أزمة الفكر والوعي المنهجي

خالد أوعبو

 

بعدما تربعت الأمة الإسلامية قمة هرم العطاء الفكري والإبداع العلمي والإنتاج المعرفي لقرون معدودة، توالت الاندحارات والتراجعات والنكوص إلى حد القبول بالتبعية الفكرية والثقافية والعلمية. لقد كانت العلوم الإسلامية -وهي في أوج عظمتها- تُضيء كما يضيء القمر، فتبدد غياهب الظلام الذي كان يلف القرون الوسطى، إلى أن طرأ على فكر الأمة وثقافتها تشوهات ملموسة، مما أعاقها عن الوصول بمشروعها الحضاري إلى كامل أهدافه وغاياته.

فما طبيعة الأزمة التي يعاني منها الفكر الإسلامي؟ لماذا تراجع الأداء الحضاري للأمة وبناؤها الاجتماعي وعطاؤها الفكري؟ وكيف يمكن بناء منهجية معرفية إسلامية تقينا هذه التشوهات؟ وما دور بناء الوعي المنهجي في الإقلاع الحضاري المنشود؟

إن الخلل في رؤية العالم تتمثل في فقدان الرؤية الشمولية التوحيدية، مما أفضى إلى فقدان الرؤية الصحيحة، فنتج عنه ضعف في ترتيب الأولويات وفي تحقيق مصالح الأمة.

إن أزمة الفكر التي نعيشها، أزمة حقيقية موجودة في جانب المصادر والمناهج وإلى جانب القضايا الأساسية التاريخية التي أحدثت أسوأ الآثار السلبية في عقليتنا وفي نفسيتنا وفي طريقة تفكيرنا، والتي أحبطت محاولات إصلاح كثيرة جدًّا. لقد اعترت الأمة الإسلامية أشكال من الخلل المنهجي والفكري عطلت قدرتها على الفعل والإنجاز والأداء، كما شكلت عائقًا أمام الإقلاع الحضاري المنشود؛ وأول هذه التشوهات وأخطرها، تشوه الرؤية الكونية الإسلامية التي تشكل إطار فكر الأمة وثقافتها، بحيث لم تعد رؤية كونية شمولية إيجابية قادرة على أن تقدم الدليل والهداية الكلية لفكر المسلم وضميره وعلاقاته ونظمه، فكلما كانت هذه الرؤية واضحة جلية وإيجابية وسهلة الفهم والتمثل والإدراك، وكلما كانت بعيدة عن التناقض وعن الخرافية والأوهام، وكلما كانت بعيدة عن السفسطة والتعقيد وبعيدة عن الإغراق في لغة التجريد والتنظير وفرض المسلمات القهرية التي تخفي العجز والتناقض، كلما مثلت هذه الرؤية قوة ضميرية عقدية تربوية فاعلة محركة للفرد والمجتمع، ومفعلة لمنهجية فكر المجتمع وكل ما لدى الفرد والمجتمع من أدوات الفعل والحركة وضوابطها المتمثلة في مبادئ منهجية فكره، وما تنطوي عليه المنهجية من مفاهيم وقيم وضوابط.

إن الخلل في رؤية العالم تتمثل في فقدان الرؤية الشمولية التوحيدية، مما أفضى إلى فقدان الرؤية الصحيحة، فنتج عنه ضعف في ترتيب الأولويات وفي تحقيق مصالح الأمة. كما يتمثل الخلل في هذا المجال، في البحث عن الحقيقة في حيز ضيق ومحدود من مجالات المعرفة بالاقتصار على التراث دون المستجدات، والاقتصار في هذا التراث على الجانب الفقهي منه، دون استيعاب مصادر التأسيس من الكتاب والسنة، أو على الجانب النصي دون استيعاب مجالات التطبيق في مسائل الكون والعمران. والنتيجة الحتمية هي توقف الاجتهاد والاكتفاء باستهلاك نفس المنتوج دون محاولة إنتاج منتوج جديد يلائم متطلبات العصر، اعتقادًا بأن القواعد المستخدمة في البحث في القرآن والسنة تعتبر كمسلمات رغم كونها مجرد قواعد أبدعها الفكر الإسلامي. إن عدم تجديد أدوات عمل أصول الفقه -على سبيل المثال- وتضخم فقه العبادات وضمور “فقه الواقع” نتج عنه اجترار الفتاوى الفقهية واشتداد العصبية المذهبية.

ومن مظاهر الاختلالات التي عرفها الفكر الإسلامي كذلك، الفصل بين الآليات الثلاث للاشتغال، بين المادة الخام (القرآن والسنة)، وأدوات العمل (اللغة وعلم أصول الفقه..)، والمنتوج (الفقه والتفسير..)، فأصبح البعض يفتي بغير علم لعدم تمكنهم من الأدوات، أو استخدام الأدوات مع عدم توفر المادة الخام، وكذلك الفصل بين القرآن والسنة، واعتبار هذه الأخيرة مصدرًا ثانيًا للتشريع وليست بيانًا، زيادة على أزمة التعامل مع النص في حد ذاته من خلال القراءة والتفسير الموضعي بدل الموضوعي أو ما يعرف بالقراءة العضين، أي القراءة التجزيئية للنصوص التشريعية، كما في قوله تعالى: (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(الحجر:89-91)، المقتسمين: المتحالفين، أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم. الذين جعلوا القرآن عضين: أي جزأوا كتبه المنزلة عليهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.

إذا أرادت الأمة الإسلامية تجاوز هذه الأزمة الفكرية واستعادة عزتها ورقيها وتصدر قافلة الحضارة الإنسانية، فعليها تملك وعي منهجي واضح الخطوات في بنائه، بين بناء للمفاهيم وبناء للأطر المرجعية للتحقق من تلك المفاهيم ولتحقيق غاية المنهجية.

إن أزمة الفكر الإسلامي تمثلت أيضًا في الخلل في فهم الواقع والتعامل معه؛ إما من حيث التشبث بالمثال وتخيل صورة مثالية وهمية في التاريخ الإسلامي والهروب إليها من الواقع المعيش ثم الاستدعاء الآلي للمثال السلفي في كل معالجة للواقع، أو اعتماد الواقع الغربي مثالاً للنهوض والتقدم بصرف النظر عن الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لواقعنا.

إن انبهار مثقفي الأمة بالنموذج الغربي القادر المنتصر بسبب إنجازاته العلمية المادية، وبسبب موروث جمود الفكر، إلى جانب سيطرة روح التقليد والمحاكاة لدى مثقفي الأمة المتتلمذين في هذه الحالة على الحضارة الغربية، هذا السبب الذي جعلهم يتبنَّون -بوعي وبدون وعي- منهجية الفكر الغربي، بما يحمله في طياته من رؤية للحياة والكون، فلا ينصرفون بجدية علمية إلى إصلاح فكر أمتهم، وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك لرؤية أمتهم الكونية التي سبق أن جددت منطلقات الحضارة الإنسانية، وحققت للأمة أمجادها التاريخية.

ومن مظاهر الخلل أيضًا، الخلل في ربط الأسباب بالنتائج، والذي يتمثل في فهم الأسباب والتعامل معها بعدم الأخذ بها بحجة التوكل على الله، أو الظن بأن اعتماد الأسباب يطعن في العقيدة، لأن النتائج -في ظنهم- من فعل الله سبحانه لا من أسبابها ومقدماتها.. أو تغييب البعد الغيبي والظن بأن الأسباب هي الفاعلة الوحيدة في النتائج دون تدخل القيوميّة الإلهية خلافًا لقوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(التكوير:29).

كما تمثلت أزمة الفكر الإسلامي في الخلل في معرفة الحقيقة والعمل ضد مقتضياتها، ومن الأمثلة الملموسة على ذلك “قضية التدخين”، فمع العلم بأضراره، تستمر مختلف الدول في الاستثمار فيه لما يدر من أموال طائلة.

إضافة إلى هذه الاختلالات المنهجية التي أدت إلى بروز أزمة في الفكر الإسلامي، يمكن الحديث عن اختلالات مفاهيمية “بناء المفاهيم”، تتجلى بالأساس في الفهم الخاطئ لمجموعة من المفاهيم، وبالتالي توظيفها توظيفًا غير مناسب، والنتيجة الحتمية ظهور اختلالات في النتائج. ومن الأمثلة على ذلك، تعريف السنة بعيدًا عن كونها بيانًا للقرآن الكريم، ومفهوم الفقه بكونه يقتصر على استنباط الأحكام الشرعية، رغم كون هذا الأخير جزءًا من الفقه وليس الفقه كله، ومفهوم العقل بكونه مصدرًا للمعرفة وليس أداة لبلوغها.

إذا أرادت الأمة الإسلامية تجاوز هذه الأزمة الفكرية واستعادة عزتها ورقيها وتصدر قافلة الحضارة الإنسانية، فعليها تملك وعي منهجي واضح الخطوات في بنائه، بين بناء للمفاهيم وبناء للأطر المرجعية للتحقق من تلك المفاهيم ولتحقيق غاية المنهجية. كما عليها قبل ذلك الاقتناع بضرورة تملك هذا الوعي والعمل على نشره، سواء من جهة بناء التفكير المنهجي أو البحث المنهجي أو السلوك المنهجي، وذلك لتجاوز مختلف الاختلالات التي يعاني منها الفكر الإسلامي من جهة امتلاك الرؤية الكلية للعالم، أو في فهم الواقع وأساليب التعامل معه، أو في تفسير الظواهر وإدراك علاقة الأسباب بالنتائج.

إذا كان الوعي المنهجي هو الحالة التي تعبر عن إدراك الواقع القائم ومنهج تغييره إلى الواقع المنشود، فإنه يجب أن يتسم بالكلية، وأن يستند إلى التدبير الهادف الذي تحكمه رؤية كلية للعالم.

إذا كان الوعي المنهجي هو الحالة التي تعبر عن إدراك الواقع القائم ومنهج تغييره إلى الواقع المنشود، فإنه يجب أن يتسم بالكلية، وأن يستند إلى التدبير الهادف الذي تحكمه رؤية كلية للعالم. وأول مقومات هذا الوعي، ما يتعلق بمنهج التعامل مع القرآن من خلال التعامل مع الخطاب القرآني من منطق شمولي، واعتماد المرجعية القرآنية ضمن مفهوم الوحدة البنائية للقرآن الكريم والسنة النبوية بوصفها بيانًا للقرآن وتطبيقًا لتوجيهاته.

إن الإسلام إذا حسن فهمه، وتمت تنقية رؤيته القرآنية الكونية الحضارية من التشوهات، وتمت تنقية منهج فكره ومفاهيمه من الانحرافات والخرافات، وحسنت أساليب ناشئته، سيجد الإنسان المادي المعاصر فيه -ولا شك- الخلاص من الصراعات والمظالم والمخاطر التي تهدد وجوده، وسيجد فيه الهداية والرشد الذي تتطلع إليه أشواقه الروحانية وفطرته السوية، ليبدل الإنسانية من بعد خوفها أمنًا وطمأنينة نفسية ورفاهًا وعدلاً معاشًا.

إن تطوير الفكر الإسلامي والمعرفة الإسلامية، يتطلبان استيعاب مناهج المتقدمين، وإبداع واستحداث قواعد جديدة ووسائل عمل جديدة تتناسب والواقع الاجتماعي للأمة، أولها “فقه الواقع”، والنظر في القيم كمدخل لتجديد العلوم الإسلامية، واعتبار التفسير القيمي كآلية جديدة من آليات التفسير.

يعتبر القرآن الكريم منبعًا للطاقة الفكرية للمسلم، ومن ثم منبعًا لجميع المعارف والعلوم، قال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(الأنعام:38). فالمعرفة القرآنية متكاملة وشاملة، وهو بالضرورة يتضمن منهجيات مختلفة تتناسب والقضايا المطروحة، كفيلة بإخراج الأمة من الانحطاط إلى تبوء مركز الريادة باعتبارها خير أمة أخرجت للناس.

المصدر: https://hiragate.com/%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%83%d...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك