الدعوة إلى الله بالمجادلة مفهومها ومشروعيتها وضوابطها
مقدمة :
الحمد لله حمداً يليق بجلال ربنا وعظمته , والشكر له على ما أنعم به علينا من نعم لا تعد ولا تحصى ؛ والتي من أعظمها وأجلها نعمة الإسلام ؛ أخرجنا به من الضلالة إلى الهدى , وفضلنا به على كثير ممن خلق تفضيلا .
والصلاة والسلام على خير خلقه ومبلغ وحي ربه نبينا محمد بن عبد الله , خير من وطئت قدمه الثرى , مع علو المقام والقدر فوق الثريا , صلاة ربي وسلامه الأتمان الأكملان عليه وعلى آله وأصحابه , الذين صبروا وجاهدوا في الله حق جهاده فمنهم المجاهد بسنانه ومنهم المجاهد بلسانه وبيانه ؛ فاستنارت بدعوتهم ظلمات الأرض , وانقشعت ظلمات البصائر , وثقفت بحججهم المبنية على ما في الكتاب والسنة موارد الأفكار ومقاطع الأفهام .
وما زال الدعاة المخلصون بهم يقتدون ويهتدون , وإلى ميراث النبوة يتسابقون تعظيماً والتزاماً , وإليه يدعون أمماً وأقواماً , فصدق فيهم ما جاء في قوله تعالى : • ( ).
أما بعد :
فإن من الظواهر الملحوظة والأمور المشاهدة المعروفة وجود الجدل في حياة الإنسان أينما وحيثما وجد وكان , ولقد قال العليم بخلقه الحكيم في أمره ونهيه : ( ) ، فهو لا ينفك في الغالب يغالب كل جديد أو طارئ عليه , أو كل مختلف معه .
وإن من ملامح ربانية هذا الدين وكونه تنـزيلا من رب العالمين ؛ تعامله بواقعية مع طبيعة الإنسان وما جبل عليه من هذا الجدل الغالب في جنسه , فكان أن وجه ربنا تبارك وتعالى إلى الجدل وندب إليه ؛ لكن بقدر الحاجة , وبشكل غير الذي اعتاده الناس وربما مارسوه وعرفوه من مطلق الجدل .
أما الحاجة إليه فهي في الدعوة إلى الدين الحق وإقامة الحجة على الخلق .
والـحاجة بشكل أخص مع أولئك الذين يحتاج إليه معهم وليس مع كل أحد ، إذ تسبقه وتتقدمه الحكمة والموعظة الحسنة .
والخالق سبحانه يعلم أن من الناس من يبقى متردداً , أو متشككاً في الحق الذي جاءت به النبوة الخاتمة , أو أنه يكون معانداً جاحداً له ؛ مع وضوح دلائله وصفاء موارده ومصادره , فهذا الذي يدعى بالجدل .
أما شكل هذا الجدل وصفته فهو ليس بالجدل الذي قعد له اليونان , أو مارسه وفق هواه وشهوته أي إنسان , وإنما هو شكل مختلف وإن تشابهت الأشكال , ووصف معين وإن تقاربت الأسماء , إنه باختصار , وكما عبر عنه كتاب ربنا جل شأنه بأوجز لفظ وأجزل عبارة ( بالتي هي أحسن ) , وذلك في قوله تعالى : ( ) وفي قوله تعالى : ( ) .
وهذا البحث المتواضع هو في هذا الموضوع الدقيق , ويهدف الكاتب فيه إلى محاولة الإسهام في تجلية المفهوم , وبيان المشروعية , والإشارة إلى أبرز الضوابط , وذلك في ثلاثة فصول، شملت تسعة مباحث على النحو الآتي :
الفصل الأول : مفهوم الجدل وتاريخه :
المبحث الأول : الجدل في اللغة .
المبحث الثاني : الجدل في الاصطلاح .
المبحث الثالث : رؤية تحليلية لتاريخ الجدل .
الفصل الثاني : مشروعية المجادلة في مجال الدعوة وأهميتها :
المبحث الأول : مشروعية الجدل في القرآن الكريم .
المبحث الثاني : مشروعية الجدل في السنة النبوية .
المبحث الثالث : أهمية المجادلة في مجال الدعوة .
الفصل الثالث : ضوابط الدعوة بالمجادلة :
المبحث الأول : ضوابط قبل قيام المجادلة .
المبحث الثاني : ضوابط أثناء المجادلة .
المبحث الثالث : ضوابط بعد حصول المجادلة .
أسأل الله الكريم بمنه وجوده وفضله أن يتقبله بقبول حسن , وأن يجعله خالصاً لوجهه , نافعاً لعباده , وأن يعفو عما فيه من الخطأ والزلل .
والحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
الفصل الأول : مفهوم الجدل وتاريخه :
المبحث الأول : الجدل في اللغة :
تعـود كلمة ( جدل ) إلى الأصل الثلاثي الصحيح ( الجيم والدال واللام )،
هذا الأصل " أصل واحد وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه , وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام "( ) .
والجدل - بسكون الدال - يعني شدة الفتل للحبل والشعر، فيقال جديل وجديلة .
كما يعني الصرع يقال : جدله أي صرعه , ورجل مجدل ومجدال أي يصرع غيره , والجدالة الأرض .
أما كلمة الجدل - بفتح الدال - فتعني شدة الخصومة ومراجعة الكلام , ويقال لصيغة المفاعلة مجادلة , ولاسم الفعل جدل وجدال .
جاء في لسان العرب ( ) :
" الجدل - بسكون الدال - شدة الفتل , وجدلت الحبل أجدله جدلا إذا شددت فتله وفتلته فتلا محكماً , ومنه قيل لزمام الناقة الجديل ".
و" الجدل : الصرع . وجدله جدلا , وجدله فانجدل وتجدل : صرعه على الجدالة . وهو مجدول , وقد جدلته جدلا .
وأكثر ما يقال جدلته تجديلا ."
"و الجدل - بفتح الدال - اللدد في الخصومة والقدرة عليها , وقد جادله مجادلة وجدالا .
ورجل جدل و مجدل و مجدال : شديد الجدل .
ويقال : جادلت الرجل فجدلته جدلا أي غلبته.
ورجل جدل إذا كان أقوى في الخصام .
و جادله أي : خاصمه مجادلة وجدالا .
والاسم الجدل وهو شدة الخصومة ... " .
وجاء في القاموس المحيط ( ) :
" وجدله فانجدل وتجدل صرعه على الجدالة ...
والجدل محركة : اللدد في الخصومة والقدرة عليها ".
وجاء في العين ( ) :
" ورجل جدل مجدال أي خصم مخصام.
والفعل جادل يجادل مجادلة .
وجدلته جدلا – مجزوم - فانجدل صريعا ".
المبحث الثاني : الجدل في الاصطلاح :
للجدل في الاصطلاح معنيان :
الأول : المعنى العام للجدل أو مطلق الجدل أو الجدل المحض .
الثاني : المعنى الخاص الذي جاء في النصوص الشرعية مندوباً إليه في مقام الدعوة .
وغالب المراجع وبخاصة كتب التعريفات تشير إلى المعنى الأول .
فنجد مثلا أن الجرجاني يورد عدداً من المعاني الاصطلاحية للجدل فيقول :
" الجدال عبارة عن مراء يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها "( ).
ويقول : " الجدل هو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات , والغرض منه إلزام الخصم , وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان "( ) .
ويقول : " دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبه .
أو يقصد به تصحيح كلامه وهو الخصومة في الحقيقة "( ).
كما تنحو بعض المراجع المتأخرة في تعريفه بما هو قريب من ذلك فنجد على سبيل التمثيل التعريفات الآتية :
" المنازعة لا لإظهار الصواب بل لإلزام الخصم "( ) .
" المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة لإلزام الخصم "( ) .
وهذه التعريفات للجدل في أصله وعلى إطلاقه أو ما يمكن أن يسمى بالجدل المحض , ويظهر فيه أمران رئيسان :
- شدة الخصومة واللدد فيها .
- وقصد الغلبة والإلزام والإفحام في الهدف .
وهذا ليس بالجدل الشرعي في دين الإسلام, الذي جاء في قوله تعالى: ( ).
وفي قوله تعالى : ( ).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : " وقوله â وجادلهم بالتي هي أحسن á أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى â ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم á الآية فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون "( ) .
وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله : " فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق أو كان داعيةً إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا , ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنه أقرب إلى حصول المقصود وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها "( ).
وقال رحمه الله : " ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل , أو بغير قاعدة مرضية , وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ؛ بحسن خلق ولطف ولين كلام , ودعوة إلى الحق وتحسينه , ورد الباطل وتهجينه بأقرب طريق موصل لذلك , وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق "( ) .
فيتبين بذلك أن الجدل الشرعي هو غير مطلق الجدل أو الجدل المحض السائد في الحدود الاصطلاحية للجدل والتي أوردنا طرفاً منها آنفاً , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ولهذا ذم السلف أهل الكلام , وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجة صحيحة لم يك إلا جدلا محضاً "( ) .
والجدل الشرعي بمعنى المناظرة التي يقصد منها إظهار الصواب في كلام المختلفين .( )
وقد نص بعض العلماء على أن الجدل بالتي هي أحسن هو المناظرة. ( )
ولعل هذا يفسر استخدام البعض للفظة الجدل بأنها مرادفة للمناظرة أو أنها بمعنى المناظرة .( )
ومما تجدر الإشارة إليه أن الجدل هو أحد أشكال الحوار الذي يعني تردد الكلام ومراجعته بين طرفين أو أكثر دون أن يكون بالضرورة خلاف بينهما .
فإذا كان خلاف وقصد إظهار الحق بين الطرفين المختلفين فهي المناظرة والجدل الشرعي .
وإذا كان خلاف وكان القصد المغالبة والإلزام والإفحام فهو الجدل المحض .
أما علم الجدل فهو : " علم باحث عن الطرق التي يقتدر بها على إبرام أي وضع أريد ونقض أي وضع كان .
وهو - كما يقول صديق حسن - فرع من فروع علم النظر ومبني لعلم الخلاف "( ) .
ويبدو أن هذا التعريف لعلم الجدل متصل بمعناه العام الذي هدفه الإلزام والغلبة .
ولذا يمكن أن نقول إن علم الجدل الشرعي هو : علم باحث عن الطرق التي يقتدر بها على إظهار الحقائق والاستدلال عليها في مقام الاختلاف بغرض الدعوة إلى الله تعالى .
المبحث الثالث : نظرة في تاريخ الجدل في الحياة البشرية :
وجود الجدل في حياة الإنسان مسألة بدهية ؛ لا تحتاج إلى الاستدلال في إثباتها وتأكيدها , ولم تخل أمة من الأمم قديمها وحديثها منه .
وقـد نبه عليها سبحانه وتعالى فقال : ( ) .
قال الثعالبي : " وقوله تعالى : â ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا á الإنسان هنا يراد به الجنس وقد استعمل صلى الله عليه وسلم الآية على العموم في مروره بعلي ليلا وأمره له بالصلاة بالليل، فقال علي: إنما أنفسنا يا رسول الله بيد الله , أو كما قال، فخرج وهو يضرب فخذه بيده ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا "( ) .
وقال الزجاج : " كل ما يعقل من الملائكة والجن يجادل , والإنسان أكثر هذه الأشياء جدلا "( ) .
وقال الألوسي : " ( وكان الإنسان ) بحسب جبلته ( أكثر شيء جدلا ) أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل ... والمعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل "( ) .
ولذلك فلعل النظر هنا يكون إلى تحليل وتصنيف تاريخ الجدل بدلا من السرد التاريخي لشواهده , وذلك في الأطر الآتية :
الأول : الجدل الإنساني بعامة ؛ أي ممارسة الجدل من الإنسان وفق طبيعة البشرية الغالبة , وهذا في تاريخ الإنسان أينما وحيثما وجد .
وهو أمر مشاهد ومحسوس وملاحظ , كما يمكن في ذلك التذكير بالآية السابقة â وكان الإنسان أكثر شيء جدلا á ويمكن اعتباره من بدء الخليقة إلى قيام الساعة , بل إلى أن يفصل بين العباد , فقد جاء ما يدل على أن كل نفس تجادل يوم القيامة عن نفسها قال تعالى : ( ).
قال الإمام الطبري في تفسير الآية : " يوم تأتي كل نفس تخاصم عن نفسها وتحتج عنها بما أسلفت في الدنيا من خير أو شر أو إيمان أو كفر "( ) .
وقال الإمام القرطبي رحمه الله : " قوله تعالى : â يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها á أي : إن الله غفور رحيم في ذلك , أو ذكرهم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها أي : تخاصم وتحاج عن نفسها .
جاء في الخبر أن كل أحد يقول يوم القيامة : نفسي نفسي من شدة هول يوم القيامة سوى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل في أمته ، وفي حديث عمر أنه قال لكعب الأحبار: يا كعب خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا، فقال له كعب: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو أنت وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبياً لأتت عليك تارات لا يهمك إلا نفسك وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي منتخب إلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلي بالخلة فيقول: يا رب أنا خليلك إبراهيم لا أسألك اليوم إلا نفسي .قال : يا كعب أين تجد ذلك في كتاب الله ؟ قال : قوله تعالى: â يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمونá .
وقال ابن عباس في هذه الآية :" ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح : رب الروح منك أنت خلقته لم تكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعف عليه أنواع العذاب ونجني، فيقول الجسد : رب أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة ليس لي يد أبطش بها ولا قدم أسعى به ولا بصر أبصر به ولا سمع أسمع به فجاء هذا كشعاع النور فبه نطق لساني وبه أبصرت عيني وبه مشت رجلي وبه سمعت أذني فضعف عليه أنواع العذاب ونجني منه، قال: فيضرب الله لهما مثلا ؛ أعمى ومقعداً , دخلا بستانا فيه ثمار فالأعمى لا يبصر الثمرة والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد الأعمى: ايتني فاحملني آكل وأطعمك، فدنا منه فحمله فأصابوا من الثمرة، فعلى من يكون العذاب ؟ قال: عليكما جميعاً العذاب "( ) .
الثاني : الجدل في البيئة اليونانية , ونخصها بإطار مستقل في هذه النظرة التحليلية لتاريخ الجدل لأن وضع قواعد الجدل والمنطق كما تتناقله المراجع بدأ في هذه البيئة , ولا يعنى هذا عدم وجوده من قبل فهو جبلة غالبة في الإنسان كما أسلفنا , لكن الذي حدث في البيئة اليونانية هو أن الجدل صار علماً يدرس وفناً يكتسب بالصنعة حيث قام سوقه واشتد عوده لمواجهة الحركة السوفسطائية التي تلبس على الناس عقائدهم , بل وتشككهم في الحقائق والبدهيات مما دعا القوم إلى وضع قواعد في الجدل بقصد قطع أولئك السوفسطائيين وإفحامهم ومغالبتهم( ) , وهؤلاء عندهم حق وباطل ومن أبرع من غربل نتاجهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في عدد من مؤلفاته .( )
ولما ورثت الحضارة الإسلامية خلافة العالم في عصورها الذهبية نقلت كثيراً من العلوم والمعارف , ولم تكن الحضارة الإسلامية تقوم بدور الوسيط والناقل فقط بل غربلت في أحايين كثيرة علوم الأمم السابقة ومن ذلك علم الجدل الذي يقابله عند المسلمين علم المناظرة , أو علم البحث والمناظرة , سواء في المصنفات المستقلة أم في الكتابات المتفرقة .
ويميل بعض الباحثين إلى أن علم المناظرة صناعة إسلامية لم يسبقهم إليه أمة من الأمم قبل ذلك .( )
ومع هذا بقيت آثار من الفكر اليوناني لم يسلم بعض المسلمين منها حتى في فهم كلام الله عز وجل وتفسيره , ومنه فهم بعضهم لما في قوله تعالى: ( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " كلام الله لا يشتمل إلا على حق يقين لا يشتمل على ما تمتاز به الخطابة والجدل عن البرهان بكون المقدمة مشهورة أو مسلمة غير يقينية , بل إذا ضرب الله مثلا مشتملا على مقدمة مشهورة أو مسلمة فلا بد وأن تكون يقينية , فأما الاكتفاء بمجرد تسليم المنازع من غير أن تكون المقدمة صادقة أو بمجرد كونها مشهورة وان لم تكن صادقة فمثل هذه المقدمة لا يشتمل عليها كلام الله الذي كله حق وصدق وهو أصدق الكلام وأحسن الحديث .
فصاحب الحكمة يدعى بالمقدمات الصادقة سواء كانت مشهورة أو مسلمة أو لم تكن لما فيه من إدراك الدِّق واتباع الحق .
وصاحب الموعظة يدعى من المقدمات الصادقة بالمشهورة لأنه قد لا يفهم الخفية من الحق ولا ينازع في المشهورة .
وصاحب الجدل يدعى بما يسلمه من المقدمات الصادقة مشهورة كانت أو لم تكن إذ قد لا ينقاد إلى ما لا يسلمه "( ).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : " وأما ما ذكره بعض المتأخرين أن هذا إشارة إلى أنواع القياسات، فالحكمة هي طريقة البرهان، والموعظة الحسنة هي طريقة الخطابة، والمجادلة بالتي هي أحسن طريقة الجدل، فالأول بذكر المقدمات البرهانية لمن لا يرضى إلا بالبرهان ولا ينقاد إلا له وهم خواص الناس، والثاني بذكر المقدمات الخطابية التي تثير رغبة ورهبة لمن يقنع بالخطابة وهم الجمهور، والثالث بذكر المقدمات الجدلية للمعارض الذي يندفع بالجدل وهم المخالفون فتنزيل القرآن على قوانين أهـل المنطق اليوناني واصطـلاحهم وذلك باطل قطعاً "( ).
كما امتد تأثير الجدل اليوناني إلى تطبيقات بعض المسلمين وتسببت الترجمة لعلوم اليونان في نشوء الجدل الكلامي المخالف للجدل الشرعي وذلك بعقد مجالس للجدل بقصد المغالبة والإلزام ودفع الخصوم حتى قال بعضهم لبعض : " لا تعلق تكثيراً مما تسمع مني في مجالس الجدل فإن الكلام يجري فيها على ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته , فلسنا نتكلم لوجه الله خالصا ولو أردنا ذلك لكان خطونا إلى الصمت أسرع من تطاولنا إلى الكلام " .( )
إلا أن ذلك كله لا يعني عدم وجود المجادلات والمناظرات المنضبطة بالضوابط الإسلامية كما سيتبين في الإطار الآتي .
الثالث : الجدل في مقام الدعوة إلى ما جاءت به الرسالات السماوية باعتباره أسلوبا يحتاج إليه مع بعض المدعوين الذين يمكن أن يكون فيهم منكرون للنبوات وما جاءت به من العقائد والشرائع , أو مترددون لديهم نوع ممانعة تزول بالإقناع وإقامة الحجة الصحيحة لهم , وهؤلاء موجودون أينما وجدت رسالة والأمثلة على ذلك كثيرة جداً .
وقد ورد في كتاب الله الكريم عدد من تلك المواجهات بين الأنبياء وأقوامهم .
وكان موقف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وكذا الداعون بدعوتهم مواجهتهم بالحق المؤيد من الله تعالى فيما أنزل عليهم من الهدى والنور والدلائل القطعية التي تفوق احتجاج البشر ومنطقهم .( )
وقد بين الله تعالى فضله على إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوة حجته وخصمه لقومه فقال: • • ( ).
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى : " تلك إشارة إلى جميع احتجاجاته حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة "( ).
أما عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان فيها الكثير من ذلك , وسنتبين طرفا منها عند الحديث عن المشروعية بإذن الله , قال الشيخ حافظ الحكمي في معارج القبول : " ومناظرة الرسل لأعداء الله يطول ذكرها , ومقامات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع هذه الأمة أشهر من أن تذكر , فمن شاءها فليقرأ المصحف من فاتحته إلى خاتمته "( ).
وقد أورد ابن كثير رحمه الله عدداً من مجادلات المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت باب سماه : " باب مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم بالحق وإن أظهروا المخالفة عناداً وحسداً وبغياً وجحوداً "( ) .
وكان اليهود من أكثر الناس جدلا بالباطل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق : " كانت أحبار يهود يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنتونه ويأتون باللبس ليلبسوا الحق بالباطل فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه "( ) , وهذا ليس جديداً منهم فقد جادلوا موسى وعيسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وما قصة بقرة بني إسرائيل منا ببعيد.
وقد استمر الجدل بين الدعاة إلى الإسلام وغيرهم إلى يومنا هذا , وذلك لعالمية هذا الرسالة وشمولها للناس كافة , إذ تمثل الدعوة مسؤولية عامة وخاصة لا يكاد يعفى منها من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً , فهي سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل أتباعه من بعده قال تعالى : • ( ).
وكلما احتاج الدعاة إلى ممارسة المناظرة والجدل مارسوه بالضوابط الشرعية التي جاءت بها البعثة النبوية , والتي أحدثت نقلة في الحياة البشرية لتعيدها إلى ما ينبغي أن تكون عليه وفق هدي خالقها وموجدها الأعلم بما يصلحها .
وهذه النقلة شملت مناحي الحياة المختلفة بدءاً بالعقائد ومناهج التفكير وانطلاقاً إلى المعاملات والأخلاق والآداب والقيم .
ومن ذلك ضبط سلوك الحوار والمناظرة والجدل عند المسلمين عن ما سواه من السلوك , والذي يمكن أن نذكر أبرز ملامحه في ما يلي :
1- توجيه سلوك المسلمين في اختلافهم فيما بينهم ومع غيرهم ليكون بقصد الوصول إلى الحق وبأساليب تجمع ولا تفرق وتقرب ولا تبعد، وعنـدما لا يكون الجدل نافعاً فيعرض عنه إلى غيره فهو وسيلة لا غاية .
2- الاعتراف بالاختلاف لكن مع النهي عن التنازع , ومن ذلك اختلافات الصحابة رضوان الله عليهم فيما بينهم بل ومراجعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض المواقف والمسائل والتي كانت على سبيل المشاورة والمناصحة ولم تكن على سبيل الجدل بمعناه المطلق الذي يعني المغالبة والمنازعة والإلزام .
3 - تخصيص معنى الجدل المقبول عن مطلق الجدل ليكون كما جاء في كتاب الله ( بالتي هي أحسن ) وهو يقرب من معنى المناظرة التي يقصد فيها إظهار الصواب , وتعريف الجدل بالتي هي أحسن بأنه المناظرة مما قال به عدد من العلماء كما سبقت الإشارة إليه .
بل إن بعض العلماء ينزع إلى استخدام لفظة المناظرة لدلالتها المباشرة على الجدل المشروع وبخاصة عندما يشار إلى جدل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , ولهذا نجد الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله يقول في عنونته لأحد مباحثه في كتابه القيم معارج القبول : " مناظرة الرسل لأعداء الله "( ) وذلك في وصف فعل الأنبياء , كما نجد ابن كثير رحمه الله يصف فعل المشركين بالجدل فيقول : " ومجادلة المشركين لأنبيائهم "( ) .
ولقد غلب في الثقافة الإسلامية مصطلح المناظرة بدلا من الجدل .
4- التأثير في التطبيقات العملية للمجادلات والمناظرات من قبل الأطراف الإسلامية , ومن ذلك ما حمله لنا التراث الإسلامي من مناظرات فيما بين المسلمين أنفسهم كمناظرة ابن عباس للخوارج أو مع غيرهم من اليهود والنصارى والمشركين , بل حتى ما شهدناه في عصرنا هذا وبخاصة ممن يحمل علماً بالشريعة أكثر من غيره( ), كل ذلك ظهر فيه أثر الضبط الإسلامي للجدل وتوجيهه ليكون للوصول إلى الحقائق والدلالة عليها تحت إطـار التوجيه الرباني â بالتي هي أحسن á مما يجعلنا نصل إلى نتيجة هامة هي : أن نظرة تحليلية لتاريخ الجدل تدلنا أن الإنسان كلما كان أقرب إلى الوحي الإلهي الثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلم به فإنه أكثر انضباطاً وأحسن اختلافاً وأعدل مع غيره ممن لا يوافقونه في المعتقد أو الرأي , وأن البعد عن التوجيه الرباني في ذلك يجعل حظوظ النفس وأهواءها حاضرة ظاهرة في كثير من الحوارات والاختلافات , والله المستعان .
الفصل الثاني : مشروعية المجادلة في مجال الدعوة وأهميتها:
المبحث الأول : مشروعية الجدل في القرآن الكريم :
باستقراء النصوص الواردة في القرآن الكريم عن الجدل نجد أنه يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أصناف :
أ - النصوص التي وردت فيها لفظة الجدل .
ب-النصوص التي وردت فيها مجادلات ومناظرات الرسل وصـالحي البشر .
ج - النصوص التي تعلي من شأن الاحتجاج الصحيح والدعوة به وقيمته في نصرة الحق.
وسيكون تفصيل ذلك فيما يلي بعون الله وتوفيقه :
أ - النصوص التي وردت فيها لفظة الجدل :
جاءت لفظة الجدل وما تصرف منها في كتاب الله الكريم في 29 موضعاً , وباستقرائها بالنظر إلى المشروعية نجد أنه يمكن تصنيفها في ثلاثة أطر :
الإطار الأول : النصوص الواردة في المدح والندب لاستخدام الجدل :
وهذه النصوص محصورة فيما جاء في قوله تعالى :
( ).
وفي قوله تعالى: ( ).
الإطار الثاني : النصوص التي ورد فيها ذم الجدل وهي كثيرة ويمكن إجمالها بما يلي :
1 - ما ورد في ذم الجدل بغير علم كقوله تعالى :
•• ( ).
2 - ما ورد في ذم المجادل في الحق بعدما تبين كقوله تعالى :
• ( ).
3 - ما ورد في ذم الجدل بالباطل لرد الحق كقوله تعالى :
• ( ).
4 - ما ورد في ذم الجدل في آيات الله – على وجه المخاصمة والاعتراض - كقوله تعالى : ( ).
وقوله تعالى : ( ).
وقوله تعالى : • • ( ).
وقوله تعالى : ( ).
وهذه النصوص - الواردة في الإطار الثاني - يلحظ فيها أن لفظة الجدل مطلقة غير مقيدة ولا مستثناة , كما أن سياقها يدل على ما هو شائع من معنى الجدل الذي هدفه المغالبة والمنازعة والاعتراض الذي يكون به دفع الحق ورده إذا لم يوافق هوى المجادل .
كما أن في هذه النصوص أيضاً معاني أخرى في الجدل المحض مثل أن يكون بلا علم أو الجدل في الحق بعدما تبين , مما يؤكد على أن الاستثناء والقيد بالتي هي أحسن الوارد في الإطار الأول يعني خلاف ذلك تماماً .
الإطار الثالث : نصوص قد لا يظهر فيها المدح أو الذم وربما حصل توهم في فهمها وجعلها في المدح وربما الاستدلال بها في المشروعية وهي ليست كذلك .
وهذه النصوص هي :
قوله تعالى : ( ).
وقوله تعالى : ( ).
وقوله تعالى : ( ).
أما الآية الأولى فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يقر على جداله ذلك , فقد قال تعالى بعد تلك الآية : ( ) قال الإمام الطبري : " يقول تعالى ذكره مخبراً عن قول رسله لإبراهيم: يا إبراهيم أعرض عن هذا , وذلك قيلهم له حين جادلهم في قوم لوط فقالوا : دع عنك الجدال في أمرهم والخصومة فيه فإنه قد جاء أمر ربك بعذابهم وحق عليهم كلمة العذاب، ومضى فيهم بهلاكهم القضاء "( ).
وأما الآية الثانية فإن قوم نوح عليه الصلاة والسلام قصدوا ذمه فوصفوه بالجدل والإكثار منه , وليس هذا الوصف منه لنفسه وليس من الله عز وجل له، بل إنه عليه الصلاة والسلام يصف فعله بالنصيحة , فيقول كما ذكر الله تعالى عنه : ( ) وكما في قوله تعالى: ( ).
أما الآية الثالثة الواردة في سورة المجادلة فلا تعدو أن تكون وصفاً دقيقاً لشدة مراجعة هذه المرأة وهي خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة ظهار زوجها لها , فلا تقتضي المدح ولا الذم .
ويدل على ذلك الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : " تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ؛ إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع له ولدي ظاهر مني , اللهم إني أشتكي إليك . قالت عائشة : فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الآيات â قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها á قال : وزوجها أوس بن الصامت " أخرجه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه , ووافقه الذهبي .( )
يقول الشوكاني رحمه الله : " والمجادلة هذه الكائنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كلما قال لها : حرمت عليه , قالت : والله ما ذكر طلاقاً , ثم تقول أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وأن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا , وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك "( ) .
كما أن ( تجادلك ) فيها قراءة أخرى وهي ( تحاورك)( ) .
وذكر ابن جرير الطبري فيها قراءة أخرى أيضاً وهي ( تحاولك )( ) .
ومعلوم أن المحاورة أو المحاولة لا يقتضي أن تكون جدلا .
لكن مع هذا فهذه الآية بالقراءة المشهورة ( تجادلك ) تدل على دقة الوصف القرآني لحال هذه المرأة وشدة مراجعتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وذلك لا يقتضي الذم ولا المدح ولا تبنى عليه المشروعية وإنما هو الخبر والوصف الدقيق عن الحادثة والله أعلم .
ولو قلنا إن السياق الوارد فيه هذه اللفظة ( تجادلك ) يقتضي المدح لكان سائغاً مراجعة أحكام الله ورسوله والأمر خلاف ذلك تماما فإن الله تعالى يقول : ( ).
وبذلك يتبين أن مشروعية الجدل في القرآن الكريم بالنظر إلى الآيات الوارد فيها لفظة الجدل تنحصر في الآيتين التي ورد فيهما قيده بالتي هي أحسن دون ما عداهما .
ب- النصوص التي وردت فيها مناظرات الرسل لأقوامهم ومجادلة المشركين لأنبيائهم :
ومن ذلك ما ذكر في القرآن الكريم عن مناظرات أولي العزم من الرسل مثل مناظرات نوح عليه الصلاة والسلام لقومه , ومناظرات إبراهيم عليه الصلاة السلام للنمرود وعبدة الكواكب , ومناظرات موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون وللسحرة ومناظرات عيسى عليه الصلاة والسلام لقومه ومناظرات محمد صلى الله عليه وسلم لمشركي العرب ولليهود والنصارى .
وغيرها من المناظرات لبقية الرسل وصالحي البشر الذين ورد ذكر محاوراتهم ومناظراتهم في القرآن الكريم .
وحيث إننا أمرنا باتخاذهم أسوة وقدوة كما قال تعالى : ( ) فإن من التأسي بهم القيام بالمناظرة والمجادلة الشرعية عند الحاجة إليها في مقام الدعوة إلى دين الله عز وجل .
ج - النصوص التي تشير إلى فضل الاحتجاج الصحيح والدعوة به وقيمته في نصرة الحق , ومعلوم أن ذلك هو ما تقوم عليه المناظرات والمجادلات الشرعية . ومن ذلك :
قوله تعالى : ( ).
وقوله تعالى : ( ).
وقوله تعالى : ( ).
وقوله تعالى : ( ).
وقوله تعالى : ( ).
وغيرها من الآيات التي استدل بها عدد من العلماء في القديم والحديث في هذا السياق ( ).
المبحث الثاني : مشروعية الجدل في السنة النبوية :
يمكن النظر إلى مشروعية الجدل في السنة النبوية من خلال جوانب السنة الثلاثة : قوله وفعله وتقريره عليه الصلاة والسلام .
أما في قوله عليه الصلاة والسلام فلم أقف على أحاديث تأمر بالجدل ولكن هناك أحاديث عامة تأمر بمجاهدة المشركين والمبطلين بأنواع المجاهدة ومنها المجاهدة باللسان , ومعلوم أن الجدل الشرعي والمناظرة في مقام الدعوة ومع المبطلين خاصة من أظهر أنواع المجاهدة باللسان مع شمول ذلك لأنواع الكلام من النصيحة والتعليم والوعظ وغير ذلك .
ومن هذه الأحاديث :
* حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره , ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "( ) .
* ومنه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "( )
* ومنه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قـال : " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم "( ).
أما فعله فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ناظر أصنافاً من الناس ؛ من المشركين من قريش والعرب وناظر اليهود في المدينة وناظر وفد نصارى نجران وغيرهم .
وقد أشرنا إلى شيء من ذلك آنفاً في المبحث الثالث من الفصل الأول .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في فقه قصة وفد نصارى نجران : " ومنها جواز مجادلة آهل الكتاب ومناظرتهم بل استحباب ذلك بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجة عليهم ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة فليول ذلك إلى أهله وليخل بين المطي وحاديها والقوس وباريها "( ) .
أما تقريره عليه الصلاة والسلام فقد ورد أنه أقر عمر رضي الله عنه في مناظرته لليهود وعندما رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم وجد أن جبريل قد سبقه بالوحي " فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه : • ( ) , قال عمر: والذي بعثك بالحق لقد جئت وما أريد إلا أن أخبرك "( ).
قال ابن عبد البر رحمه الله تعليقاً على هذه الحادثة : " فهذا مما صدق الله فيه قول عمر واحتجاجه "( ) يقصد رد عمر رضي الله عنه على اليهود تركهم الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لكون صاحبه الذي يأتيه بالوحي جبريل وليس ميكائيل , وكلاهما مقرب من الله عز وجل , فمن كان عدواً لأحدهما فهو عدو للآخر ومن كان عدواً لهما فهو عدو لله .
وقد أكد أئمة الإسلام هذه المشروعية يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ولا وفى بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس "( ) .
وهذا موجه إلى القادر عليها أما العاجز فقد قال الشيخ رحمه الله : " وقد ينهون - أي السلف – عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف أن يفسده ذلك المضل كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة "( ).
وقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم فيما بينهم وتناظروا وتجادلوا لكن كان على وجه المشاورة والمناصحة ( ) .
المبحث الثالث : أهمية المجادلة في مجال الدعوة :
لا شك أن أول ما ينظر إليه في أهمية المجادلة في مجال الدعوة هو كونها مشروعة بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وفق ضوابطها التي تميزها عن مطلق الجدل .
وهناك جوانب أخرى تؤكد هذه الأهمية وتوضحها , وسنعرض لها في ثلاثة محاور :
الأول : الأهمية باعتبار الحاجة إليها مع بعض المدعوين.
الثاني : الأهمية باعتبار أثرها في إظهار الحق وقطع الباطل.
الثالث : الأهمية بالنظر إلى نتائج نماذج منها في تاريخ الدعوة .
أولا : الأهمية باعتبار الحاجة إليها مع بعض المدعوين :
خلق الله الخلق وفطرهم على الحنيفية , كما أرسل سبحانه رسله وأنزل كتبه ليدلوا الخلق على مراد الله تعالى منهم , وعندما تكون الفطر سليمة فإنها أقرب ما تكون لقبول الحق الذي تدعى إليه , وعندما تكون قد تأثرت أو حصل لها نوع تشويش فإننا تتردد فيه , ولربما عاندته وردته , ولذلك فإن من ملامح صحة هذا الدين ودلائل ربانيته وكماله وصلاحه أن تعامل بواقعية مع هذه المسألة , بأن ندب إلى الجدل مع هؤلاء بضوابط وشروط معينة .
وقد تحدث العلماء عن موقف الناس من الحق بأنهم ثلاثة أصناف : قابل وغافل ومعاند وذلك في معرض تفسيرهم لقول الله تعالى : ( ).
وأفضل من فصل في هذه المسألة - فيما اطلعت عليه - شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , يقول في ذلك :
" الناس ثلاثة أقسام :
إما أن يعترف بالحق ويتبعه فهذا صاحب الحكمة.
وإما أن يعترف به لكن لا يعمل به فهذا يوعظ حتى يعمل .
وإما أن لا يعترف به فهذا يجادل بالتي هي أحسن لأن الجدال فيه مظنة الإغضاب , فإذا كان بالتي هي أحسن حصلت منفعته بغاية الإمكان كدفع الصائل "( ) .
ويقول رحمه الله :
" فالآيات لمن إذا عرف الحق عمل به فهذا تنفعه الحكمة .
و الإنذار لمن يعرف الحق، و له هوى يصده فينذر بالعذاب الذي يدعوه إلى مخالفة هواه وهو خوف العذاب و هذا هو الذي يحتاج إلى الموعظة الحسنة .
و آخر لا يقبل الحق فيحتاج إلى الجدل فيجادل بالتي هي أحسن "( ).
ويقول في موضع آخر :
" الإنسان له ثلاثة أحوال :
إما أن يعرف الحق ويعمل به .
وإما أن يعرفه ولا يعمل به .
وإما أن يجحده .
فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به .
والثاني أن يعرفه لكن نفسه تخالفه فلا توافقه على العمل به .
والثالث من لا يعرفه بل يعارضه .
فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة فإن الحكمة هي العلم بالحق والعمل به ، فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به فيدعون بالحكمة .
والثاني من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعظة الحسنة .
فهاتان هما الطريقان الحكمة والموعظة وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا فإن النفس لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته , فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة وإلى الحكمة فلا بد من الدعوة بهذا وهذا .
وأما الجدل فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن ولهذا قال ( وجادلهم ) فجعله فعلا مأموراً به مع قوله ادعهم فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن .
وقال في الجدال: ( بالتي هي أحسن ) ولم يقل: بالحسنة، كما قال في الموعظة،لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة , والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل .
فما دام الرجل قابلا للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعاً لم يحتج إلى مجادلة فإذا مانع جودل بالتي هي أحسن "( ) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله :
" قال تعالى : ( ) فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو :
فإنه إما أن يكون طالباً للحق راغباً فيه محباً له مؤثراً له على غيره إذا عرفه فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة ولا جدال .
وإما أن يكون معرضاً مشتغلا بضد الحق ولكن لو عرفه عرفه وآثره واتبعه فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب .
وإما أن يكون معانداً معارضاً فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع إلى الحق وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكن "( ).
وكلامهما رحمهما الله متفق في أن المدعوين تتنوع أساليب دعوتهم , وكلها يحتاج إليها بحسب موقفهم من الحق الذي يدعون إليه .
ثانياً : الأهمية باعتبار أثرها في إظهار الحق وقطع الباطل :
لا شك أن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى من يسنده ويظهره في مواجهة المبطلين والمخالفين , والقيام بذلك من لوازم الإيمان ومقتضياته .
وإذا تأملنا في بعض الأدلة التي سبق إيرادها في المشروعية يتبين ذلك بجلاء .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله :
" لمناظرة المبطل فائدتان : أحدهما أن يرد عن باطله ويرجع إلى الحق .
الثانية أن ينكف شره وعداوته ويتبين للناس أن الذي معه باطل .
وهذه الوجوه كلها لا يمكن أن تنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته للطوائف فإنه كفيل بذلك على أتم الوجوه لمن تأمله وتدبره ورزق فهما فيه .
وحججه مع أنها في أعلى مراتب الحجج , وهي طريقة أخرى غير طريقة المتكلمين وأرباب الجدل والمعقولات فهي أقرب شيء تناولا وأوضح دلالة وأقوى برهاناً وأبعد من كل شبهة وتشكيك "( ) .
ثالثاً : الأهمية بالنظر إلى نتائج نماذج منها في تاريخ الدعوة :
تتأكد أهمية المناظرة والجدل في مجال الدعوة بنظرة تأمل لشيء من روائع المناظرات في تاريخ الدعوة .
ولا شك أن القدح المعلى والنصيب الأوفى في ذلك هو لصاحب الرسالة ونبي الله الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فهو المؤيد بالوحي من ربه , قال تعالى : ( ) , وقد ظهر باحتجاجه ومناظراته صلى الله عليه وسلم على المشركين واليهود والنصارى كما أسلفنا .
وهناك مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما للخوارج إذ رد الله بها خلقاً كثيراً يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " وكذلك علي رضي الله عنه بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين " ( ) .
وهناك مناظرات الإمام أحمد " في خلافة المعتصم بعد أن بقي في الحبس أكثر من سنتين وجمعوا له أهل الكلام من البصرة وغيرها من الجهمية والمعتزلة والنجارية مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وناظرهم ثلاثة أيام وقطعهم في تلك المناظرات "( ).
ومناظرة عبد العزيز الكناني لبشر المريسي في خلق القرآن إذ كانت من أسباب ارتفاع محنة عظيمة كان قد ذهب بسببها خلق من المسلمين فأزهقت أنفس معصومة وانتهكت حرمات مصونة ( ).
ومن ذلك مناظرة جرت بين المسلمين والنصارى أمام أحد ملوك التتار وهو الملك بركة خان فكان من نتائجها أن أسلم الملك , ويعد أول ملوكهم إسلاماً .( )
وفي الهند إبان الاحتلال الإنجليزي لها نشطت حركة التنصير وبث الشبهات بين المسلمين وبسبب ذلك عقدت مناظرة كبرى بين الشيخ رحمت الله الهندي والقس فندر واتفقا على أن المهزوم يدخل في دين المنتصر ويترك دينه , وبدأت المناظرة وفاقت حجج الطرف الإسلامي حجج خصمه , وأثبت الشيخ رحمت الله في اللقاء الأول التحريف في كتاب النصارى في ثمانية مواضع , فلم يتابع النصراني هذه المناظرة وغادر مدينة أكبر أباد التي عقدت فيها المناظرة سراً في اليوم الثالث , فتشجع المسلمون وارتفعت معونياتهم في مواجهة المنصرين .( )
ولو ذهبنا نستقرئ المواقف التي رفعت فيها راية السنة مقابل البدعة وراية الإسلام مقابل الكفر في مثل هذه المناظرات والمجادلات الشرعية لطال بنا المقام، ولكن حسبنا الإشارة فيما ذكر .
ومما يجدر التنبيه عليه هو أن الانتصار ليس هدفاً ولا غاية , وإنما الهدف ظهور الحق وإقامة الحجة ( ).
الفصل الثالث : ضوابط الدعوة بالمجادلة :
توطئة :
إن استقراء النصوص الشرعية وتطبيقات السلف رضوان الله عليهم تقودنا إلى أن الدعوة بالمجادلة لها ثلاثة جوانب :
ما قبل قيام الجدل، وأثناءه، وبعده .
وسنعرض لهذه المراتب الثلاث بشيء من التفصيل في هذه الفصل بإذن الله .
المبحث الأول : ضوابط قبل قيام المجادلة :
تبين مما سبق ما هو الجدل المشروع فهو أسلوب لإقامة الحجة وإظهار الحق بين الناس على من خالفه أو جهله , وبالتالي فليس استخدام هذا الأسلوب في التعامل مع المخالف أو في مقام الدعوة في كل حال .
بل لا بد من النظر في أمور عدة قبل قيام هذا الجدل .
ويمكن أن نجملها بالأمور الآتية:
أولا : تقديم أسلوبي الحكمة والموعظة الحسنة والبدء بهما , وهذا مأخوذ من قوله تعالى : ( ).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ما دام الرجل قابلا للحكمة والموعظة الحسنة أو لهما جميعاً لم يحتج إلى مجادلة , فإذا مانع جودل بالتي هي أحسن "( ) .
وبذلك يتبين أن الحكمة والموعظة الحسنة قد تكفي مع المدعو , وإن كان مجادلا جودل بضوابط الشريعة وليس بأعراف أهل الجدل .
وهذا مظهر من مظاهر عظمة هذا الدين وربانيته , ودليل على ما فيه من الواقعية بحيث لا يغفل أن فئات من الناس قد يحتاج معهم إلى الجدل ولذلك وجه إلى مجادلتهم .
ثانياً : ليس كل من دعا إلى الجدل أو المناظرة يجاب في كل حال فلا بد من النظر إلى المصلحة وظهورها أو رجحانها .
فقد يكون طالب الجدل أو المناظرة صاحب باطل ليس قصده طلب الحق , وإنما نشر باطله أو رغبة في شهرته ونحو ذلك . فهذا لا يجاب إليها فله أحكام أخرى تحكمه من الهجر أو التعزير بعقوبات أخرى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والكلام الذي ذموه – أي السلف - نوعان :
أحدهما أن يكون في نفسه باطلا وكذباً ؛ وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب , فإن أصدق الكلام كلام الله .
والثاني أن يكون فيه مفسدة مثلما يوجد في كلام كثير منهم من النهي عن مجالسة أهل البدع ومناظرتهم ومخاطبتهم والأمر بهجرانهم , وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم , فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك , فإذا هجر وعزر كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ بن عسل التميمي وكما كان المسلمون يفعلونه ؛ أو قتل كما قتل المسلمون الجعد ابن درهم وغيلان القدري وغيرهما ؛ كان ذلك هو المصلحة ، بخلاف ما إذا ترك داعياً وهو لا يقبل الحق إما لهواه , وإما لفساد إدراكه فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين "( ).
أما الإعراض عن المبتدع والمبطل ففيه قول الله تعالى : • • ( ).
قال الإمام القرطبي رحمه الله : " في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية، وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله .
قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل، قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر مؤمناً كان أو كافراً، قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع ومجالس الكفار وأهل البدع وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم، وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: اسمع مني كلمة فأعرض عنه، وقال: ولا نصف كلمة ومثله عن أيوب السختياني، وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصـاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له"( ).
وفي النهي عن مجادلة المبتدعة ومناظرتهم إذا علم أنها تتسبب في ظهور دعوتهم يقول الإمام اللالكائي رحمه الله : " فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة , ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً ودرداً , ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا , حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً , وصاروا إلى هلاك الإسلام دليلا , حتى كثرت بينهم المشاجرة وظهرت دعوتهم بالمناظرة وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة "( ).
ويقول رحمه الله في مكان آخر: " أخبرنا أحمد بن عبيد قال أخبرنا محمد بن الحسن قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثنا زايدة بن قدامة عن هشام قال كان الحسن يقول : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم "( ) .
وكان الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله يرى أن مناظرة المعتزلة بدعة " لأن السلف كانوا يرون مكالمة أهل البدع ومناظرتهم خطأً وسفهاً ... فلما ظهرت فيما بعد أقوال أهل البدع واشتهرت وعظمت البلوى بفتنتهم على أهل السنة وانتشرت انتدب للرد عليهم ومناظرتهم أئمة أهل السنة لما خافوا على العوام من الابتداع والفتنة "( ).
المبحث الثاني : ضوابط أثناء المجادلة :
إذا ترجحت مصلحة قيام المجادلة في مقام الدعوة إلى دين الله تعالى فإن هناك عدداً من الأمور التي يجب أن تصحب ذلك , ويمكن أن نجملها في الأمور الآتية :
أولاً : أن يحرص المسلم أن يكون جدله شرعياً وقد بينا أن الجدل الشرعي غير مطلق الجدل وأنه هو الوارد مقيداً في كتاب الله تعالى بأن يكون بالتي هي أحسن وهو في معنى المناظرة التي يقصد فيها إظهار الصواب وليس الغلبة والإفحام .
ثانياً : أن يكون الطرف الإسلامي قادراً على المناظرة .
فإذا ترجحت مصلحة قيام المناظرة فلا بد من تحقق شروط القدرة في من سيتولى المناظرة أمام صاحب الباطل والبدعة .
فليس كل من عرف الحق قدر على تعريف غيره به , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ليس كل من عرف الحق إما بضرورة أو بنظر أمكنه أن يحتج على من ينازعه بحجة تهديه أو تقطعه , فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع وما به يعرفه به غيره نوع , وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به ؛ فلهذا كان النظر أوسع من المناظرة ، فكل ما يمكن المناظرة به يمكن النظر فيه وليس كل ما يمكن النظر فيه يمكن مناظرة كل أحد به "( )
ويقول رحمه الله : " وقد ينهون – أي السلف - عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل كما ينهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة "( ) .
وهذه القدرة أظهر ما تكون في ثلاثة جوانب :
*القدرة العلمية في الموضوع المتناظر فيه .
*القدرة الذهنية والفطنة في سرعة استحضار الأدلة والردود المناسبة .
*القدرة التعبيرية التي تحقق جزالة العرض والاستدلال وبلاغته ووجازته .
يقول ابن عبد البر رحمه الله : " قال بعض العلماء : كل مجادل عالم وليس كل عالم مجادلا , يعني أنه ليس كل عالم يتأتى له الحجة ويحضره الجواب ويسرع إليه الفهم بمقطع الحجة , ومن كانت هذه خصاله فهو أرفع العلماء وأنفعهم مجالسة ومذاكرة , والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم "( ) .
ثالثاً : إخلاص النية لله تعالى في المجادلة , والحذر من أن يدخل فيها شيء مخالف أو مضاد أو مفسد للإخلاص , فمقام الجدل والمناظرة مظنة للزلل وغلبة الهوى وطلب الشهرة وغير ذلك من الأخلاق الذميمة في دخائل النفوس .
يقول الإمام الغزالي ناصحاً تلميذه بأمور منها : " أن لا تناظر أحداً في مسألة ما استطعت ؛ لأن فيها آفات كثيرة ، فإثمها أكبر من نفعها إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرياء والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة وغيرها " ثم يعقب بحل هذه المعضلة بجواب في غاية الدقة بأنك إذا كنت لا بد فاعلا فلتتبين صدقك في إرادة الحق من خلال علامتين :
" إحداهما : أن لا تفرق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على لسان غيرك .
والثانية : أن يكون البحث في الخلاء أحب إليك من أن يكون في الملأ "( ).
رابعاً : العدل مع الخصم في المجلس والهيئة والوقت وإعطاء الفرصة في عرض الأدلة وقبول الحق منه والعودة عن الخطأ , بل والتأسيس على فرضية أن الحق أو الخطأ يمكن أن يكون في كلام أي من الطرفين كما قال تعالى : ( ) وذلك على وجه الإنصاف في المجادلة , وليس من باب الشك فيها , قال الإمام البغوي :
" ليس هذا على طريق الشك ولكن على جهة الإنصاف في الحجاج كما يقول القائل للآخر، أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب , والمعنى ما نحن وأنتم على أمر واحد بل أحد الفريقين مهتد والآخر ضال "( ) لا سيما إذا تبعه المطالبة بالدليل على الدعوى وهو من الإنصاف والعدل أيضاً كما قال تعالى : ( ) .
خامساً : رد التنازع والاختلاف إلى حكم الله ورسوله قال تعالى : ( ) , وهذا يعني أن المعول عليه أولا وأخيراً في الأمر المتنازع عليه أو المختلف فيه هو حكم الله تعالى الوارد في كتابه أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وليس أعراف الناس أو مذاهبهم أو آراءهم أو عدد أصواتهم ونحو ذلك , وهذا فيما بين المسلمين واضح , وهو كذلك فيما يقبله المسلم ويوافق عليه مع غير المسلم إذ يكون مرجعه في التصويب والتخطئة والقبول والرد ما يوافق مراد الله تعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
سادساً : اصطحاب الآداب الرفيعة والأخلاق الحسنة , وذلك أمر يسنده الشرع ويزكيه , كما يرتضيه العقلاء ويقدرونه( ) , وهذه الآداب متضمنة في نصوص شرعية كثيرة منها قوله تعالى: ( ). وقوله تعالى : ( ) وقوله تعالى : •• ( ) وقوله تعالى : ( ).
قال ابن كثير رحمه الله : " وقوله â وجادلهم بالتي هي أحسن á أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى â ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم á الآية فأمره تعالى بلين الجانب , كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون "( ) .
وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله : " فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق أو كان داعيه إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا من ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنه أقرب إلى حصول المقصود وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها "( ).
ويقول رحمه الله : " ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل , أو بغير قاعدة مرضية , وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ؛ بحسن خلق ولطف ولين كلام , ودعوة إلى الحق وتحسينه , ورد الباطل وتهجينه بأقرب طريق موصل لذلك , وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق "( ) .
وهذه الأخلاق والآداب ظاهرة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع المخالفين , فمثلا في مناظرته مع عتبة بن ربيعة , كان عليه الصلاة والسلام ينصت باهتمام لما يقوله عتبة , بل إنه يتأكد من انتهائه في عرض ما لديه , ويقدره بمناداته بكنيته : " أقد فرغت يا أبا الوليد "( ) .
ولا شك أن اصطحابها في مقام المجادلة والاختلاف سبب بإذن الله في فتح قلب الخصم لقبول الحق ومعين على الرجوع عن الخطأ , فإذا ظلم الآخر ساغ مقابلة ظلمه بغير التي هي أحسن , كما قال تعالى : ( ) وذلك بالإخشان والمغالظة أو الانتقال معه من الجدال إلى الجلاد , كما سنبينه في المبحث الثالث بإذن الله .
المبحث الثالث : ضوابط بعد حصول المجادلة :
كثيراً ما ترد على الأذهان مسألة تتصل بنهاية الجدل والمناظرة , وفي هذا المبحث يمكن التفصيل من جهتين :
الأولى : النهاية الطبيعية للجدل والمناظرة باعتبارها حدثا ينتهي وقته المحدد، أو ينتهي التناظر فيه لانتهاء المتناظرين وتسليم أحدهما للآخر .
فإذا كان التسليم هو نهاية المناظرة فإن المتوقع ظهور الحق وتسليم المخالف له، وهو الغالب بفضل الله لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه , لا سيما مع توافر الأسباب التي أشير إلى شيء منها في المبحثين السابقين , وهذه الظهور للحق من أعلى درجات إقامة الحجة على المخالف , وغاية عمل الداعية ومسؤوليته , ولا يستلزم ذلك بالتأكيد التزام المخالف للحق الذي سلم به , إلا في حالات يكون فيها هذا الالتزام شرطاً مسبقاً بين الطرفين بعضهما أو أمام طرف ثالث راع لمناظرتهما .
وإذا كان التسليم لا يعني بالضرورة الالتزام بنتيجة المناظرة والجدل ؛ فإن أقل ما فيه ظهور الحق للخلق وإقامة الحجة بأجلى صورها , وقد حدث ذلك في قصة وفد نصارى نجران مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن حجر في فتح الباري : " وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام "( ).
الثانية : الإنهاء المقصود للمجادلة والمناظرة أو تغييرها إلى أسلوب مواجهة آخر , وهذا أيضاً مظهر آخر من مظاهر واقعية هذا الدين وتشريعاته العظيمة , فليست المناظرات والمجادلات هدفاً لذاتهاً أو ترفاً وعبثاً لا قيمة له بل هي أسلوب يقصد منها إقامة الحجة على الخلق وإظهار الحق والدلالة عليه لمن كان متردداً أو شاكاً فيه .
وهنا لا نعني بإنهاء المجادلة والمناظرة الترك والانسحاب المفاجئ الذي يكون سببه العجز عن المواجهة ، فالعاجز عن المواجهة لا يجوز له التقدم في هذا المقام ابتداء .
وإنما المقصود أن الداعية بذل وسعه وجادل بالتي أحسن وأبان حجته بما لا يدع شبهة لمشتبه , فظهر الحق لكل عاقل ومنصف ، ولكن الخصم ظهر منه أحد هذه الأمور :
أولاً : استمراره - الخصم - في المجادلة بعد قيام الحجة وظهور الحق وجلائه , أو المعاندة والجحود للحق الذي ظهر , فتترك مجادلته أو يدعى إلى المباهلة .
ثانياً : وقوع الظلم من المجادل فينتقل معه من الجدل بالتي هي أحسن إلى غيره .
ثالثاً : بان من المجادل قصد آخر وهو نشر بدعته وباطله وليس طلب الحق فلا يمكن من ذلك بل يواجه بالعقوبات الشرعية الأخرى من الهجر والتعزير , وبخاصة بعد إقامة الحجة عليه بالمجادلة والمناظرة .
وسنعرض إلى هذه المسائل بالتفصيل :
أولاً : استمرار الخصم في المجادلة بعد قيام الحجة وظهور الحق وجلائه , أو المعاندة والجحود للحق الذي ظهر , فتترك مجادلته أو يدعى إلى المباهلة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في النهي عن الاستمرار في المناظرة إذا كان الآخر معانداً مع ظهور الحق له :
" وقد ينهى عنها إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله وهو السوفسطائي فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بينة بنفسها ضرورية وجحدها الخصم كان سوفسطائياً ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك بل إن كان فاسد العقل داووه وإن كان عاجزا عن معرفة الحق ولا مضرة فيه تركوه وإن كان مستحقاً للعقاب عاقبوه مع القدرة إما بالتعزير وإما بالقتل وغالب الخلق لا ينقادون للحق إلا بالقهر "( ) .
وقال ابن القيم رحمه الله : " وقد تكون الحجة بمعنى المخاصمة ومنه قوله تعالى : ( ) أي قد وضح الحق واستبان وظهر ؛ فلا خصومة بيننا بعد ظهوره , ولا مجادلة فإن الجدال شريعة موضوعة للتعاون على إظهار الحق فإذا ظهر الحق ولم يبق به خفاء فلا فائدة في الخصومة , والجدال على بصيرة مخاصمة المنكر , ومجادلته عناء لا غنى فيه , هذا معنى هذه الآية "( ).
وقال البيضاوي في التفسير: " ( لا حجة بيننا وبينكم ) لا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة مـجال ولا للخلاف مبدأ سوى العناد "( ) .
وقال الثعالبي : " وقوله ( لا حجة بيننا وبينكم ) أي لا جدال ولا مناظرة قد وضح الحق وأنتم تعاندون وفي قوله ( الله يجمع بيننا ) وعيد بين "( ).
وقال أبو السعود: " ( لا حجة بيننا وبينكم ) لا محاجة ولا خصومة لأن الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة حاجة ولا للمخالفة محل سوى المكابرة " ( ).
كما يمكن أن ينهى التنازع بالمباهلة وذلك لقطع الاحتجاج فيما لو استمر الخصم بالمجادلة مع ظهور الحق وجلائه .
والمباهلة : " الدعاء على الظالم من الفريقين "( ) وفيها قول الله تعالى : ( ) ، وهي شريعة قائمة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في قصة أهل نجران :" وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي ووقع ذلك لجماعة من العلماء ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة , ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين "( ).
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في فقه قصة وفد نصارى نجران : " ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة , وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله ولم يقل إن ذلك ليس لأمتك من بعدك , ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ولم ينكر عليه الصحابة , ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ولم ينكر عليه ذلك وهذا من تمام الحجة "( ) .
ثانياً : وقوع الظلم من المجادل , فينتقل معه من الجدل بالتي هي أحسن إلى غيره .
ودليله ما جاء في قوله تعالى : ( ) .
وقد أورد الإمام القرطبي قول مجاهد واستحسنه فقال: " قال مجاهد هي محكمة – يعني هذه الآية وأنها غير منسوخة - فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة وقوله على هذا â إلا الذين ظلموا منهم á معناه ظلموكم وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق ... وقوله إلا الذين ظلموا منهم معناه إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية "( ) .
وقال الجصاص في أحكام القرآن : " وقوله تعالى ( إلا الذين ظلموا منهم ) يعني - والله أعلم - إلا الذين ظلموكم في جدالهم أو غيره مما يقتضي الإغلاظ لهم وهو نحو قوله: ( ) وقال مجاهد ( إلا الذين ظلموا منهم ) بمنع الجزية وقيل ( إلا الذين ظلموا منهم ) بالإقـامة على كفـرهم بعـد قيام الحجة عليهم "( ) .
إذا فالأصل في الجدال أن يكون بالتي هي أحسن كما قال تعالى أيضاً في سورة النحل : â ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن á وعندما يحصل الظلم ينتقل إلى غير التي هي أحسن .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى : â ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن á " فأمره تعالى أن يجادل أهل دعوته مطلقاً من المشركين وأهل الكتاب بالتي هي أحسن , وقد قال تعالى â ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم á فإن الظالم باغ مستحق للعقوبة فيجوز أن يقابل بما يستحقه من العقوبة لا يجب الاقتصار معه على التي هي أحسن بخلاف من لم يظلم فإنه لا يجادل إلا بالتي هي أحسن "( ) .
ثالثاً : بان من المجادل قصد آخر وهو نشر بدعته وباطله وليس طلب الحق فلا يمكن من ذلك بل يواجه بالعقوبات الشرعية الأخرى من الهجر والتعزير , وخاصة بعد إقامة الحجة عليه بالمجادلة والمناظرة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه وناظروه وبينوا له الحق كما فعل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه ، وكذلك علي رضي الله عنه بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين .
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف ؛ وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس ؛ قوبل بالعقوبة , قال الله تعالى : ( ) " ( ).
وقال رحمه الله : " فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة قال تعالى : • ( ) ولهذا قال الفقهاء في البغاة إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها كما أرسل علي ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق وأقروا به ثم بعد موته نقض غيلان القدري التوبة فصلب "( ).
ومعلوم أن العقوبات التي يواجه بها صاحب البدعة على أنواع ؛ فمنها ما هو ممكن لكل أحد مثل : الهجر والمقاطعة والاجتناب والإعراض ونحو ذلك .
ومنها ما هو ممكن لولي الأمر وصاحب السلطة وذلك في مثل العقوبات التعزيرية البدنية , والله المستعان .
خلاصة البحث وأهم النتائج والتوصيات:
اشتمل هذا البحث الذي عنوانه ( الدعوة إلى الله بالمجادلة: مفهومها ومشروعيتها وضوابطها ) على ثلاثة فصول :
الفصل الأول وفيه بيان لمفهوم الجدل في اللغة والاصطلاح بلفظه المطلق وبقيده الوارد في نصوص القرآن الكريم , تلا ذلك تحليل لتاريخ الجدل في ثلاثة أطر : الإطار الإنساني , وإطار البيئة اليونانية وما دار فلكها , والإطار الإسلامي بالمعنى العام والخاص للإسلام .
وفي الفصل الثاني جرى تناول المشروعية من خلال ما ورد في الكتاب والسنة , وتبع ذلك إيضـاح لأهمية المجادلة في مجال الدعوة إلى دين الله عز وجل .
أما الفصل الثالث وهو الأخير فقد حوى الضوابط للدعوة بالمجادلة وجاء تناول ذلك بالحديث عن الضوابط قبل حصول الجدل وأثناءه وبعده
ويمكن أن نشير إلى أهم النتائج في النقاط الآتية :
1- الجدل المشروع غير مطلق الجدل فهو أقرب إلى المناظرة التي تهدف إلى إظهار الصواب وليس الغلبة والإفحام , وهو شكل من أشكال الحوار , وهو - أي الجدل - غالب في جنس الإنسان بدلالة النقل والعقل .
2- للمسلمين عناية خاصة بالجدل استفادوها من توجيهات الكتاب والسنة سواء في المفهوم أو المشروعية أو الضوابط .
3- الدعوة بالمجادلة لها أهمية تتمثل في أن بعض المدعوين يحتاج إليها معه لإقناعه بالحق وإزالة شبهته بها وإقامة الحجة , ومن جهة أخرى لها أهمية لأثرها في إظهار الحق وقطع الباطل بعامة , كما أن أهميتها تظهر بالنظر إلى نتائجها فعلا في تاريخ الدعوة عند المسلمين ومجادلاتهم ومناظراتهم مع المخالفين في الدائرة الإسلامية أو خارجها .
4- للدعوة بالمجادلة ضوابط تسبق إقامتها فقد يستغنى عنها بالحكمة والموعظة الحسنة إذا كان المدعو قابلا , أو قد يعدل عنها ويعرض عن إقامتها ابتداء حتى لو طلبها المخالف إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك .
5- للدعوة بالمجادلة ضوابط تصاحب قيامها يكون التزامها سبباً بإذن الله في نجاحها .
6- للدعوة بالمجادلة ضوابط تتبع قيام الدعوة بالمجادلة إذ هي أسلوب لإظهار الحق ودعوة الخلق , ومتى تحقق البيان , أو ظهر من المخالف ظلم أو مقصد سيئ في نشر البدعة وطلب الشهرة ؛ كان من المصلحة قطع الاحتجاج بالمباهلة أو إيقاع العقوبة أو الانتقال من الجدال إلى الجلاد .
أبرز التوصيات :
لا شك أن طبيعة هذه البحوث الاختصار والاقتصار على المهمات , وإلا فالموضوع جدير بالتوسع والتناول من زوايا ومداخل شتى , ومن أبرز ما يراه الباحث جديراً بالتوسع عدة أمور أهمها :
- إجراء استقراء لتاريخ الدعوة بالمجادلة والمناظرة في تاريخ الدعوة إلى الإسلام .
- القيام بدراسات متعمقة وتحليل دقيق للمناظرات في مجال الدعوة بأطر ومداخل متعددة منها : الموضوع , ومنها العصر ومنها طبيعة المخالف أو دينه أو مذهبه أو غير ذلك .
- توظيف قواعد الشريعة وضوابطها في مسائل الحوار المستجدة في هذا العصر من حوار الأديان وحوار الحضارات وغيرها , سواء من حيث الأسلوب أم المضامين .
وهذه الأمور في غاية المنفعة للدعوة والدعاة ؛ مؤسسات وأفراداً في هذا العصر , ومن المصالح الظاهرة فيه اختصار فهم القضايا وأدلتها واستيعاب محل الخلاف مع الغير , وأبرز العوامل المؤثرة في النجاح والفشل في مجال الجدل والمناظرة بخاصة والحوار بعامة , لا سيما مع تقارب الناس بوسائل الاتصال المختلفة وشيوع ثقافة الحوار والمطالبة به من أمم وطوائف شتى في هذا العصر .
والحمد لله أولا وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين