قلتُ لصاحبتي.. وقالت لي!!
نجوى الدمياطي
.. هي إحدى ذوات القلوب المؤمنة والنفوس المجاهدة.. وقد اعتدنا أن نلتقي في جلسة نتواصى فيها بالحق وبالصبر، ونحاول فيها الارتقاء بأنفسنا فكرياً وسلوكياً عبر التعلم والتحاور في مسائل شرعية. وفي يوم.. دخلت عليّ غاضبة وهي تردد: (لا فائدة.. لا فائدة).. ولم تنتظر سؤالي عن سبب ذلك، حتى بادرتني قائلة: لقد اكتشفت أنني كنت غبية، بل بلهاء ساذجة!!
.. حاولت تهدئتها، ثم سألتها: ماذا حدث؟.. فلم ترد جواباً.
قلت: اهدئي وقصّي عليّ الأمر فربما أستطيع مساعدتك!
قالت: أتعرفين (فلانة) كم ساعدتها وأحسنت إليها؟.
أتعرفين (فلانة) كم أهديت لها وتوددت إليها؟.
أتعرفين (فلانة) كم بذلت مالي وجهدي من أجلها؟.
.. لقد اجتمعن عليّ، واختلقن حولي الشائعات والافتراءات التي لا حصر لها.. إني لا أجد أي تفسير لموقفهن ضدي.. ولكني أعرف التفسير الصحيح لمواقفي السابقة معهن.. لقد كنت غبية.. بلهاء.. ساذجة.
قلت: اهدئي صاحبتي وأختي.. اهدئي فإن هذه التجربة الصغيرة التي مررت بها هي رصيد كبير لإدراك سنة من سنن الله في خلقه، تلك السنن التي يمثل النظر للأفراد والمجتمعات والأحداث من خلالها الوقاية من أن تجمح بنا العوامل النفسية إلى التشاؤم المفرط، أو التفاؤل الذي تشم منه رائحة السذاجة.. والعلاج لأغلب مشكلاتنا الاجتماعية!!
قالت: هل هذا هو وقت فلسفة؟!
قلت: النظر إلى سنن الله في خلقه ليس فلسفة بالمعنى الذي تقصدينه... بل النظر إلى سنن الله في حياة البشر هو نظر في قوانين ثابتة مطردة لا تحابي أحداً مهما زعم لنفسه من مسوغات المحاباة، ولا تتغير مهما تعجل الأذكياء أو توهم الأصفياء )فَلَن تََجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا( [فاطر: 43].
قالت: وما علاقة ذلك بما نتحدث عنه؟!
قلت: لقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنظر السنني في مواقف البشر فقال: "تجدون الناس كإبلٍ مئةٍ، لا يجد الرجل فيها راحلة"[1]، فكما أننا قد لا نجد في مئة من الإبل الواحدة التي تصلح لعبور المفازات وسير المسافات؛ فكذلك البشر!!.. قلّ أن تجد فيهم متكامل الصفات نسبياً... فإذا رأينا تساقط العناصر الإسلامية لم نَرَ في ذلك أمراً عجباً أو مفاجئاً.. بل هو أمر طبيعيّ!!.
قالت: طبيعي!.. تريدين أن نرضى بواقعنا الأليم، ونقبل واقع هذه الأوساط الدنسة الحقيرة؟!.
قلت: لم أقصد ذلك أبداً.. بل يجب علينا أن نحاول الارتقاء بأنفسنا إلى المستويات السامقة، والأخذ بيد من يسقط بقدر ما نستطيع.. إنما قصدت ألا يؤثر تساقط الأخريات فينا، فيكون مصيرنا نحن أيضاً هو السقوط!!.
ثم.. أريد أن أُحدّثك حول كلمة: (الأوساط الدنسة) التي ذكرتها؟!.
قالت: ماذا تقصدين؟ إنها أوساط دنسة حقيرة بالفعل!!.
قلت: لماذا لا نرى الأشياء حولنا إلا (دنسة حقيرة) أو (طاهرة مقدسة)؟! لماذا لا نرى في الآخرين الخير كما نرى فيهم الشرور؟! لماذا لا تكون نظرتنا إليهم بأن "نعتقد فيهم الخير، ونعرّفهم بأحسن الأوصاف التي اتصفوا بها، ولو بمجرد الإسلام"، كما أخبر الإمام الشاطبي، لماذا لا نتقبل منهم أحسن ما عملوا، ونتجاوز عن أخطائهم معنا؟ لماذا لا نفتش عن أعمالهم الطيبة، وندفن السيئات منهم ونعرض عنها؟.
إن كل بني آدم خطاء.. فلماذا يسهل علينا رؤية الآخرين خطّائين، ولا تحدثنا أنفسنا ولو للحظة أننا قد نكون المخطئين؟!.
قالت: وما الخطأ الذي وقعت فيه وأنا أعامل من ذكرتهن لكِ؟.. اللهم إلا إن كان إحساني إليهن هو الخطأ.
قلت: الإحسان لا يكون خطأً أبداً.. ولكن الإحسان ليس هدايا وصدقات وبذل مال وإطعام طعام فقط، بل الإحسان عمل أخلاقي شامل يتناول كل ما هو معاملة طيبة، وأقوال حسنة.. وقد أشار القرآن إلى هذا المفهوم الواسع للإحسان فقال تعالى: )قُوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌ حَلِيمٌ( [البقرة: 263].
قالت: لا أخفيك سراً.. إني أحس اليأس في إصلاح من حولي!!.
قلت: لا يا أختاه.. انبذي عنكِ اليأس، واستمسكي بالثبات والصبر، فإنه "يجب علينا أن نثبت على الحق، وليس علينا أن نأخذ بمجامع الخلق إليه، إذ ليس ذلك إلينا، بل الله وحده هو الهادي والمضل، وقال ربنا سبحانه: )إنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ( [هود: 12]..".. هذه هي وصية الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ[2]، فالتزمي أختاه هذه الوصية ولا تطلبي الناس بما ليس لكِ، واطلبي نفسكِ بما قلت من الحق، والله يعينني وإياكِ على القيام بحقه.
قالت: وكيف السبيل إلى ذلك؟.
قلت: بأن نتخلى عن المصادمات الحادة مع الآخرين، ونسلك معهم طريقاً يتسم باللين والتدرج في معالجة الأمور؛ بمعنى أن نتمسك بالحق كله، مع المرونة في الدعوة لهذا الحق كما أخبر الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ: "فرأيت الهلاك في إتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عنّي من الله شيئاً فأخذت في ذلك على حكم التدريج في الأمور"[3].
قالت: إن الأنانية وحب الذات قد ملأت قلوب الناس..
قلت: نعم.. إن أكثر الشرور إنما تأتي من إيثار الذات (من الأنانية) والتحاسد والكراهية والبغضاء والتدابر.. وعلاجُ هذه الأمراض النفسية البغيضة: إتباع الشريعة فيما جاءت به من محبة الناس ومواساتهم والإحسان إليهم.. ولقد علّمنا القرآن: )ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( [فصلت: 34].. قد يكون هذا أمراً صعباً، ولكنه ليس مستحيلاً.. فقط يحتاج إلى الصبر، ولذلك كان تعقيب القرآن على الآية: )وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( [ فصلت: 35].
فهل يمكن أن نرتقي بأنفسنا إلى هذا المستوى السامق؟ هل يمكن أن نُعلّم أنفسنا الدفع بالتي هي أحسن؟ هل يمكن أن نجتث جذور الكراهية والحسد والغل.. تلك الجذور الخبيثة التي تجعل حياتنا وحياة الآخرين جحيماً؟!.
)... وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُون َ( [المطففين: 26].
قالت: إن مشكلتنا معقدة.. إني أراها أحيانا مستحيلة الحل!!.
قلت: إنها معقدة بالفعل.. ولكنها ليست مستحيلة على العلاج، بل إنني حين أسمع شكواك وشكوى أخريات من سوء أوضاعنا وعدم رضاهن عن واقعنا.. حين أسمع ذلك كله لا أخاف ولا أحزن!!.. إن هذا (القلق) من واقعنا هو (أرضية الحل).. هو المناخ الذي يساعد على ظهور الحلول لما نحن فيه، وخاصة إذا آمنا بإمكانية صنع البديل، إذا آمنا بإمكانية التغيير..
إن مدخلنا إلى هذا التغيير، هو تغيير ما بأنفسنا.. فحين نغير ما بأنفسنا، فإن الجو سيتهيأ للتغيير وفق سنة الله التي لا تتغير ولا تتخلف )إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ( [الرعد: 11].
ومدار هذا التغيير في التعامل مع الآخرين قاعدة عظيمة ذكرها الإمام ابن القيم بقوله: "كن مع الحق بلا خَلْق، ومع الخلق بلا نفس"[4]، فتأملي أختاه هاتين الكلمتين، فإنهما مع اختصارهما قد جمعا قواعد السلوك، وكل خلق جميل..
إن فساد الأعمال إنما ينشأ من توسيط الخلق بينك وبين الله تعالى وفساد الأخلاق وتوسيط نفسك بينك وبين خلقه.. فمتى عزلت الخَلْق حال كونك مع الله.. وعزلت نفسك حال كونك مع الخلق.. فقد فزت في الدنيا والآخرة..
قالت: ألا ترين أن فكرة أن نعيش مع الناس بلا نفس فكرة صعبة؟.
قلت: نعم.. قد تكون فكرة صعبة، ولكنها هي طريق تزكية النفس، وطريق تغيير الآخر.. إنها طريقة أهل السنة والجماعة الذين ينصرون الحق ويرحمون الخلق.. إنها طريقة من يقيمون علاقاتهم مع كل الأمة وفي قلوبهم الرضا عن أفرادها باعتبارهم إخوة.. وكيف لا يرضونهم إخوة لهم، وقد رضيهم الله عبيداً له؟!.
أختي الحبيبة.. إن مجتمعنا ليس (فلانة) و (فلانة).. ليس أنا وأنت.. إنه أكبر منذ ذلك بكثير.. وإذا كان يمر بمرحلة من مراحله مليئة بالمشكلات، فإن طريقنا إلى حل مشكلاته هو أن نعرف جوانب النقص في أنفسنا، فلا ننكرها ولا نخفيها، وإنما نواجهها بصراحة ليكون ذلك بداية الشفاء من أمراض الأمة..
قالت: سبحان الله.. كيف غاب ذلك عني؟! إن تبرئة الذات واتهام الآخرين ليس طريق القرآن وليس طريق السنة.. ففي القرآن )قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ( [آل عمران: 165]. وفي السنة من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لي هزلي وجِدِّي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي"..
قلت: نعم.. أختي الحبيبة.. إنَّ نقصنا يدفعنا إلى ذم الآخرين بدل أن نبحث في ذواتنا.. إن طريق الحل لواقعنا المريض، أن نذبح غرورنا.. وننحر التعالي في نفوسنا.. أن نتخلص من الكبر الذي لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة منه..
فهل يمكن أن نواجه الحقيقة المرة؟.
وهل نتعلم كيف نحول المرارة إلى حلاوة؟.
.. لا بد من محاولة للتغلب على نقائصنا.. ذلك أن هذه المحاولة هي طريق الفلاح في الدنيا والآخرة. )وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ( [العنكبوت: 69].
ـــــــــــ
[1]) أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، ح/2547.
[2]) انظر: الموافقات، ج2، ص 203.
[3]) الاعتصام، ج 1، ص 27.
[4]) مدارج السالكين، ج 2، ص 339.