العولمة الثقافية وحوار الحضارات: الاختلاف كقيمة
العولمة الثقافية وحوار الحضارات: الاختلاف كقيمة
الدكتور عمرو حمزاوي
تواترت في السنوات الماضية النقاشات الفكرية والأكاديمية حول موضوعي العولمة وحوار الحضارات بصورة لافتة للنظر. وحلت الكتابات المعالجة لقضايا مثل الأبعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية للعولمة والتجارب التاريخية لحوار الحضارات واحتمالات صراعات عالمية بينها محل اهتمامات أخرى شغلت الفكر الإنساني خلال العقود السابقة للتسعينات من شاكلة أزمة الحداثة ومستقبل عمليات التحول الديمقراطي والتنمية المجتمعية الشاملة والعلاقات الاقتصادية بين الشمال والجنوب. ولم يكن هذا التحول عائداً فقط لانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي السابق وانشغال الفكر الغربي خاصة في الولايات المتحدة الأميركية بالبحث عن صياغات جديدة لأنماط التحالفات والصراعات الدولية المتوقعة (دراسات عالم السياسة الأميركي صمويل هنتينغتون على سبيل المثال) أو على صعيد آخر لتسارع معدلات عمليات وتقنيات الاندماج الاقتصادي والتقارب الثقافي بين أقاليم العالم المختلفة، وإنما بصورة أساسية إلى بروز واستمرارية عدد من التغيرات الرئيسية والظواهر الجديدة التي لم تتمكن الإطارات الفكرية التقليدية بشقيها الليبرالي والماركسي من تقديم تفسيرات مقنعة لها.
فقد مثلت حقيقة وصول نمط التحديث الغربي إلى حدود بدت قصوى وبدت جلية في أزمات اقتصادية واجتماعية حادة لدولة الرفاه في الشمال المتقدم كان أهمها تراجع معدلات النمو وتزايد نسبة البطالة وتصاعد تيارات التطرف السياسي والعنصري فضلاً عن مشكلة التهديد الايكولوجي للوجود الإنساني إشارات تحذير واضحة بدأت معها النخب السياسية في الغرب ولو على نحو جزئي في التفكير في استراتيجيات جديدة لإدارة مجتمعاتها ركزت بالأساس على الأبعاد القيمية غير المادية للتطور البشري. وتواكب هذا التحول مع تنامي الأهمية السياسية لما عرف بالحركات الاجتماعية الجديدة مثل حركات المرأة والخضر والمثليين بأجنداتها الحقوقية والثقافية المغايرة في جوهرها للمطالب التقليدية للقوى الاجتماعية الرئيسية (العمال وأصحاب العمل) على نحو عمق من بحث الغرب عن نماذج معيارية بديلة لاستعادة مساحة التوافق المجتمعي.
من جهة أخرى شهدت التسعينات تراجعاً عالمياً واضحاً لدور الدولة القومية سواء على أرضية صراعات عرقية ودينية ومذهبية (ربما كانت الحالة السوفياتية ومأساة يوغوسلافيا تيتو النماذج الأوضح في العقد الماضي) أو في سياق فشل عمليات التحديث الدولانية في العديد من البلدان غير الغربية وهو الأمر الذي رتب بروز قوى سياسية ودينية معارضة شكلت تهديداً مباشراً لموقع الدولة القومية وأنتجت عملية إحياء شاملة لرؤى تقليدية حول المجتمع والسياسة رفضت الحداثة الغربية العلمانية المحيدة في تصوراتها ومفاهيمها المركزية للعنصر الثقافي. وشكلت حركات الإسلام السياسي الرمز الاجتماعي الأهم لهذا التطور في المجتمعات العربية ـ الإسلامية التي لم تقتصر عليها بأي حال من الأحوال ظاهرة الإحياء الديني والثقافي تلك بل امتدت لتشمل عددا غير قليل من مجتمعات القارتين الآسيوية والافريقية وإن أخذت هناك أشكالا مغايرة (النقاشات حول القيم الآسيوية وآمال الإحياء الافريقي).
وأنسجم جل هذه التحولات من حيث وجهتها التي أعادت للجوانب غير المادية أهميتها في الكتابات حول المجتمع والسياسة مع ظاهرتين جديدتين اتضحت معالمهما في النصف الثاني من التسعينات، الا وهما الوجود المتنامي في المجتمعات الغربية لجماعات من أصول أجنبية استقرت بها وأصبحت بدياناتها وثقافاتها المتنوعة جزءاً من نسيجها المجتمعي ومن جهة أخرى تشكل ما أصبح يعرف بظاهرة المجتمع المدني العالمي. فقد بدأت معضلات الاندماج وقضايا التمايزات الثقافية والدينية بين الأغلبيات والأقليات في البروز إلى السطح وسرعت من وتائر النقاش حول البعد القيمي ـ الحضاري في المجتمعات المعاصرة. وتبلورت بالتبعية صياغات فكرية متعددة حول أساليب واستراتيجيات التعامل مع الآخر الديني والعرقي نوقشت بصورة نقدية تحت مسميات مثل الثقافة القائدة والتعددية الثقافية والثقافة الخليط. ثم كان هناك تزايد معدلات التشبيك المتخطي لحدود الدول القومية بين منظمات وجماعات غير حكومية في المركز الغربي وأقاليم الأطراف المختلفة واجهت تحديات التوسع الرأسمالي الاقتصادية والثقافية بالتأكيد على هويات جزئية (دينية وعرقية بالأساس) نافية لأفكار التوحد الكوني وواضعة بذلك قضية الحق في الاختلاف على الأجندة العالمية.
وواقع الأمر أن هذه العوامل مجتمعة قد جاءت بقضية العلاقة بين الذات والآخر إلى موقع القلب من النقاشات المعاصرة. وعلى الرغم من أن هذا البعد قد عولج في إطار أدبيات النسبية الثقافية وما بعد الحداثة إلا أن الأمر اقتصر في الأغلب الأعم على نقد الذات الغربية المنتجة للمشروع الحداثي العالمي من خلال الاستدعاء الجزئي لتجارب حضارية مغايرة بغية إثبات محدودية وقصور الفكر الغربي. بعبارة أوضح لم يتعد الاهتمام بالأخر هنا المساحة التقليدية المعتادة في الثقافة الأوروبية والأنجلوساكسونية الباحثة عن تأكيد أو نفي الذات من خلال الإشارة بالإيجاب أو السلب للغريب. الجديد في حديث العولمة وحوار الحضارات إذن تمثل في مستويين; أولهما محاولة الابتعاد عن توظيف العلاقة بين الذات والآخر للدفاع عن أو نقد المقولات الكبرى من شاكلة الحداثة والتنوير والعلمانية وثانيهما تطوير فهم بديل لثقافات وحضارات العالم قائم على إدراك جوهر الاختلاف والتعددية بداخل كل منها قبل البحث عن تعارضاتها البينية.
فمفهوم العولمة الثقافية وبغض النظر عن المعنى الرائج لدينا في العالم العربي ـ الإسلامي باعتبار العولمة غزوة إمبريالية غربية مهددة لهويتنا وقيمنا الأصيلة إنما يروم بالأساس تأكيد تسارع وتائر تنوع الأفكار والرؤى والتصورات الحاكمة للنظر في الأخلاق والمجتمع والسياسة في داخل كل إطار ثقافي ـ حضاري وحقيقة أن بعضاً من هذه العناصر إنما يشكل امتدادات لثقافات أخرى تجذرت في السياق المحلي المعني في مراحل تاريخية مختلفة على نحو يجعل الحديث القطعي عن الذاتي في مقابل الغريب أمراً من الصعوبة بمكان. فقد أضحت منظومات قيمية ودينية تستند ـ وإن تنوعت ـ إلى الإسلام في ظل وجود جماعات مهاجرين من الدول العربية والإسلامية استقرت في الغرب بمثابة مكون رئيسي للثقافة هناك يفرض نفسه على شتى مناحي الحياة بل ويطول حتى ما استعصى منها على التغير السريع مثل المجال اللغوي. فمشاهدة الأفلام الروائية الألمانية والفرنسية القديمة المعالجة لقضية وجود المهاجرين ومقارنتها بالحديث منها على سبيل المثال يظهر بجلاء الاستبعاد المنظم لتعبيرات مثل الأجانب والغرباء واللاجئين من قاموس المصطلحات اللغوية المقبولة مجتمعياً عند التعرض لظاهرة الأقليات. وبالمقابل فانه من الصعب وصف مفاهيم مثل التنوير والمواطنة وحقوق الإنسان بأنها غربية بعد أن انتشرت في سياقات جغرافية وحضارية مختلفة وتفاعلت مع مكوناتها منتجة لصياغات فلسفية ومجتمعية جديدة.
بل أن هناك من عمليات التداخل الثقافي التي يشير إليها مفهوم العولمة ما هو أكثر دلالة على تشابك مستويات الذاتي والغريب. فحقائق تطور الوجود الكردي في دول أوروبا الغربية في العقود الأربعة الماضية تبين على سبيل المثال بوضوح أن الإدراك المعاصر للهوية الكردية على خلفية التميز العرقي والثقافي أنما تبلور بين جماعات المهاجر أولاً وانتقل منها متأثراً بالفكر القومي الغربي إلى أقاليمهم في منطقة الشرق الأوسط مؤججاً لروح المقاومة ضد السلطات المركزية هناك. وعلى صعيد آخر فإن نسبة لا يستهان بها من المنتج المعاصر من المعارف الدينية في السياقات البوذية والإسلامية أضحى يصاغ خارج أقاليم الأغلبية ويصدر إليها في مراحل تالية مفجراً لنقاشات جديدة ومحدثاً لتغيرات هامة في التراتبية القيمية. فقد ساعد على سبيل المثال انتقال النقاش حول الإسلام الأوروبي وعلاقته بالديمقراطية من شمال المتوسط إلى شطره الجنوبي على إعادة التفكير في عدد من مسلمات العلاقة بين الدين والسياسة لدى بعض الحركات الإسلامية خاصة في المغرب العربي. وإذا أردنا جزئياً ترك تقاطعات الثقافي ـ السياسي وأثارها على قضايا الهوية وإمعان النظر في عمليات العولمة الاقتصادية ونتائجها الثقافية لوصلنا في نهاية المطاف إلى صورة مشابهة من حيث حقيقة التداخل والتعدد. فعلى الرغم من أن الشركات العالمية الكبرى تهدف بالأساس إلى نشر الثقافة الاستهلاكية الغربية لضمان معدلات توزيع عالية لمنتجاتها إلا أنها أضحت تأخذ في الحسبان العديد من مكونات الثقافة المحلية المعنية عند تطوير استراتيجياتها التسويقية. فلم يعد كافياً الحديث عن متانة السيارات الألمانية ودقة الساعات السويسرية وسرعة الوجبات الأميركية وإنما أصبحت شركة مثل مكدونالدز تسوق لسلعها في مصر والهند والصين باستخدام أسماء ورموز ونكهات محلية (فلافل بيرجر وماك ارابيا على سبيل المثال) وشركات السيارات تمزج بين تعديد ميزات منتجاتها وإظهار ملاءمتها للبيئات المحلية (الصحراء في حالة الخليج العربي). بل أن العديد من هذه الشركات أصبح يشترط لتعيين مديري الفروع الإقليمية إلمام الشخص المعني بالثقافة المحلية بجانب ثقافة المنشأ الأمر الذي رتب تحولاً كوزموبوليتانياً واضحاً في البناء الإداري ـ البيروقراطي الذي غلب عليه في الماضي نمط الخبير الأجنبي (الرجل الأبيض) محتكر المعرفة ومحتقر الثقافات غير الغربية.
وفي مجال الإعلام والاتصال تمكن التكنولوجيات الحديثة ليس فقط المصالح الرأسمالية العالمية بل أيضا، ولو بمعدلات متفاوتة، العديد من الجماعات الصغيرة من نشر رسائلها وأفكارها. ويتجلى هذا الجانب الديمقراطي للتطور التقني المعاصر في حقيقة التنوع الكبير للفاعلين الممثلين على صفحات شبكة المعلومات الدولية من منظمات غير حكومية عاملة في مجالات حقوق الإنسان والبيئة مروراً بمعارضي العولمة ووصولاً إلى حركات نازية وراديكالية من جهة ومن جهة أخرى في فاعلية الحملات التي ينظمها بعض هذه الأطراف ضد سياسات الدول والشركات الكبرى. ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال إنكار حقيقة وجود مراكز وأطراف في عالمنا المعاصر. فما يزال المعولم من الأفكار والرؤى والخطابات والرموز قادماً في جزء كبير منه من الأطر الحضارية في الشمال المتقدم المسيطر بحسابات القوة الشاملة. إلا أن التحليل السابق يثبت أن الكيفية التي تصاغ وتنشر على أساسها هذه المكونات والصورة التي يتم بها التفاعل معها وإدراكها ينفيان جوهر النظرة الأحادية واسعة الانتشار بين ظهرانينا والتي ترى في العولمة مجرد مرادف للهيمنة.
أما النقاش الدائر حول حوار الحضارات وعلى الرغم من بداياته الآيديولوجية فيروم بالأساس التأصيل النظري لجوهر التفاعل والتواصل في عالمنا المعاصر. والقضية المركزية هنا هي تطوير فهم بديل للهويات الجمعية، ثقافية ودينية، يبعدنا عن الإدراك الحداثي لها باعتبارها أطراً صماء لا تتغير جواهرها إلا عند السقوط والانهيار (الكتاب الشهير للفيلسوف الألماني اوزفالد شبنغلر عن نهاية الحضارة الغربية). ويقودنا ذلك إلى الربط المباشر بين تطور مكونات الهويات الجمعية وبين الفاعلين المجتمعيين. فالأنساق القيمية والمعرفية واللغوية تتغير تدريجياً باختلاف وتوالي الخبرات التاريخية والحياتية للفاعل المحدد سواء كان الأخير حضارة أو أمة أو جماعة عرقية. والواقع أنه يمكن تعقب هذه الحقيقة بجلاء عند دراسة تاريخ التطور العرقي والثقافي لمناطق التلاقي الجغرافي بين أكثر من إطار حضاري. فالجزر المتوسطية مثل كريت ومالطة وصقلية تعبر في تكويناتها البشرية ولهجاتها وعاداتها عن خليط متمازج من الحضارة العربية ـ الإسلامية خاصة المغاربية والأوروبية في تشكيلاتها الجنوبية. الأصل في حوار الحضارات إذن، وعلى الرغم من إرهاصاته الصراعية المبتذلة خاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر، هو إعمال حقائق التاريخ والمجتمع المسببة للتطور والتحول عند الحديث عن الثقافة. ليس البحث عن مساحات المشترك الإنساني هو هدف الحوار ولكن إدراك حقيقة أن منطق الاختلاف لا ينسجم مع حدود الدول القومية ولا يقف عند حصون الدين والعرق.
فقد ولت أوهام إنسان الحداثة الذي أنشد طويلاً لحن التوحد البشري والقضاء على التمايزات (الجزء الأشهر من أنشودة السعادة لشيلر «سيصبح كل البشر أخوة») تماماً كما توارت أحلام ما قبل الحداثيين الباحثين عن منطق أحادي بسيط لفهم أغوار العلاقة بين الذات والآخر.
* مدرس بقسم العلوم السياسية ونائب مدير مركز الدراسات الأوروبية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.