اللغة تلد الحضارة
د . أحمد صبرة
تتأثر اللغة – أي لغة – بالروح السائدة للحضارة وإنجازاتها وآلياتها، وينعكس في اللغة النمط الحضاري السائد في مجتمع من المجتمعات، والحضارة تتأثر باللغة: بأنماطها التعبيرية وقدراتها الإبداعية التي اكتسبتها عبر تاريخها الطويل، وإذا كان من الميسور التدليل على تأثير الحضارة في اللغة، والإتيان بالشواهد الكثيرة التي تعززه، مثلاً اللغة العربية تمتلئ بالألفاظ التي تصف الصحراء وحيواناتها ومظاهر الحياة فيها، كما كان تأثير البحر واضحاً في مفردات اللغة الإنجليزية.. إذا كان ذلك ميسوراً فإن تأثر الحضارة باللغة خاض فيه الفلاسفة، وعلماء اللغة المحدثون تحت ما سُمِّي بعلاقة الفكر باللغة، ووجدوا تأثيراً خفيًّا للغة في طريقة تفكير الناس وتصوراتهم عن الكون والحياة، برغم أن اللغة هي في المحل الأخير من ابتداعهم.
وإحدى المؤشرات المهمة على تحضُّر شعب من الشعوب هو علاقته بلغته: كيف ينظر إليها؟ وكيف يتعامل معها؟ ثم كم هي قدرات لغته على التعامل مع نمط الحياة السائد؟
واللغة العربية من هذه الزاوية في مأزق؛ فهي تعيش في ظل حضارة ليست من صنع أبنائها، حضارة شكلت لنفسها نظاماً فكريًّا، وتصورات عقائدية عن الكون مخالفاً في كثير من نواحيه للنظام الفكري الذي عاشت في ظله اللغة العربية، كما أن هذه الحضارة ابتدعت علوماً ومناهج للبحث العلمي لم تألفها الحضارة العربية من قبل، وأنجزت منتجات، وصاحب هذه المنتجات عادات وتقاليد خاصة، كل هذا كان غريباً عن العرب وكان مأزقاً تواجهه اللغة العربية في كل يوم.
قديماً عندما كان العرب هم أصحاب السيادة في العالم القديم، اختلفت طبيعة تأثرهم بتراث الحضارات المعاصرة لهم، الفارسية واليونانية والهندية، لقد أخذوا منهم بعض أفكارهم، وطرق بحثهم، وبعض أساليبهم في الحياة، وفي تدبير شئون الدولة، وترجموا كثيراً من كتبهم، لكنهم خرّجوا كل هذا بالروح الإسلامية؛ ليخرج نتاجاً آخر فيه من سمات الحضارات الأخرى بقدر ما فيه من الطابع الإسلامي العربي، وحتى لغات هذه الحضارات أثّرت بعض الشيء في اللغة العربية، لكن الدخيل والمعرب من هذه اللغات انصهر في العربية، ودخل في نسيجها، وتأثر بروحها العامة، كما كان تأثير العربية في اللغات المحلية المحيطة بها قويًّا، فهي إما قضت عليها بعد صراع طويل دام قروناً مثلما حدث مع اللغة القبطية في مصر، أو دخلت بألفاظها وتراكيبها في نسيج هذه اللغة مثلما حدث مع اللغة الفارسية، فبرغم أن اللغة الفارسية من عائلة لغوية تختلف عن العائلة التي تنتمي إليها اللغة العربية، فإن أكثر من نصف كلمات اللغة الفارسية ترجع أصولها إلى العربية.
في ظل هذا الإحساس القوي بالتفوق تجاه الغير، عامل القدماء لغتهم العربية، ونظروا إليها على أنها أفضل اللغات جميعاً، وأقدرها على التعبير عن العواطف الإنسانية ومقتضيات الحياة اليومية، تجد ذلك مبثوثاً في كتابات الجاحظ، وغيره ممن كتبوا عن إعجاز القرآن الكريم، وأما علماء اللغة فإنهم كتبوا مئات الكتب الأصلية في كل ما يتصل بالبحث في اللغة، يكفي أن نعرف الآن أن كثيراً من مناهج البحث اللغوي الحديث نجد بذوراً لها في كتابات العرب القدماء، ولكن من منظور فكري مخالف لما يُكتب اليوم، لقد ألف القدماء وبمجهود فردي دائماً المعاجم العامة في اللغة، وألفوا معاجم متخصصة في أسماء الحيوان، أو بعض الأشياء المتصلة بالبيئة مثل الأنواع والرياح، وألَّفوا معاجم للمصطلحات، وشادوا منهجاً ضخماً لبحث النحو العربي، وألفوا فيه مئات الكتب حتى قيل عن النحو العربي: إنه العلم الذي نضج حتى احترق.
ثم تغيّب الدور الحضاري الفعَّال للعرب لأسباب كثيرة ومعروفة، وبدأ اهتمامهم بلغتهم يقل تبعاً لذلك، وبدأ عصر الشروح، وشروح الشروح، والذي يقرأ التاريخ الإسلامي جيداً يجد أن توقف العرب عن الاهتمام بلغتهم تزامن مع الانهيار العام لكل مظاهر الحضارة التي شادوها عبر مئات السنين.
في الوقت نفسه وعلى ضفاف الشاطئ الآخر من البحر المتوسط بدأت تتولد حضارة أوروبا بكل اختلافاتها التي أشرت لها قبلاً، ثم كان أول احتكاك حقيقي بين أوروبا والعرب في أوضاع قوتهم الجديدة، واختلاف موازين هذه القوى لصالح أوروبا في الحملة الفرنسية على مصر. وظهرت آثار هذا الاحتكاك في تاريخ الجبرتي “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، حين واجه أشياء لم يألفها مثل الكهرباء، والمولدات، وبعض الأجهزة التي أحضرها الفرنسيون معهم لدراسة مصر، لكن لا لغة الجبرتي، ولا اللغة العربية أيضاً كانت مهيأة لوصف مثل هذه الأشياء، لكن أول مواجهة بين اللغة العربية وحضارة أوروبا كانت في كتاب رفاعة الطهطاوي “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”. لقد أراد الطهطاوي أن يصف ما رآه في باريس، فعجزت لغته، وهذا طبيعي، من أن تؤدي الوصف تماماً، جاءت بعض أوصافه غامضة مثل حديثه عمَّا شاهده في المسارح الفرنسية، وجاء البعض الآخر في عبارة طويلة مثل وصفه للمقاهي وما يحدث فيها، لم تكن هناك مصطلحات جاهزة تختصر الوصف وتقربه إلى الأذهان.
لقد كان مأمولاً بعد ما يقرب من قرنين من أول مواجهة حقيقية بين العرب والغرب أن تُحل الكثير من التناقضات التي تتسم بها العلاقة بين حضارة العرب وحضارة أوروبا، وأن تستطيع اللغة العربية تبعاً لذلك أن تواكب العصر، لكن هذه التناقضات – للأسف – تزداد حدة، ولا شك أن هذا يؤثر على اللغة العربية تأثيراً كبيراً.
ولعل أهم هذه التناقضات أن العرب فشلوا حتى الآن أن يكونوا عنصراً فعَّالاً ومؤثراً في الحضارة، على حين نجح غيرهم، هناك إحساس عام غير معلن أننا لن نكون مثلهم، وأن قدرنا هو أن نأخذ منهم دائماً، ليست هناك بادرة طموح في تجاوز الوضع القائم، وإلى المشاركة الفعَّالة في العصر، وربما كان أهم انعكاس لهذا الإحساس العام هو في تعاملنا الرديء مع اللغة العربية.
مثلاً في خدمة اللغة الألمانية -ناهيك عن الإنجليزية التي هي أكثر اللغات انتشاراً في العالم- في مجال تعلم الألمانية لأبنائها أو لغير أبنائها تجد عشرات الكتب والسلاسل التي تخدم كل غرض، وكل تخصص، على حين تفتقر العربية إلى مثل هذا النوع من الكتب، ويعتمد المدرس الذي يقوم بتدريس العربية لغير أبنائها على جهده الخاص، أو على مجموعة قليلة من الكتب التي لا تحقق هدفه في بعض الأحيان، وللأسف فإن بعض هذه الكتب من تأليف المستشرقين في جامعات أوروبا وأمريكا.
وفي مجال المعاجم تظهر كل عام طبعات جديدة من المعاجم الألمانية، فيها كل الألفاظ الجديدة، والمصطلحات الطارئة والتغييرات التي طرأت على استعمال اللغة، لعل أهم هذه المعاجم معجم (دودن DUDEN) الذي ظهر في طبعة جديدة هذا العام محتويًا على مجموعة كبيرة من الألفاظ الجديدة وبخاصة التي واكبت توحيد ألمانيا، وقد احتفلت الأوساط الثقافية بهذا المعجم، وأذيع نبأ صدوره في نشرات الأخبار، أما في العالم العربي فإن آخر معجم كبير كان المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وكان هذا منذ سنوات طويلة، ولم تظهر له طبعات جديدة – فيما أظن – على الرغم من التغييرات الهائلة التي طرأت على العربية بعد ظهور هذا المعجم.
وفي كل عام تقريبًا تظهر كتب في النحو الألماني تحتوي على رؤى جديدة، وأفكار تُطرح للنقاش، بجانب كتب علم اللغة، وتاريخ اللغة الألمانية وغيرها، ويستفيد القائمون على تعليم اللغة الألمانية بالمدارس والجامعات من هذه الأفكار والنظريات في تطوير الكتب الدراسية اللغوية؛ ليكون الطالب مُلِمًّا بالجديد في لغته، أما نحن فعلى الرغم من الاجتهادات التي ظهرت لتطوير النحو العربي وطريقة تدريسه – مثلاً كتابات أستاذنا تمام حسان، وبعض رسائل الدكتوراة التي ناقشت تطوير مناهج تدريس اللغة العربية- فإن هذه المناهج على ما بها من عيوب كثيرة ما تزال هي الطريقة المتبعة حتى الآن في أكثر الدول العربية، وعلى الرغم من أن تونس – على سبيل المثال – تحاول تطوير دراسة النحو العربي بها في المدارس، فإن محاولات التطوير غالبًا ما تتم داخل إطار التصور التقليدي للنحو العربي.
نحن مقصرون في حق لغتنا، مقصرون في العناية بها، لا أستثني أحدًا. وعلى الرغم من أننا نشاهد مظاهر التدهور اللغوي في كل المجالات، والتي تزداد حدة عامًا بعد الآخر، وزحف العامية واحتلالها مساحات في وسائل الإعلام أكثر مما ينبغي، فإننا لا نفعل شيئًا له قيمة من أجل وقف هذا التدهور.