شركاء الإنسانية والوطن

شركاء الإنسانية والوطن
بقلم: أحمد صبح
قلنا إن أصعب ما يواجه الباحث في العلوم الإنسانية أو تاريخ جماعة من الجماعات هو تاريخ عقلها في نشوئه وارتقائه، وتاريخ دينها وما دخله من آراء ومذاهب، ذلك أن مدار البحث في المسائل المادية وما يشبهها واضح محدَّد، أما مدار البحث في الفكرة، فإذا ما حاولت أن تعرف كيف نبتت؟ وكيف نمت؟ وما العوامل في إيجادها؟ وما العناصر التي غذتها؟ وما الطوارئ التي طرأت عليها فعدلتها وصقلتها، أعياك ذلك، وبلغ منك في استخراجه الجهد؛ لأن الفكرة في أول أمرها لا مظهر لها نستدل به عليها، وقد تتكون من عناصر لا تخطر على بال، وتعمل في تعديلها وتغييرها عوامل في منتدى الغموض والمذاهب الدينية، قد يكون الباعث عليها غير ما يظهر من تعاليمها، وقد يكون الباعث عليها سياسيًا، وهي في مظهرها الخارجي مجردة من كل سياسة، وقد يكون الباعث عليها فساد الدين فتتشكل بشكل المتحمس للدين، وقد يكون المذهب صالحًا كل الصلاح، ولكن يحكيه أعداؤه فيشوهون أو يلغون فيه فيفسدونه، فيقف الباحث حائرًا ضالًا يتطلب بصيصًا من نور يهديه، أو أثرًا في الطريق سلكه من قبل فيحتذيه، وفوق هذا، فالأفكار متنوعة، والآراء متعددة، وقضايا كل عصر تخالف ما قبلها، ويراها الباحث فيظنها أول وهلة.. جديدة، لم ترتبط بما قبلها برباط، ولم تتصل بأي صلة، فيُعمِل فكره فيما عسى يكون بينها من قرابة أو نسب، وما قد يصل بينهما من سبب.

فهذه عقبات حقيقية لا يدركها إلا باحث خاض غمار المعركة، وعرف جبهاتها الحامية وأسلحتها الماضية، ووقف أمام كل جبهة مسلَّحا بأدواته الضرورية، ومُحاذرًا أن يتنكب السبيل فيقع صريعًا حيث لا يرحمه أحد. ومن توفيق الله لي أن كنت رجل الموقف الحاسم، عرفت أبعاده وأطواله، ونازلت أبطاله بسلاح لا يفل، فخرجت من الحومة مكللًا بتيجان الفوز. بعد معاناة سبعة عشر عامًا من الاعتقال بلا تهمة، انتهيت إلى أن الإنسانية هي الآلة التي تصح بها التذكية، وهي التي تعلو على تباين الديانات والمذاهب واختلاف العقائد، ولا يعيبها كون المشارك متحد في الملة أو غير ذلك، فالإنسانية هي الكلية العامة التي يلجا إلى كنفها هذا المجتمع الإنساني كلما أزمته أزمة وحلت به نازلة، فهي المطلع الذي يشرق منه شمس الرحمة الإلهية على هذا الكون فتنير ظلماءه وتكشف غماءه، هي الحكم العدل الذي يفصل فى قضايا المجتمعات البشرية حين تنفصم عراها ويدب دبيب العداوة والبغضاء بين أحيائها، هي السلطان المطلق الذي يجلس على كرسي عظمته وجلاله فتخر له الجباة سُجَّدًا، وتبتدر يديه الأفواه لثمًا وتقبيلًا، فالإنسان هو الجامعة الأساسية الثابتة التي رأت طينة آدم أولًا، وسترى نفخة "إسرافيل" آخرًا، والتي تسير مع الإنسان حيث سار في بره وبحره وسهله وطينه وحياته وموته، وتدور معه في إيمانه وكفره وصلاحه وفساده واستقامته وإعوجاجه، لا يتغير لونها ولا يتحول ظلها، ولا تستحيل مادتها ولا تبلى جدتها على مر الليالي وكر الأيام.

