.
ثامنًا: استخدام البريد الإلكتروني:
فعن طريق البريد الإلكتروني تستطيع وبضغطة زر إيصال الكم الهائل من المعلومات إلى زميل لك في العمل، أو في السفر، أو جار قريب... إلخ، فتكون بهذا قد دللته إلى الخير وبدون عناء ولا تكلف ((فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)) [النحل:82].
تاسعًا: استخدام رسائل الجوال:
فبإمكانك مراسلة من تعرف من المخالفين كذلك من خلال رسائل الجوال القصيرة، بكلمات تذكير، أو آيات من كتاب الله، أو حجج عقلية قصيرة تهدم أساسًا كبيرًا في تصوره، وكم هي مفتاحًا للخير غفل عنها كثير من الناس!
عاشرًا: الدعوة إلى حضور الدورات العلمية والندوات الثقافية:
دعوةُ من تعرف منهم لحضور دورة علمية قريبة منه، أو ندوة ثقافية فيها إرشاد إلى مهارة تقود الشخص لباب خير وهداية، والله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: ((لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)) [السجدة:3].
حادي عشر: الإحسان إليهم:
قضاء حوائج من تعرف منهم، والشفاعة لهم تفتح أبوابًا وتمد جسورًا للحوار معهم والوصول إلى قلوبهم، فالإحسان آسر للقلوب.
وفي الختام نذكرك أخي الداعية إلى الله بالوصايا التالية:
1- قبل كل شيء تأكد أن نجاح كل دعوة مرتبط ارتباطًا كليًا بصدق القصد وإخلاص النية كما لا يخفى عليك.
2- الجأ إلى الله تعالى في كل وقت وحين، واطلب منه التأييد والعون، وأن يفتح لك قلوب المدعوين.
3- استعن بالصبر والصلاة؛ فهما مفتاح كل باب مغلق.
4- عليك بالاستخارة، وطلب المشورة ممن سبقك في هذا العمل، وله قدم سبق فيه، فعنده ما يصلح لك، وبأخصر الطرق.
5- أكثر من التأمل والتفكر في أساليب عقلية ومنطقية لإقناع الآخر( ).
تنبيه: هناك أمور لا بد من التنبيه عليها لضمان التأثير على المخالفين لنا، وهي:
أولًا: أن الحديث عن البدعة في العموم يختلف عن الكلام مع المخالفين أو المخالف.
ففي الحديث عن البدعة لا بد من ذم البدعة، والتحذير منها، وبيان خطرها على الدين.
أما إذا كان الحديث موجهًا إلى مخالف- أو مجموعة من المخالفين- فإنه قد يحتاج( ) إلى تأليف قلبه ودعوته إلى منهج أهل السنة، فيراعى في ذلك الرفق واللين وعبارات التأليف وعدم التعيير.
وهذا ما سار عليه شيخ الإسلام، فهو في حديثه عن البدعة يذمها ويُبيِّن خطرها، أما حينما يتحدث مع مخالف، أو يتعامل معه فإنه يتبع أسلوب اللين والرفق والتأليف، ولعل أوضح مثال، رسالته إلى ابن نصر المنبجي المذكورة سابقًا.
وكذلك ما كتبه في صدر رسالته إلى المنسوبين إلى التشيع وغيرهم في العراق ومشهد المنتظر، حيث قال رحمه الله: «وكان سبب هذه المواصلة أن بعض الإخوان قدم بورقة فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر سادة أهل البيت، وقد أجرى فيها ذكر النذور لمشهد المنتظر، فخوطب من فضائل أهل البيت وحقوقهم بما سرَّ قلبه وشرح صدره، وكان ما ذكر بعض الواجب؛ فإن الكلام في هذا طويل... إلخ»( ).
ولعل هذا أيضًا ما يشير إليه قوله تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)) [السجدة:3])) [السجدة:3]، فإذا كان ذلك مطلوبًا مع اليهود والنصارى فمن باب أولى أن يكون مع المخالفين الذين لم يخرجوا عن الإسلام...
وبعد:
فهذه بعض من الوسائل الدعوية القريبة المتيسرة لكل أحد، فمن فاتته وسيلة منها فلن تفوته الأخرى، وهو الحريص العارف بقوله تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33].
((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) [البقرة:83].
((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) [النحل:125].
((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) [العنكبوت:46].
الخاتمة
وبعد: فقد تبين -بفضل الله تعالى ومنّه- مما سبق من المباحث فضل الدعوة إلى الله تعالى، وأنها من أفضل الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى؛ بل إنها أفضل مقامات العبد، وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.
وتبين كذلك أن الدعوة إلى الله تعالى ليست مقتصرة على غير المسلمين فقط؛ بل إنها تعم كذلك عصاة المسلمين الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم، ويدخل فيهم من باب الأولى المخالفون لأهل السنة والجماعة الذين انحرفوا عن المنهج الحق؛ منهج أهل السنة والجماعة..
وتبين كذلك خطر البدعة وتأثيرها على المسلمين، وأنها أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها، بمعنى أن صاحبها يعتقد أنه على دين صحيح؛ فكيف إذًا يتوب منه؟!
وتبين كذلك أن توبة المخالفين مقبولة إن أخلصوا فيها لله رب العالمين، فإنه لا يحول بينهم وبين التوبة أحد، والله تعالى يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب إليه وأناب.
ومن كل ذلك تتبين أهمية دعوة المخالفين حتى يرجعوا إلى جادة الصواب، إلى منهج أهل السنة والجماعة، المنهج الحق الذي أُمر باتباعه جميع المسلمين، ذلك أن أهل السنة هم أرحم الناس بالناس، ومن رحمتهم بالمخالفين أن يدعوهم حتى يتمسكوا بما كان عليه النبي ص وأصحابه؛ لعلهم أن ينجوا بين يدي الله عز وجل ويكونوا من الفائزين بجنات النعيم.
فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يجعل هذا الأمر -وهو دعوة المخالفين لأهل السنة والجماعة- من جملة اهتماماته، وأن يسخر لسانه وقلمه وجهده وكل ما يستطيع في دعوة من يستطيع دعوته منهم، بالأسلوب الحسن، والحكمة النافعة، وأن لا يألوا جهدًا في استخدام شتى الوسائل في دعوتهم -التي ذكرت في البحث والتي لم تذكر- وأن يكون على بصيرة مما يدعو إليه، حتى تكون دعوته ناجحة بإذن الله تعالى.
وعليه أن يكون قريبًا من أهل العلم؛ يستنير بعلومهم، ويسترشد بكلامهم، ويسألهم عما يشكل عليه في دعوته للمخالفين، ويستشيرهم فيما يواجهه من مشكلات وعقبات، وقد ذكر في هذا البحث بعض فتاويهم وتوجيهاتهم في دعوة المخالفين ونصحهم وإرشادهم والتعامل معهم.
فنسأل الله تعالى أن يهدي كل مخالف للتمسك بمنهج أهل السنة، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وأن يوفقنا للدعوة في سبيله، على منهج نبيه محمد ص وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهرس المراجع
- الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرقة المذمومة، المعروف بـ(الإبانة الكبرى). أبو عبدالله عبيدالله بن محمد بن بطة العكبري. الطبعة الأولى. سنة 1409هـ. دار الراية.
- الإبداع في مضار الابتداع. علي محفوظ. الطبعة السابعة. دار الاعتصام.
- أحكام الجنائز وبدعها. محمد بن ناصر الدين الألباني. الطبعة الثانية. 1402هـ. المكتب الإسلامي.
- إحياء علوم الدين. أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي. دار المعرفة.
- الآداب الشرعية والمنح المرعية. أبو عبدالله محمد بن مفلح المقدسي. عالم الكتب.
- الأدب المفرد. محمد بن إسماعيل البخاري. الطبعة الثالثة. سنة (1409هـ – 1989م). دار البشائر الإسلامية.
- الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار. أبو زكريا يحيى بن شرف النووي. دار العربية.
- الاستقامة. شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية الحراني. الطبعة الأولى. سنة 1403هـ. جامعة الإمام محمد بن سعود.
