القرآن الكريم وحوار الأفكار
د. أمان محمد قحيف
لعل من أفضل ما يناط بالعقل العربي والإسلامي تعلمه من القرآن الكريم في اللحظة الحضارية الراهنة، الكيفية السليمة للانخراط في حوار فكري ومعرفي مع من ينتقد حضارتنا، وثقافتنا، ولغتنا، وديننا، وطرائق تفكيرنا - من كتّاب ومثقفي الحضارات الأخرى.. إذ الملاحظ أن فضاءنا الثقافي لم يتعامل مع العديد من الأطروحات الفكرية والثقافية التي تمسنا من قريب أو من بعيد بآليات ناجعة وأساليب مثمرة بالقدر الكافي؛ فمازال أسلوب تناولنا لأفكار الآخرين بحاجة ماسة إلى المزيد من الدراسة المتأنية والتحليل الموضوعي السليم.. ولعل ما حدث إبان ظهور ردود أفعال ثقافتنا المعاصرة على ما طرحه «صمويل هنتنجتون» في «صدام الحضارات» يظهر هذا المعنى ويؤكده؛ إذ تبين أن مسافة مازالت موجودة بيننا وبين التناول الواعي الخلاق لرؤى الآخرين وأفكارهم، وبالتالي لم نتمكن من التعامل مع رؤى الآخرين وتصوراتهم بشكل إيجابي وفعال.. فقد اتسمت ردود أفعال ثقافتنا حول ما طرحه «هنتنجتون» بالعاطفية، والانفعالية، والخطابية، إلى حد كبير.
والراصد للحركية الفكرية في عالمنا العربي والإسلامي وقتذاك يتبين له غياب الخطاب التحليلي والرؤية المنهجية في تناول هذه القضية، وتغلَّب الخطاب المعتمد على المهارات اللفظية والمماحكات الفكرية التي تتوقف عند القشور دون ملامسة جوهر الموضوع ومكنونه ومحتواه.. والدليل على ذلك أننا لم ننجز رؤية فكرية متكاملة تتسم بالنسقية والمنهجية في الرد على الأفكار والرؤى والتصورات التي طرحها هذا الكاتب الذي كان مغمورا قبل نشره لهذه الأطروحة.. لقد جاءت الردود التي أفرزتها زوبعة «صدام الحضارات» أشبه بمجموعة من الأفكار المتناثرة، أو المقتبسة من هنا وهناك، واختفى الموقف الفكري القائم على أسس واضحة من التحليل المعتمد على أساسيات البحث ومنهجيته.
واللافت أن يكون هذا حالنا في الوقت الذي نمتلك فيه تراثا فكريا ضخما، به العديد من المؤلفات والمراجع التي تتحدث عن منهجية الجدل والحوار مع الآخر.. وفيه العديد من المؤلفات التي تحض على الوعي النقدي، وتتحدث عن أصول التباينات الفكرية ومبادئها وأخلاقياتها!.
وإذا كنا نهدف - كأمة - إلى أن تكون لدينا المقدرة الفعالة على التواصل الفكري والحوار الجدلي مع مَن هم من خارج إطار حضارتنا، فإن الأمر يقتضي الالتزام بمجموعة من الأسس والعوامل التي تكون في مجملها منهجا متكاملا يساعدنا على محاورة الآخرين وممارسة الوعي النقدي معهم، بما يساهم في إجلاء الحقائق وتوضيح الأمور.. هذا المنهج يرتكز على مجموعة من الأسس وردت في القرآن الكريم، ونشير إليها على النحو التالي:
أولا: التعامل مع النقد بسعة أفق وروية
فمن طبيعة العقل الواعي أنه غير متسرع، بالتالي فهو لا ينفعل، ولا يغضب إذا دخل في حوار مع الآخرين.. ولقد أعطى القرآن الكريم درسا للبشرية جميعا، وليس للمسلمين وحدهم، في سعة الصدر ورحابة الأفق، عندما طلب من النبي " صلى الله عليه وسلم" أن يعرض عن الذين يخوضون في آيات الله حتى ينتهوا عن هذا الأمر تماما، موضحا أنه لا جناح عليه في مخالطتهم بعد ذلك إذا انتقلوا بالحديث إلى موضوعات أخرى.. يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام:68).
إلى هذا الحد بلغ الحلم والصبر على المتطاولين والمنتقدين للإسلام.. إن كل ما يطلبه القرآن الكريم هنا هو أن يعتزل المسلم مَن يخوض في آيات الله تعالى؛ حتى ينتهي عن ذلك وينشغل بأمر آخر، ولا مانع ساعتها من مخالطته والتعامل معه في إطار الثوابت الإسلامية - التي جاءت في القرآن الكريم وأوضحتها السنَّة النبوية المطهرة - للتعامل مع الآخر.
والحق أن القرآن الكريم أسس لقاعدة مهمة في هذا السياق، وهي اللجوء إلى الهدوء والسكينة في حالة قيام الآخرين بطرح ما يتعارض مع موروثنا وثقافتنا من أفكار وآراء وتصورات.. إنه الهدوء الذي يجعل الإنسان ممتلكا لزمام أمره، ولا يفقده صوابه أو عقلانيته.. كي ما يتمكن من التفكير الهادئ، ويستطيع الدخول في حوار رصين ينطلق من أسس متفق عليها، وينتهي إلى نتائج يفرزها الانتقال المنطقي المنظم من فكرة إلى أخرى.
والحق أن الآية التي أشرنا إليها سابقا تقع في سورة «الأنعام»، وهي مكية، حيث لم يكن المسلمون من القوة بحيث يردعون من يتطاول على دينهم وعقيدتهم.. غير أن القرآن الكريم اتخذ الموقف نفسه حيال نفس الأمر عندما حدث والمسلمون بالمدينة المنورة، وكانوا يمثلون القوة العظمى بها، بل إن القرآن الكريم ذكّرهم بأن هذه القضية سبق معالجتها من قبل، قال ربنا: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } (النساء:140).
وإذا كان الله تعالى قد أوقف الأمر عند حدود عدم مجالسة من يخوض في آياته تعالى، وطلب منا أن نقيم معه «مقاطعة مؤقتة» حتى ينتقل إلى حديث غيره؛ فذلك يتوافق تماما مع المنهاج الإسلامي الذي يقوم على جواز التواصل مع غير المسلم، ما لم يسع إلى حربنا أو إخراجنا من ديارنا أو ديننا، قال العزيز الحكيم: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة:8).
من هنا فإن المنهج القرآني على توافق تام - لأنه تنزيل من رب العالمين - فيما يتعلق بالموقف من الرؤى النقدية التي يطرحها الآخرون، من حيث أنه لابد من التعامل مع تلكم الرؤى والتصورات من خلال ذهن متفتح وعقل مستنير متسامح غير متشدد.. ولا يجوز للمسلم تجاوز مرحلة «المقاطعة المؤقتة» هذه إلا إذا تخطت الأمور حدود النقد إلى محاولات المحاربة في الدين أو الإخراج من الوطن.
وإذا كان الإسلام الحنيف قد انتهى إلى ضرورة محاربة من يحارب المسلمين في دينهم وأوطانهم، فإنه يتفق في ذلك مع كل الدساتير والقوانين التي تعارفت عليها الأمم واتفقت عليها الحضارات، فلا يوجد دستور أو قانون في الدنيا كلها يمنع الإنسان، أي إنسان، من الدفاع عن وطنه ومعتقداته، بل إن القوانين المعمول بها دوليا تعاقب من يتخاذل في الدفاع عن هذين الأمرين، الدين والوطن.. من ثم فلا مجال للتطاول على تشريعات الإسلام الحنيف من هذه الناحية، بحجة أنه أجاز القتال.
ومن هنا أقرت المنظمات الدولية الدفاع المسلح من أجل تحرير الأوطان، وتم إقرار الحرية الدينية التي تعطي لكل إنسان الحق في أن يعتنق ما يشاء من الأديان، وهذا الأمر يتفق شكلا وموضوعا مع التصور الإسلامي الذي أكد حرية الاعتقاد من خلال قول العزيز الحكيم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256).. وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:29).
ثانيا: استيعاب ما عند الآخر
الحق أن مما يلاحظه الراصد لما يحدث في ثقافتنا عند وجود نوع من الحراك الفكري أن ثمة تعجل - لدى البعض - في الرد على من وجه إلينا سهام نقده.. وهذه نقطة لها أهميتها، لأنه لكي تحسن الرد على أحد فلابد أن تحسن استيعاب ما عنده من أفكار.. إن التعجل عادة ما يكون مصحوبا بحماس وحسن نية، لكن هذه الأمور ليست ناجعة في محاجة الآخرين ومناقشة أفكارهم.. لابد إذن من التؤدة، والتروي، والدرس، والتحليل.. ولا مانع من أن نبدأ الحوار بأن نبين للآخر ما فهمناه من مقصوده، ونشرح رؤيته كما وصلتنا كي ما يكون على ثقة من أننا استوعبناه وأدركنا أهدافه ومراميه..
والحق أنه يتبين للمتأمل في كتاب ربنا أن القرآن الكريم يذكر قول المنتقدين - للوحي المنزل - أو شبهتهم قبل أن يرد عليها.. وهذا أمر لا نقف عليه في أية حضارة أخرى، فمن ذا الذي يعطي خصمه الحق كاملا لدرجة أنه يذكر له شبهته، ويذكر له حجته التي يحتج بها، قبل أن يقوم هو بدحضها والرد عليه؟
لقد مارس القرآن الكريم ذلك ليعطي للآخر حقه في إبراز ما عنده من أفكار وتصورات حول القضية الإيمانية.. وهذا ظاهر في أكثر من موضع من كتاب الله تعالى، وإليك بعض الأمثلة:
أ – لقد زعم بعضهم أن الرسول " صلى الله عليه وسلم" يتعلم القرآن من شخص آخر، وفي هذا نفي للوحي وتكذيب للنبي " صلى الله عليه وسلم" ، فقال تعالى مثبتا ومبرهنا على تهافت عقولهم وتفاهتها: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل:103).. وهكذا ساق القرآن الكريم ردا منطقيا، قضى به على حجتهم وأبطل به زعمهم، من دون أن يغمطهم حقهم في التعبير عن رأيهم، حتى وإن كان من الآراء الباطلة والمزاعم المدحوضة.
ب – ولأنهم لم يستوعبوا فكرة الوحي بشكل سليم فقد زعم بعضهم أن القرآن الكريم ليس منزلا، بل هو أضغاث أحلام، أو كلام مفترى على الله تعالى، أو شعر.. وتناول القرآن الكريم هذه القضية بمنتهى الوضوح والشفافية، فعبَّر عن رأيهم بقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} (الأنبياء:5).. ثم عادوا فاتهموا الرسول " صلى الله عليه وسلم" بأنه شاعر مجنون، وذكر الله تعالى ذلك بقوله: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (الصافات:36).. وأورد القرآن الكريم قولا آخر لهم في نفس المعنى، حيث قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} (الطور:30).
إلى هذا الحد أعطى القرآن الكريم الآخرين حقهم في أن تطرح وجهة نظرهم، وينزل بها نص قرآني يتعبد به.. الأمر الذي يؤكد لنا ارتقاء وسمو المنهج القرآني في التعامل مع المنتقدين، ويؤكد من جهة أخرى مدى تسامحه معهم وصبره عليهم، ويبرز أيضا حرصه الشديد على أن يواجه الفكر بالفكر، وليس بأية وسيلة أخرى.
ج – وكان مما ادعوه وزعموه أيضا أنهم وصفوا القرآن الكريم بالسحر، قال تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتنا بَيِّناتٍ قال الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الأحقاف:7-8).
والحق أنهم وصفوا القرآن بالسحر لأنه يؤثر في نفس وعقل وروح من يسمعه تأثيرا كبيرا، فبدلا من أن يعترفوا بأنه كلام معجز منَزَّل من السماء وليس من أقوال البشر؛ ذهبوا يدعون أنه من أقوال السحرة وأفعالهم، متأثرين في زعمهم هذا بثقافة السحر والسحرة التي كانت منتشرة في بيئتهم.
ولنا أن نرد على هذه الفرية من خلال نقطتين، هما: أولا: لقد نسي هؤلاء أو تناسوا أن القرآن الكريم حريص طوال الوقت على رفض تلك الترهات والخرافات!. ثانيا: إذا كان القرآن الكريم سحرا فلماذا لم يسحر كل مناهضيه ومعارضيه؟ أم أنه كان سحرا على مجموعة من الناس وليس سحرا على الآخرين؟!.
د – ومما عرضه القرآن الكريم من ادعاءاتهم أيضا أنهم لما قرأوا القرآن ووجدوا فيه بعض السجع، ذهب جماعة منهم إلى الزعم بأن القرآن سجع وكهانة؛ مستدلين على ذلك بقوله تعالى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)} (الطور:1-4).. فرد القرآن الكريم على هذا الزعم بقول الله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42)} (الحاقة:38-42).. وورد في هذا المعنى عدة آيات منها قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ } (الطور:29).. وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} (التكوير:25).. ورد ربنا سبحانه وتعالى على هذا الادعاء بما يدحضه ويظهر ضعفه وسذاجته قائلا {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) } (الشعراء:210-212).. ثم يوضح القرآن الكريم أن الشياطين لا يتعاملون إلا مع نوعية معينة من البشر: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ {221} تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {222} يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ {223} } (الشعراء:221-223).. فالشياطين كذبة ويتعاملون مع الأفاكين والكذبة أمثالهم.
هـ - ومما أبرزه القرآن الكريم من دعاويهم الواهية وطلباتهم الطائشة - أيضا - ما ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } (الفرقان:32).. وفي نفس الآية رد الله تبارك وتعالى قائلا {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (الفرقان:32).. فالعلة في نزوله منجما هي أن يتم تثبيت قلب النبي " صلى الله عليه وسلم" به في مواجهة ما يتعرض له من محن ومصاعب.. وثمة علة أخرى تتعلق بارتباط القرآن الكريم بمعالجة كل واقعة حال حدوثها، وهي أنه لو نزل القرآن الكريم كله مرة واحدة لتعجبوا من كثرة موضوعاته وتعدد قضاياه، وأنكروه واعترضوا عليه.
والخلاصة هنا: أن القرآن الكريم بلغ الذروة في النزاهة في عرض فكر خصومه ومنتقديه ليعلّم الناس جميعا أن الحوار الهادئ المستنير هو الآلية الوحيدة الناجعة في تمييز الحق من الباطل، والصواب من الخطأ.
ثالثا: القدرة على نقد الذات
من الأسس التي نرى أن يقوم عليها علم «نقد الأفكار» هو أن يقوم الحوار الفكري على استعداد الذوات المتحاورة للاعتراف بوجوه التقصير لدى الأنا، إن وجد، مع الاستعداد أيضا للاعتراف للآخر بحقه ومكانته.. غير أنه يتبين للراصد للكتابات - شبه السجالية - التي تنتجها مطابعنا وبعض المطابع الغربية أو الشرقية على السواء- أن بعض الكتاب سواء من هنا أو من هناك يتبنون وجهة نظر مفادها أن الأنا هي الأفضل دائما، وأن الآخر هو المسؤول عن كل شيء غير مقبول وغير حضاري.. فهناك من الأقلام الغربية من لا يكف عن التذكير بأن العرب حَمْلٌ على الحضارة، وأن الغرب هو من ينتج لهم كل متطلبات حياتهم, ويزعم بعضهم أن الفكر والإبداع غربي في القديم والحديث.. وبالمقابل منا أناس يطنطنون طوال الوقت بمسؤولية الغرب عن تخلفنا، بسبب نظرته الاستعمارية لنا ولثرواتنا.. ويتهمون الغرب بأنه يحتكر التكنولوجيا، ناسين أو متناسين عدة أمور:
أ – أن الغرب لا يحتكر التكنولوجيا بدليل أن مجتمعات شرق آسيا قد نجحت إلى حد كبير في اكتساب العلم والتكنولوجيا، وأضحت تمتلك مستويات متقدمة من الاقتصاد والمعرفة، بما يتيح لها أن تتنافس مع دول الغرب الأوروبي، وربما تتفوق عليها.
ب - عجزنا وتقصيرنا نحن عن الوصول إلى التكنولوجيا، سواء كان ذلك بسبب قصور في تنمية القدرات الإبداعية في طرق التعليم ببلادنا العربية والإسلامية، أم بسبب كسلنا واعتمادنا على الآخر!.
ج – إن أحدا لن يتصدق علينا بالمعرفة العلمية.. من ثم فلابد من بذل الجهد والعرق والمال من أجل الوصول إلى المفتاح السحري للتكنولوجيا، إذا أردنا أن نكون من الأمم التي تسمع لها كلمة ويؤخذ لها رأي في قضايا العالم ومسائله.
والحق أن تاريخ ثقافتنا زاخر بما يفيد أننا أمة تعترف لغيرها بالفضل.
الخلاصة
والخلاصة أن التناول الحقيقي لقضية حوارية يجب أن يتسم بالموضوعية، والموضوعية تعني عدم السعي نحو تبرئة الذات ومدحها والتغني بأمجادها طوال الوقت، بل تعني التحليل العلمي السليم، القائم على أسس معرفية تنطلق بالدرجة الأولى من الوعي بهدف النقد والتحاور بين الطرفين، وبأن المصلحة يجب أن تكون متبادلة.
إن عالمنا المعاصر بات متداخلا تداخلا شديدا، والأفكار تنتقل من هنا إلى هناك من دون تصريح ولا استئذان.. بالتالي فعلينا أن نسعى لامتلاك آليات فكرية تتيح لنا التواصل الواعي مع الجميع، الأمر الذي يجنبنا الانكفاء على الذات، وينجينا من الاستلاب الحضاري.