وإذا كان البعض يرى أن الله خلق الناس ليموتوا ذبحًا بالسيوف أو حرقًا بالنيران، فقد أساءوا بربهم ظنًا، وأنكروا عليه حكمته في أفعاله وتدبيره في شئونه وأعماله، وأنزلوه منزلة العابث اللاعب الذي يبني البناء ليهدمه، ويزرع الزرع ليحرقه، ويخيط الثوب ليمزقه، وينظم العقد ليبدِّده!!! ففي أي كتاب من كتب الله، وفي أي سنة من سنن أنبيائه ورسله، قرأنا جواز أن يعمد الرجل إلى الرجل الآمن في سربه والقابع في كسر بيته، فينزع نفسه من بين جنبيه، ويفجع فيه أهله وقومه؛ لأنه لا يدين بدينه، ولا يذهب مذهبه في عقائده؟!!!

إن وجود الاختلاف بين الناس في المذاهب والأديان والطبائع والغرائز، هي سُنَّة من سُنن الكون، لا يمكن تحويلها أو تبديلها حتى لو لم يبق على ظهر الأرض إلا رجل واحد، لجرَّد من نفسه رجلًا آخر يخاصمه وينازعه، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين..

إن الحياة في هذا العالم كالحرارة، لا تنتج إلا من التحاك بين جسمين، فمحاولة توحيد المذاهب والأديان هي محاولة للقضاء على هذا العالم وسلب روحه ونظامه، فلا بأس بالفكرة الوطنية، ولا بأس بالحمية الدينية، ولا بأس بالعصبية لهما والزود عنهما، ولكن يجب أن يكون ذلك في سبيل الإنسانية وتحت ظلالها وغير خارج عنها.

فالوطنية لاتزال عملًا شريفًا مقدَّسًا حتى إذا خرجت عن حدود الإنسانية، فهي خيالات باطلة وأوهام كاذبة، والدين غريزة من غرائز الخير المؤثر في صلاح النفوس وهداها حتى يتمرد على الإنسانية وينابذها، فإذا هو شعبة من شعب الجنون!!

إننا جميعًا شركاء في هذا الوطن، لذلك فأن أي عمل بشري نحن مسئولون عنه؛ لأنه ينشأ عن إرادة مطلقة، أي إرادة صادرة عن تفكير لا عن غريزة ثابتة في البشر ثبوتها في الحيوان، فلو أن رجلًا كسر حجرًا لأنه جُرح به، فإنه يعمل عملًا حيوانيًا، أما من يكسر حجرًا لئلا يجرح الناس فهو يعمل عملًا إنسانيًا، وإذا كان سقوط الجماد يتم بالطبيعة، والصعود يتم بمجهود، فإذا حدث سقوط أو ظلم بالطبيعة وصدر عنا، ففي قدرتنا أن نقف عنه ذاتيًا ونمتنع عنه، فالعمل الإنساني يصدر على الدوام عن قدرتنا وقوتنا وبقصد منا، لذلك ففي قدرتنا أن نتمنع عنه إذا أردنا، والنتيجة في النهاية أن النهايات لا تعين ولا تحدَّد إلا بالأعمال الإنسانية.

إننا نحن الذين نصنع أخطائنا وأوهامنا، وكثيرًا ما نجد صعوبة في اكتشاف أننا على خطأ، ولكن بوسعنا أن نلاحظ أن الخطأ يحتاج إلى إنسان يرتكبه، أما الطبيعة ذاتها فلا يمكن أن تخطيء لأنها لا تُصدر أحكامًا. فالناس هم الذين يقعون في الخطأ حين يصوغون قضايا وأحكامًا، إننا يجب أن ندع الحقيقة تقودنا إلى أي إتجاه تشاء. في هذا الإطار يستطيع كل إنسان أن يُسهم في الخير الذي نحن بصدده في وطننا الحبيب، ولا يعني هذا أن تكون لنا جميعًا نفس الآراء فى كل شيء.
المصدر: http://www.copts-united.com/Arabic2011/Article.php?I=885&A=39944

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك