ضوء على التعصب القبلي وضرورة التصدي له

ضوء على التعصب القبلي وضرورة التصدي له

إذا كانت بعض القنوات الشعبية قد سلِمت من إفساد الناس بالأفلام، والصور الفاضحة والمثيرة للشهوات المحرمة؛ فإنها تشكر على ذلك، وعلى إشغالهم بالمباحات عن المحرمات، مثل:عروض الإبل، والحفلات، والشعر، وأفلام الطبيعة، مع أن المفروض أن يتبع ذلك نقلهم إلى ما يفيدهم في الدين والدنيا، ولكن برامجهم الثقافية تلك بدأ يدخلها التعصب والتهييج القبلي.

ومع ذمهم للتعصب القبلي الجاهلي، وقولهم: إنه ولَّى إلى غير رجعه؛ إلا أنهم قد وقعوا فيه وهم لا يشعرون؛ لأنه ليس لهم نصيب كافٍ من العلم الشرعي، فهم لا يعرفون التعصب القبلي، ومن لا يعرف الشر يقع فيه، ومن لا يعرف الخير يُعرِض عنه.

قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان - رضي الله - تعالى -عنه -: ((كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أقع فيه)). قال الشاعر:

عرفتُ الشرَّ لا للشرِّ *** ولكن لتوقيهِ

ومن لا يعرف الشر *** من الخير يقع فيه

وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى الصحابة عندما اعتزى أحدهم بالمهاجرين والآخر بالأنصار؛ حيث قال في الحديث الصحيح: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! ))؛ فكـيف بمن يعتزي - بسبب أو من دون سبب - بالقبيلة: بقوله (يا عصابة رأسي، ومحزمي)؟!

قال الإمام عبد العزيز بن باز - رحمه الله تعالى -: "لا يقول: يا آل فلان، أو يا قحطان، بل يقول: يا إخواني في الله، أو يا مسلمون!".

ولخطورة مسائل الجاهلية، ألّف فيها المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - رسالة فيها ثمانية وعشرون ومائة مسألة، وقد أسماه: مسائل الجاهلية؛ قال في مقدمتها: "هذه مسائل خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية الكتابيين والأميين مما لا غنى للمسلم عن معرفتها".

وقد قام كثير من العلماء بشرحها، ومنهم الدكتور الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء، في كتاب أسماه "شرح مسائل الجاهلية".

وإليكم شرح المسألة السابعة والثامنة والثمانين: "هذه المسائل الأربع من مسائل الجاهلية، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع في أمتي من أمور الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت)).

والفخر بالأحساب: أن يفتخر الإنسان بأمجاد آبائه وأجداده، وهذا من دين الجاهلية؛ لأنهم كانوا يجتمعون في منى، وبدل أن يذكروا الله - عز وجل - يذكرون مفاخر آبائهم، قال - تعالى -: ((فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)) [البقرة: 200]. فالواجب ذكر الله - عز وجل - وليس ذكر الآباء والأجداد.

والطعن في الأنساب: كأن يقول: فلان ما له أصـل، أو فلان من قبيلة ليست أصلية. وهذا فيه تنقّص للآخرين، والله - جل وعلا - يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 31].

فهذه الأربع من أمور الجاهلية وهي باقية في الناس فيجب التوبة منها.

ودل الحديث على أنه ليس كل من فيه شيء من الجاهلية يكون كافراً؛ فأمور الجاهلية منها ما هو كفر، ومنها ما هو دون الكفر!" انتهى كلام الشيخ صالح.

ثم شرح المسألة الثانية والتسعين: "إن أجلّ فضائلهم الفخر ولو بحق؛ فنهي عنه".

قال الشيخ صالح ما نصه: "من مسائل الجاهلية الفخر ولو بحق، فهم يفخرون بأفعالهم وأفعال آبائهم، وهذا منهي عنه؛ لأن الفخر بالأعمال يؤدي إلى الإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين، وهو منهي عنه وهو من أفعال الجاهلية. فلا يجوز للمسلم أن يفخر؛ لأنه مهما بذل ومهما عمل؛ فإنه مقصر ولا يؤدي كل ما أوجب الله عليه؛ فحق الله عظيم، وحق الوالدين عظيم، وحق الأقارب عظيم، وعليه حقوق عظيمة؛ فكيف يفخر الإنسان إذا فعل شيئاً من الإحسان أو من المعروف أو من أعمال الخير، مع أنه إنما أتى بشيء يسير؟ هذا في الافتخار فيما بينه وبين الخلق، أما إذا افتخر بأعماله التي بينه وبين الله فهذا أشدّ؛ لأنه يؤدي إلى الإعجاب بالعمل وإلى استكثار العمل، وهذا يبطل العمل، فالواجب على الإنسان أن يعتبر نفسه مقصراً دائماً فيما بينه وبين الله.. وهذا واضح، وفيما بينه وبين الخلق أيضاً؛ فإنه إذا اعتبر نفسه مقصراً حمله ذلك على التواضع وحمله ذلك إلى المزيد من الخير، أما إذا اعتبر نفسه مكملاً، وأنه قام بالواجب؛ فهذا يستدعي أنه يتوقف عن فعل الخير، ويرى أنه قد بلغ النهاية، فيتوقف عن فعل الخير.

والحاصل أن الافتخار لا ينبغي أن يصدر من مسلم وإنما هو من أفعال الجاهلية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أنه سيد ولد آدم قال: ((ولا فخر)) مع أن مقامه هذا لا يساويه فيه أحد، ومع هذا قال: ((ولا فخر))؛ نفى عن نفسه الفخر، وإنما أخبر بذلك من باب التحدث بنعمة الله - عز وجل - والشكر عليها لا من باب الفخر" انتهى كلام الشيخ صالح بنصه.

وقال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره أحكام القرآن في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى... ) [الحجرات: 31]: "فيه سبع مسائل:

الأولى: يعني آدم وحواء، ونزلت الآية في أبي هند؛ ذكره أبو داود في المراسيل: حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قال: حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثني الزهري قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نزوِّج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله - عز وجل -: (إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا... ) الآية. قال الزهير: نزلت في أبي هند خاصة، وقيل: إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له: (ابن فلانة!)؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من الذاكر فلانة؟)) قال ثابت: أنا يا رسول الله! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((انظر في وجوه القوم!)) فنظر، فقال: ((ما رأيتَ؟!)) قال: رأيت أبيض، وأسود، وأحمر، فقال: ((فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى))، فنزلت في ثابت هذه الآية، ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْـمَجَالِسِ... )[المجادلة: 11] الآية.

قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لما كان يوم فتح مكة؛ أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً حتى علا ظهر الكعبة فأذَّن، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم! وقال الحارث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً؟! وقال سهيل بن عمرو: إن يُرِدِ اللهُ شيئاً يغيّر، وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً؛ أخاف أن يخبر به رب السماء؛ فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا، فأقرّوا؛ فأنزل الله - تعالى - هذه الآية، زجرهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء؛ فإن المدار على التقوى، أي: الجميع من آدم وحواء، إنما الفضل بالتقوى.

وفي الترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب بمكة فقال: ((يا أيها الناس! إن الله قد أذهب عنكم عبيَّة[1] الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بَرٌّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هيِّن على الله، والناس بنـو آدم، وخلَـق الله آدم مـن تراب. قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 31][2]، وقد خرج الطبري في كتاب "آداب النفوس": وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة قال: حدثني (أو حدثنا) من شهِد خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير، فقال: ((يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، وأحمر على أسود؛ إلا بالتقوى؛ ألا هل بلغت؟! قالوا: نعم! قال: ليبلغ الشاهد الغائب)). وفيه عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الـله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن اللـه لا ينظر إلى أحسابكم، ولا إلى أنسابكم، ولا إلى أجسامكم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم؛ فمن كان له قلب صالح تحنّن الله عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبُّكم إليه أتقاكم))، ولعلي - رضي الله عنه - في هذا المعنى وهو مشهور من شعره:

الناس من جهة التمثيل أكفاءُ *** أبوهُمُ آدمٌ والأمُّ حواءُ

نفْسٌ كنفسٍ، وأرواحٌ مشاكلة *** وأعظُمٌ خُلِقت فيهم وأعضاءُ

فإن يكن لهم من أصلهم حسبٌ *** يفاخرون به؛ فالطينُ والماءُ

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ *** على الهدى لمن استهدى أدلّاءُ

وقدرُ كل امرئٍ ما كان يُحسنهُ *** وللرجال على الأفعال سيماءُ

وضد كل امرئٍ ما كان يجهلهُ *** والجاهلون لأهل العلم أعداءُ

انتهى كلام الإمام القرطبي - رحمه الله - من كتابه أحكام القرآن في تفسير قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى) [الحجرات: 31].

وهذا الموضوع خطر على الدين والنفس والمال، ومثير للفتن، وهو من أسباب زوال الدول وضعفها، وانتشار الأحقاد، وضياع الحقوق، وكتْم الشهادة، وقوْل شهادة الزور، وتقديم غير الكفي في الوظائف على غيره، وإحياء العادات التي نهى الإسلام عنها، مثل: الكبر، والخيلاء، والإسراف.

ثم إن هذه المفاخر - كما هي باطلة شرعاً - فهي كذلك باطلة عقلاً؛ لأنهم إن فاخروا بكثرة قبيلتهم فالروم والصين أكثر منهم، وإن فاخروا بالمخترعات العلمية والصناعية فهم لا شيء، وإن فاخروا بالقوة فالأمريكان واليابان أقوى منهم، وإن فاخروا في الكرم فأكثر كرم زعمائهم السابقين (المزعوم) هو من النهب والسلب لعابر السبيل والحاج الضعيف؛ بسفك الدماء، ونهب الأموال بغيبة من السلطان؛ وإلا فهؤلاء الذين يفخرون بهم كان حقهم إقامة حد الحرابة عليهم لا الفخر بهم!.

ثم انظر حال القبائل العربية قبل الإسلام وهم في قمة التعصب القبلي، فهم في فرقة، وحرب، وضعف، وجهل وجوع، أَكَلة ضب وجربوع، وقد استذل كثيراً منهم الفرسُ والروم والأحباش؛ حيث غزاهم أبرهة الأشرم، وشقَّ الجزيرة من اليمن إلى مكة لهدم البيت، ولم تستطع أي قبيلة اعتراضه حتى قريش؛ ولولا الله - سبحانه وتعالى - لهُدِمت الكعبة.

وكذلك التعصب القبلي صار له رد فعل من قبل بعض ضعفاء النفوس والكذبة ممن لا ينتسب لقبيلة؛ فقام بالتلاعب بالأنساب والتحق بأناس ليس منهم، باستخراج صكوك اعتمدت على شهادة الزور، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((لعن الله من انتسب إلى غير أبيه)).

لذلك؛ لابد من معالجة هذا الموضوع، ولابد من تدخل وزارة الشؤون الإسلامية وهيئة كبار العلماء، وتنبيه الناس عن طريق الخطباء والدعاة ووسائل الإعلام وغيرها.

ونختم بهذين الحديثين: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((إن الله قد أذهب عنكم عبيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي؛ أنتم بنو آدم وآدم من تراب؛ ليدعَنَّ رجال فخرَهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنم؛ أو ليكونن أهون على الله من الجعلان)).

وقال كذلك - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي صححه الألباني - رحمه الله -: ((من اعتزى بعزى الجاهلية فاعضضوه بهني أبيه ولا تُكنوا)).

إذا اتضح الصواب فلا تدعه *** فإنك كلما ذقت الصوابَا

وجدت له على اللهوات برداً *** كبرد الماء حين صفا وطابا

وليس بحاكم من لا يبالي *** أأخطأ في الحكومة أم أصابَا؟

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

___________

[1] عبيَّة الجاهلية: فخرها والتناصر على أساسها.

[2] أخرجه من حديث عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني، وهو ضعيف؛ ضعّفه ابن معين وغيره.

المصدر: http://islamselect.net/mat/88593

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك