التعصّب والتسامح في الإسلام: إشكالية الإستغراق في الفروع والضياع عن الأصول
التعصّب والتسامح في الإسلام: إشكالية الإستغراق في الفروع والضياع عن الأصول
كتبهاالدكتور عبد الغني عماد ، في 7 نيسان 2011
تجمع الحضارات علاقة تفاعلية تقوم على التبادل والتعارف والتكامل، وبهذا فإن الحوار بين الحضارات ليس ظاهرة مصطنعة بقدر ما هو ظاهرة لازمة بنيوياً وعضوياً لكل منها حيث الواحدة تتنفّس من فضاء الحضارات الأخرى، أدركت ذلك أم لم تدرك.
ينطبق ذلك على الحضارة الإسلامية وعلى غيرها تلك هي صفة التنوع الإنساني، وقد جعل القرآن الكريم ذلك هدياً جماعياً ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ ( الحجرات 13).
لذلك يجب أن نعترف بأن فكرة التسامح بقدر ما هي بسيطة وشفافة ومثالية في طرحها وحضورها، هي كارثية ومدمرة وقاتلة في غيابها، لذلك هي ليست قيمة ثانوية أو هامشية في الأديان السماوية، بل هي قيمة ثابتة وأصلية، إنها قيمة بنيوية ووجودية، وجودها في الحياة ضروري، ضرورة الوجود نفسه. فهذا التعارف بين البشر الذي بيّنه القرآن لا يمكن أن يتم بوجود التعصّب والتطرّف والغلو.
التعصب الديني ظاهرة إنسانية تحركها مجموعة من الحوافز، ترتبط بشكل أو بآخر بالوضع الإجتماعي والإقتصادي والسياسي والنفسي. فالبطالة، والظلم الإجتماعي، والقهر السياسي، والشعور بإنعدام البديل، كلها حوافز دافعة لتوليد ظاهرة التطرف والتعصب، ومن ثمّ العنف الذي يعبر عنه بأشكال وصور مختلفة.
ولطالما كان التطرف والعنف ظاهرة ملازمة لكل المجتمعات عموماً، يحتل موقعاً هامشياً في أغلب الأحيان، لكنه يتقدم ويتضخم ليكتسح الموقف في ظروف معيّنة. إنه ظاهرة كامنة لا تستيقظ إلاّ تحت وطأة ضغوط إجتماعية وإقتصادية وسياسية، قد تأخذ شكل إنفجارات لكنها لا تلبث أن تعود إلى الكمون، وإلى إحتلال موقعها الهامشي بإنتهاء الضغوط التي تسببت بإيقاظها أساساً، لذلك يعتبر التعصب والتطرف والعنف حالة "ظرفية" في تاريخ الشعوب والأمم.
وفي هذا المعنى لا تخلو بقعة في العالم من مظاهر التعصب والتطرف الديني أو العرقي أو السياسي. وإذا كان الإعلام الغربي يركز على ربط فكرة التعصب والتطرف وإعتبارها ملازمة للإسلام كدين من خلال التركيز على ما يسمّى "الأصولية الإسلامية"، فإن هذا الأمر في الحقيقة يتضمّن الكثير من التمويه والتضليل. فحركة الجهاد ضد الصهيونية والإستعمار ليست إلاّ ردة فعل على تطرف قائم يجثم على صدر العالم العربي والإسلامي، ويتحمل الغرب، كشريك ومساند لقوى الإحتلال والإستيطان والقهر، جزءاً أساسياً من المسؤولية في تمادي هؤلاء بإحتلالهم لاراضٍ عربية واسلامية.
وإذا كان التعصب والتطرف حالة ظرفية في تاريخ الشعوب والأمم، إلاّ أنه حالة "طبيعية" ملازمة للفكر الصهيوني والمشروع الإستعماري، فكلاهما يقوم على إلغاء "الآخر" وإستلابه بالقهر والعنف، فهما بهذا يمثّلان التطرّف بشكله الحاد والفظ، بينما كان الإسلام دائماً نموذجاً رائعاً للإعتراف بالآخر "المختلف"، بل إنه كان أول تجربة حضارية في هذا المجال.
وعليه فإن التعصب ومظاهر التطرّف الديني التي تشهدها بعض المجتمعات الإسلامية ليست
إلاّ مظاهر ظرفية، مرتبطة بمناخ سياسي وإجتماعي محدد، تزول بزواله، وتستمر وتقوى، ببقاء هذا المناخ. وإذا كانت بعض الحركات الحزبية الإسلامية قد غرقت في متاهات التطرف، فإنها دون أن تدري تقدم خدمات كبيرة للقوى المعادية للإسلام. مع ذلك لا بد من الإعتراف أنه بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001 حدث تحوّل هام على مستوى الحركة الإسلامية، إذ بدأت بعض خصائصها تتبنّى تنظيرات جديدة في ميدان العنف والعلاقة مع الآخر. ونحن في هذه الدراسة نرصد بعض مظاهر التطرف والإنحراف بل الشوائب التي انتابت العمل الحركي الإسلامي في السنوات الأخيرة.
- ماذا يعني التعصب؟
هذا المفهوم له حضور مهمّ في أدبيات العلوم الإنسانية والإجتماعية، ويمكن أن نميّز أشكالاً وأنواعاً مختلفة منه، فهناك التعصّب العرقي، التعصّب الثقافي، التعصّب الديني والتعصّب الطائفي، وهو في جوهره يعني الإنقياد العاطفي لأفكار وتصورات تتعارض مع الحقيقة الموضوعية.
فالتعصب Fanaticism يتعارض مع مفهوم التسامح، وقد يكون إيجابياً أو سلبياً، ويتم إعتناقه دون إعتبار للدلائل الفعلية أو دون أخذ الوقت الكافي والعناية اللازمة للحكم على الموقف بإنصاف، وقد يعرّف بأنه الحكم السلبي تجاه أفراد ينتمون إلى مجموعة إجتماعية معينة، حيث ينحو الأفراد المتعصبون إلى تحريف وتشويه وإساءة تفسير بل وتجاهل الوقائع التي تتعارض مع آرائهم المحددة سلفاً، فقد يعتقد الشخص المتعصّب مثلاً أن جميع الأفراد المنتمين إلى أصل قومي أو دين أو مذهب أو عرق أو جنس أو منطقة في بلد ما، كسالى أو أغبياء أو عنيفون أو جشعون أو جبناء، وحسب قاموس "لاروس" الفرنسي المتعصّب يتبنى الرأي بحماسة "عمياء ومشاعر جارفة". وتبيّن الدراسات حول التعصّب أن الأشخاص الذين لديهم أحكام مسبقة تجاه جماعة ما، سرعان ما يصدرون مثل هذه الأحكام تجاه أي جماعة أخرى، ويعبرون عن هذه العداوة ضد مختلف الفئات التي يتباينون عنها.
ويلاحظ أن الأشخاص المتعصبين غالباً ما تكون لديهم أحكام مسبقة عن الآخرين، مصحوبة بسوء طوية عميقة وحقد شديد تجاههم، وتعرف هذه الشخصيات بأنها شخصيات عصبية سلطوية، تتميّز بأنها كارهة، وذات رؤية كونية عنيفة وعدوانية ولديها تطور مثالي للسلطة وفكر متجمد.[1]
يكشف التعصب خضوع الفرد لسلطة الجماعة التي ينتمي إليها، مع ميل خفيّ إلى نبذ الآخر ورؤية العالم في إطار جامد من الأبيض إلى الأسود وقبول إستخدام العنف في التعامل معه.
فالتعصب حالة خاصة من التصلب الفكري أو الجمود العقائدي والأساس فيه يرتكز على عدة عمليات ذهنية ونفسية مترابطة، حيث يقوم المتعصب بممارستها دون إدراك ومنها:
الحكم المسبق Pre-judging دون التحقق في أسباب هذا الحكم ومبرراته ودواعيه.
التعميم Generalization الذي يشمل الجماعات الأخرى منطلقاً في الغالب من سوء الحكم.