- الاعتصام. أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الغرناطي الشاطبي. الطبعة الأولى. سنة (1412هـ-1992م). دار ابن عفان.
- أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة. حافظ بن أحمد الحكمي. الطبعة الأولى. سنة (1418هـ-1998م). مكتبة الرشد.
- الأعلام. خير الدين الزركلي. الطبعة الخامسة. سنة 1980م. دار العلم للملايين.
- اقتضاء الصراط المستقيم. الطبعة الأولى. سنة 1404هـ. شركة العبيكان.
- إنصاف أهل السنة والجماعة ومعاملتهم لمخالفيهم. محمد بن صالح بن يوسف العلي. الطبعة الثانية. سنة 1420هـ. دار الأندلس الخضراء.
- البداية والنهاية. أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي. الطبعة الأولى. سنة 1966م. مكتبة المعارف.
- البدع والنهي عنها. محمد بن وضاح القرطبي. الطبعة الأولى. سنة (1416هـ). مكتبة ابن تيمية.
- التاريخ الكبير. محمد بن إسماعيل البخاري. دار الفكر.
- تاريخ بغداد. أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي. دار الكتب العلمية.
- تبصرة الحكام في أحوال الأقضية ومناهج الحكام. برهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد ابن أبي القاسم المالكي ابن فرحون.
- تحذير المسلمين من الابتداع في الدين. أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي. الطبعة الثانية. سنة 1403هـ. مكتبة ابن تيمية.
- التحولات العقدية المحمودة في صفوف الإمامية في القرن الأخير. خالد البديوي. جامعة الملك سعود، قسم الثقافة الإسلامية.
- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي. الطبعة الثانية. سنة 1385هـ. دار الكتب الحديثة.
- تذكرة الحفاظ. الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي. الطبعة الأولى. سنة (1406هـ). مكتبة المنار.
- تعظيم قدر الصلاة. محمد بن نصر بن الحجاج المروزي أبو عبدالله. الطبعة الأولى. 1406هـ. مكتبة الدار.
- تفسير القرآن العظيم. أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي. دار إحياء التراث العربي.
- تفسير القرطبي. أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي. دار إحياء التراث العربي.
- التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير. أبو زكريا يحيى بن شرف النووي. الطبعة الثانية. سنة 1385هـ. دار الكتب الحديثة.
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. الحافظ أبو عمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر. طبعة وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب. الطبعة الأولى.
- التنكيل بما تأنيب الكوثري من الأباطيل. عبدالرحمن بن يحيى المعلمي. الطبعة الثانية. سنة 1406هـ. المكتب الإسلامي.
- تهذيب الأسماء واللغات. أبو زكريا يحيى بن شرف النووي. دار الكتب العلمية.
- تهذيب التهذيب. أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. الطبعة الأولى. سنة (1404هـ-1984م). دار الفكر.
- تهذيب الكمال. يوسف بن الزكي عبدالرحمن أبو الحجاج المزي. الطبعة الأولى. سنة (1400هـ-1980م). مؤسسة الرسالة.
- التوابين. أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي. سنة (1403هـ-1983م). دار الكتب العلمية.
- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. عبدالرحمن بن ناصر السعدي. دار الذخائر.
- جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم. أبو الفرج عبدالرحمن بن -شهاب الدين بن أحمد بن رجب الحنبلي. الطبعة السابعة. سنة (1417هـ - 1997م). -مؤسسة الرسالة.
- جامع المسائل"المجموعة الثالثة". شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية الحراني. الطبعة الأولى. سنة (1422هـ). دار عالم الفوائد.
- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله. الحافظ أبو عمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر. دار الفكر.
- جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمد خير الأنام. أبو عبدالله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي المعروف بـ(ابن قيم الجوزية). الطبعة الثانية. سنة (1407هـ-1987م). دار العروبة.
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح. شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية الحراني. الطبعة الأولى. سنة (1414هـ). دار العاصمة.
- حقيقة البدعة وأحكامها. سعيد بن ناصر الغامدي. الطبعة الرابعة. سنة 1421هـ- 2000م. مكتبة الرشد.
- الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى. سعيد بن علي القحطاني. الطبعة الأولى. سنة (1421هـ). وزارة الشئون الإسلامية.
- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. أبو نعيم أحمد بن عبدالله الأصبهاني. الطبعة الرابعة. سنة (1405هـ). دار الكتاب العربي.
- الحوادث والبدع. أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي. دار ابن الجوزي.
- الدرر السنية من الأجوبة النجدية. الطبعة الثانية. سنة (1385هـ). دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
- الرد على الجهمية، أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي. الطبعة الثانية. سنة (1995م). دار ابن الأثير.
- رسالة زاد الداعية إلى الله، الشيخ محمد بن صالح العثيمين. الطبعة الثالثة. سنة (1413هـ). دار الوطن.
- زاد المعاد في هدي خير العباد. أبو عبدالله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي المعروف بـ(ابن قيم الجوزية). الطبعة الثانية. سنة 1401هـ. مؤسسة الرسالة.
- الزهد. ابن المبارك. دار الكتب العلمية.
- الزهد. أحمد بن حنبل. دار الكتب العلمية
- الزهد. هناد بن السري. الطبعة الأولى. سنة 1406هـ. دار الخلفاء للكتاب الإسلامي.
- سلسلة الأحاديث الصحيحة. محمد بن ناصر الدين الألباني. الطبعة الثانية. سنة 1399هـ. المكتب الإسلامي.
- السنة. أبو بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني. الطبعة الثانية. سنة (1405هـ). المكتب الإسلامي.
- السنة. أبو عبدالله محمد بن نصر بن الحجاج المروزي. الطبعة الأولى. سنة (1408هـ). مؤسسة الكتب الثقافية.
- سنن ابن ماجة. أبو عبدالله محمد بن يزيد القزويني. دار إحياء الكتب العربية.
- سنن أبي داود. أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني. دار الحديث.
- سنن الترمذي. أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة. دار إحياء التراث العربي.
- سنن الدارمي. عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي. الطبعة الأولى. سنة (1407هـ). دار الريان.
- السنن الكبرى. أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي. مكتبة دار الباز.
- سنن النسائي (المجتبى من السنن). أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي. الطبعة الثانية. سنة (1406هـ-1986م). مكتب المطبوعات الإسلامية.
- سنن النسائي الكبرى. أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي. الطبعة الأولى. سنة (1411هـ-1991م). دار الكتب العلمية
- سير أعلام النبلاء. الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي. الطبعة الأولى. سنة (1401هـ). مؤسسة الرسالة.
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب. أبو الفرج عبدالحي بن العماد الحنبلي. الطبعة الثانية. سنة (1399هـ). دار المسيرة.
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة. أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي. دار طيبة.
- شرح السنة. أبو الحسين محمد بن الحسين بن مسعود الفراء البغوي. المكتب الإسلامي.
- شرح العقيدة الطحاوية. علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي الدمشقي. الطبعة الثانية. سنة (1421هـ-2001م). مؤسسة الرسالة.
- شرح لمعة الاعتقاد. محمد بن صالح العثيمين. طبعة "مجموع الفتاوى".
- شريط بعنوان لقاء مع مديري توعية الجاليات في القصيم، يوم الخميس 19/6/1414هـ.
- الصحاح. أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي. الطبعة الثانية. سنة (1399هـ). دار العلم للملايين.
- صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان. أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي. الطبعة الثانية. سنة (1414هـ-1993م). مؤسسة الرسالة.
- صحيح ابن خزيمة. أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري. سنة (1390هـ-1970م). المكتب الإسلامي.
- صحيح البخاري. محمد بن إسماعيل البخاري. الطبعة الثالثة. سنة (1407هـ-1987م). دار ابن كثير.
- صحيح الترغيب والترهيب. محمد بن ناصر الدين الألباني. الطبعة الخامسة. مكتبة المعارف.
- صحيح مسلم. أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري. دار إحياء التراث العربي
- الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة. أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي. الطبعة الأولى. سنة (1417هـ-1997م). دار الوطن.
- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. أبو عبدالله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي المعروف بـ(ابن قيم الجوزية). الطبعة الثالثة. سنة (1418هـ-1998م). دار العاصمة.
- طبقات الحنابلة. القاضي أبو يعلى الحنبلي. دار المعرفة.
- طبقات الشافعية. القاضي تقي الدين أبو بكر بن أحمد (ابن قاضي شهبة).
- طريق الهجرتين وباب السعادتين. أبو عبدالله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي المعروف بـ(ابن قيم الجوزية). الطبعة الأولى. سنة 1402هـ. دار الكتب العلمية.
- العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية. ابن عبدالهادي. دار الكتب العلمية.
- العلل المتناهية. ابن الجوزي. الطبعة الأولى. سنة 1403هـ. دار الكتب العلمية.
- علم أصول البدع. علي حسن عبدالحميد الحلبي. الطبعة الأولى. سنة (1413هـ - 1992م). دار الراية.
- علوم الحديث. أبو عمرو عثمان بن عبدالرحمن الشهرزوري المعروف بـ(ابن الصلاح). المكتبة العلمية.
- العواصم والقواصم. محمد بن إبراهيم الوزير اليماني. الطبعة الثالثة. سنة (1415هـ،1994م) مؤسسة الرسالة.
- غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب. محمد السفاريني الحنبلي. دار العلم للجميع. مكتبة البيان النجفية.
- فتاوى الشيخ الألباني بمكة. شريط رقم (7)
- فتح الباري شرح صحيح البخاري. أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.
- فتح المغيث شرح ألفية الحديث. شمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي. الطبعة الأولى. سنة (1403هـ). دار الكتب العلمية.
- الفصل في الملل والأهواء والنحل. أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري. سنة (1400هـ). دار الفكر.
- فيض القدير شرح الجامع الصغير. عبدالرؤوف المناوي. الطبعة الأولى. سنة (1356هـ). المكتبة التجارية الكبرى.
- القول السديد في مقاصد التوحيد. عبدالرحمن بن ناصر السعدي. الطبعة الأولى. سنة (1420هـ-1999م). دار المغني.
- كتاب الشريعة. أبو بكر محمد بن الحسين بن عبدالله الآجري البغدادي. الطبعة الأولى. سنة (1418هـ، 1997م). دار الوطن
- الكفاية في علم الرواية. أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي. المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
- كيف تدعو (تجارب عملية في دعوة المخالف). أبو الحسن المدني، أبو محمد القصيمي. الطبعة الأولى.
- لسان الميزان. أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي. الطبعة الثالثة. سنة (1406هـ-1986م). مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
- مجلة البيان. العدد (191).
- مجلة الدعوة. العدد (1313).
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي. مكتبة القدسي.
- مجموع الفتاوى. شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية الحراني. سنة (1398هـ). إدارة البحوث العلمية والإفتاء.
- مجموع فتاوى ومقالات متنوعة. العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن باز. الطبعة الثانية. سنة (1410هـ).
- مجموعة الرسائل والمسائل النجدية. بعض علماء نجد. الطبعة الثانية. (1409هـ). دار العاصمة.
- مختصر الفتاوى المصرية. شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية الحراني. سنة (1409هـ). دار التقوى.
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. أبو عبدالله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي المعروف بـ(ابن قيم الجوزية). سنة 1398هـ. دار الكتاب العربي.
- مسائل الإمام أحمد. أبو داود سليمان بن الأشعث. الطبعة الأولى. مطبعة المنار.
- مسائل الإمام أحمد. رواية عبدالله بن أحمد بن حنبل. الطبعة الأولى. سنة (1401هـ). المكتب الإسلامي.
- المستدرك على الصحيحين. أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري. الطبعة الأولى. سنة (1411هـ-1990م). دار الكتب العلمية.
- مسند إسحاق بن راهويه. إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه الحنظلي. الطبعة الأولى (1412هـ-1991م). مكتبة الإيمان.
- مسند الإمام أحمد بن حنبل. أبو عبدالله أحمد بن حنبل الشيباني. مؤسسة قرطبة.
- مسند الشافعي. محمد بن إدريس الشافعي. دار الكتب العلمية.
- مسند الشهاب. أبو عبدالله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي. الطبعة الثانية. سنة (1407هـ-1986م). مؤسسة الرسالة.
- مسند الطيالسي. أبو داود سليمان بن داود الفارسي البصري الطيالسي. دار المعرفة.
- مشارق الأنوار في غريب الحديث. القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي السبتي.
- مصنف عبدالرزاق. أبو بكر عبدالرزاق بن همام الصنعاني. الطبعة الثانية. سنة (1403هـ). المكتب الإسلامي.
- المصنف في الأحاديث والآثار. أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي. الطبعة الأولى. سنة (1409هـ). مكتبة الرشد
- معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد. حافظ حكمي. الطبعة الأولى. سنة (1403هـ). دار الكتب العلمية.
- معالم الانطلاقة الكبرى. محمد بن عبدالهادي المصري. الطبعة الرابعة. سنة (1409هـ، 1988م). مركز السنة.
- المعجم الأوسط. أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. دار الحرمين.
- معجم مقاييس اللغة. أبو الحسين أحمد بن فارس. دار الكتب العلمية.
- مفتاح دار السعادة. أبو عبدالله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي المعروف بـ(ابن قيم الجوزية). دار الكتب العلمية.
- مقالات في عقيدة أهل السنة والجماعة. عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف. الطبعة الأولى. سنة (1420هـ). دار القاسم.
- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي. الطبعة الأولى. دار صادر.
- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية. شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية الحراني.
- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج. أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي. الطبعة الثانية. دار إحياء التراث العربي.
- الموطأ. أبو عبدالله مالك بن أنس الأصبحي. دار إحياء التراث العربي.
- موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع. إبراهيم بن عامر الرحيلي. الطبعة الأولى. سنة (1415هـ). مكتبة الغرباء الأثرية.
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال. الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي. الطبعة الأولى. سنة (1995م). دار الكتب العلمية.
- نزهة النظر في شرح نخبة الفكر. أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. الطبعة الثالثة. دار الفرقان.
- النهاية في غريب الحديث والأثر. ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري. دار إحياء التراث العربي.
- هجر المبتدع. بكر بن عبدالله أبو زيد. الطبعة الثانية. سنة (1410هـ - 1989م). دار ابن الجوزي.
فهرس الفوائد
الفائدة
* الدعوة إلى الله تبارك وتعالى هي أعظم مهمات رسولنا صلى الله عليه وسلم
* الدعوة إلى الله هي الميزة التي فضّل الله تعالى هذه الأمة على سائر الأمم
* الداعية إلى الله تعالى العامل بما يدعو إليه من أحسن الناس قولًا
* مقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد
* قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: «إذا عملتم بالتوحيد، وأنكرتم الشرك والضلال، وفارقتم البدع، فلا يلزمكم هجرة عن الوطن والمال؛ بل يجب عليكم الدعوة إلى الله، وطلب أدلة التوحيد في كتاب الله».
* سئل الإمام الشافعي رحمه الله: أيما أفضل للرجل، أن يمكّن أو يبتلى؟ فقال: «لا يمكّن حتى يبتلى»
* قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «لا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول، فأعقلهم من باع ألمًا مستمرًا عظيمًا بألم منقطع يسير، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر»
* قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «الدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، وهم خلفاء الرسل في أممهم، والناس تبع لهم»
* ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات؛ لم يضره ضلال الضال»
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «من الأمر بالمعروف الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة»
* بدعوة المخالفين لأهل السنة تظهر السنة وتموت البدعة
* الآثار في النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء؛ إنما هي لمن خشي التأثر بهم، أو كان مأخذه غير دعوتهم أو الإنكار عليهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر
* قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وإنه بقي منها أشياء يجب أن يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه؛ لم يبتدع، ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم»
* قال الإمام مالك رحمه الله: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3] فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا»
* قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرًا ومضاهيًا للشارع، حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف بابًا، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع، وكفى بذلك»
* تختلف مراتب البدع باختلاف متعلقاتها
* الاختلاف في مواقف السلف تجاه المبتدعة من جهة عقوبتهم والتنكيل بهم، يرجع إلى اختلاف البدع واختلاف أحوال أصحابها
* هجر المبتدع إنما هو من باب القرب والعبادات، فلا بد من توافر شرطي القبول فيه: الإخلاص، والمتابعة
* قال الشيخ العلامة بكر أبو زيد حفظه الله: «مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد»
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة»
* إذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت مشروعية هجر المبتدع قائمة على أصلها، وإن كانت القوة والكثرة للمبتدعة، فلا المبتدع ولا غيره يرتدع بالهجر، ولا يحصل المقصود الشرعي؛ لم يشرع الهجر، وكان مسلك التأليف، خشية زيادة الشر
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «من أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنًا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، وقد يكون مخطئًا متأولًا مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه»
* ليس كل من تلبس بالكفر وقع الكفر عليه، وكذا ليس كل من وقع في البدعة وقعت البدعة عليه. فالتكفير العام لا يلزم منه تكفير المعين، والتبديع العام لا يلزم منه تبديع المعين
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم، لا في الأصول ولا في الفروع»
* يجب التفريق بين العامي من أهل البدع الذي تلقى البدعة ممن نظرها له وسكبها في رأسه وجعل لها مكانًا في عقله، وبين ذاك المُجادل عن البدعة والداعي إليها بشبهاته وتقريراته
* قال الغزالي رحمه الله: «المبتدع العامي الذي لا يقدر على الدعوة ولا يخاف الاقتداء به، أمره أهون، فالأولى أن لا يقابل بالتغليظ والإهانة، بل يتلطف به في النصح، فإن قلوب العوام سريعة التقلب».
* قال الغزالي رحمه الله: «المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان»...
* تقبل توبة المبتدع كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «قولهم: إن توبة ساب الصحابة لا تقبل، وأنه مخلد في النار، خطأ؛ بل الذي عليه السلف والأئمة، كالأئمة الأربعة وغيرهم أن توبة الرافضي تقبل كما تقبل توبة أمثاله»
* الصحيح والراجح هو أنه يمكن حصول توبة الداعي إلى بدعة وقبولها، فإن الله قد بين في كتابه أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع
* قال الإمام ابن باز رحمه الله: «نوصي إخواننا جميعًا بالدعوة إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن؛ أمر الله سبحانه بذلك مع جميع الناس ومع المبتدعة إذا أظهروا بدعتهم، وأن ينكروا عليهم، سواء كانوا من الشيعة أو غيرهم، فأي بدعة رآها المؤمن وجب عليه إنكارها حسب الطاق»
* قال الإمام ابن باز رحمه الله: «أما إن كان عدم الهجر أصلح؛ لأنه يرى أن دعوة هؤلاء المبتدعين وإرشادهم إلى السنة وتعليمهم ما أوجب الله عليهم يؤثر فيهم ويزيدهم هدى، فلا يعجل في الهجر»
* قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: «الرافضة الذي يسكن معهم يجب عليه أولًا أن يناصحهم، ويبين لهم الحق، ويبين أن ما هم عليه ليس بحق، فإذا عاندوا ولم يتقبلوا الحق فإنه يتركهم ولا يجلس معهم؛ لأنهم مخالفون معاندون»
* قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: «يجب علينا أن ندعوهم إلى الحق، وأن نبينه لهم، وإذا كنا نعلم من أي فرقة هم، فعلينا أن نبين عيب هذه الفرقة، ولا نيأس، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ـ، ربما يهديهم الله على أيدينا، فيحصل لنا خير كثير»
* قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: «الإنسان الذي يهتدي بعد أن كان غير مهتد قد تكون فائدته للمجتمع أكثر وأكبر من الذي كان مهتديًا من الأول؛ لأنه عرف الباطل ورجع عنه، وبينه للناس، فيكون بيانه للناس عن علم»
* قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: «بلغني أنه -ولله الحمد- بدأ منهم (أي الرافضة) أناس يتحررون من رق مذهبهم ويلتحقون بمذهب أهل السنة والجماعة»
* قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: «ننصح إخواننا المدرسين في البلاد التي يختلط فيها أهل السنة وأهل البدعة أن يحاولوا بقدر المستطاع تأليف أهل البدعة وجذبهم إليهم؛ لأن الشباب لين العريكة سهل الانقياد»
* الدعوة إلى الله بغير علم خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه
* حياة الداعية ليس معناها أن تبقى روحه في جسمه فقط؛ بل أن تبقى مقالته حية بين الناس
* على الداعية أن يكون صبورًا، وأن يستمر حتى يفتح الله له، وليس من الضروري أن يفتح الله له في حياته؛ بل إن المهم أن تبقى دعوته بين الناس ناصعة متبوعة، فليس المهم هو الشخص ولكن المهم هو الدعوة، فإذا بقيت دعوته ولو بعد موته، فإنه حي
* لابد من التأني ومراعاة التدرج في التأثير على المخالف مبتدعًا كان أو غيره
* ما ضر صاحب الفكر لو رفق بمن لا يوافقه على فكره ريثما يهتدي إلى ما يراه صوابًا ويراه غيره خطأ
* على الداعية أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة بحيث يظهر عليه أثر العلم في معتقده، وفي عبادته، وفي هيئته، وفي جميع سلوكه، حتى يمثل دور الداعية إلى الله:
* بعض الدعاة إذا رأى قومًا على منكر قد تحمله الغيرة وكراهة هذا المنكر على أن لا يذهب إلى هؤلاء، ولا ينصحهم، وهذا خطأ، وليس من الحكمة أبدًا؛ بل الحكمة أن تذهب وتدعو وتُبلِّغ، وتُرغِّب وتُرهِّب
* أهل السنة والجماعة يقبلون الحق من كل من جاء به
* قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «اقبل الحق ممن قاله وإن كان بغيضًا، ورد الباطل على من قاله وإن كان حبيبًا»
* التعاون مع المبتدع إذا كان يؤدي إلى حصول مصلحة أعظم من مفسدة بدعته، أو درء مفسدة أكبر من مضرة بدعته تعيّن التعاون معه
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم، إن لم يقصد منه بيان الحق وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحًا»
* طبيعة النفس البشرية أنها تنجذب إلى القول اللين، ويسهل قيادها إلى الحق بذلك، أما مع الجفاء والغلظة والشدة في العبارات فلا يجنى إلا النفرة والفتور وإيغار الصدور وانغلاق القلب عن سماع الحق والهدى»
* كل إنسان ولو كان كافرًا أو مبتدعًا لا يعدم نقطة خير في قلبه، يبدأ بها المسلم فيدخل منها، ثم ينميها، لذا فليُبتدأ الحوار بالأمور المسلمة بين المتحاورين والمتفق عليها
* ليس المقصود من الحوار تبكيت الخصم وإلجامه وإحراجه، وإظهار الأستاذية والتفوق، وتسفيه رأيه أمام الآخرين، وإنما المقصود هدايته إلى الحق وجذبه إليه
* قد يغفل المحاور عن استشعار نعم الله وفضل الله عليه، فيغتر بعقله وفهمه ورأيه، وعند ذلك يكون تذكيره بالله وبفضل الله وآلاء الله موقظًا له من تلك الغفلة، وفي ذلك تهيئة له لقبول الحق والإذعان للصواب
* إن صاحب الفكر المنحرف أو المبتدع يظل حبيسًا في دائرة الفكرة التي آمن بها ونشأ عليها، مُبتعدًا عن إعمال عقله وفكره فيما يعتقده أو يؤمن به، ولو أعمل عقله وفكره لاكتشف ما عليه من الباطل، وحينئذٍ يسهل قياده إلى الحق
* الحديث عن المبتدعة في العموم يختلف عن الكلام مع المبتدعة أو المبتدع