الإسقاط Projection ومن خلالها يعزو فيها الفرد دوافعه وأفكاره المشحونة بالخوف إلى الغير تهرباً من الإعتراف بها أو تخفيضاً لما يشعر به من الإدانة الذاتية، ويعد الإسقاط من أساليب التبرير والدفاع عن الذات.[2]
التنميط Stereotype ويمكن أن تسهم عدة عناصر في تشكيل مشاعر التعصب وتحوله بالتالي إلى موقف التطرف ومنها: التنافس، الأفكار الدينية، الخوف من الغرباء، التشدد القومي، وقد ينشأ التعصب عندما تخشى مجموعة ما أن يحرمها تنافس مجموعة أخرى من الهيبة والمزايا والقوة والسياسة أو الفرص الإقتصادية، وهو يؤدي إلى حالة مرضية على المستوى الفردي والجماعي تدفع إلى سلوكيات تتصف بالرعونة والتطرف والبعد عن العقل والإستهانة بالآخرين ومعتقداتهم، الأمر الذي يؤدي إلى شقّ وحدة الأمة وإنكار الحقوق الإجتماعية والسياسية للفئات الأخرى وهدم البنى الإجتماعية.[3]
والتطرف ليس كما يشاع خروجاً عن المألوف الذي تعارف عليه الناس أو المجتمعات في فترة زمنية ما، وإلاّ أصبح كل تطور حضاري في المجالات الإجتماعية والعلمية والثقافية والسياسية تطرفاً، لأن هذا التطور يتضمن خروجاً عن المألوف الذي اعتاد عليه الناس. بل إن الأديان السماوية نفسها كانت خروجاً عن المألوف وقت نزولها.
التطرف هو الجمود والإنغلاق العقلي، إنه أسلوب مغلق للتفكير بعيداً عن العقلانية، يتسم بعدم القدرة على تقبّل الآخر بل يجنح إلى إلغائه. والتطرف في الدين هو الخروج عن التوسط والبعد عن الإعتدال لهذا قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: لكل فضيلة رذيلتان هما الإفراط والتفريط، والكمال هو الإعتدال، ومعيار الإعتدال هو الشرع والعقل. والقرآن الكريم يخاطب المؤمنين: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [4].
لذلك وصف الإسلام بأنه دين الوسطية ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ واستحقت أمة الإسلام هذه الخيرية ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ لتكون شاهدة على الناس.
ومن البديهي أن التعصّب والتطرف والغلو نقيض الوسطية والإعتدال، وهو لا يمكنها من لعب هذا الدور القرآني، فضلاً عن أنه جنوح عن المنهج القرآني القويم وإنحراف عن الصراط المستقيم.
- مواقف للرسول في مواجهة التطرف والغلو:
كان للرسول r موقف حاسم وحازم من التطرف والغلو فقد تصدى في حياته لهذه الظاهرة ولم يسمح لها بالنمو:
- فقد ورده أن ثلاثة من أصحابه قرروا أن يرتفعوا بعباداتهم إلى ما يفوق طاقة الإنسان فقال أحدهم أني سأصوم الدهر ولا أفطر. وقال الثاني أني سأقوم الليل ولا أنام. وقال الثالث أما أنا فلن أتزوج النساء أبداً. وعندما نمي إلى الرسول خبرهم استدعاهم وسألهم أأنتم الذين قلتم كذا وكذا. قالوا نعم يا رسول الله فقال عليه السلام "أما بعد، فإني لأخشاكم لله، وأتقاكم له ولكن أصوم وأفطر، وأقوم الليل وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
- كذلك كان النبي r على سفر مع أصحابه وكانوا صائمين فخشي على أصحابه من شدّة الحرّ فنادى على أصحابه كي يفطروا، وأمتثل الصحابة إلى أمر الرسول عليه السلام إلاّ نفر منهم وعندما علم بأمرهم غضب وقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة، فلما سمعوا ذلك أفطروا…
- وفي حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلّم قال "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين". [5]
- وفي حديث ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال "هلك المتنطعون"[6] ثلاث مرات وهم المتشدقون المغالون الذين شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم.
- وفي حديث سهل بن حنيف عن الرسول r أنه قال: "لا تشددوا على أنفسكم فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات".[7]
يمكن إعتبار اللحظة التاريخية لما يعرف بـ "الصحيفة" أو وثيقة "المدينة" من اللحظات المؤسسة للعلاقة مع الآخر المختلف دينياً، والتي يمكن القياس عليها حيث لا قسر فيها ولا عنف، فقد كانت بمثابة الركن التأسيسي الأول لنشأة المجتمع الإسلامي في التاريخ، ذي الطابع التعددي، الذي يلتمس وحدة البشرية التي خلقها الواحد الأحد جلّ جلاله، من نفس واحدة، ثم جعلها شعوباً وقبائل لتتعارف وتتنافس في الخير.
"الصحيفة" بمثابة دستور وضعه الرسول لجماعته في المدينة ليحدد لها نظام العمل في شؤون الجماعة الداخلية والخارجية، دستور كامل يبيّن الحدود الجغرافية ويحدد القبائل التي أخذت تنضم إلى الأمة الإسلامية من حول المدينة.
والقارئ المدقق للصحيفة يرى فيها ما يشبه الإعلان الرسمي بقيام دولة قانونية وفق معايير ذلك الزمان. فالصحيفة تحدد واجبات أعضاء هذه الجماعة وحقوق كل منهم، العدل والبرّ، ولهم الأمن على النفس والمال والجماعة (القبائل كلها، مسلمين ويهود)، هي التي تقوم بحماية الأمن داخلها (ويد المؤمنين جميعاً على من ابتغى دسيسة أو فساداً بينهم) والجماعة متعاونة لمساعدة المحتاج والمدين والمريض، وهي ملزمة بمعاونته في فداء أو أسر، وكل مجموعة قبلية من أهل المدينة مسؤولة عن الأمن في مواطنها وعن حماية المدينة من ناحيتها، والأمة كتلة واحدة. ولا تعقد جماعة صلحاً إلاّ بإتفاق الجماعة. لقد وضع الرسول r دستوراً للدولة نظّم فيه شعب دولته، وحدد العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وبيّن فيه الحقوق والواجبات على مواطني الدولة (اليهودية بقبائلهم- القبائل المتفرّقة- الأوس والخزرج- المهاجرين). ولعلّ أهم مضامين هذه الصحيفة أباحتها لحرية العقيدة والإقامة والتنقّل، ومزاولة الحرف دون تقييد، ما دامت هذه الحريات لا تضرّ مصلحة المجموع وتراعي المبادئ الأخلاقية في السلوك الفردي وفي العلاقات الإجتماعية.
ومما لا شكّ فيه أن هذه الوثيقة - الدستور تعتبر إنجازاً حضارياً لم تشهد البشرية مثيلاً له في عمرها الطويل، والمتأمل الداراس للصياغة والمضمون يتبيّن عظمة هذه القواعد التي خطّها النبي r والتي توصلت البشرية إلى تبنّيها بعد مئات السنين وخاصة في جانبها السياسي والتنظيمي.
- الخوارج فلاسفة التطرف ومنظرو التكفير:
التكفير ظاهرة قديمة، وهي مرتبطة في الذهن العربي بالفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي. وقد خط بها الخوارج نهجاً في التكفير لا تزال آثاره محفورة إلى اليوم في عقل المتطرفين وسلوكهم وقد داخلها شيء من العصرنة والحداثة.
"لا حكم إلاّ لله" صيحة رددتها أفواه الخوارج في "صفين" فشقّت الصفوف وزرعت الخلاف. وهي صيحة لا يزال يردّدها إلى اليوم المتطرفون يشقّون بها الصفوف. ويتناسى هؤلاء ذلك الرد الحاسم والقول المشهور من الإمام علي بن أبي طالب لمّا سمع هذه الصيحة قال: "كلمة حقّ يراد بها باطل، وإنما مذهبهم ألا يكون أمير، ولا بد من أمير، براً كان أو فاجراً، نعم لا حكم إلاّ لله، ولكن الأمر لمن؟".
وخرج الخوارج من بين الصفوف، وأطلقوا على أنفسهم إسم "الشّراة" أي الذين يشرون أنفسهم إبتغاء مرضاة الله، لكنهم انحرفوا تطرفاً وغلواً وحكموا بالكفر على معاوية وعلي. بعدما كان هؤلاء من أشدّ المناصرين للإمام علي قبل التحكيم، ولكنهم كفّروه مع من قبل بالتحكيم وكانت صيحتهم الآنفة الذكر، ثمّ ازدادوا غلوّاً وتطرفاً فكفّروا كل المسلمين الذين لا يتبعون رأيهم وإستحلوا دماءهم وأموالهم ونساءهم، ثمّ كفّروا كل من يرتكب ذنباً، ولم يفرقوا بين ذنب وذنب، واعتبروا الخطأ في الرأي يخرج عن الإسلام إذا كان مغايراً لما يرونه حقّاً، واعتبروا مخالفيهم في الرأي مشركين مخلدين في النار، يحل قتلهم، كما اعتبروا دار مخالفيهم دار حرب ينطبق عليها ما ينطبق على الكفار.
وقد جادلهم الإمام علي u وحاججهم فقال لهم: "إن أبيتم إلاّ أن تزعموا أني أخطأت وضللت، فلم تقتلون عامة أمة محمد r، وتأخذوهم بخطئي، وتكفرونهم بذنوبي، سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب، وقد علمتم أن رسول r رجم الزاني المحصّن ثم صلّى عليه ثم ورّث أهله، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله، وقطع يد السارق وجلد الزاني غير المحصّن ثم قسم عليهما الفيء، ونكّحهما المسلمات، فآخذهم رسول الله r بذنوبهم، وأقام حق الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم في الإسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله.."
هذا الحوار الرائع لم يردعهم عن غيّهم، فاستمروا في مواقفهم الشاذة المتطرفة، ومن أمثلة ذلك أنهم قابلوا مسلماً ونصرانياً، فقتلوا المسلم لأنه خالفهم الرأي، وأوصوا بالنصراني خيراً ودفعوا ثمن بضع تمرات أخذوها من نخلته وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم؟!
انقسم الخوارج فرقاً متعددة، منهم من اشتدّ بتطرفه وغلوه ومنهم من اعتدل بالتطرف واكتفى بالتكفير. واشتهر "الأزارقة" الذين يتزعمهم نافع بن الأزرق بحبهم لسفك الدماء، فكانوا يقتلون النساء والأطفال ويقطعون الطريق. لكن فريقاً آخر من الخوارج اكتفى بالتكفير فلسفة ونهجاً واستنكر أعمال ابن الأزرق، وكل زعماء الفرق الخارجية لقبوا بلقب أمير المؤمنين وزعم كل منهم أن الحق معه والآخرين على كفرٍ وضلال مبين.
كان موقف الإمام علي u ألاّ يحاربهم حتى يبدأوه الحرب، فلما عمدوا إلى إستعمال العنف، وقتلوا الصحابي عبد الله بن خبّاب وفي عنقه المصحف ومعه إمرأته، وذلك بعد حوار جرى بينه وبينهم يفيض بالحكمة من جانب ابن خبّاب وبالغلظة من جانبهم.
خرج إليهم علي يوم النهروان وأوقع بهم عدداً كبيراً، لكنهم ما لبثوا أن تربصوا به وأرسلوا إليه واحداً منهم هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي فقتله في المسجد، فكان الإمام علي u أول شهداء التطرف والغلو الذي يعمي البصر والبصيرة.
والخلاصة أن فلسفة التكفير عند الخوارج، لم تنبت إلاّ في مناخ الفتنة والإنقسام، ولم تستمر وتتعاظم إلاّ في جوّها المسموم والمزروع بالفرقة والتنازع، فزادت من حدّة الإنقسام والتفرقة وأعلمت السيف قتلاً وإرهاباً. أليس اليوم أشبه بالأمس، مناخ مشابه، فتنة وإنقسام، فرقة وتنازع.
وبالتالي فكر خارجي تكفيري ينمو هنا وهناك يرتدي رداء يناسب العصر ويستعيد المقولات السابقة فيسكبها في قالب جديد.
- بين الإيمان والتكفير:
الكفر في اللغة هو الجحود والإنكار والتكذيب، أما الإيمان فهو "التصديق"، الكفر في العقيدة هو الجحود والإنكار والتكذيب لأركان الإيمان وأحكام الإسلام الثابتة القطعية، فمن أنكر أصلاً أو حكماً قطعياً ثابتاً لا تأويل فيه ولا ظنّ، وأصرّ على ذلك بعد البيان وإقامة الحجة والدليل فقد أخرج نفسه من دائرة الإيمان.
الإيمان في العقيدة هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان وقد أجمع الفقهاء على أن المؤمن لو صدق بقلبه وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل مستحق للوعيد، بل إن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، ففي القرآن: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْيَشَاءُ﴾ (النساء 48)، وكذلك قول النبي r: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلاّ الله، يبتغي بذلك وجه الله"[8].
إذن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان ومنهم من زاد "العمل"، وفي ذلك قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا التمني لكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال. ومن المتفق عليه أن الإيمان يزيد وينقص فهو ليس عند الناس سواء، فهم به يتفاضلون كما في الحديث عن النبي r: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلاّ الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"[9].
وإذا كان كفر النعمة- أي عدم شكرها- هو أدنى وأخفّ أنواع الكفر فإن أعظم الكفر وأعلى مراتبه هو جحود التوحيد للخالق أو النبوة التي إصطفى لها الأنبياء والمرسلين أو الشريعة التي أوصى بها الله، كذلك لا يستوي كفر الجاحدين للحقّ الذي عرفوه، مع كفر التقليد الذي يولد فيه ويشبّ عليه الذين لا قدرة لهم على النظر والمقارنة بين الأديان وبين الكفر والإيمان.
وكما يحصل الكفر بالقول الملفوظ أو المكتوب، فإنه يحصل بالفعل والعمل، وهناك من الفرق قديماً وحديثاً من يركز على الألفاظ الكفرية، ويعتبر مرتكبها كافراً، لكن أغلب الفقهاء يتفقون على أن القول الموجب للكفر هو: إنكار الإعتقاد الذي اجتمعت عليه الأمة والوارد فيه نصّ لا يحتمل التأويل ولا يصبح الكفر واقعاً إلاّ إذا صدر عن تعمّد أو إستهزاء صريح أو عناد مبين، فالقصد والتعمّد أساس الحكم في هذا الأمر.
لقد أصبح من المتيقّن لدى الفقهاء ان الكلام في التكفير مشوب بعيوب أهل البدع، فالعلماء كانوا جميعاً يخطئّون ولا يكفرّون، وأصبح من المتفق عليه أن كل معصية ترتكب مع الإيمان والتصديق يرجى أن يغفرها الله، فلو كانت كل المعاصي كفراً لكان كل الناس كفاراً فليس من أحد معصوم، ولو كانت كل المعاصي كفراً لكانت كلها ردة، وحد الردة واحد وهو القتل، ولما كان هناك من ضرورة لتنوع عقوبات الزنا والسرقة وشرب الخمر، ويستدل على ذلك أيضاً أن القرآن الكريم لم يخرج من دائرة المؤمنين الطائفتين المقتتلتين: ]وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا[ (سورة الحجرات: 9)، إلى أن قال:﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ (الحجرات 10).
ويستند أغلب الفقهاء في إثبات هذا الرأي إلى العديد من أحاديث النبي r إذ لو كانت المعاصي كلها كفراً لما قال: "يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة[10]"، ولما قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"[11] لأن الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وقد احتاط الفقهاء كثيراً في الحكم بالكفر على شخص أو جماعة، ذلك أن التكفير ظاهرة بدأت مع الخوارج ولا تزال آثارها إلى اليوم في نهج بعض الغلاة وسلوكهم، وهذا ما دفع الفقهاء إلى المزيد من الإحتياط والحذر في هذا الأمر. فالحكم على مسلم بالكفر يرتب مفاعيل أهمها: إهدار دمه، وتنفيذ حكم المرتد فيه، ووجوب التفريق بينه وبين زوجه، وخروج الأولاد من ولايته، وعدم دفنه في مقابر المسلمين، والحكم عليه بالخلود في النار، وإمتناع التوارث بين وبين أقاربه، وكان علماء السلف يحتاطون حتى في المواقف التي يكون فيها الكفر صريحاً، فقد كانوا يحكمون أحكاماً عامة ولا يكفرون فرداً بعينه، فيقولون مثلاً: من أنكر حرمة الخمر فهو كافر (بدون تسمية الشخص). قال أبو يوسف (رحمه الله): "أما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلاّ بأمر تجوز معه الشهادة فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين إن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا هو حكم الكافر بعد الموت"[12].
ومما لا شكّ فيه أن الخطأ في إثبات الكفر أفضل بكثير من تكفير مؤمن وإهدار دمه، ويقول الإمام الغزالي رحمه الله: "التكفير حكم شرعي، يرجح إلى إباحة المال وسفك الدماء والحكم بالخلود في النار، فتارة يدرك بتعيين وتارة بظن غالب، وتارة يتردد فيه، ومهما حصل تردد فالوقوف فيه أولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليه الجهل.."[13].
وقد قال علماء تفسير القرآن "إن الأحكام تناط بالمظان والظواهر، لا على القطع وإطلاع السرائر، فالله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر"[14].
وسوف نحاول في الصفحات التالية، رصد الشوائب والأمراض التي تلازمت مع الحركة الحزبية الإسلامية المعاصرة معتمدين بذلك على أحكام كتاب الله وسنّة رسوله.
- أولاً: في تكفير الآخرين
حين يسقط التطرف عصمة الآخرين ويستبيح دماءهم وأموالهم ولا يرعى لهم حرمة ولا ذمة من خلال اتهامهم بالخروج عن الإسلام أو عدم الإيمان به أصلاً، هذا يعدّ من أخطر أنواع التطرّف وأكثره سلبية على الإسلام والمجتمع.
إن مناقشة قضية التكفير تدفعنا إلى معالجة قضية التوحيد من خلال ضبط معاييرها وتحديد مفاهيمها وإزالة ما هو دخيل عليها، فالتكفير هو رمي إنسان بالكفر بعد الإسلام، وقد حذر الرسول r من أن يرمي المسلم أخاه المسلم بالكفر بقوله: "أيما مسلم قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"، وقد اعتمد الفقهاء في ذلك ما جاء في الأثر: بأن من كفر مسلماً فقد كفر. فإسلام المرء مرهون بنطقه الشهادتين وكل فريضة بعد ذلك من صلاة وزكاة وحج وصوم هي من واجباته كمسلم ومن ثمّ فحسابه على الله إن كان مرائياً أو مخلصاً.
فلقد ثبت أن الرسول r تلقى بيعة نفر من أهل المدينة على الإسلام وهم منافقون فلم يحاول أن يستجلي سرائرهم بل وكلها إلى الله الذي أنزل عليه قرآناً يتلى في شأنهم ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُنَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾[15] (التوبة : 101).
وبعد أن كشف الله تعالى حقيقة أمرهم وأنبأ رسوله أنهم متآمرون على المسلمين لم يجابه واحداً منهم بل ظلّ يؤمهم مع المسلمين في الصلاة ويعاملهم كمسلمين، ولما افتضح كبيرهم عبد الله بن أبي بن سلول وخاض مع الخائضين في حديث الأفك، وما تلاة، وهمّ بعض الصحابة بقتله، تقدم ابنه عبد الله t يستأذن رسول الله r في أن يكون هو قاتل أبيه حتى لا يقتل على يد غيره فيلعب الشيطان بنفسه فيقتل قاتله فيكون قد قتل مؤمناً بكافر، ولكن الرسول r أبى أن يمس أحد هذا المنافق بسوء قائلاً له: "لا تفعل فيقال أن محمداً يقتل أصحابه "وسياق هذه القصة أن إنعقاد الإسلام بالشهادتين يدخل العبد جماعة المسلمين أما نيته فمردها إلى الله كما قال الرسول r "بعثت هادياً لا منقباً عن قلوب الناس".
ونحن نتذكر خالد بن الوليد t وقد قتل رجلاً ينطق بالشهادتين والسيف على رقبته ومعتذراً عن ذلك بأن نطقه كان خوفاً فأجابه الرسول r غاضباً: "فهلا شققت على قلبه؟".
النطق العلني بالشهادتين يدخل المرء في جماعة المسلمين فلقد روى عبادة بن الصامت t فقال: قال رسول الله r "من شهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"[16].
وفي الصحيح أيضاً عن النبي r أنه قال: "من قال لا إله إلاّ الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عزّ وجلّ" وكذلك نذكر الحديث الشريـف "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلاّ الله يبتغي بذلك وجه الله"[17].
سياق ما ذكرنا من أحاديث يدل على أن من نطق بالشهادتين قد أسلم ولا يخرجه عن الإسلام معصية يرتكبها أو نية يستبطنها، ذلك هو الإسلام الذي قبله الرسول r من الناس وفي الحديث الذي رواه عثمان بن عفان t عن رسول الله r ما يقطع بذلك "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلاّ الله دخل الجنّة"[18].
وعن أنس بن مالك أن رسول الله r قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنّة"[19].
فمن نطق بالشهادة فهو مسلم سواء رقي إلى درجة الإيمان أم لم يرقَ، ودليلنا على ذلك الإذن للأعراب أن يقولوا أسلمنا: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَاوَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌرَّحِيمٌ﴾[20] (سورة الحجرات 14). فمتى أسلم المرء ترتبت عليه واجبات مخلصاً كان أو منافقاً فإن قصّر أو تراخى عوقب أو أجبر على الأداء، وعقابه أو إجباره يجري بوصفه مسلماً حتى ولو وصل العقاب إلى إهدار دمه في حدّ من الحدود الموجبة للقتل، فهو يقتل بوصفه مسلماً يقام عليه الحدّ ولا يخرجه عن الإسلام إلاّ أن يرتدّ بكفر صريح. وحادثة المرأة الغامدية التي زنت وهي محصّنة وحملت من الزنى وجاءت إلى النبي r ليطهرها بإقامة الحدّ عليها، فما زالت به حتى أقام عليها الحدّ، ولما بدرت من خالد بن الوليد جملة فيها سبها قال له النبي r "أتسبها يا خالد؟ والله لقد تابت توبة لو قسّمت على سبعين بيتاً من أهل المدينة لوسعتهم، وهل ترى أفضل من أن جادت بنفسها لله عزّ وجلّ"[21].
قد يقال هذه عصت ثم تابت فإليكم هذا المثل الآخر، هذا الصحابي الذي إبتلي بالخمر وأدمنها وأتي به إلى رسول الله r أكثر من مرّة شارباً فيضرب ويعاقب، ثمّ يغلبه إدمانه فيعود إلى الشرب، ثم يؤتى به فيضرب ويعاقب، حتى قال بعض الصحابة يوماً وقد جيء به شارباً: ما له لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به!
هنا لم يسكت النبي r عن لعن هذا المسلم رغم مقارفته لام الخبائث وظهور إصراره عليها وقال للاعنه "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" وفي رواية أخرى " لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم".
[22] مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ هكذا لم يفصم الرسول r عروة الأخوة بينه وبينهم بسبب المعصية وهي كبيرة وقد تكررت لأن الإنتماء للإسلام يربط بينهم. ومن المفيد أن نذكر هذه القصة ففي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله r وعنده عبد الله بن أبي أميّة وأبو جهل فقال له: " يا عم قلْ لا إله إلاّ الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله" فأبى وفي رواية أنه نطق بها " فقال النبي r" لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله عزّ وجلّ ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى﴾﴾[23].. وأنزل في أبي طالب ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي
فالشاهد في هذه القصة أن الأعمال بخواتيمها لأن النطق بالشهادة ينفعه حيث يتقبّل الله عزّ وجلّ أن يستغفر النبي r لأبي طالب وهو من أحب الخلق إليه.
فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يهدي فكيف يستطيع أن يكفّر، وكيف نستطيع أن نعيّن الحدّ الفاصل بين ظاهر الكفر وباطنه؟ وبأي حقّ نعتبر أن معيار إنسان مسلم معيّن هو المعيار الصحيح أو الأكثر صحّة، وبعد هذا ألاّ يحق لنا أن نستغرب كيف أن بعضهم يخرجون للناس حاملين سيف التكفير يستعملونه لأقلّ هفوة غير مقصودة أو لأقلّ معصية يرتكبها المسلم وفي أغلب الأحيان عن عدم فهم ووعي، أليس الأفضل الإختلاط بهؤلاء ونصحهم وإرشادهم ومساعدتهم بدل أن نكون عوناً للشيطان عليهم. ثمّ كيف نخطّ لأنفسنا سنّة لم يخطّها لنا الله ورسوله!! فلنتقِ الله في ما نقول ونفعل ولنتفكّر بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة السلف الصالح.
- ثانياً: السنّة والتشريع
لقد تعامل الصحابة مع النصوص بقلب وعقل مفتوحين فنرى أن سيدنا عمر بن الخطاب t اعتبر توقيع حد السرقة على قوم يعانون الجوع والفاقة هو تطبيق للحدّ في غير موضعه، فكان إيقافه لتطبيق حدّ السرقة خلال عام الرماده.
كذلك إجتهاده في منع العطاء الذي جعله القرآن للمؤلفة قلوبهم رغم النص القرآني الذي يعطي هؤلاء نصيباً في الزكاة والصدقات لا يزال ثابتاً غير منسوخ.
توقفنا عند هذا لنعرّف كيف تعامل الصحابة مع النصوص القرآنية، فلم يقفوا عاجزين مشلولين أمام النص، بل عملوا على قراءة النص بعمق وفهم دلالته وسياقه ومقاصده، فكان الإجتهاد والتأويل والتفسير واستخراج الأحكام الشرعية الذي عمل به عند الفقهاء والعلماء على مدى العصور.
وها هو ابن قيم الجوزيه يقول "إن الله لم يحصر طرق العدل وأدلته وإماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق، فأي طريق استخرج بها الحقّ وعرف بها العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها".
إن ما نريد أن نقوله هو أن تمسّك بعض الدعاة بأحاديث أو نصوص محددة وبحرفية جامدة بقلب وعقل متحجّر بعيد عن حقيقة النص القرآني أو جوهر الحديث ومقاصده، وبعضنا إحتكّ ولا شكّ بعشرات من هؤلاء واستغرب المناقشات المستفيضة حول قضايا مثل اللباس واللحية والمسواك والموسيقى والتصوير والنحت والتلفزيون وضرورة الإتكاء على العصا، ولسان حال هؤلاء دائماً الإحتجاج بالسنّة النبوية الشريفة، وما كنا توقفنا عند هذه الملاحظات لولا أن بعض هؤلاء الدعاة جنح نحو إعتبارها معياراً لإسلام الفرد أو كفره.
إن هذا الموضوع يتطلب منا أن نتوقف عند قضية السنّة النبوية الشريفة، والإعتباطية اللامسؤولة التي ينسب فيها البعض مواقفهم الى تصرفات أو سلوك أو أحاديث للرسول r.
فها هو الشيخ محمود شلتوت وهو واحد من كبار العلماء الذين حاولوا بالمنطق الهادىء أن ينبهوا إلى ضرورة القراءة الصحيحة للسنّة[24]، فقال أن السنّة تشريع وليست تشريعاً فمن السنة التي لا تعتبر تشريعاً ولا تلزم المسلمين ما يعتبر سلوكاً شخصياً للرسول r وآراء مبنية على إجتهادات وتجارب خاصة، ولعلنا هنا نتذكر قصة أهل المدينة الذين نصحهم في مسألة تذكير النخل، وعندما أبلغ أن نصيحته لم تحقق هدفها المرجو قال "ما كان من أمر دنياكم فشأنكم به، وما كان من أمر دينكم فإلي". وفي رواية "أنتم أعلم بأمر دنياكم"[25].
ويضيف الشيخ شلتوت أن السنة التي تعد تشريعاً لها درجات:
1- ما صدر عن النبي بإعتباره مبلّغاً ورسولاً (تبيان ما في القرآن والعبادات والحلال والحرام والعقائد والأخلاق) وهذا يعد تشريعاً ثابتاً وملزماً.
2- ما صدر عن الرسول بإعتباره إماماً للمسلمين (بعث الجيوش- إنفاق بيت المال- تولية القضاة- المعاهدات) ولا يعتبر هنا تشريعاً عاماً فلا يجوز الإقدام عليه إلاّ بإذن أولي الأمر، فليس لأحد أن يفعل من تلقاء نفسه بحجة أن النبي r فعله أو طلبه.
3- ما صدر عن النبي r باعتباره قاضياً يفصل بالدعوى بين المسلمين فهي ليست تشريعاً، وقد ظهرت الأحكام بناء على ما ظهر من البينات حينها، فليس لأحد أن يأخذ حقه إستناداً لحكم قضى به الرسول دون الرجوع إلى القاضي.
هذا التصنيف للحديث لم ينفرد به الشيخ شلتوت فقد سبقه الإمام القرافي[26]، وكذلك أيضاً الفقيه الحنفي ولي الله الدهلوي في كتابه "حجة الله البالغة"[27]، لذلك فسياق ما تقدم يثبت لنا أنه لا يجوز إستعمال السنّة إعتباطاً دون معرفة درجات السنّة وعلم تصنيف الحديث وهل هو تشريع أم سلوك شخصي للرسول r غير ملزم.
وأفضل ما ننهي به هذه المناقشة هي ما قاله الإمام القرافي "فليس الحكم والقضاء، وليست السياسة وشؤون المجتمع السياسية، ديناً وشرعاً وبلاغاً يجب فيهما التأسي والإحتذاء بما في السنة من وقائع وأوامر ونواهٍ وتطبيقات، لأنها أمور تقررّت بناء على بينات قد نرى غيرها وعالجت مصالح هي بالضرورة متطورة ومتغيرة… وذلك على عكس ما هو دين وشرع وبلاغ من هذه السنّة النبوية الشريفة مثل ما جاء منها متعلّقاً بالرسالة والفتيا فإن الإتباع فيه واجب والتقيّد بأحكامه شرط لصحة إيمان المؤمن بدين الإسلام"[28].
وبعد هذا أيجب أن نتكىء على عصا من غير ضرورة بحجة أن سيدنا محمد r كان يفعل، وهل من حقّ أحد بعد هذا أن يعتبر هذا تشريعاً ملزماً؟
- ثالثاً: الخلل في ترتيب الأولويات
ويتمثل عند عرض الإسلام والدعوة إليه، فالأمر هنا ليس أمر فتوى أو تشريع وإنما هو أمر ترتيب في البيان وتدرج في معاملة النفوس وإقتراب من واقع الناس طلباً لهدايتهم.
أليس غريباً على سبيل المثال أن يطيل كثير من الدعاة الحديث في النهي عن شرب الدخان وعن سماع الموسيقى والغناء والتلفزيون وتحريم التصوير والنحت والرسم والدعوة إلى إرسال اللحية واللباس الشرعي؟!… ثم يجهدون أنفسهم في البحث والتنقيب لإثبات وجهة نظرهم في الموضوع.. أليس غريباً أن نرى البعض يطالب بإعلان العودة إلى الإسلام من باب الجنايات، أعني ذلك الجانب العقابي في الإسلام الذي يظهره للناس بمظاهر الرجم والقطع والجلد والمبالغة بقضية الحدود عند المناداة بتطبيق الشريعة. في حين لا نرى نفس الحماس والإهتمام فيما يتصل بقضايا الحرية والشورى والعدل الإجتماعي.[29]
ونحن هنا لا نهون من قيمة الحدود أو نجادل في ضرورة إقامتها لكن وضعها على رأس القائمة هو محل نظر وإختلاف، وسؤالنا لماذا لا تذكر الشريعة الإسلامية إلا مقترنة بالحدود من رجم وقطع وجلد علماً أن باب الجنايات لا يزال باباً واحداً من أبواب كتب الفقه كما أن الجريمة والإنحراف ليسا إلاّ وجهاً واحداً سلبياً من وجوه حياة الناس.
إن الخلل في ترتيب الأولويات يزداد خطورة حين يتحول من يظنّون أنفسهم دعاة إلى أمراء يبدأون في التشريع وتطبيق الأحكام بين الناس، أليس من الأولويات على أولئك الدعاة أن يبدأوا بكبريات المسائل وأساسيات الحكم العادل من خلال توفير القدر اللازم من الحرية والعدل وإزالة كل العقبات التي تعيق قضية العدل الإجتماعي وتوفير الحد الأدنى من الأمن والعيش اللائق.[30]
وقبل كل ذلك أليس من الواجب إعلان العزم على تنفيذ برنامج إصلاحي والجهاد من أجل تطبيقه في مراحل متتابعة بحيث تتوضح الأهداف للناس ويعلم كل منهم إلى أين يسير فلا يكفي التبشير الخطابي يوم الجمعة في المساجد؟
ثم أيضاً أليس من الأولويات طرح برنامج سياسي متكامل يعلن الأهداف والمطالب ويحدد الأساليب التي تؤدي إلى تحقيق هذه المطالب والتي تختصر طريق المعاناة؟
إن هذه المنهجية تنقذ الدعاة من التخبط والقفز فوق الأولويات السياسية والإصلاحية، وتساعد الناس على أن يصبح عندهم الرؤية الواضحة الواثقة من نفسها والعارفة لنقطة الإنطلاق وخط السير فلا تضيع في الفروع والمتاهات.
إن ما نعنيه ونقصده هو تقديم البديل النوعي للناس وممارسة مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوجهها الإسلامي الصحيح، إذ لا يكفي النهي عن المنكر فقط وإلاّ تحولت دعوتنا إلى مجموعة نواهٍ سلبية بل يجب أن يترافق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوقت نفسه، فالمعروف هنا هو البديل عن المنكر.
- رابعاً: التعصّب ونفي الآخرين
نجد من هؤلاء من يجيز لنفسه أن يجتهد في أعقد المسائل وأعمق القضايا ويفتي بما يلوح له من رأي سواء أصاب فيه أو خطأ، لكنه لا يجيز لعلماء العصر المتخصصين منفردين أو مجتمعين أن يجتهدوا في رأي يخالف ما ذهب إليه.
وكما نعلم لكل علم رجاله، فلا يجوز للمهندس أن يعتني بأمور الطب ولا للطبيب أن يعتني بشؤون القانون كذلك فعلم الشريعة ليس مباحاً بالمطلق بدعوى أن الإسلام ليس حكراً لفئة وليس فيه طبقة رجال دين وقوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[31]، وقوله تعالى ﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾[32]، وقوله سبحانه ﴿ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾[33]، هذا ما علمنا إياه القرآن الكريم والسنّة أن نرجع في ما لا نعلم إلى العالمين من أهل الذكر والخبرة.
وللرسول r موقف في صاحب الشجّة الذي أفتاه بعض الناس بوجوب الغسل رغم جراحته، فإغتسل فمات قال: "قتلوه قتلهم الله: هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال"، فمهما درس الإنسان سوف يظلّ في حاجة إلى أهل الإختصاص فإن للعلم الشرعي مستلزمات لم يتوفروا على تحصيلها، وأصول لم يتمرسوا بمعرفتها وإستيعابها ولا تسعفهم أوقاتهم ولا أعمالهم أن يتفرغوا لها.
- خامساً: التزام التشديد وإلزام الآخرين به
لقد أوصانا الرسول r في الحديث الشريف "يسروا ولا تعسّروا بشّروا ولا تنفروا"، وقوله " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته". وفي ذلك جاء قول الله تعالى ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[34].
وروي حول ذلك عن رسول الله r "أنه ما خيّر بين أمرين إلاّ واختار أيسرهما ما لم يكن إثماً" متفق عليه. وقال لمعاذ لما أطال القراءة بالقوم أثناء الصلاة: "أفتّان أنت يا معاذ؟". ومعناها أن التشدد على الناس فتنة لهم، وإذا جاز للإنسان أن يشدّد على نفسه فلا يجوز أن يفرض ذلك على الناس فينفرهم من دين الله من حيث لا يشعر.
إذن التيسير مطلوب في كل زمن لكنه في زماننا اليوم ألزم وأكثر إلحاحاً، فقد قرّر الفقهاء أن المشقّة تجلب التيسير وأن الأمر إذا ضاق إتسع، وأن عموم البلوى من موجبات التخفيف.
وهنا لا بد أن نستغرب كيف يجيز بعض الناس لنفسهم إسقاط إعتبار المسلم في أمور ليس فيها إجماع على تحليل أو تحريم بشكل يقين، أو في ما عليه إختلاف أهو واجب أم سنّة؟
- سادساً: العنف والخشونة في التعامل والغلظة في الدعوة
نذكر ما جاء في خواتيم سورة النحل خطاباً للرسول r "إدعِ إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" وخاطب تعالى رسوله "ولو كنت فظاً غليظ القلب لإنفضوا من حولك".
ففي مجال الدعوة لا مكان للخشونة ولا مكان للعنف وفي الحديث "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" وكذلك "ما دخل الرفق في شيء إلاّ زانه ولا دخل العنف في شيء إلاّ شأنه".
وقد ذكر الإمام الغزالي أن رجلاً دخل على الخليفة المأمون العباسي يأمره وينهاه فأغلط له في القول، وكان المأمون على قدر كبير من العلم فقال له: أرفق فإن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني، بعث الله موسى وهارون وهما خير منك إلى فرعون وهو شرّ مني وكانت وصية الله لهما "فقولا له قولا لينا، لعلّه يتفكر أو يخشى".
والواقع يعلمنا أن الأسلوب الخشن يضيّع المضمون الحسن والإمام الغزالي يقول "لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر إلاّ رفيق في ما يأمر به رفيق في ما ينهي عنه، حليم فيما يأمر به حليم في ما ينهي عنه، فقيه في ما يأمر به، فقيه في ما ينهي عنه"[35].
بعض الناس يخلط بين الصراحة في الحق والخشونة في الأسلوب مع أنه لا تلازم بينهما والداعية الناجح من يوصل الدعوة بألين الطرق وأرقّ العبارات دون تفريط في المضمون فالعنف والتهجّم نقيضان للحكمة والموعظة الحسنة.
وهنا نتوقف مع الذين لا يحترمون حقّ الأبوة والأمومة وصلة الرحم بحجة أنهم عصاة أو مبتدعون أو منحرفون، وهذا لا يسقط حقهم في لين القول ودليلنا ما قاله تعالى في حقهما ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا﴾[36].
وليس هناك ذنب أعظم من الشرك ورغم صدور هذا عن الوالدين أمر بمصاحبتهما بالمعروف. ومن آداب الإسلام الحديث النبوي "ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالم حقاً" وأي شيء أشدّ من تبرؤ رسول الله "ليس منا" r.
وهنا أيضاً يجب مراعاة حق السابقة، فمن كان له فضل سبق في الدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير لا ينبغي جحود فضله والطعن فيه إذا فتر أو ظهر منه ضعف فرصيده من الخير وسابقته في الجهاد تشفع له بدليل أن الرسول r قبل اعتذار من كتب إلى مشركي قريش يخبرهم بما أعدّه النبي r لفتح بلدهم وهو حاطب بن أبي بلتعة، فما فعله كان أشبه بالخيانة، فسابقة الرجل وجهاده يوم "بدر" جعلت النبي r يقبل منه إعتذاره.
- سابعاً: رفض تحصيل العلوم
يتجه بعض هؤلاء إلى النفور أو بعض الأحيان إلى تحريم الدراسات النظرية والعلمية كالآداب والتجارة والطب والهندسة والفلسفة.. والإتجاه كلية إلى دراسة الشريعة فقط.
ويتجاهل هؤلاء أن طلب هذه العلوم بل التفوق فيها فرض كفاية على جميع المسلمين وأن السباق بينهم وبين غيرهم من الأمم في هذه الميادين يجب أن يكون على أشدّه. فقد كان صحابة الرسول r أصحاب مهن وتجارة وأعمال، فلم يطلب منهم ترك حرفهم كي يتفرغوا للعلم أو الدعوة إلاّ من طلب لمهمة.
إن أصحاب هذا الرأي بكراهية أو تحريم الدراسات النظرية العلمية وتفضيل الدراسة الشرعية لا يستندون في أقوالهم إلى ما هو شرع ودين بقدر ما تشدهم شهوة الظهور والتصدر في المجالس كي يصبحوا مصدراً لإبداء الرأي والمشورة في أمور الدين والدنيا، وهنا لا يصبح عملهم لوجه الله خالصاً.
ومن عجب هؤلاء أن الإسلام يعلم أبناءه أن يسعوا إلى العلم وأن يقبلوا عليه إقبال العاشق المشغوف رغم هذا يدعون أن علوم الدنيا فانية وإنما علوم الآخرة هي التي تنفع وينسون الحديث الشريف" من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع " قوله "من سلك طريقاً يطلب به علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنّة، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع".
والذين يقصرون مدلول هذه الأحاديث على علوم الدين يسلبون الإسلام أعظم مزاياه وخصائصه، فالإسلام جمع بين حاجات الدنيا والآخرة ويعلم أبناءه أن يعملوا للدنيا كأنهم يعيشون أبداً واللآخرة كأنهم يموتون غداً.
- ثامناً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
حين نقرأ قول الله "كنتم خير أمة أخرجت للناس" ندرك عظيم الشرف الذي عقد لهذه الأمة، وثقل المسؤولية الملقاة عليها، فهي لم تختر خير منها بنفسها، وإنما أخرجت للناس إخراجاً، بإصطفاء إلهي، لتقوم بدور أوسع من دائرة وجودها الذاتي، لتكون مصدراً للخيرية لكل الأمم، لذلك تحمل الأمة المسلمة رسالة الرحمة للعالمين، عالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم الأشياء. فالرحمة ليست خاصة بالمسلمين، بل هي رحمة عامة مهداة إلى المسلمين وسواهم، فالمسلمون مكلفون بأن يرحموا من في الأرض ليرحمهم من في السماء.
ولا يتوقف هذا على حجم الأمة العددي، أو موقعها وظرفها أو ضعفها أو قوّتها، والشهادة تنقل الأمة من موقع الحياد إلى مسؤولية الدعوة والترشيد والقيام بأعباء الحقّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكون الأمة مكلفة بتحقيق صلاحها وإصلاح عالمها، أمرت بالتحرر من الهوى والعصبية، فهي حين تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، لا تفعل ذلك إستعلاءً على الناس أو قهراً لإرادتهم، وإنما تقوم بواجبها. من هنا كانت أمتنا أمة العدل في الخطاب القرآني، فالعدل لديها فريضة دينية وواجب إنساني تحتكم إليه وتحاكم الناس به، في مجتمعها وفي المجتمع الدولي والإنساني: "يا أيها الذين آمنوا، كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرّ منكم شنئان قوم على ألاّ تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون".
ولطالما أثيرت تساؤلات في وجه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبخاصة في هذا العصر، عصر الحريات، حيث فرّط البعض بالحرية بحجة النهي عن المنكر، وأهدر البعض الأمر بالمعروف بحجة الحرية ورفض الوصاية على الأخلاق المقاصد؟
والواقع أنه لا يصح إيمان إلاّ بفكر حرّ، ولا تترتب مسؤولية إلاّ على إرادة حرّة، فالتفكير حرّ، والتعبير حرّ في نطاق الشرع ومصلحة الأمة. وليس من الحرية في شيء أن يتحول التفكير والتعبير إلى وسيلة لإثارة الفوضى وتخريب النظام والإستقرار ونشر الفساد والمس بمصلحة المجتمع. هنا يصبح التدخل أمراً واجباً لأن فيه سلامة الجميع، وهو يبدأ بمنطق الدعوة ويمر بمرحلة الأمر والنهي وينتهي بموقف التغيير "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" ويقول رسول الله r: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان".
فالبداية تكون بالدعوة إلى الحقّ أي بالتعبير المعاصر، الدعوة إلى تعميم الثقافة الدينية، بكل الوسائل، وفي كل المواقع، لتصل إلى كل العقول والقلوب، في مناهج التربية، ووسائل الإعلام، ودعوة الدعاة، وبأرقى أساليب العرض والإقناع، وبأوضح وسائل التبصير والتأثير. لأن الإنسان بحاجة قبل الإلتزام بأمر أن تتوفر له ظروف المعرفة، وأن تصله المعرفة نقية ومبرأة من أي خطأ أو إلتواء، إذ ليس من المنطق أن تأمر بمعروف تأباه العقول لأنها لم تعرفه، وليس من الواقعية أن ننهى عن منكر لا تنكره النفوس لأنها لم تعرف حرمته أو شرّه.
ومن بعد الدعوة الرشيدة والمستفيضة، يأتي التوجيه والترشيد، والنصح والبيان، والمحاورة والمحاجة، ليتحمل كل فرد مسؤولية تفكيره وسلوكه، ويدرك عاقبة موقفه فيما يعود عليه من نفع وضرّ، وفيما يعود على المجتمع من إستواء وإنحراف، وفيما يترتب على ذلك من محاسبة في الدنيا، ومعاقبة في الآخرة، فإذا بلغ النصح والتوجيه ما يجب أن يبلغه من التعميم والشمول، تأتي مرحلة الحسم الذي لا بدّ منه بعد إستفاد كل ضروب الدعوة والإرشاد، والتربية والتثقيف، وبعد توفير كل الضمانات التي تحمي الفرد والمجتمع من الفساد والإفساد.
ومرحلة الحسم هي مرحلة التغيير، أي إبدال وضع بوضع، وإحلال أمر مكان أمر آخر، وإتخاذ الإجراءات لإزالة المنكر وإستتباب المعروف، وهي المرحلة التي يثور حولها كثير من الجدل، ويتخذها البعض مبرراً لفرض آرائهم، أو تجاوز حدودهم، أو السطو على حريات الآخرين، أو تغليب أمر غير مجمع عليه، أو إستعمال وسائل ضارة بسلامة المجتمع وأمنه، أو إستباحة حرمات لا يأذن بها الدين والعقل، كما يفعل بعض الذين لم تكتمل لديهم المعرفة اليقينية بأحكام الإسلام وفقه شريعته وإدراك مقاصده، فيتخذون من أنفسهم أوصياء على الناس ورقباء على قلوبهم، وقضاة على سلوكهم، ويظنون في أنفسهم القدرة على تحديد الأمور، والفصل فيها، وترتيب أولوياتها، ويعطون لأنفسهم الحقّ في تكفير من خالفهم، وتفسيق من لم يلتزم بآرائهم، وتبديع من لم يسلك سبيلهم، وإقصاء من لم يهتم بما يهتمون أو يقول بما يقولون. فيتسلطون على حريات الناس، ويتجاوز بعضهم كل الحدود إندفاعاً بحماس، أو إنفعالاً بهوس، أو إنجراراً بتحريض، لتهديد الأمن والآمنين، والإعتداء على الأفراد والمجتمع وتشويه سمعة الدين والمتدينين.
فمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يقوم على الحقائق الدينية، التي يتولى أمر بيانها العلماء والفقهاء الحكماء، ولا تترك لأنصاف المتعلمين وأدعياء التدين.
فليس من حقّ أي فرد أو أية جماعة إحتكار تحديد المعروف والمنكر، ولا تحديد أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا وصل الحال إلى التشتت والتصادم والفوضى، وإلى المزايدة والمبالغة والتطرف.
فالعصر هو عصر المؤسسات والتخصصات، مما يستدعي إعادة النظر في الكثير من المواريث الثقافية، والأساليب التاريخية، والممارسات التي تختلف بإختلاف التطور، حتى يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منفصلاً عن التقديرات الشخصية، والإرهاب الفكري، والجدليات العقيمة، والتحديات العبثية، وحتى لا يتصدى لهذا الموضوع من لا يتقنه ولا يلتزم بمسؤولية تكليفية تحدد الواجب الملقى عليه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد تعددت دوائره واتّسعت، وأصبح كل ما يتصل بصلاح الفرد وإستقامة المجتمع، ونظام الدولة داخلاً في مضمونه، فكل موظف، وكل سياسي، وكل حاكم، وكل تاجر، وكل معلم، وكل طبيب، وكل مهندس، هو آمر بالمعروف وناه عن المنكر في دائرة إختصاصه، وكذلك الداعية، والواعظ والمرشد والمثقّف، في طليعة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لأنهم يبسطون أمام الناس أحكام الشرع وأخلاقياته، ويذكرونهم بمسؤوليتهم أمام الله، ويحملونهم على القيام بكل خير فيه صلاح أنفسهم وصلاح البشر.
إن الأمة في المنهج الوسطي مسؤولة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو مضمون خيريتها، وذلك بتجديد فهمه، وتحديد دوائره، وتنظيم وسائله، فلا حرية للمنكر، ولا شطط في النهي عنه، ولا تجاوز في تغييره، وبذلك تحقق الأمة ذاتها، وتنقذ عالمها، وتستوفي مكارم خيريتها، وتفي بأمانتها حتى يقوم الناس لرب العالمين.
- الخلفيات التربوية للتعصّب
لا شكّ أن المؤسسة التربوية العربية قد التقطت بشكل أو بآخر جرثومة "التعصّب" وآفة "التطرّف" الديني، وهذا معناه أن المؤسسة التربوية بدلاً من أن تساعد المجتمع العربي على المواجهة العقلانية فإنها أضافت إلى مشكلاته تحديات جديدة.
فالتعصّب ينتقل من جيل إلى جيل، ومن الكبار إلى الصغار، إذ يتعلّم كثير من الأبناء التعصّب من آبائهم وأساتذتهم. وفي المجتمعات المتعصبة، تجد قيم التعصّب تعزيزاً لها في إطار القوانين والمؤسسات والعادات، فالتعصّب يتأسس في الغالب من تصورات مسبقة تأخذ طابع النمذجة (التصورات النمطية Stereotypes) يصنّف فيها الناس إلى فئات إجتماعية أو دينية أو عرقية تنسب إليها مجموعة من الصفات والخصائص العامة، حيث يتمّ تعميمها على كل أفراد الجماعة موضوع التصنيف، يكتسبها الطفل خلال تنشئته المبكرة، حيث يصبح الآخر متّصفاً بالغدر والخيانة والكفر والمذلّة الخسّة واللعنة.
التصورات النمطية عامة هي تصورات مشوهة لا تعبّر عن الواقع حيث دائماً هناك فجوة، قد تكون صغيرة أو كبيرة، بين الحقيقة الموضوعية من ناحية وبين ما يذهب إليه التصور الخفيّ من ناحية ثانية. ومع ذلك فإن التصورات النمطية شائعة بين الأفراد والجماعات، لأن مثل هذه التصورات تعفي حاملها من مشقّة التعامل مع تفصيلات لا حصر لها في الواقع الإنساني والإجتماعي الذي تعايشه وتعيش فيه.[37]
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: كيف يمكن للمؤسسة التربوية العربية أن تعززّ قيم التسامح في مواجهة التعصّب والتطرف في مجتمعات لم تتعزز فيها تقاليد الديمقراطية بعد، وخاصة تقاليد الإعتراف بالرأي الآخر والتمثيل الشعبي ومشاركة المجتمع المدني، حيث تغيب عملياً مبادئ حقوق الإنسان، بل والأطر التنظيمية الناظمة للتعددية السياسية في المجتمعات العربية.
ومن يتأمل بعمق في مناهج الحياة المدرسية في بعض البلدان العربية يجدها متشبعة بصور من العنف والتطرف في بعض المجالات، فالتاريخ الأموي والعباسي الذي يدرس في المرحلة الإعدادية يبرز الجانب الدموي والصراع بين الحكام وإخوانهم وأبنائهم من أجل الوصول إلى السلطة والحكم، وهكذا تتم غرس قيم العنف في نفوس الطلاب في وقت مبكر من تاريخ نموهم النفسي والتربوي. ألم يكن لهذه التربية التي كانت تصرّ على تلقين كل طفل خطبة الحجاج عن الرؤوس التي أنيعت وحان قطافها، علاقة بالإرتداد السريع إلى التخوين والتكفير، ومن ثمّ إلى العنف حين الإختلاف بالرأي حول أي قضية أو موقف.
والمدرسة العربية هي إنعكاس لكل ذلك، ففيها مبدأ الطاعة العمياء حيث إعادة إنتاج قيم ومعايير المجتمع التي تحافظ على وضعية القهر الإجتماعي، حيث يستهلك التلميذ سلبياً كل التميّزات الدينية والقيمية والإيديولوجية التي يزخر بها مجتمعه. وتتكامل المدرسة مع أساليب التنشئة الإجتماعية السائدة لتبني منظومة قيم متكاملة تكمل المناخ التسلطي العام حيث يفرض الآباء على الأبناء أنماط سلوكهم وحركتهم ولا يسمح لهم بإبداء الرأي أوالإعتراض.
يتبيّن أن التربية يمكن أن تلعب دوراً محورياً وفي غاية الأهمية والموضوعية في قيام منظومة أمان قيمية ترسّخ قيم التسامح والحب والحنان والتساند والدعم النفسي والتعزيز والمساندة والتفاهم والحوار بين أطراف العائلة، خاصة بين الآباء والأبناء، والتربية على الحوار والإعتراف بالرأي الآخر والحقّ بالإختلاف، وهذا هو الجوهر الأخلاقي للدين الإسلامي الحنيف.
في كل الأحوال يبقى التطرّف والتعصّب من أشدّ الأمور خطراً والتي تهدد المجتمعات بالتمزّق والتي قد تفضي إلى إشتعال الحروب بين الناس، وهو يحتاج إلى بيئة حاضنة يعيش فيها ويعتاش منها، وقد كان الحرمان والفقر وفشل مشاريع التنمية من أبرز العناصر والعوامل المساعدة على نمو التعصّب والتطرّف. وهذا يعني أن محاربة هذه الظاهرة ومكافحتها ليس عملاً أمنياً بقدر ما يجب أن يكون فعلاً تنموياً مستمراً على المستوى البشري والعمراني.
فالتطرّف والتعصّب ظاهرة مرضية، وأفضل علاج لها هو الوقاية الصحيحة. والوقاية الصحيحة يجب أن تركز على التعامل العقلاني الذي يستهدف تصحيح الإختلالات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية وإشاعة الفكر النقدي والمشاركة والشورى والديمقراطية في كافة مجالات الحياة وبدءاً بالمؤسسة التربوية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]. خلدون النقيب: المشكل التربوي والثورة الصامتة، دراسة في سوسيولوجيا الثقافة، المستقبل العربي، العدد 174، أغسطس 1993، ص 61-65.
[2]. أحمد زكي بدوي: معجم مصطلحات العلوم الإجتماعية، مكتبة لبنان، بيروت، ص 331 (1977).
[3]. علي أسعد وطفة، عبد الرحمن الأحمد: التعصب ماهية وإنتشاراً في الوطن العربي، عالم الفكر، العدد 3، المجلة 30، يناير- مارس 2002، ص 84.
[4]. سورة البقرة: 143.
[5]. رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وإسناده صحيح.
[6].رواه مسلم في صحيحه.
[7].رواه الطبراني في الكبير والأوسط.
[8]. متفق عليه. من حديث عتبان بن مالك.
[9]. متفق عليه. واللفظ لمسلم.
[10]. رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي.
[11]. رواه أحمد.
[12].شرح العقيد، الطحاوية: المكتب الإسلامي بيروت، 1985، ص 318.
[13].القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي، مكتبة الجندي، ط2،1970، انظر فيصل التفرقة، ص146-147.
[14].الإمام القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، طبعة دار الكتب المصرية، ج5، ص 339.
[15].سورة التوبة -101.
[16].أخرجه البخاري ومسلم.
[17].المصدر السابق.
[18].رواه وأخرجه مسلم وقال العلماء أن العلم هنا يقتضي العمل بمضمون هذا العلم.
[19].رواه الجندي وأحمد.
[20].سورة الحجرات، آية 14.
[21].رواه مسلم وغيره.
[22].سورة التوبة، آية 113.
[23].سورة القصص 56.
[24].الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ محمود شلتوت.
[25].رواه مسلم في صحيحه وابن ماجة في سننه وأنس بن مالك والسيدة عائشة.
[26].الإمام القرافي هو أبو العباس أحمد بن ادريس (684هـ - 1285م) من أشهر فقهاء المذهب المالكي وعلماء الأصول، ولد ونشأ وتوفي بمصر له مواقف شجاعة في التصدي للولاة الظلمة وللسلاطين الجائرين- آثاره غزيرة، اقتبس منها بعض فقهاء المذهب الحنفي.
[27].ولي الله الدهلوي وهو أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي فقيه حنفي وعلى يديه نهضت علوم الحديث والسنة من كبوتها وله آثار غزيرة.
[28].الإمام القرافي- الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ص 86-109- تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غرّة- طبعة حلب سنة 67.
[29].مجلة العربي، مقال للدكتور أحمد كمال أبو المجد، العدد 454.
[30].المصدر السابق، ص 22.
[31].سورة الأنبياء 7.
[32].الفرقان 59.
[33].سورة فاطر 14.
[34].البقرة 185.
[35].الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الإمام الغزالي.
[36].سورة لقمان 15.
[37].علي أسعد وطفة وعبد الرحمن الأحمد: التعصّب ماهية وإنتشاراً في الوطن العربي، عالم الفكر، العدد 3، المجلد 30، يانير- مارس، 2002، ص 86.
المصدر: http://agimad.maktoobblog.com/587/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%B5%D9%91%D...